فصل: التعريف بالإمام النووي رضي الله عنه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بستان العارفين **


‏بستان العارفين

لللإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي

مقدمة المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ولي التوفيق، ومهدي من استهداه لأقوم الطريق‏.‏ والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الداعين وإمام الهادين‏.‏ ورضي الله عن أصحابه الغرَّ الميامين وسلم تسليمًا‏.‏

وبعد؛ فمن نعمة الله علينا معشر المؤمنين، تسهيل طرق الهداية، وفتح أبواب العلم بتسخيره لنا هذه الطباعات الحديثة، التي تظهر لنا الكتب الدراسة من العدم، وتكشف ما اندرس من كلام الأوائل من أحكام وحكم، الذين وضعوا للمسلمين منارًا واضحًا لكل مستنير، ونصبوا لنا علمًا لا عوج فيه ولا أمتًا، من تمسك به وصل، ومن أعرض عنه هلك، فألفوا لنا الكتب والرسائل، وبينوا ما فيها من الفضائل؛ وأستاذ من ألَّف وكتب، إمامنا ومرشدنا ‏(‏يحيى بن شرف النووي‏)‏ -رضي الله عنه ونفعنا به- المحدث الكبير، والمحقق النحرير، والناصح الأمين الذي فاق أهل زمانه‏:‏ علمًا، وزهدًا، وورعًا‏.‏

وها أنا ذا‏!‏ أتبرك بكتابه ‏(‏بستان العارفين‏)‏ ببعض ما نقل عنه من ذكريات طيبة وأثر، وما كتب من أحوال صحيحة وخبر، وإن كان هو أشهر من يشهر، وأعرف من أن يعرف، ولكن حديثهم - حقًا - لا يمل، وذكرهم دواء لكل هم وغم‏.‏

ولله در القائل‏:‏

كرِّر عليَّ حديثهم يا حادي *** فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي

فأقول نقلًا عن ‏(‏تذكرة الحفاظ‏)‏ للحافظ الذهبي مع اختصار بعض العبارات‏:‏ التعريف بالإمام النووي رضي الله عنه‏:‏ نسبه، مولده، اشتغاله بالعلم، حرصه عليه‏.‏ ‏

التعريف بالإمام النووي رضي الله عنه

نسبه‏:‏ هو الإمام الحافظ الأوحد، القدوة شيخ الإسلام، علم الأولياء محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري الخزامي، الحواربي ‏(‏الشافعي‏)‏ صاحب التصانيف النافعة‏.‏

مولده‏:‏ ولد في المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وقدم ‏(‏دمشق‏)‏ سنة تسع وأربعين وستمائة، فسكن في الرواحية يتناول خبز الدراسة، فحفظ ‏(‏التنبيه‏)‏ في أربعة أشهر ونصف، وقرأ ربع ‏(‏المهذب‏)‏ حفظًا في باقي السنة على شيخه الكمال بن أحمد‏.‏ ثم حج مع أبيه وأقام بالمدينة المنورة شهرًا ونصفًا، ومرض أكثر الطريق‏.‏

فذكر شيخنا أبو الحسن ابن العطار‏:‏ أن الشيخ محي الدين ذكر له أنه كان يقرأ كل يوم اثنى عشر درسًا على مشايخه شرحًا وتصحيحًا‏.‏

درسين في ‏"‏الوسيط‏"‏، ودرسًا في ‏"‏المهذب‏"‏، ودرسًا في ‏"‏الجمع بين الصحيحين‏"‏ ودرسًا في ‏"‏صحيح مسلم‏"‏ ودرسًا في ‏"‏اللمُع‏"‏ لابن جني، ودرسًا في ‏"‏إصلاح المنطق‏"‏ ودرسًا في ‏"‏التصريف‏"‏، ودرسًا في ‏"‏أصول الفقه‏"‏ تارة في ‏"‏اللمع‏"‏ لأبي إسحاق، وتارة في ‏"‏المنتخب‏"‏ للفخر الرازي، ودرسًا في ‏"‏أسماء الرجال‏"‏، ودرسًا في ‏"‏أصول الدين‏"‏‏.‏‏.‏

وقال‏:‏ وكنت أعلِّق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل، وتوضيح عبارة، وضبط لغة، وبارك الله تعالى في وقتي، وخطر لي أن أشتغل في الطب، فاشتغلت في كتاب ‏"‏القانون‏"‏، وأظلم قلبي بقيت أيامًا لا أقدر على الاشتغال، فأشفقت على نفسي وبعت القانون فنار قلبي‏.‏

شيوخه‏:‏ سمع من الرضي بن البرهان، وشيخ الشيوخ عبد العزيز بن محمد الأنصاري، وزين الدين بن عبد الدئم، وعماد الدين عبد الكريم الخرستاني، وزين الدين خلف بن يوسف، وتقي الدين بن أبي اليسر، وجمال الدين بن الصيرفي، وشمس الدين بن أبي عمر، وطبقتهم‏.‏

وسمع من الكتب الستة، والمسند، والموطأ، وشرح السنة للبغوي، وسنن الدارقطني، وأشياء كثيرة، وقرأ ‏"‏الكمال‏"‏ للحافظ عبد الغني علاء الدين‏.‏ وشرح أحاديث ‏"‏الصحيحين‏"‏ على المحدث ابن اسحاق إبراهيم بن عيسى المرادي، وأخذ ‏"‏الأصول‏"‏ عن القاضي التفليسي ‏"‏وتفقه‏"‏ على الكمال إسحاق المعري‏.‏ وشمس الدين عبد الرحمن بن نوح، وعز الدين عمر بن سعد الإربلي، والكمال سلا الإربلي، وقرأ ‏"‏اللغة‏"‏ على الشيخ أحمد المصري وغيره، وقرأ على ابن مالك شيئًا من تصنيفه، ولازم الاشتغال والتصنيف ونشر العلم، والعبادة، والأوراد، والصيام، والذكر، والصبر على المعيشة الخشنة في المأكل، والملبس، كلية لا مزيد عليها، ‏"‏ملبسه‏"‏ ثوب خام، و ‏"‏عمامته‏"‏ سبجلانية صغيرة‏!‏‏.‏

تلاميذه‏:‏ تخرج عنه جماعة من العلماء منهم‏:‏ الخطيب صدر سليمان الجعفري، وشهاب الدين الإربدي، وعلاء الدين ابن العطار‏.‏ وحدَّث عنه‏:‏ ابن أبي الفتح، والمزني، وابن العطار‏.‏

اجتهاده، حفظه، زهده‏:‏ قال ابن العطار‏:‏ ذكر لي شيخنا رحمه الله تعالى، أنه كان لا يضيع له وقت لا في ليل ولا في نهار، حتى في الطريق، وأنه دام ست سنين، ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة وقول الحق‏.‏

قلت‏:‏ مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه والعمل بدقائق الورع والمراقبة، وتصفية النفس من الشوائب ومحقها من أغراضها، كان حافظًا للحديث وفنونه، ورجاله وصحيحه وعليله، رأسًا في معرفة المذهب‏!‏

قال شيخنا الرشيد بن المعلم‏:‏ عذلت الشيخ محي الدين في عدم دخوله الحمام، وتضييق العيش في مأكله، وملبسه، وأحواله، وخوفته من مرض يعطله عن الاشتغال فقال‏:‏ إن فلانًا صام وعبد الله حتى اخضر جلده‏!‏‏.‏

وكان يمتنع من أكل الفواكه والخيار ويقول‏:‏ أخاف أن يرطب جسمي، ويجلب النوم‏!‏ وكان يأكل في اليوم والليلة ‏"‏أكلة‏"‏ ويشرب ‏"‏شربة‏"‏ واحدة عند السحر‏!‏ ‏.‏

قال ابن العطار، كلمته في الفاكهة، فقال‏:‏ دمشق كثير الأوقاف، وأملاك من تحت الحَجْر، والتصرف لهم لا يجوز إلا على وجه ‏"‏الغبطة‏"‏ لهم ثم ‏"‏المعاملة‏"‏ فيها على وجه ‏"‏المساقاة‏"‏ وفيها خلاف فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك‏؟‏‏!‏ وقد جمع ابن العطار سيرته في ست كراريس‏.‏

تصانيفه‏:‏ من تصانيفه شرح ‏"‏صحيح مسلم‏"‏، و ‏"‏رياض الصالحين‏"‏، و ‏"‏الأربعين‏"‏، و ‏"‏الإرشاد‏"‏ في علوم الحديث و ‏"‏التقريب‏"‏، و ‏"‏المبهمات‏"‏ و ‏"‏تحرير الألفاظ للتنبيه‏"‏ و ‏"‏العمدة‏"‏ في تصحيح التنبيه، و ‏"‏الإيضاح‏"‏ في المناسك، وله ثلاثة مناسك سواه، و ‏"‏التبيان‏"‏ في آداب حملة القرآن، و ‏"‏الفتاوى‏"‏، و ‏"‏الروضة‏"‏ أربعة أسفار، وشرح ‏"‏المهذب‏"‏ إلى باب المصرّاة في أربع مجلدات‏.‏ وشرح ‏"‏قطعة من البخاري‏"‏، و ‏"‏قطعة من الوسيط‏"‏، و عمل ‏"‏قطعة من الأحكام‏"‏، و ‏"‏جملة‏"‏ كثيرة من ‏"‏الأسماء واللغات‏"‏، ومسودة في ‏"‏طبقات الفقهاء‏"‏، ومن التحقيق إلى باب صلاة المسافر‏.‏ ‏[‏وقال الحافظ السخاوي المتوفى سنة ‏(‏902‏)‏ هجرية‏:‏ ‏(‏وله‏)‏ ‏"‏بستان العارفين‏"‏ في الزهد والتصوف بديع جدًا‏]‏‏.‏

ورعه‏:‏ كان لا يقبل من أحد شيئًا إلا في النادر ممن لا يشتغل عليه، أهدى له فقير إبريقًا فقبله، وعزم عليه الشيخ برهان الدين الإسكندراني أن يفطر عنده، فقال‏:‏ أحضر الطعام ونفطر جملة فأكل من ذلك، وكان لونين، وربما جمع الشيوخ بعض الأوقات بين إدامين‏!‏

مواقفه مع الملوك في الأمر بالمعروف‏:‏ وكان يواجه الملوكَ والظلمَة بالإِنكار، ويكتب إليهم ويخوفهم بالله تعالى؛ كتب مرةً‏:‏

من عبد الله يحيى النووي، سلام الله ورحمته وبركاته على المولى المحسن، ملك الأمراء بدر الدين أدام الله له الخيرات‏!‏ وتولاه بالحسنات‏!‏ وبلغه من خيرات الآخرة والأولى كلَّ آماله‏!‏ وبارك له في جميع أحواله‏!‏ ‏"‏آمين‏"‏‏.‏ وننهي إلى العلوم الشريفة، أن أهل الشام في ضيق عيش وضعف حالٍ، بسبب هذه السنة في قلة الأمطار‏.‏‏.‏

وذكر فصلًا طويلًا، وفي طي ذلك ورقة إلى الملك الظاهر، فرد جوابها ردًا عنيفًا مؤلمًا، فتكدرت خواطر الجماعة‏.‏

وله رسالة لغير الملك الظاهر في الأمر بالمعروف‏.‏ وكان شيخًا ابن فرح يشرح على الشيخ الحديث فقال نوبة‏:‏ ‏"‏الشيخ محي الدين‏"‏ قد صار إلى ثلاث مراتب كل مرتبة لو كانت لشخص لشُدّت إليه الرحال‏:‏ العلم، والزهد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏

وفاته‏:‏ سافر الشيخ رحمه الله تعالى فزار بيت المقدس،وعاد إلى نوى، فمرض عند والده فحضرته ‏"‏المنية‏"‏ فانتقل إلى رحمة الله في الرابع والعشرين من رجب سنة ست وسبعين وستمائة؛ وقبره ظاهر يزار؛ قاله الشيخ قطب الدين اليونيني، وقال‏:‏ كان أوحد زمانه في العلم، والورع، والعبادة، والتقلل، وخشونة العيش‏.‏

ولد ‏"‏النووي‏"‏ في المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة بنوى، وكان أبوه من أهلها المستوطنين بها‏.‏ وذكره أبوه - رحمه الله تعالى - أن الشيخ كان نائمًا إلى جنبه، وقد بلغ من العمر سبع سنين، ليلة السابع والعشرين من شهر مضان، فانتبه نحو نصف الليل وقال‏:‏ يا أبت‏!‏ ما هذا الضوء الذي يملأ الدار‏؟‏ فاستيقظ الأهل جميعًا، قال‏:‏ لم نر كلنُّا شيئًا‏.‏ قال والده‏:‏ فعرفت أنها ليلة القدر‏.‏

وقال شيخه في الطريقة الشيخ ياسين بن يوسف الزركشي‏:‏ رأيت الشيخ محي الدين وهو ابن عشر سنين ‏"‏بنوى‏"‏ والصبيان يُكرهونه على اللعب معهم وهو يهرب منهم، ويبكي لإكراههم‏!‏ ويقرأ القرآن في تلك الحال، فوقع في قلبي حبه‏!‏

وجعله أبوه في دكان فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن، قال‏:‏ فأتيت الذي يقرئه القرآن فوصيته به وقلت‏:‏ هذا ‏"‏الصبي‏"‏ يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه، وأزهدهم، وينتفع الناس به، فقال لي‏:‏ مُنَجم أنت‏؟‏ فقلت‏:‏ لا وإنما أنطقني الله بذلك‏.‏ فذكر ذلك لوالده فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الاحتلام؛ رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ونفعنا به وبعلومه آمين‏.‏ ‏

مقدمة الموثق‏.‏

الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد خير خلقه، وعلى آله وصحبه؛

وبعد؛

فلقد طبع كتاب‏:‏ ‏"‏بستان العارفين‏"‏ عدة مرات، وفي جميعها بعض العبارات غير واضحة، ولقد أتعب الأستاذ المحقق نفسه - جزاه الله كل خير - في تذليل بعضها، وبقي فيها بعض من العبارات الغامضة، حتى وفقني الله تعالى بمقابلة الكتاب على نسخة خطية جيدة وحيدة، محفوظة بمكتبة جامع السليمانية في اسطنبول، قسم رشيد أفندي رحمه الله تعالى، وبرقم ‏[‏2،348‏]‏ وذلك خلال زيادتي لمدينة اسطنبول في شهر شعبان المعظم سنة 1404 هـ‏.‏

صفة المخطوط وتاريخه‏:‏ قال ماله في حاشية الصفحة الأخير من المخطوط‏:‏ ‏"‏هذا ما كتبه لي الأخ صلاح الدين النيني تغمده الله برحمته، وهو توفي سنة تسع عشرة وثمانمائة، جزاه الله خيرًا، وكتبه مالكه الفقير عبد الله الطلياني‏"‏‏.‏

فتبين أن النسخة كتبت في أوائل القرن التاسع الهجري، وأبعادها‏:‏ 14 في 20 سم، وعدد صفحاته/ صفحة ف/ ورقة‏.‏

عملي في الكتاب‏:‏ وبعد المقابلة بين المطبوعة والمخطوط أثبتُّ نصّ المخطوط في أصل الكتاب، أما موطن الخلاف فقد أثبته في الحاشية‏.‏

وبالنسبة لعناوين الفصول والأبواب‏:‏ فالذي ليس للإمام النووي - رحمه الله تعالى - فقد قيدته بقوسين هكذا‏:‏ أداء لأمانة العلم‏.‏ وإذا كان في المطبوع نص أو كلمة لم تكن في المخطوط، وضعتها - أيضًا - بين قوسين هكذا‏:‏ ‏.‏

فرحم الله إمامنا النووي؛ وأجزل مثوبته، وتغمده بإحسانه، وحشرنا معه في مستهل رحمته‏.‏

وجزى الله الأستاذ المحقق خيرًا، وأكرمه، ووفقه، وأثابه، وجمع عليه شمله‏.‏

ووفقني الله لخدمة دينه، ونشر كتب الشريعة الغراء على أحسن ما يكون؛

استعنت بالله، اعتمدت على الله، توكلت على الله، اعتصمت بالله‏.‏

(‏ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم‏)‏ الله اهدنا الصراط المستقيم‏.‏ آمين‏.‏

مدينة حلب / غرة رمضان المبارك سنة 1404 هـ-‏.‏

خادم العلم الشريف عبد الغني نكمي

‏[‏بستان العارفين للإمام النووي‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏

مقدمة المؤلف رحمه الله تعالى

‏[‏وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‏]‏

الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مقدر الأقدار، مصرف الأمور، مكوِّر الليل على النهار، تبصرةً لأولي القلوب والأبصار، الذي أيقظ من خلقه من اصطفاه، فأدخله في جملة الأخيار، ووفق من اختار من عبيده فجعله من الأبرار؛ وبصَّر من أحبه للحقائق فزهدهم في هذه الدار، فاجتهدوا في مرضاته، والتأهب لدار القرار، واجتناب ما يُسخطه والحذر من عذاب النار‏.‏

أحمده أبلغ حمد على جميع نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله إقرارًا بواحدنيته، واعترافًا بما يجب على الخلق كافة من الإذعان لربوبيته‏.‏

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وحبيبه المصطفى من خليقته، وأكرم الأولين والآخرين من بريته، أكرم الخلق، وأزكاهم، وأكملهم، وأعرفهم بالله تعالى وأخشاهم، وأعلمهم به وأتقاهم، أشدهم اجتهادًا وعبادة، وخشية، وزهادة، وأعظمهم خلقًا، وأبلغهم بالمؤمنين تلطفًا ورفقًا؛

صلوات الله وسلامه عليه وعلى النبيين، وآل كلٍ وصحابتهم ‏[‏أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون‏]‏‏.‏

أما بعد؛ فإن الدنيا دار نفاد لا دار إخلاد، ودار عبور، لا دار حبور، ودار فناء، لا دار بقاء، ودار انصرام، لا دار دوام؛ وقد تطابق على ما ذكرته، دلالات قواطع النقول، وصائح العقول، وهذا مما استوى في العلم به الخواصُّ والعوامُّ، والأغنياء، والطعام، وقضى به الحسُّ والعيان؛ حتى لم يقبل لوضوحه ‏[‏إلى‏]‏ زيادة في العرفان‏:‏

وليس يصح في الأسماع شيء *** إذا احتاج النهار إلى دليل ولما كانت الدنيا بالحال التي ذكرتها، والعظةِ التي قدمتُها، جاء في ‏"‏القرآن العزيز‏"‏ من التحذير من الركون إليها، والاغترار بها والاعتماد عليها، ما هو أعرف من أن يذكر، وأشهر من أن يشهر‏.‏

وكذلك جاءت الأحاديث النبوية، والآثار الحكمية، فلهذا كان الأَيْقَاظُ من أهلها‏:‏ العُبّاد، وأعقل الناس فيها‏:‏ الزهاد‏.‏

‏[‏أحسن ما قيل في وصف الدنيا‏]‏

ولقد أحسن القائل في وصفها‏:‏

انظر إلى الأطلال كيف تغيَّرتْ *** من بعدِ ساكنها وكيف تنكرتْ

سحبَ البِلى أذَّياله برسومه *** فتساقطت أحجارها وتكسَّرت

ومضتْ جماعةُ أهلها لسبيلهم *** وتغيَّبتْ أخبارُهم وتنكرت

لما نظرتُ تَفَكُّرًا لديارهم *** سَحَّتْ جفوني عَبْرةً وتحدَّرت

لو كنتُ أعْقِلُ ما أفقتُ من البكا *** حسبي هناكَ ومُقْلتي ما أبصرتْ

نصبتْ لنا الدنيا زخارفَ حُسْنها *** مَكرًا بنا وخديعةً ما فَترَتْ

وهي التي لم تحْلُ قطُّ لذائق *** إلا تغيَّر طعمُها وتمررت

خدَّاعةً بجمالها إنْ أقبلتْ *** فجَّاعة بزوالها إنْ أدبرتْ

وهَّابةً سلاَّبةً لِهباتها *** طلاَّبة لخراب ما قد عمَّرتْ

وإذا بنتْ أمرًا لصاحبِ ثروةٍ *** نصبتْ مجانقَها عليه فدمَّرتْ

وقال آخر‏:‏

ومَنْ يَحْمدِ الدُّنيا لعيشٍ يَسُرُّه *** فسوف لَعمري عن قليل يلومُها

إذا أدبرت كانت على المرء حسرةً *** وإن أقبلت كانت كثيرًا همومُها ‏

مقدمة المؤلف رحمه الله تعالى‏.‏

بيان ما يشتمل عليه هذا الكتاب‏:‏

فإذا علم ما ذكرته، وتقرر ما وصفته، كان حقًا على الإنسان أن يسلك طريق العقلاء، ويذهب مذهب البُصراء، فنسأل الله الكريم، الرؤوف الرحيم أن يمن علينا بذلك ويهدينا ‏[‏إلى‏]‏ أرشد المسالك‏.‏

وها أنا شارع في جمع كتاب يكون مبينًا لسلوك الطريق التي قدمت، وسبيلًا إلى التخلق بالأخلاق الجميلة التي وصفت‏.‏

أذكر فيه - إن شاء الله تعالى - جملًا من نفائس اللطائف، وحقائق المعارف، وأنثرُ ما أذكره فيه نثرًا، ليكون أبعد لمطالعه عن الملل، وأقرب للذكرى‏.‏

ولا ألتزم فيه ترتيبه على الأبواب، فإن ذلك مما يجلب الملل للناظر في الكتاب، وأذكر فيه - إن شاء الله تعالى - من الآيات الكريمات، والأحاديث النبويات، وأقاويل السلف المنيرات، ومستجادِّ المأثور عن الأخيار، عن عيون الحكايات، والأشعار المستحسنة الزهديات‏.‏

وأبين في أكثر الأوقات صحة الأحاديث وحُسْنها وحال رواتها، وبيان ما يخفى ويُشكل من معانيها، وأضبط ما يحتاج إلى تقييد حذرًا من التصحيف وفرارًا من التغيير والتحريف‏.‏

ثم إني قد أذكر ما أذكره بإسنادي فيه، لكونه أوقع في نفوس مطالعيه‏.‏

وقد أحذف الإسناد للاختصار، وخوفًا من التطويل والإكثار، ولكون هذا الكتاب موضوعًا للمتعبدين‏.‏ ‏[‏ومن‏]‏ ليسوا إلى معرفة الإسناد بمحتاجين؛ بل يكرهونه في معظم الحالات، لما يلحقهم بسببه من السآمات‏.‏

وأكثر ما أذكره مما أرويه بحمد الله وفضله بالأسانيد المشهورة، المعروفة من الكتب الظاهرة المتداولة المعروفة‏.‏

وإذا كان في الحديث أو الحكاية، لفظة لغة، أو اسم شخص، قيَّدتُها، وأوضحتها بالضبط المحكم، وأتقنتها، وما احتاج ‏[‏فيها‏]‏ إلى شرح شرحته، وما كان مُعرَّضًا لأن يُغلط في معناه بينته‏.‏

ويندرج في ضمن هذا الكتاب - إن شاء الله تعالى - أنواع في العلوم الشرعية، وجملٌ من لطائفها الحديثية، والفقهية، والآداب الدينية، وطرفٌ من علم ‏(‏الحديث‏)‏ ودقائق ‏(‏الفقه‏)‏ الخفية‏.‏ ومهماتٌ من أصول ‏(‏العقائد‏)‏، وعيون من نفائس القواعد، وغرائبُ لطيفة مما يستحسن في المذكورات ويستحب ذكره في مجالس الجماعات‏.‏ ومعارف القلوب، وأمراضُها‏.‏ وطبُّها، وعلاجها‏.‏

وربما يجيء شيء يحتاج إلى بسط كلام لا يحتمله حال هذا الكتاب، فأذكر مقصوده مختصرًا، أو أحيل بسطَ شرحه إلى كتاب بعض العلماء ذوي البصائر والألباب، وربما أحلته على كتاب صنفته أنا، ولا أقصد بذلك - إن شاء الله تعالى - التبجح والافتخار، ولا إظهار المصنفات والاستكثار؛ بل الإرشاد إلى الخير والإشارة إليه، وبيان مظنته والدلالة عليه‏.‏

وإنما نبهت على هذه الدقيقة؛ لأني رأيت من الناس من يعيب سالك هذه ، وذلك لجهالته وسوء ظنه، وفساده، أو لحسده، وقصوره وعناده‏.‏

فأردت أن يتقرر هذا المعنى في ذهن مطالع هذا التصنيف، وليطهر نفسه من الظن الفائد والتعنيف‏.‏

وأسأل الله الكريم توفيقي لحسن النيات، والإعانة على جميع أنواع الطاعات، وتيسيرها، والهداية لها دائمًا في ازدياد حتى الممات، وأسأله ذلك لجميع من أحبه ويحبني لله تعالى، وسائر المسلمين والمسلمات، وأن يجمع بيننا وبينهم في دار كرامته بأعلى المقامات، وأن يرزقنا رضاه، وسائر وجوه الخيرات؛

ما شاء الله لا قوة إلا بالله، اعتصمتُ بالله، استعنت بالله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، حسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏

اللهم إني أسألك بكل وسيلة، وأتشفع إليك بكل شفيع، أن تنفعني وأحبابي والمسلمين أجمعين، بهذا الكتاب نفعًا عامًا بليغًا، يا من لا يُعجزه شيء، ولا يتعاظمه أمرٌ‏!‏

وهذا حين شروعي في مقصود الكتاب‏.‏

باب في الإخلاصَ وإحضَار النية في جميع الأعمال الظاهرة والخفية‏.‏

باب في الإخلاصَ وإحضَار النية في جميع الأعمال الظاهرة والخفية

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏‏.‏

معناه‏:‏ الملَّة المستقيمة‏.‏ وقيل‏:‏ الأمة المستقيمة‏.‏ وقيل‏:‏ القائمة بالحق، والله أعلم‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللَّهِ‏}‏‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ‏}‏‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ‏}‏‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنهما؛ معناه‏:‏ ولكن يناله النيات منكم‏.‏ وقال إبراهيم‏:‏ ‏"‏التقوى‏"‏ ما يُراد به وجههُ‏.‏

وقال الإمام أبو الحسن الواحدي‏:‏ قال الزجاج؛ المعنى‏:‏ لن يتقبلَ الله الدماء واللحوم، إذا كانت من غير تقوى الله تعالى، وإنما يتقبل منكم ما ستتقونه به؛ قال‏:‏ وهذا دليلٌ على أن شيئًا من العبادات لا يصح إلا بالنية، وهو‏:‏ أن ينويَ به التقرب إلى الله تعالى وأداء ما أمر به‏.‏ ‏

‏باب في الإخلاصَ وإحضَار النية في جميع الأعمال الظاهرة والخفية‏.‏

‏[‏إنما الأعمال بالنيات‏]‏

أخبرنا شيخنا الإمام الحافظ أبو البقاء خالد بن يوسف بن سعيد بن الحسن بن المفرج بن بكار المقدسي النابلسي الدمشقي الشافعي رضي الله عنه، قال‏:‏ أخبرنا أبو اليمن الكِنْدي، أخبرنا محمد بن عبد الباقي الأنصاري، أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، أخبرنا أبو الحسن محمد بن المظفر الحافظ، أخبرنا أبو بكر محمد بن محمد سليمان الواسطي، حدثنا أبو نعيم عبد بن هشام الحلبي، حدثنا ابن المبارك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه‏)‏‏.‏

هذا حديث متفق على صحته، مجمع على عظم موقعه وجلالته، وهو أحد قواعد الإيمان، وأول دعائمه، وأشد الأركان؛ وهو ‏"‏حديث‏"‏ فرد ‏"‏غريب‏"‏ باعتبارٍ، مشهور باعتبار آخر، ومداره على يحيى بن سعيد الأنصاري‏.‏ قال الحافظ‏:‏ لا يصح هذا الحديث عن النبي إلا من جهة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولا عن عمر، إلا من جهة علقمة، ولا من علقمة إلا من جهة إبراهيم بن محمد التيمي، ولا عن محمد إلا من جهة يحيى بن سعيد، وعن يحيى انتشرت روايته عن أكثر من مائتي إنسان، أكثرهم أئمة، ورواه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل ‏"‏البخاري‏"‏ -رحمه الله تعالى- في ‏"‏صحيحه‏"‏ في سبعة مواضع‏:‏

فرواه في أول كتابه، ثم في الإيمان، ثم في النكاح، ثم في العَتق، ثم في الهجرة، ثم في ترك الحِيَل، ثم في النذر‏.‏

ثم إن هذا الحديث روي في الصحيح بألفاظ‏:‏

‏"‏إنما الأعمال بالنيات‏"‏، ‏"‏إنما الأعمال بالنية‏"‏، ‏"‏العمل بالنية‏"‏‏.‏

وأما الذي وقع في أول كتاب الشهاب‏:‏ ‏"‏الأعمال بالنيات‏"‏ بجمع الأعمال والنيات، وحذف ‏"‏إنما‏"‏ فقال الحافظ أبو موسى الأصبهاني‏:‏ لا يصح إسناد هذا‏.‏

وأما معنى ‏"‏النية‏"‏ فهو القصد وهو عزم القلب‏.‏

وإنما‏:‏ لفظة موضوعة للحصر، تثبت المذكور، وتنفي ما عداه‏.‏ فمعنى الحديث‏:‏ لا تصح الأعمال الشرعية ‏"‏إلا بالنية‏"‏‏.‏

-ومن قصد بهجرته رضاء الله تعالى ورسوله ‏(‏فهجرته مقبولة‏.‏ وأجره واقع على الله تعالى، ومن قصد بها الدنيا في حظه؛ ليس له غيرها‏!‏ وفي هذا الحديث اشتراط النية في الوضوء ‏[‏وغيره‏]‏ والغسل، والتيمم، والصلاة، والزكاة، والصوم، والاعتكاف، والحج وغيرها‏.‏

قال إمامنا أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ويدخل هذا الحديث في سبعين بابًا من الفقه‏"‏؛

وقال أيضًا‏:‏ ‏"‏يدخل في هذا الحديث ثلث العلم‏"‏‏.‏

وقال الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه‏:‏ ‏"‏يدخل فيه ثلث العلم‏"‏‏.‏

وكذا ذكره أيضًا غيرهما‏.‏

قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في أول كتابه ‏"‏مختصر السنن‏"‏‏:‏ معنى قول الشافعي رضي الله تعالى عنه‏:‏ ‏"‏يدخل فيه ثلث العلم‏"‏‏:‏ أن كسب العبد إنما يكون‏:‏ بقلبه، ولسانه، ونياته‏.‏

والنية‏:‏ أحد أقسام كسبه، وهي أرجحها؛ لأنها تكون عبادة بانفرادها، بخلاف القسمين الآخرين؛ ولأن القول والعمل يدخلهما الفساد بالرياء، ولا يدخل النية‏.‏ ‏

باب في الإخلاصَ وإحضَار النية في جميع الأعمال الظاهرة والخفية‏.‏

‏[‏ما استحبه العلماء‏]‏

واستحب العلماء -رضي الله عنهم- أن تُستفتح المصنفات بهذا ‏"‏الحديث‏"‏؛ وممن ابتدأ به في أول كتابه‏:‏ الإمام أبو عبد الله ‏"‏البخاري‏"‏ - رحمه الله تعالى - في أول حديثه في ‏"‏صحيحه‏"‏ الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى‏.‏

-وروّينا عن الإمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى قال‏:‏ لو صنفت كتابًا بدأت في أول كل باب منه بهذا الحديث‏.‏

-ورُوّينا عنه -أيضًا- قال‏:‏ من أراد أن يصنف كتابًا فليبدأ بهذا الحديث‏.‏

-وروينا عن الإمام أبي سليمان أحمد بن إبراهيم الخطابي رحمه الله، فيما قرأته في أول كتابه ‏"‏الإعلام‏"‏ في شرح ‏"‏صحيح البخاري‏"‏ قال‏:‏ كان المتقدمون من شيوخنا يستحبون تقديم حديث‏:‏ ‏[‏إنما‏]‏ الأعمال بالنية، أمام كل شيء يُنشأ ويُبتدأ من أمور الدين؛ لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها‏.‏

-وبلغنا عن جماعات من السلف رضي الله تعالى عنهم أشياء كثيرة من نحو هذا من الاهتمام بهذا ‏"‏الحديث‏"‏ والله أعلم‏.‏

-وفي إسناده شيء يستحسن، ويستغرب عند المحدثين، وهو‏:‏ أن رواته اجتمع فيهم ثلاثة تابعيون يروي بعضهم عن بعض، وهم‏:‏ يحيى بن سعيد الأنصاري، ومحمد بن إبراهيم التيمي، وعلقمة بن وقاص الليثي رضي الله تعالى عنهم‏.‏

-وهذا وإن كان ‏"‏مستظرفًا‏"‏ فهو كثير في الأحاديث المستظرفة ‏"‏الصحيحة‏"‏ يجتمع ثلاثة ‏"‏تابعيون‏"‏ بعضهم عن بعض، وقد رويت أحاديث رباعيات أربعة ‏"‏صحابيون‏"‏ بعضهم عن بعض، وأربعة ‏"‏تابعيون‏"‏ بعضهم عن بعض‏.‏

-وقد جمعها الحافظ عبد القادر الرهاوي رحمه الله تعالى في جزء صنفه فيها، وأنا أرويها وقد اختصرتها في أول شرح ‏"‏صحيح البخاري‏"‏ - رحمه الله تعالى - وضممت إليها ما وجدته مثلها، فبلغ مجموعها زيادة على ثلاثين حديثًا والله أعلم‏.‏

-ومما ينبغي الاعتناء به بيان الأحاديث التي قيل‏:‏ إنها أصول الإسلام، وأصول الدين؛ أو عليها مدار الإسلام، أو مدار الفقه والعلم‏.‏ فنذكرها في هذا الموضع؛ لأن أحدها حديث ‏"‏‏[‏إنما‏]‏ الأعمال بالنية‏"‏، ولأنها مهمة فينبغي أن تقدم‏.‏

-وقد اختلف العلماء في عددها اختلافًا كثيرًا‏.‏ وقد اجتهد في جمعها وتبيينها الشيخ الإمام الحافظ، أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن المعروف بـ ‏"‏ابن صلاح‏"‏ -رحمه الله تعالى- ولا مزيد على تحقيقه وإتقانه‏.‏

فأنا أنقل ما ذكره -رحمه الله تعالى- مختصرًا، وأضم إليه ما تيسر مما لم يذكره؛ فإن الدين النصيحة‏.‏‏

باب في الإخلاصَ وإحضَار النية في جميع الأعمال الظاهرة والخفية‏.‏

‏[‏إضافة الكلمة إلى قائلها‏]‏

-ومن ‏"‏النصيحة‏"‏ أن تضاف الفائدة التي تُستغرب إلى قائلها؛ فمن فعل ذلك بورك له في علمه وحاله، ومن أنف من ذلك، وأوهم فيما يأخذه من كلام غيره أنه له، فهو جدير أن لا يُنتفع بعلمه، ولا يُبارَك له في حاله‏.‏

-ولم يزل أهل العلم والفضل على إضافة الفوائد إلى قائلها، نسأل الله تعالى التوفيق لذلك دائمًا‏.‏‏

باب في الإخلاصَ وإحضَار النية في جميع الأعمال الظاهرة والخفية‏.‏

‏[‏الأحاديث التي عليها مدار الإسلام‏]‏

قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله تعالى بعد أن حكم أقوال الأئمة في تعيين ‏"‏الأحاديث‏"‏ التي عليها مدار الإسلام، واختلافهم في أعيانها وعددها فبلغت ستة وعشرين حديثًا‏:‏

‏[‏النية‏]‏ - ‏"‏أحدها‏"‏ حديث‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات‏)‏‏.‏

‏[‏البدع والأهواء‏]‏ - ‏"‏الثاني‏"‏ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد‏)‏‏.‏

هذا حديث متفق على صحته، رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما‏.‏

وفي رواية لمسلم‏:‏ ‏(‏من عمل عملًا ليس عليه أمرنا ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

ومعنى رد‏:‏ مردود، كالخلق بمعنى المخلوق‏.‏

‏[‏ظهور الحلال والحرام‏]‏ - ‏"‏الثالث‏"‏ عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه‏:‏ ألا وإن لكل مَلِكٍ حمى، ألا وإنَّ حمى الله محارمُهُ، ألا وإن في الجسد مُضغة، إذا صلُحَت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القَلَب‏)‏‏.‏

هذا حديث متفق على صحته، رويناه في ‏"‏صحيحيهما‏"‏‏.‏

يوشك‏:‏ بضم الياء وكسر الشين المعجمة، أي يسرع‏.‏

‏[‏جمع الخلق‏]‏ - ‏"‏الرابع‏"‏ عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق‏:‏

‏(‏إن أحدكم يجمع خلقُه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات‏:‏ بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فو الله الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها؛ وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ‏.‏‏.‏‏)‏ ‏"‏رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏بكتب‏"‏ بالباء الموحدة الجارة‏.‏

‏[‏ترك الريب‏]‏ - ‏"‏الخامس‏"‏ عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال‏:‏ حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏دع ما يريبك إلا ما لا يريبك‏)‏‏.‏

‏"‏حديث صحيح رواه أبو عيسى الترمذي، وأبو عبد الرحمن النسائي‏"‏‏.‏ قال ‏[‏أبو عيسى‏]‏ الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏يريبك‏"‏ بفتح أوله وضمه لغتان؛ الفتح أشهر‏.‏

‏[‏من حسن إسلام المرء‏]‏ - ‏"‏السادس‏"‏ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه‏)‏‏.‏

‏"‏حديث حسن‏"‏ رواه الترمذي وابن ماجه‏.‏

‏[‏الحب والإيمان‏]‏ - ‏"‏السابع‏"‏ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه‏)‏‏.‏

‏"‏متفق على صحته‏"‏‏.‏

‏[‏إن الله طيب‏]‏ - ‏"‏الثامن‏"‏ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أيها الناس‏!‏ إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ‏}‏‏.‏

ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء يا رب‏!‏ يا رب‏!‏ ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذيِّ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك‏!‏‏)‏‏.‏

رواه مسلم في صحيحه‏.‏

‏[‏لا ضرر ولا ضرار‏]‏ - ‏"‏التاسع‏"‏ حديث‏:‏ ‏"‏لا ضرر ولا ضرار‏"‏‏.‏

رواه مالك مرسلًا، ورواه الدارقطني، وجماعة، من وجوه متصلًا وهو‏:‏ ‏"‏حديث حسن‏"‏‏.‏

‏[‏الدين النصيحة‏]‏ - ‏"‏العاشر‏"‏ عن تميمٍ الداريِّ رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏الدين النصيحة قلنا لمن‏؟‏ قال‏:‏ لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم‏)‏‏.‏

رواه مسلم‏.‏

‏[‏الأمر والنهي‏]‏ - ‏"‏الحادي عشر‏"‏ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم؛ فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم‏)‏‏.‏

متفق على صحته‏.‏

‏[‏حب الله والناس‏]‏ - ‏"‏الثاني عشر‏"‏ عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس‏!‏ فقال‏:‏ ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس‏)‏‏.‏

‏"‏حديث حسن‏"‏ رواه ابن ماجه‏.‏

‏[‏متى يستحل الدم‏]‏ - ‏"‏الثالث عشر‏"‏ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؛ إلا بإحدى ثلاث‏:‏ الثيب الزان، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة‏)‏‏.‏

‏"‏متفق على صحته‏"‏‏.‏

‏[‏متى يقاتل الناس‏؟‏‏]‏ - ‏"‏الرابع عشر‏"‏ عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏"‏أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى‏)‏‏.‏

‏"‏متفق على صحته‏"‏‏.‏

‏[‏بني الإسلام على خمس‏]‏ - ‏"‏الخامس عشر‏"‏ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بني الإسلام على خمس‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان‏)‏‏.‏

‏"‏متفق على صحته‏"‏‏.‏

‏[‏البينة واليمين‏]‏ - ‏"‏السادس عشر‏"‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم لكن، البينة على المدعي، واليمين على من أنكر‏)‏‏.‏

حديث حسن ‏[‏رواه البيهقي‏]‏ بهذا اللفظ، وبعضه في الصحيحين‏.‏

‏[‏البر والإثم‏]‏ - ‏"‏السابع عشر‏"‏ عن وابصة بن معبد رضي الله تعالى عنه، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ ‏"‏جئت تسأل عن البر والإثم‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم‏!‏ قال‏:‏ استفت قلبك‏!‏ البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك‏"‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏"‏وإن أفتاك المفتون‏"‏‏.‏

‏"‏حديث حسن‏"‏ رواه أحمد بن حنبل، والدارمي وغيرهما‏.‏

وفي‏"‏ صحيح مسلم‏"‏ من رواية النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس‏)‏‏.‏

‏[‏كتب الإحسان على كل شيء‏]‏ - ‏"‏الثامن عشر‏"‏ عن شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته‏)‏‏.‏

‏"‏رواه مسلم‏"‏‏.‏

والقتلة والذبحة‏:‏ بكسر أولهما‏.‏

‏[‏الإيمان بالله واليوم الآخر‏]‏ - ‏"‏التاسع عشر‏"‏ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه‏)‏‏.‏

‏"‏متفق على صحته‏"‏‏.‏

‏[‏احذر الغضب‏]‏ - ‏"‏العشرون‏"‏ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه‏.‏ أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أوصني‏!‏ قال‏:‏ لا تغضب‏!‏ فردد مرارًا، قال‏:‏ لا تغضب‏)‏‏.‏

‏"‏رواه البخاري في صحيحه‏"‏‏.‏

‏[‏إن الله فرض فرائض‏]‏ - ‏"‏الحادي والعشرون‏"‏ عن أبي ثعلبة رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها‏)‏‏.‏

‏"‏رواه الدارقطني بإسناد حسن‏"‏‏.‏

‏[‏اتق الله حيثما كنت‏]‏ - ‏"‏الثاني والعشرون‏"‏ عن أبي ذر ومعاذ رضي الله تعالى عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن‏)‏‏.‏

رواه الترمذي وقال‏:‏ ‏"‏حديث حسن‏"‏‏.‏

وفي بعض نسخه المعتمدة ‏[‏حديث‏]‏ ‏"‏حسن صحيح‏"‏‏.‏

‏[‏سؤال عن عظيم‏]‏ - ‏"‏الثالث والعشرون‏"‏ عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قلت يا رسول الله‏!‏ أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه‏:‏ تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت‏"‏؛ ثم قال‏:‏ ‏"‏ألا أدلك على أبواب الخير‏!‏ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل‏"‏، ثم تلا‏:‏ ‏(‏تتجافى جنوبهم عن المضاجع‏)‏ حتى بلغ‏:‏ ‏(‏يعملون‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ألا أخبرك برأس الأمر وعموده، وذروة سنامه‏"‏‏؟‏ قلت‏:‏ بلى يا رسول الله‏!‏ قال‏:‏ ‏"‏رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ألا أخبرك بملاك ذلك كله‏"‏‏؟‏ قلت‏:‏ بلى يا رسول الله‏!‏ قال‏:‏ فأخذ بلسانه وقال‏:‏ ‏"‏كف عليك هذا‏"‏‏!‏ فقلت‏:‏ يا نبي الله‏!‏ وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم‏"‏‏)‏‏.‏

رواه الترمذي وقال‏:‏ ‏"‏حديث حسن صحيح‏"‏‏.‏

ذروة السنام‏:‏ أعلاه وهي بضم الذال وكسرها‏.‏

‏[‏موعظته عليه الصلاة والسلام‏]‏ - ‏"‏الرابع والعشرون‏"‏ عن العرباض بن سارية قال‏:‏ وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون فقلنا‏:‏ يا رسول الله‏!‏ كأنها موعظة مودع فأوصنا‏!‏ قال‏:‏

‏(‏أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمَّرَ عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء ‏[‏من بعدي‏]‏ الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ‏!‏ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة‏)‏‏.‏

رواه أبو داود، والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏

‏[‏حديث ابن عباس ووصيته له‏]‏ - ‏"‏الخامس والعشرون‏"‏ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فقال‏:‏

‏(‏يا غلام إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم بأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك؛ رفعت الأقلام وجفت الصحف‏)‏‏.‏

رواه الترمذي وقال‏:‏ حديث ‏"‏حسن صحيح‏"‏‏.‏

وفي رواية غير الترمذي‏:‏

‏(‏احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك‏)‏‏.‏ ‏[‏وفي آخره‏]‏ ‏(‏واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا‏)‏‏.‏

‏[‏الإسلام والإحسان‏]‏ - ‏"‏السادس والعشرون‏"‏ حديث ابن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما في الإيمان بالقدر، وبيان الإيمان والإسلام والإحسان، وبيان علامات ‏[‏يوم‏]‏ القيامة‏.‏

-فهذه الأحاديث التي ذكرها الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى ومما هو في معناها‏:‏ ‏"‏أحدهما‏"‏ وهو‏:‏

‏[‏الإيمان والاستقامة‏]‏ - ‏"‏السابع والعشرون‏"‏ عن سفيان بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قلت يا رسول الله‏!‏ قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏قل آمنت بالله ثم استقم‏)‏‏.‏

‏"‏رواه مسلم‏"‏‏.‏

‏[‏الحياء‏]‏ - ‏"‏الثامن والعشرون‏"‏ عن أبي مسعود البدري عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت‏)‏‏.‏

‏"‏رواه البخاري في صحيحه‏"‏‏.‏

‏[‏سؤال الأعرابي‏]‏ - ‏"‏التاسع والعشرون‏"‏ عن جابر رضي الله تعالى عنه، أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏أرأيت إذا صليت الصلوات ‏[‏الخمس‏]‏ المكتوبات، وصمت رمضان وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئًا أأدخل الجنة‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏)‏‏.‏

‏"‏رواه مسلم‏"‏‏.‏ ‏

باب في الإخلاصَ وإحضَار النية في جميع الأعمال الظاهرة والخفية‏.‏

فصل في حقيقة الإخلاص والصدق‏.‏

فصل في حقيقة الإخلاص والصدق

وأما الإخلاص، فقال الله تعالى‏:‏ ‏(‏وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين‏)‏ الآية‏.‏

‏[‏و‏]‏ روينا عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإخلاص ما هو‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏سألت جبريل عن الإخلاص ما هو‏؟‏ فقال‏:‏ سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو‏؟‏ فقال‏:‏ سر من أسراري أودعته قلب من أحب من عبادي‏)‏‏.‏

‏[‏كلام الصوفية في ذلك‏]‏ وروينا عن الأستاذ الإمام أبي القاسم القشيري رحمه الله تعالى قال‏:‏ الإخلاص، إفراد الحق في الطاعة بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله تعالى دون شيء آخر من التصنع لمخلوق، أو اكتساب محمدة عند الناس، أو منحة مدح من الخلق، أو معنى من المعاني سوى التقرب إلى الله تعالى‏.‏

-قال‏:‏ ويصح أن يقال‏:‏ الإخلاص، تصفية الفعل عن مخالطة المخلوقات‏.‏

-قال‏:‏ ويصح أن يقال‏:‏ الإخلاص، التوقي عن ملاحظة الأشخاص‏.‏

-وروينا عن الأستاذ أبي علي الدقاق رحمه الله تعالى قال‏:‏ الإخلاص التوقي عن ملاحظة الخلق؛ والصدق التنقي عن مطالعة النفس‏.‏

-فالمخلص‏:‏ لا رياء له؛ والصادق‏:‏ لا إعجاب له‏.‏

-وروينا عن أبي يعقوب السوسي رضي الله عنه قال‏:‏ متى شهدوا في إخلاصهم الإخلاص، احتاج إخلاصهم إلى إخلاص‏!‏‏.‏

-وروينا عن السيد الجليل ذي النون رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ ثلاث من علامات الإخلاص‏:‏‏

‏(‏1‏)‏ استواء المدح والذم من العامة‏.‏‏

‏(‏2‏)‏ ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال‏.‏‏

باب في الإخلاصَ وإحضَار النية في جميع الأعمال الظاهرة والخفية‏.‏

فصل في حقيقة الإخلاص والصدق‏.‏

وجدت الكلمات في الفص

3- واقتضاء ثواب العمل في الآخرة‏.‏

-وعن أبي عثمان المغربي رحمه الله تعالى قاله‏:‏ ‏"‏الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق‏"‏‏.‏

-وعن حذيفة المرعشي رحمه الله تعالى فقال‏:‏ ‏"‏الإخلاص أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن‏"‏‏.‏

-وعن السيد الجليل فضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال‏:‏ ‏"‏ترك العمل لأجل الناس رياء‏!‏ والعمل لأجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما‏"‏‏.‏

-وعن السيد الجليل أبي محمد سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى أنه سئل ‏[‏عن‏]‏ أي شيء أشد على النفس‏؟‏ قال‏:‏ الإخلاص، لأنه شيء ليس له في نصيب‏.‏

-وعن يوسف بن الحسين رحمه الله تعالى قال‏:‏ أعز شيء في الدنيا؛ الإخلاص‏.‏

-وعن أبي عثمان المغربي رحمه الله تعالى قال‏:‏ ‏"‏إخلاص العوام ما لا يكون للنفس فيه حظ، وإخلاص الخواص ما يجري عليهم لا بهم، فتبدو منهم الطاعات وهم عنها بمعزل، ولا تقع لهم عليه رؤية، ولا لهم عليها اعتداد‏.‏

-وروينا عن السيد الجليل الإمام التابعي مكحول رضي الله عنه قال‏:‏ ما أخلص عبد قط أربعين ‏[‏يومًا‏]‏ إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه ولسانه‏.‏

-وروينا عن سهل التستري رحمه الله تعالى قال‏:‏ من زهد في الدنيا أربعين يومًا، صادقًا مخلصًا من قلبه في ذلك، ظهرت له الكرمات؛ ومن لم تظهر له فإنه عدم الصدق في زهده‏!‏‏.‏

-فقيل لسهل‏:‏ كيف تظهر له الكرامات‏؟‏ قال‏:‏ يأخذ ما يشاء، كما يشاء، من حيث يشاء‏.‏

-قال سهل التستري رحمه الله تعالى‏:‏ نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا‏:‏ أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى وحده، لا يمازجه شيء، لا نفس، ولا هوى، ولا دنيا‏.‏

-وقال السري رحمه الله تعالى‏:‏ ‏"‏لا تعمل للناس شيئًا، ولا تترك لهم شيئًا، ولا تعطي لهم شيئًا، ولا تكشف لهم شيئًا‏"‏‏.‏‏

باب في الإخلاصَ وإحضَار النية في جميع الأعمال الظاهرة والخفية‏.‏

فصل في حقيقة الإخلاص والصدق‏.‏

‏[‏الصدق‏]‏ وأما الصدق، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ‏}‏‏.‏

وروينا عن الأستاذ القشيري رحمه الله قال‏:‏ الصدق عماد الأمر، وبه تمامه، وفيه نظامه؛

قال‏:‏ وأقل الصدق استواء السر والعلانية‏.‏

-وروينا عن ‏"‏سهل‏"‏ رحمه الله تعالى قال‏:‏ ‏"‏لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره‏"‏‏.‏

-وروينا عن ذي النون رحمه الله أنه قال‏:‏ الصدق سيف الله، وما وضع على شيء إلا قطعه‏.‏

-وروينا عن السيد الجليل الإمام العارف الحارث المحاسبي رحمه الله تعالى قال‏:‏ الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه؛ ولا يحب إطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله؛ ولا يكره أن يطلع الناس على السيء من عمله، فإن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم؛ وليس هذا من إخلاص الصديقين‏!‏

-وقيل‏:‏ إذا طلبت من الله تعالى الصدق، أعطاك مرآة تبصر فيها كل شيء من عجائب الدنيا والآخرة‏.‏

-وروينا عن السيد الجليل أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه قال‏:‏ ‏"‏الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرة‏"‏‏.‏ والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة‏!‏‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ معناه أن الصادق يدور مع الحق كيف كان؛ فإذا رأى الفضل الشرعي في أمر عمل به، وإن خالف ما كانت عليه عادته، وإذا عرض أهم منه في الشرع ولا يمكن الجمع بينهما، انتقل إلى الأفضل، ولا يزال هكذا، وربما كان في اليوم الواحد على مائة حال، أو ألف أو أكثر، على حسب تمكنه في المعارف وظهور الدقائق له واللطائف‏.‏

وأما المرائي‏:‏ فيلزم حالة واحدة بحيث لو عرض له مهم يرجحه الشرع عليها في بعض الأحوال لم يأت بهذا المهم؛ بل يحافظ على حالته لأنه يرائي بعبادته وحاله المخلوقين، فيخاف من التغير ذهاب محبتهم إياه فيحافظ على بقائها‏!‏

-والصادق يريد بعبادته وجه الله تعالى، فحيث رجح الشرع حالًا صار إليه، ولا يعرج على المخلوقين‏.‏

-وقد بسطت القول في شرح هذه الحكاية في أول شرح المهذب، وذكرت دلائلها، وأوضحتها بالأمثلة، ومقصودها ما ذكرته هنا‏.‏ فاقتصرت عليه، والله أعلم‏.‏‏