فصل: الخبر عن دولة الأمير أبي يحيى بن عبد الحق مديل الأمر لقومه بني مرين وفاتح الأمصار ومقيم الرسوم الملوكية من الآلة وغيرها لمن بعده من أمرائهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن دولة الأمير أبي يحيى بن عبد الحق مديل الأمر لقومه بني مرين وفاتح الأمصار ومقيم الرسوم الملوكية من الآلة وغيرها لمن بعده من أمرائهم:

لما ولي أبو يحيى بن عبد الحق أمر بني مرين سنة اثنتين وأربعين وستمائة كان من أول ما ذهب إليه ورآه من النظر لقومه أن قسم بلاد المغرب وقبائل جبايته بين عشائر بني مرين وأنزل كلا منهم في ناحية تسوغها سائر الأيام طعمة فاستركبوا الرجل أتباعهم واستلحقوا من غاشيتهم وتوفرت عساكرهم ثم نبضت نار المنافسة بين أحيائهم وخالف بنو عسكر جماعتهم وصاروا إلى الموحدين فحرضوهم على أبي يحيى بن عبد الحق وبني حمامة وأغروهم بهم وبعثوا الصريخ إلى يغمراسن بن زيان فوصل في قومه إلى فاس واجتمعوا جميعا إلى قائد الموحدين وأعطوا الرهن على صدق البلاء في الأمير أبي يحيى وأتباعه وصمدوا إليه حتى انتهوا إلى ورغة ثم إلى كرت وأعجزهم فانكفوا راجعين إلى فاس ونذر يغمراسن بغدر الموحدين فخرج في قومه مع أوليائه بني عسكر وعارضهم الأمير أبو يحيى بوادي سبو فلم يطق حربهم ورجع عنهم عسكر الموحدين بما صرخ في معسكرهم من موت الخليفة السعيد ثم بعثوا إليه لملاطفتهم في الفيئة إلى الطاعة ومذاهب الخدمة القائد عنبر الخصي مولى الخليفة في حصة من الروم والناشبة فتقبض عليهم بنو عسكر وتمسكوا بهم في رهنهم وقتلوا كافة النصارى فأطلق أبناءهم ولحق يغمراسن وقومه بتلمسان ثم رجع بنو عسكر إلى ولاية أميرهم أبي يحيى واجتمع بنو مرين لشأنهم وتملكوا الأعمال ثم مدوا عينهم إلى تملك الأمصار فنزل أبو يحيى بجملته جبل زرهون ودعا أهل مكناسة إلى بيعة الأمير أبي زكرياء بن أبي حفص صاحب أفريقية لما كان يومئذ على دعوته وفي ولايته فحاصرها وضيق عليها بقطع المرافق وترديد الغارات ومعاودة الحرب إلى أن أذعنوا لطاعته فافتتحها صلحا بمداخلة أخيه يعقوب بن عبد الحق لزعيمها أبي الحسن بن أبي العافية وبعثوا بيعتهم إلى الأمير أبي زكرياء وكانت من إنشاء أبي المطرف بن عميرة كان قاضيا فيهم يومئذ فأقطع السلطان ليعقوب ثلث جبايتها ثم أحس الأمير أبو يحيى بن عبد الحق من نفسه الاستبداد ومن قبيله الاستيلاء فاتخذ الآلة وبلغ الخبر إلى السعيد بتغلبه على مكناسة وصرفها إلى دعوة ابن أبي حفص فوجم لها وفاوض الملأ من أهل دولته في أمره وأراهم كيف اقتطع الأمر عنهم شيئا فشيئا: فابن أبي حفص اقتطع أفريقية ثم يغمراسن بن زيان وبنو عبد الواد اقتطعوا تلمسان والمغرب الأوسط وأقاموا فيها دعوة ابن أبي حفص وأطمعوه في الحركة إلى مراكش بمظاهرتهم وابن هود اقتطع عدوة الأندلس وأقام فيها دعوة بني العباس وابن الأحمر في الجانب الآخر مقيم لدعوة ابن أبي حفص وهؤلاء بنو مرين تغلبوا على ضواحي المغرب ثم سموا إلى تملك الأمصار ثم افتتح أميرهم أبو يحيى مكناسة وأظهر فيها دعوة ابن أبي حفص وجاهر بالاستبداد ويوشك إن رضينا هذه الدنية وأغضينا عن هذه الواقعات أن يختل الأمر أو تنقرض الدعوة فتذامروا وامتعضوا وتداعوا للصمود إليه فجهز السعيد عساكره واحتشد عرب المغرب وقبائله واستنفر الموحدين والمصامدة ونهض من مراكش سنة خمس وأربعين وستمائة يريد مكناسة: وبني مرين أولا ثم تلمسان ويغمراسن ثانيا ثم أفريقية وابن أبي حفص آخرا واعترض العساكر والحشود بوادي بهت ووصل الأمير أبو يحيى إلى معسكره متواريا عنهم عينا لقومه حتى صدقهم كنه الخبر وعلم أن لا طاقة له بهم فأفرج عن البلاد وتناذر بنو مرين بذلك من أماكنهم فتلاحقوا به واجتمعوا إليه بتازوطا من بلاد الريف ونزل سعيد مكناسة ولاذ أهلها بالطاعة وسألوا العفو عن الجريرة واستشفعوا بالمصاحف برز بها الأولاد على رؤوسهم وانتظموا مع النساء في صعيد حاسرات منكسرات الطرف من الخشوع ووجوم الذنب والتوسل فعفا عنهم وتقبل فيئهم وارتحل إلى تازى في اتباع بني مرين وأجمع بنو أوطاس الفتك بأبي يحيى بن عبد الحق غيرة ومناسفة ودس إليه بذلك مهيب من مشيختهم فترحل عنهم إلى بلاد بني يزناسن ونزل بعين الصفا.
ثم راجع نظره في مسالمة الموحدين والفيئة إلى أمرهم ومظاهرتهم على عدوهم يغمراسن وقومه من بني عبد الواد ليكون فيها شفاء نفسه منهم فأوفد مشيخة قومه عليه بتازى فأدوا طاعته وفيئته فتقبلها وصفح لهم عن الجرائر التي أتوها وسألوه أن يستكفي بالأمير أبي يحيى في أمر تلمسان ويغمراسن على أن يمده بالعساكر رامحة وناشبة فاتهمهم الموحدون وحذروا منهم غائلة العصبية فأمرهم السعيد بالعسكرة معه فأمده الأمير أبو يحيى بخمسماية من قبائل بني مرين وعقد عليهم لابن عمه أبي عياد بن يحيى بن أبي بكر بن حمامة وخرجوا تحت رايات السلطان ونهض من تازى يريد تلمسان وما وراءها وكان من خبر مهلكه على جبل تامزدكت بيد بني عبد الواد ما ذكرناه في أخبارهم.
ولما هلك وانفضت عساكره متسابقين إلى مراكش وجمهورهم مجتمعون إلى عبد الله بن الخليفة السعيد ولي عهده وتحت رايات أبيه وطار الخبر بذلك إلى الأمير أبي يحيى بن عبد الحق وهو بجهات بني يزناسن وقد خلص إليه هنالك ابن عمه أبو عياد وبعث بني مرين من تيار تلك الصدمة فانتهز الفرصة وأرصد لعسكر الموحدين وفلهم بكرسيف فأوقع بهم وامتلأت أيدي بني مرين من أسلابهم وانتزعوا الآلة من أيديهم وأصار إليه كتيبة الروم والناشبة من الغزو واتخذ الموكب الملوكي وهلك الأمير عبد الله بن السعيد في جوانب تلك الملحمة ويئسوا للموحدين بعدها من الكرة ونهض الأمير أبو يحيى وقومه إلى بلاد المغرب مسابقين إليه يغمراسن بن زيان بما كان ملوك الموحدين أوجدوهم السبيل إلى ذلك باستجاشة على بني مرين أيام فتنتهم معهم فكانوا يبيحونه حرم المغرب ويوطئونه عساكر قومه ما بين تازى إلى فاس إلى القصر مع عساكر الموحدين فكان ليغمراسن وقومه بذلك طمع فيها لولا ما كبحهم فأس بني مرين وجدع من أنوفهم.
وكان أول ما بدأ به أبو يحيى بن عبد الحق أعمال وطاط فافتتح حصونهم بملوية ودوخ جبلهم ثم رحل إلى فاس وقد أجمع أمره على انتزاعها من ملكة بنى عبد المؤمن وإقامه الدعوة لابن أبي حفص بها وبسائر نواحيها والعامل بها يومئذ السيد أبو العباس فأناخ عليها بركابه وتلطف في مداخلة أهلها وضمن لهم جميل النظر وحميد السياسة وكف الأيدي عنهم والحماية لهم بحسن المغبة وصالح العائدة فأجابوه ووثقوا بعهده وعنائه وآووا إلى ظله وركنوا إلى طاعته وانتحال الدعوة الحفصية بأمره ونبذوا طاعة بني عبد المؤمن يأسا من صريخهم وكثرتهم وحضر أبو محمد القشتالي وأشهده الله على الوفاء بما اشترط على نفسه من النظر لهم والذب عنهم وحسن الملكة والكفالة وتقبل مذاهب العدل فيهم فكان حضوره ملاك تلك العقدة والبركة التي يعرف أثرها خلفهم في تلك البيعة وكانت البيعة بالرابطة خارج باب الفتوح ودخل إلى قصبة فاس لشهرين اثنين من مهلك السعيد فاتح ست وأربعين وستماية وأخرج السيد أبا العباس من القصبة وبعث معه خمسين فارسا أجازوه أم ربيع ورجعوا ثم نهض إلى منازلة تازى وبها السيد أبو علي فنازلها أربعة أشهر ثم نزلوا على حكمه فقتلهم ومن على آخرين منهم وسد ثغرها وثقف أطرافها وأقطع رباط تازى وحصون ملوية لأخيه يعقوب بن عبد الحق ورجع إلى فاس فوفد عليه بها مشيخة أهل مكناسة وجددوا بيعتهم وعاودوا طاعتهم ولحق بهم على أثرهم أهل سلا ورباط الفتح فتملك الأمير أبو يحيى هذه البلاد الأربعة أمهات أمصار المغرب واستولى على نواحيها إلى وادي أم ربيع فأقام فيها دعوة ابن أبي حفص وبعث بها إليه واستبد بنو مرين بملك المغرب الأقصى وبنو عبد الواد بملك المغرب الأوسط وبنو أبي حفص بأفريقية وخمد ذبال آل عبد المؤمن وركدت ريحهم وآذنت بالانقراض دولتهم وأشرف على الفناء أمرهم وإلى الله عاقبة الأمور.