فصل: أخبار الناصر مع أهل العدوة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  ثورة مطرف بن موسى بن ني النون الهواري بشنة بريه

كـان لمطـرف صيت من الشجاعة ومحل من النسب والعصببية فثار في شنت برية وكانت بينه وبيـن صاحـب ينبلونـة سلطـان البشكنـس مـن الجلالقـة حـروب أسـرة العـدو فـي بعضهـا ففـر من الأسر ثورة الأمير ابن حفصون في يشتر ومالقة ورندة واليس وهـو عمر بن حفصون بن عمر بن جعفر بن دميان بن فرغلوش بن أذفونش القس هكذا نسبه ابن حيان أول ثائر كان بالأندلس وهو الذي افتتح الخلاف بها وفارق الجماعة أيام محمد بن عبـد الرحمـن فـي سنـي السبعيـن والمائتيـن‏.‏ خـرج بجبـل يشتـر مـن ناحيـة ريـة ومالقـة وانضـم إليـه الكثيـر مـن جنـد الأندلـس ممـن فـي قلبـه مـرض فـي الطاعـة وابتنى قلعته المعروفة به هنالك واستولى على غـرب الأندلـس إلـى رنـدة وعلـى السواحـل مـن الثجة إلى البيرة وزحف إليه هاشم بن عبد العزيز الوزيـر فحاصـره واستنزلـه إلـى قرطبـة سنـة سبعين‏.‏ ثم هرب ورجع إلى حصن يشتر ولما توفي الأمير محمد تغلب على حصن الحامة ورية ورندة والثجة وغزاه المنذر سنة أربع وسبعين فافتتح جميع قلاعه وقتل عامله برية ثم سأل الصلح فعقد له المنذر‏.‏ ثم نكث ابن حفصون وعـاد إلـى الخلـاف فحاصـره المنـذر إلـى أن هلك محاصراً له فرجع عنه الأمير عبد الله واستفحل أمر ابن حفصون والثوار وتوالت عليه الغزوات والحصار‏.‏ وكاتب ابن الأغلب صاحب إفريقية وهاداه وأظهر دعوة العباسية بالأندلس فيما إليه وتثاقل ابن الأغلب على إجابته لاضطراب إفريقية فأمسك وأكثر الاجلاب على قرطبة وبنى حصن بلاية قريباً منها وغزاه عبد الله وافتتح بلاية والثجة‏.‏ ثم قصده في حصنه فحاصره أياماً وانصـرف عنـه فاتبعـه ابـن حفصـون فكـر عليـه الأميـر عبـد الله وهزمه وأثخن فيه وافتتح البيرة من أعماله‏.‏ ووالى عليه الحصار في كل سنة فلما كانت وثمانين عمر بن حفصون وخالص ملك الجلالقـة فنبـذ إليـه أمـراؤه بالحصـون عهده وسار الوزير أحمد بن أبي عبيدة لحصاره في العساكر فاستنجد بإبراهيم بن حجاج الثائر بإشبيلية ولقياه فهزمهما وراجع ابن حجاج الطاعة وعقد لـه الأميـر عبـد اللـه علـى إشبيلية وبعث ابن حفصون بطاعته للشيعة عندما تغلبوا على القيروان من يد الأغالبة وأظهر بالأندلس دعوة عبيد الله‏.‏ ثم راجع طاعة بني أمية عندما هيأ الله للناصر ما هيأه من استفحال الملك واستنزل الثوار واستقـام إلـى أن هلـك سنـة سـت وثلاثمائة لسبع وثلاثين سنة من ثورته‏.‏ وقام مكانه ابنه جعفر فأقره الناصر على أعماله‏.‏ ثم دس إليه أخوه سليمان بن عمر بعض رجالاتهم فقتله لسنتين أو ثلاثة من ولايته‏.‏ وكان مع الناصر فسار إلى أهل يشتر وملكوه مكان أخيه وذلك سنة ثمان وثلاثمائة وخاطب الناصر فعقد له كما كان أخوه ثم نكث وتكرر إنكاثه ورجوعه ثم بعث إليـه الناصـر وزيـره عبـد الحميـد بـن سبيل بالعساكر ولقيه وقتله وجيء برأسه إلى قرطبة‏.‏ وقدم المولدون أخاه حفص بن عمر فانتكث ومضى على العصيـان وغـزاه الناصـر وجهـز العساكـر لحصـاره حتـى استأمـن لـه ونـزل إلـى قرطبـة بعـد سنة من ولايته‏.‏ وخرج الناصر إلى يشتر فدخله وجال في أقطاره ورفع أشلاء عمـر وابنـه جعفـر وسليمـان فصلبهـم بقرطبـة وخـرب جميـع الكنائس التي كانت في الحصون التي بنواحي رية وأعمال مالقة ثلاثين حصنا فأكثر وانقرض أمر بني حفصون وذلك سنة خمس عشرة وثلاثمائة والبقاء لله‏.‏

  ثوار إشبيلية المتعاقبون ابن أبي عبيدة

وابن خلدون وابن حجاج وابن مسلمة وأول الثوار كان بإشبيلية أمية بن عبد اللـه الغافـر بـن أبي عبيدة وكان جده أبو عبيدة عاملاً عليها من قبل عبد الرحمن الداخل‏.‏ قال ابن سعيد ونقله عن مؤرخي الأندلس‏:‏ الحجازي ومحمد بن الأشعث‏.‏ وابن حيان قال‏:‏ لما اضطربت الأندلس بالفتن أيام الأمير عبد الله وسما رؤساء البلاد إلى التغلب وكان رؤساء إشبيلية المرشحون لهذا الشأن أمية بن عبد الغافر وكليب بن خلدون الحضرمي وأخوه خالد وعبد الله بن حجاج وكان الأمير عبد الله قد بعث علـى إشبيلية ابنه محمداً وهو أبو الناصر والنفر المذكورون يحومون على الاستبداد فثاروا بمحمد بن الأمير عبد الله وحصروه في القصر مع أمه وانصرف ناجيا إلى أبيه‏.‏ ثم استبد أمية بولايتها على مداراتهم ودس على عبد الله بن حجاج من قتلـه فقـام أخـوه إبراهيم مكانه فثاروا به وحاصروه في القصر ولما أحيط به خرج إليهم مستميتاً بعد أن قتل أهله وأتلف موجوده فقتل وعاثت العامة برأسه وذلك أعوام الثمانين والثلاثمائة‏.‏ وكتب ابـن خلدون وأصحابه بذلك إلى الأمير عبد الله وأن أمية خلع وقتل فتقبل منهم للضرورة وبعث عليهم عمه هشام بن عبد الرحمن واستبدوا عليه وتولى كبر ذلك كريب ابن خلدون واستبد عليهـم بالرياسـة‏.‏ قـال ابـن حيـان ونسبهـم فـي حضرمـوت وهـم بإشبيليـة نهايـة فـي النباهة‏.‏ مقتسمين الرياسـة السلطانيـة والعلمية وقال ابن حزم إنهم من ولد وائل بن حجر ونسبهم في كتاب الجمهرة وكذلـك قـال ابـن حيـان في بني حجاج‏.‏ قال الحجازي‏:‏ ولما قتل عبد الله بن حجاج قام أخوه إبراهيم مقامه وظاهر بني خلدون على قتل أمية وأنزل نفسه منهم منزلة الخديم‏.‏ واستبد كريب وعسف أهل إشبيلية فنفر عنه الناس وتمكن لإبراهيم الغرض وصـار يظهـر الرفق كلما أظهر كريب الغلظة وينزل نفسه منزلة الشفيع والملاطف‏.‏ ثم دس للأمير عبد الله بطلب الولاية ليشتد بكتابه على كريب بن خلدون وكتب له بذلك عهده فأظهر للعامة وثاروا جميعاً بكريب فقتلوه‏.‏ واستقام إبراهيم بن حجاج على الطاعة للأمير عبد الله وحصن مدينة قرمونة وجعل فيها مرتبط خيولـه وكـان يتـردد مـا بينهـا وبيـن إشبيليـة‏.‏ وهلـك ابـن حجـاج واستبـد ابـن مسلمـة بمكانـه‏.‏ ثـم استقـرت إشبيليـة آخـراً بيـد الحجاج بن مسلمة وقرمونة بيد محمد بن إبراهيم بن حجاج وعقد له الناصر‏.‏ ثم انتقض وبعث له الناصـر بالعساكـر وجـاء ابـن حفصون لمظاهرة ابن مسلمة فهزمته العساكر وبعث ابنه شفيعا فلم يشفعه فبعث ابن مسلمة بعض أصحابه سراً فداخل الناصر في المكر به وعقد له‏.‏ وجاء بالعساكر وخرج ابن مسلمة للحديث معه فغدروا به وملكوا عليه أمره وحملوه إلى قرطبة‏.‏ ونزل عامل السلطان إشبيلية وكان من الثوار على الأمير عبد الله قريبه وغدر به أصحابه فقتل‏.‏

  مقتل الأمير محمد ابن الأمير عبد الله

ثم مقتل أخيه المطرف كان المطرف قد أكثر السعاية في أخيه محمد عند أبيهما حتـى إذا تمكنـت سعايتـه وظهـر سخطه على ابنه محمد لحق حينئذ ببلد ابن حفصون‏.‏ ثم استأمن ورجع وبالغ المطرف في السعاية إلى أن حبسه أبوه ببعض حجر القصر وخرج لبعض غزواته واستخلف ابنه المطرف علـى قصـره فقتـل أخـاه فـي محبسـه مفتاتا بذلك على أبيه وحزن الأمير عبد الله على ابنه محمد وضم ابنه عبد الرحمن إلى قصره وهو ابن يوم فربي مع ولده‏.‏ ثم بعث الأمير عبد الله ابنه المطرف بالصائفة سنة ثلاث وثمانين ومائتين ومعه الوزير عبد الملك بن أمية ففتـك المطـرف بالوزير لعداوة بينهما وسطا به أبوه الأمير عبد الله وقتله شر قتله ثأر فيها منه بأخيه محمد وبالوزير‏.‏ وعقد مكان الوزير لابنه أمية فسنح على الفقراء بأنفه وترفع على الوزراء فمقتوه وسعـوا فيـه عنـد الأميـر عبـد اللـه بأنـه بايـع جماعـة مـن سماسرة الشر لأخيه هشام بن محمد ولفقت بذلك شهادات اعتمد القاضي حينئذ قبولها وأشار للساعين أن يجعلوا في الجماعة للمشهود عليهم بالبيعة بعض أعدائه فتمت الحيلة وقتل هشام أمية الوزير وذلك سنة أربع وثمانين‏.‏

  وفاة الأمير عبد الله بن محمد وولاية حافده عبد الرحمن الناصر بن محمد

ثم توفي الأمير عبد الله في شهر ربيع الأول من آخر المائة الثالثة لست وعشرين سنة من إمارته وولي حافده عبد الرحمن ابن ابنه محمد قتيل أخيه المطرف وكانت ولايته من الغريب لأنه كان شاباً وأعمامـه وأعمـام أبيـه حاضـرون فتصـور إليهـا وحازهـا لونهـم ووجـد الأندلس مضطربة فسكنها وقاتل المخالفين حتى أذعنوا واستنزل الثوار ومحا أثر ابن حفصون كبيرهـم وحمـل أهـل طليطلـة علـى الطاعـة وكانـوا معروفيـن بالخلـاف والانتفـاض‏.‏ واستقامت الأندلس وسائر جهاتها في نيف وعشرين سنة من أيامه ودامت أيامه نحواً من خمسين سنة استفحـل فيهـا ملـك بنـي أميـة بتلـك النواحـي وهـو أول مـن تسمى بأمير المؤمنين عندما تلاشى أمر الخلافـة بالمشـرق واستبـد موالـي الترك على بني العباس وبلغه أن المقتدر قتله مؤنس المظفر مولاه سنة سبع وعشرين وثلاثمائة فتلقب بألقاب الخلفاء وكان كثير الجهاد بنفسه والغزو إلـى دار الحرب إلى أن انهزم عام الخندي سنة ثلاث وعشرين ومحص اللـه المسلميـن فقعـد عـن الغـزو بنفسـه وصـار يرفـد الصوائـف فـي كـل سنـة فأوطـأ عساكـر المسلميـن من بلاد الفرنج ما لم يطأه قبل أيـام سلفـه ومـدت إليـه أمـم النصرانيـة مـن وراء الحـروب يـد الإذعان وأوفدوا إليه رسلهم وهداياهم من رومة القسطنطينية في سبيل المهادنة والسلم والاحتمال فيما يعن من مرضاته‏.‏ ووصـل إلـى سدنة ملوك الجلالقة من أهل جزيرة الأندلس المتاخمين لبلاد المسلمين كجهات قشتالة وينبلونـة ومـا إليهـا مـن الثغـور الجوفيـة فقبلـوا يـده والتمسـوا رضـاه واحتقبـوا جوائـزه وامتطوا مركبه‏.‏ ثم سما إلى ملك العدوة فتناول سبتة من أيدي أهلها سنة سبع عشرة وأطاعه بنو إدريـس أمراء العدوة وملوك زناتة البربر وأجاز إليه الكثير منهم كما نذكر في أخباره وبدأ أمره لأول ولايته بتخفيف المغارم عن الرعايا واستحجب موسى بن محمد بن يحيى‏.‏ واستوزر عبد الملك بن جهور بن عبد الملك بن جوهر وأحمد بن عبـد الملـك بـن سعـد وأهـدى لـه هديتـه المشهـورة المتعـددة الأصنـاف‏.‏ ذكرهـا ابـن حيـان وغيره وهي مما نقل من ضخامة الدولة الأموية واتساع أحوالها وهي خمسمائة ألف مثقال من الذهـب العيـن وأربعمائـة رطـل من التبر ومصارفه خمسة وأربعين ألف دينار ومن سبائك الفضة مائتـا بـدرة واثنا عشر رطلاً من العود الهندي يختم عليه كالشمع ومائة وثمانون رطلا من العود الصمغي المتخير ومائة رطل من العود الشبه المنقى ومائة أوقية من المسك الذكي المفضل في جنسـه وخمسمائـة أوقيـة مـن العنبـر الأشهـب المفضـل فـي جنسـه علـى خليقتـه مـن غير صناعة ومنها قطعة ململمة عجيبة الشكل وزن مائة أوقية وثلاثمائة أوقية من الكافور المترفع الذكاء ومـن اللبـاس ثلاثـون شقـة مـن الحريـر المختـم المرقوم بالذهب للباس الخلفاء مختلفة الألوان والصنائع وعشرة أفرية من عالي جلود الفنك الخراسانية وستة من السرادقات العراقية وثمان وأربعون من الملاحـف البغداديـة لزينـة الخيـل مـن الحريـر والذهـب وثلاثـون شقـة الغريـون مـن الملاحف لسروج الهبات وعشرة قناطير من السمور فيها مائة جلد وأربعة آلاف رطل مـن الحريـر المغزول وألف رطل من الحرير المنتقى للاستغزال وثلاثون بساطاً من الصوف وعشر مائة منقاة مختلفـة ومائـة قطعـة مصليـات مـن وجـوه الفـرش المختلفـة وخمسـة عشـر مـن نخـاخ الخـز المقطوع شطرها‏.‏ ومن السلاح والعدة ثمانمائة من تخافيف الزينة أيام البروز والمواكب وألف ترس سلطانية ومائة ألف سهم من النبال البارعة الصنعة ومن الظهر خمسة عشر فرساً من الخيل العراب المتخيرة لركاب السلطان فائقة النعوت وعشرون من بغال الركاب مسرجة ملجمة بمراكب خلافية ولجم بغال مجالس سروجها خز جعفري عراقي ومائة فرس من عتاق الخيل التي تصلح للركوب في التصرف والغزوات رمن الرقيق أربعون وصيفاً وعشرون جارية متخيرات بكسوتهن وزينتهن ومن سائر الأصناف ومن الصخرسيات ما أنفـق عليـه فـي عـام واحـد‏.‏ ثمانـون ألـف دينـار وعشرون ألف عود من الخشب من أجمل الخشب وأصلبه وأقدمه قيمته خمسون ألف دينار‏.‏ وعرضت الهدية على الناصر سنة سبع وعشرين فشكرها وحسن لديه موقعها‏.‏

  سطوة الناصر بأخيه القاضي ابن محمد

كـان محمـد بـن عبـد الجبـار ابـن الأميـر محمـد وعبـد الجبـار هـو عـم أبـي الناصـر قد سعى عنده في أخيه القاضي ابن محمد وأنه يريد الخلاف والبيعة لنفسه‏.‏ وسعى القاضي في محمد بن عبد الجبار وأنه يروم الانتقاض واستطلع على الجلي من أمرهما وتحقق نقضهما فقتلهما سنة ثمان وثلاثمائة‏.‏ سطوة الناصر ببني إسحاق المروانيين وهو إسحاق بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن الوليد بن إبراهيم بن عبد الملك بن مروان دخـل جدهـم أول الدولـة ولـن يزالـوا فـي إكرام وعز واستقرت الرياسة في إسحاق وسكن إشبيلية أيـام الفتنـة عنـد ابـن حجـاج‏.‏ ثـم هلـك ابـن حجـاج وولـي ابـن مسلمـة فاتهمـه وقبـض عليـه وعلى ولده وصهره يحيى بن حكم بن هشام بن خالد بن أبان بن خالد بن عبد الله بن عبد الملك بن الحـارث بـن مـروان فقتـل الولد والصهر وكان عنده سفير لابن حفصون فشفع في الشيخ إسحاق وولـده أحمـد‏.‏ ثم ملك الناصر إشبيلية من يد ابن مسلمة فرحل إسحاق إلى قرطبة واستوزره الناصر واستوزر بنيه أحمد وابنه ومحمد وعبد الله ففتحوا الفتوحات وكفوا المهمات وعلت مقاديرهم في الدولة‏.‏ وتوفي أبوهم إسحاق فورثوا مكانه في كل رفيعة‏.‏ ثم هلك كبيرهم عبد الله وكان مقدمهم عند الناصر واستوزره ثم اتهمه الناصر بالخلاف وكثرت فيهم السعايات وصاروا في مجـال الظنـون فسطـا بهـم الناصـر وغربهـم فـي النواحـي فانـزوى أميـة منهـم فـي تستريـن سنـة خمـس وعشرين وخلع الطاعة وقصده الناصر في العساكر فدخل دار الحرب وأجاره رذمير ملك الجلالقة‏.‏ ثم تغير لـه فجـاء إلـى الناصـر مـن غيـر عهـد وعفـا عنـه وبقـي فـي غمـار النـاس إلـى أن هلـك‏.‏ وأمـا أحمـد فعزل عن سرقسطة لما نكب أبوه وبقي خاملا مغضبا‏.‏ ثم تكاثرت السعاية فيه فقتل‏.‏ وأما أحمـد فبقـي فـي جملـة الناصـر حتـى إذا تحـرك إلـى سرقسطـة نمـى عنـه ففـر ولقـي فـي مفـره جماعـة مـن أهل سرقسطة فقتلوه‏.‏

  أخبار الناصر مع الثوار

كان أول فتحه أبيح له أسجة بعث إليها بدراً مولاه وحاجبه فافتتحها من يد ابن حفصون سنـة ثلاثمائـة وغـزا فـي أثرهـا بنفسـه فافتتـح أكثـر كـل ثلاثيـن حصنـا من يد ابن حفصون منها البيرة ودوخ سائـر أقطـاره وضيـق مخنقـه بالحصـار واستنـزل سعيد بن مزيل من حصن المنتلون وحصـن سمنـان‏.‏ وفي سنة إحـدى وثلاثمائة ملك إشبيلية من يد أحمد بن مسلمة كما ذكرناه ثم سار سنة اثنتين في العساكر فنازل حصون ابن حفصون وانتهى إلى الجزيرة الخضراء وضبط البحـر ونظر في أساطيله واستكثر منها‏.‏ ومنع ابن حفصون من البحر وسأله في الصلح على لسـان يحيـى بـن إسحـاق المروانـي فعقـد لـه‏.‏ ثـم أغـزى إسحـاق بـن محمـد القرشـي إلى الثوار بمرسية وبلنسيـة فأثخـن فـي نواحيهـا وفتـح أريولـة وأغـزى بـدراً مولـاه إلـى مدينـة لبـة فاستنـزل منهـا عثمان بن نصر الثائر بها وساقه مقيداً إلى قرطبة ثم أغزى إسحاق بن محمد سنة خمس مدينة قرمونة فملكهـا مـن يـد حبيـب بن سوارة كان ثائراً بها‏.‏ وفتح حصن ستمرية سنة ست وحصن طرش سنة تسع‏.‏ وأطاعه أحمد بن أضحى الهمداني الثائر بحصن الجامة ورهن ابنه على الطاعة‏.‏ وغزا ابن حفصون سنة أربع عشرة فردته العساكر المجمرة لحصاره ورجع وبعث إليه حفص يستأمنه فأمنه وجاء إلى قرطبة وملك الناصر يشتر كما مر‏.‏ ثم انتقض سنة خمس وعشرين أميـة بـن إسحـاق فـي تستريـن وقـد مـر ذكـر أوليتـه ومحمـد بـن هشـام التجيبـي فـي سرقسطـة ومطرف بن مندف التجيبي في قلعة أيوب فغزاهم الناصر بنفسه وبدأ بقلعة أيوب فحاصرها وقتل مطـرف فـي أول جولـة عليهـا وقتـل معـه يونـس بـن عبـد العزيـز‏.‏ ولجـأ أخـوه إلى القصبة حتى استأمن وعفـا عنـه وقتـل مـن كـان معهـم مـن النصرانية أهل ألبة‏.‏ وافتتح ثلاثين من حصونهم وبلغه انتقاض طوطـة ملكة البشكنس فغزاها في ينبلونة ودوخ أرضها واستباحها ورجع‏.‏ ثم غزا سنة سبع وعشريـن غـزوة الخنـدق إلـى جليقـة فانهـزم وأصيبـت فيها المسلمون وأسر محمد بن هاشم التجيبي وحـاول الناصـر إطلاقـه فأطلـق بعد سنتين وثلاثة أشهر‏.‏ وقعد الناصر بعدها عن الغزو بنفسه وصار يردد البعوث والصوائف‏.‏ وثار سنة ثلاث وأربعين بجهـات مـاردة ثائـر وتوجهـت إليـه العساكر فجاؤوا به وبأصحابه ومثل بهم وقتلوا‏.‏

  أخبار طيطلة ورجوعها إلي الطاعة

قال ابن حبان اختطها ديرنيقيوش الجبار وكان قواد رومة ينزلونها دار ملك‏.‏ ثم ثار بها برباط من نجدانية فملكها واختلف قواد رومة على حصاره‏.‏ ثـم وثـب بـه بعـض أصحابـه فقتلـه وملكهـا‏.‏ ثـم قتـل ورجعـت إلـى قـواد رومـة ثـم انتقـض أهلهـا وولوا أميرا منهم اسمه أينش‏.‏ ثم قتل ورجعت إلى قواد رومة وقام أولهم شنتيلة وأطاعه أهل الأندلس وامتنع على ملوك رومة‏.‏ ثـم غزاهـم وحاصـر رومـة وفتـح كثيـراً من بلادها ورجع إلى طليطلة وثار عليه البشكنس فظهر عليهـم وأوقـع بهـم ولحقوا بالجبال‏.‏ هلك شنتيلة بعد تسع وملك مكانه على الغوط بسيلة ست سنيـن ولـم يغـن فيهـا‏.‏ ثـم ولـى منهم حندس وغزا إفريقية وولي بعده قتبان وبنى الكنائس وبلغه خبـر المبعـث فقـال لـه‏.‏ بليـان وكـان من أكابر الغوط وأعاظمهم‏:‏ وجدت في كتاب مطريوس العالم عـن دانيـال النبـي أنهـم يملكـون الأندلـس‏.‏ ثـم هلـك فتبـادر وملـك ابنـه سـت عشـرة سنـة وكـان سيىء السيـرة ولـي بعـده لزريـق‏.‏ ثـم لـم تـزل طليطلـة دار فتنـة وعصبيـة ومنعـة أتعبت عبد الرحمن الداخل سبع سنين وانتقضت على هشام والحكم وعلى عبد الرحمن الأوسط إلى أن جاء الناصر فأدخلهم في الطاعة كرها لما أكمل فتح ماردة وبطليوس وتسترين سـار إليهـم فـي العساكـر وحاصرهم وجاء الطاغية يظاهرهم فدافعه الناصر وجثم عليها فخرج أميرهم ثعلبة بن محمد بن عبد الوارث إلى الناصر فاستقال واستأمن فأمنه وعفا عنه ودخلها الناصـر وجـال فـي أقطارها ورجع عنها فلم يزالوا مستقيمين على الطاعة بعد‏.‏

  أخبار الناصر مع أهل العدوة

ثـم سمـا للناصـر أهـل فـي ملـك عـدوة البربـر مـن بلـاد المغـرب فافتتـح أمـره بملك سبتة من بني عصام ولاتها واستدعى أمراء البربر بالعدوة وبلغ الخبر إبراهيم بن محمد أمير بني إدريس فبادر إلى سبتـة وحاصرها أنفة من عبور الناصر إليهم‏.‏ ثم استقال وكاتب الناصر بالولاية‏.‏ وأما إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكوك من الأدارسة فبادر بولاية الناصر وكاتبه وأهدى إليه وتقبل أثره فـي ذلـك محمـد بن خزر أمير مغراوة وموسى بن أبي العافية أمير مكناسة وهو يومئذ صاحب المغرب بعد أن ملك قواعد المغرب الأوسط وهي تنس ووهران وشرشال والبطحاء‏.‏ وأهدوا إلـى الناصـر فقبـل وكافأهـم وأحكـم ولايتهـم وبـادر جماعـة من الأدارسة إلى مثل ذلك منهم القاسم بـن إبراهيـم والحسـن بن عيسى وأهدى صاحب فاس هدية عظيمة وعقد له الناصر على أهل بيتـه‏.‏ ولمـا فشـت دعـوة الناصر في المغرب الأقصى بعث عبيد الله المهدي قائمه ابن يصل أمير مكناسـة وعامـل تاهـرت فزحـف فـي العساكـر إلى المغرب سنة إحدى وعشرين وكتب موسى بن أبي العافية إلى الناصر يستنجده فأخرج إليه قاسم بن طملس في العساكر ومعه الأسطول فوصـل إلـى سبتـة وبلغـه الخبـر بـأن موسـى بـن أبـي العافيـة هـزم عساكـر حميـد فأقصـر ورجـع حسبما هو مذكور في أخبارهم‏.‏

  أخبار الناصر مع الفرنجة والجلالقة

وكـان فـي أول المائـة الرابعـة ملـك علـى الجلالقـة أردون بـن رذميـر بـن برمند بن قريولة بن اذفونش بن بيطـر‏.‏ وخـرج سنـة اثنتيـن وثلاثمائة إلى الثغر الجوفي لأول ولاية الناصر وعاث في جهات ماردة وأخـذ حصـن الحنـش‏.‏ وبعث الناصر وزيره أحمد بن عبدة في العساكر إلى بلاده فدوخها‏.‏ ثم أغـزاه ثانيـة سنـة خمـس فنكـث وقتـل‏.‏ ثـم أغـزى بـدراً مولـاه فـدوخ ورجـع ثـم غـزا بنفسـه بلـاد جليقة سنة ثمان‏.‏ واستنصر أردون بشانجة ابـن غرسيـة ملـك البشكنـس وصاحـب بنبولـة فهزمهـم الناصر ووطىء بلادهم وخربها وفتح حصونها وهدمها وردد الغزو بعد ذلك في بلد غرسية إلـى أن هلـك أذفونـش وولـي بعـده ابنـه فرويلـة‏.‏ قـال ابـن حيـان‏:‏ لمـا ملك فرويلة بن أردون بن رذمير ملك الجلالقة سنة ثلـاث عشـرة وثلاثمائـة ملـك أخـوه أذفونـش ونازعـه أخـوه شانجـة واستقـل غرسية بليون من قواعد ملكهم وظاهر أذفونش على أمره ابن أخيه وهو أذفونش ين فرويلة وصهره شانجة فانهزموا وافترقت كلمتهم‏.‏ ثم اجتمعوا ثانية وخلعوا شانجة وأخرجوه عن مدينة ليـون ففـر إلـى قاصيـة جليقـة وولى أخاه رذمير بن أردون على ملكه بغربي جليقة إلى قلنسرية‏.‏ وهلـك شانجـة أثـر ذلـك ولـم يعقـب‏.‏ واستقـل أذفونـش وخـرج علـى أخيه رذمير وملك مدينة سنت ماذكـش‏.‏ ثـم أكثـروا عليـه العـذل فـي نزوعـه عـن الرهبانيـة فرجـع إلـى رهبانيتـه‏.‏ ثـم خـرج ثانيا وملك مدينة ليون وكان رذمير أخوه غازياً إلى سمورة فرجع إليه وحاصره بها حتى اقتحمها عليه عنـوة سنـة عشريـن وثلاثمائـة فحبسـه ثـم سمله في جماعة من ولد أبيه أردون خافهم على أمرهم وكان غرسية بن شانجة ملك البشكنس لما هلك قامت بأمرهم بعده أخته طوطة وكفلـت ولده‏.‏ ثم انتقضت سنة خمس وعشرين فغزا الناصر بلادها وخرب نواحي بليونة وردد عليها الغزوات وكذا أمية بن إسحاق في تسترين‏.‏ وكان الناصر سنة اثنتين وعشرين قد غزا إلى وحنشمة واستدعى محمد بن هشام من سرقسطة فامتنع ورجع إليه وافتتح حصونه وأخذ أخاه يحمى مـن حصـن روطـة‏.‏ ثـم رحل إلى ينبلونة فجاءته طوطة بنت أنثير بطاعتها وعقد لابنها غرسية بـن شانجـة علـى ينبلونـة‏.‏ ثـم عـدل إلـى لبلـة وبسائطها فدوخها وخرب حصونها‏.‏ ثم أقتحم جليقة وملكها يومئذ رذمير بن أردون فخام عن اللقاء ودخل هو وحشمه فنازله الناصر فيها وهدم برغث وكثيراً من معاقلهم وهزمهم مراراً ورجع‏.‏ ثـم كانـت بعدها غزوة الخندق ولم يغز الناصر بعدها بنفسه‏.‏ وكان يردد الصوائف وهابته أمم النصرانيه‏.‏ ورفدت عليه سنة ست وثلاثين رسل صاحب القسطنطينية وهديته وهـو يومئـذ قسنطيـن بـن ليون بن شل واحتفل الناصر للقائهم في يوم مشهود وكتب فيه العساكر بالسلاح في أكمل هيئة وزي وزين القصر الخلافي بأنواع الزينة وأصناف الستور وجمل السرير الخلافي بمقاعد الأبناء والأخوة والأعمام والقرابة ورتب الوزراء والخدمة في مواقفهم ودخل الرسـل فهالهـم ما رأوا وقربوا حتى أدوا رسالتهم‏.‏ وأمر يومئذ الأعلام أن يخطبوا في ذلك المحفل ويعظمـوا أمـر الإسلـام والخلافـة ويشكـروا نعمـة اللـه علـى ظهور دينه وإعزازه وذله عدوه فاستعـدوا لذلـك‏.‏ ثـم بهرهـم هـول المجلـس فرجعـوا وشرعـوا فـي الغـزل فارتج عليهم وكان فيهم أبو علي القالي وافد العراق كان في جملة الحكم ولي العهد وندبه لذلك استئثاراً لفخره فلما وجمـوا كلهـم قـام منـذر بـن سعيد البلوطي من غير استعداد ولا رويه ولا ثقدم له أحد في ذلك بشيء فخطب واستخفر وجلى في ذلك القصد وأنشد آخره شعراً طويلا ارتجله في ذلك الغرض ففاز بفخر ذلك المجلس وعجب الناس من شأنه كثر من كل ما وقع‏.‏ وأعجب الناصر به وولاه القضاء بعدها وأصبح من رجالات العالم وأخباره مشهورة وخطبته في ذلك اليوم منقولـة فـي كتـب ابـن حيـان وغيـره‏.‏ ثـم انصـرف هـؤلاء الرسـل وبعـث الناصـر معهم هشام بن كليب إلى الجاثليق ليجدد الهدنة ويؤكد المودة ويحسن الإجابة‏.‏ ورجع بعد سنتين وقد أحكم من ذلك ما شاء وجاءت معه رسل قسطنطين‏.‏ ثم جاء رسل ملك الصقالبة وهو يومئذ هوتو وأخر من ملك اللمان وأخر من ملك الفرنجة وراء المغرب وهو يومئذ أخوه‏.‏ وأخر من ملك الفرنجة بقاصية المشرق وهو يومئذ كلدة واحتفل السلطان لقدومهم وبعث مع رسل الصقالبة ريفا الأسقف إلى ملكهم هوتو ورجعوا بعد سنتين‏.‏ وفي سنة أربع وأربعين جـاء رسـول أردون بـن رذميـر وأبـوه رذميـر هـو الـذي سمـل أخـاه أذفونش وقد مر ذكره بعث يخطب السلم فقعد له ثم بعث في سنة خمس وأربعين يطلب إدخال قومس قشتيلية فردلند وقد مر ذكره ومال إلى أردون بن رذمير كمـا ذكرنـاه‏.‏ وكـان غرسيـة بـن شانجـة حافـد الطوطه بنت أسنين ملكة البشكنس فامتعضت لحل حافدها غرسية ووفدت على الناصر سنة سبع وأربعين ملقية بنفسها في عقد السلم لها ولولدها شانجة بن رذمير الملك وأعانه حافدها غرسية بن شانجة على ملكه ونصره من عدوة وجاء ملك جليقة فرد عليه ملكه وخلع الجلالقة طاعة أردون وبعث إلى الناصر يشكوه على فعلته وكتب إلى الأمم في النواحي بذلك وبما ارتكبه فردلند قومس قشتيلة وعظيم قوامس في نكثة ووثوبه ونفـر بذلـك عنـد الأمـم ولـم يـزل الناصـر علـى موالاتـه وإعانته إلى أن هلك‏.‏ ولما وصل رسول كلدة ملـك الإفرنجـة بالمشـرق كمـا تقدم وصل معه رسول مغيرة بن شبير ملك برشلونة وطركونة راغبا في الصلح فأجابه الناصر ووصل بعده رسول صاحب رومة يطلب المودة فأجيب‏.‏

  سطوة الناصر بابنه عبد الله

كـان الناصـر قـد وشحـه ابنه الحكم وجعله ولي عهده وآثره على جميع ولده ودفع إليه كثيراً من التصرف في دولته وكان أخوه عبد الله يساميه في الرتبة فغص لذلك وأغراه الحسد بالنكثة فنكـث وداخـل فـي قلبـه مـرض مـن أهـل الدولـة فأجابـوه وكـان منهم ياسر الفتى وغيره‏.‏ ونمى الخبر بذلك إلى الناصر فاستكشف أمرهم حتى وقف على الجلي فيه وقبض على ابنه عبد الله وعلى ياسر الفتى وعلى جميع من داخلهم وقتلهم أجمعين سنة ثلاث وتسعين‏.‏ ولما استفحل ملك الناصر صرف نظره إلى تشييد المباني والقصور وكان جده الأمير محمد وأبـوه عبـد الرحمـن الأوسـط وجـده الحكـم قـد اختلفـوا في ذلك وبنوا قصورهم على أكمل الاتفاق والضخامة وكان منها المجلس الزاهر والبهو الكامل والقصر المنيف فبنى هو إلى جانب الزاهر قصره العظيـم وسمـاه دار الروضـة وجلـب المـاء إلـى قصورهـم مـن الجبـل واستدعـى عرفـاء المهندسيـن والبنائيـن مـن كـل قطـر فوفـدوا عليـه حتى من بغداد والقسطنطينية‏.‏ ثم أخذ في بناء المنتزهات فاتخذ مينا الناعورة خارج القصـور وسـاق لهـا المـاء مـن أعلـى الجبـل علـى بعـد المسافة‏.‏ ثم اختط مدينة الزهراء واتخذها منزله وكرسياً لملكه فأنشأ فيها من المباني والقصور والبساتيـن مـا عـلا علـى مبانيهـم الأولى واتخذ فيها مجالات للوحش فسيحة الفناء متباعدة السياح ومسارح الطيور ومظللة بالشباك واتخذ فيها داراً لصناعة آلات السلاح للحرب والحلي للزينة وغير ذلك من المهن‏.‏ وأمر بعمل الظلة على صحن الجامع بقرطبة وقاية للناس من حر الشمس‏.‏

  وفاة الناصر وولاية ابنه الحكم المستنصر

ثـم توفـي الناصـر سنـة خمسيـن وثلاثمائـة أعظـم مـا كـان سلطانه وأعز ما كان الإسلام بملكه‏.‏ وكان له قضاة أربعة‏:‏ مسلم بن عبد العزيز وأحمد بن بقى بن مخلد ومحمد بن عبد الله بن أبي عيسى ومنذر بن سعيد البلوطي‏.‏ ولما توفي الناصر ولي ابنه الحكم وتلقب المستنصر بالله وولـى علـى حجابتـه جعفر المصحفي وأهدى له يوم ولايته هدية كان فيها من الانصاف ما ذكره ابن حيان في المقتبس وهي مائة مملوك من الفرنج ناشئة على خيول صافنة كاملـو الشيكـة والأسلحة من السيوف والرماح والدرق والتراس والقلانس الهندوية وثلاثمائة ونيف وعشرون درعاً مختلفة الأجانس وثلثمائة خوذة كذلك ومائة بيضة هندية وخمسون خـوذة حبشيـة مـن حبشيات الإفرنجة غيـر الحبـش التـي يسمونهـا الطاشانيـة وثلاثمائـة حربـة إفرنجيـة ومائـة تـرس سلطانيـة الجنـس وعشـرة جواشن نقية مذهبة وخمسة وعشرون قرنا مذهبة من قرون الجاموس‏.‏ ولأول وفاة الناصر طمع الجلالقة في الثغور فغزا الحكم بنفسه واستباحها وقفـل فبادروا إلى عقد السلم معه وانقبضوا عما كانوا فيه‏.‏ ثم أغزى غالبا مولاه بلاد جليقة وسار إلـى مدينـة سالـم قبـل الدخـول لـدار الحـرب فجمـع لـه الجلالقـة ولقيهـم علـى أشتة فهزمهم واستباحهم وأوطأ العساكر بلاد فردلند القومس ودوخها وكان شانجة بن رذمير ملك البشكنس قد انتقض فأغزاه الحكـم يحيـى بـن محمـد التجيبـي صاحـب سرقسطـة فـي العساكـر‏.‏ وجـاء ملـك الجلالقـة لنصـره فهزمهم وامتنعوا في حصونها‏.‏ وعاث في نواحيها وأغزى الهذيل بن هاشم ومولاه غالبا فعاثا فيها وقفلا‏.‏ وعظمت فتوحات الحكم وقواد الثغور في كل ناحية وكان من أعظمها فتح قلهرة من بلاد البشكنس على يد غالب فعمرها الحكم واعتنى بها‏.‏ ثم فتح قطريبة على يد قائد وشقـة وغنـم مـا فيهـا مـن الأمـوال والسلـاح والآلـات والأقـوات‏.‏ وغنم ما في بسيطة من الغنم والبقر والرمك والأطعمة والسبي ما لا يحصى‏.‏ وفي سنة أربع وخمسين سار غالب إلى بلاد ألبة ومعه يحيى بن محمد التجيبي وقاسم بن مطرف بن ذي النون فأخذ حصن غرماج ودوخ بلادهم وانصرف‏.‏ وظهرت في هذه السنة مراكب المجوس في البحر الكبير وأفسدوا بسايط أحشبونة وناشبهم الناس القتال فرجعوا إلى مراكبهم وأخرج الحكم القواد لاحتراس السواحل وأمر قائد البحر عبد الرحمـن بـن رماجـس بتعجيـل حركـة الأسطـول‏.‏ ثـم وردت الأخبـار بأن العساكر نالت منهم من كل جهة من السواحل‏.‏ ثم كانت وفادة أردون بن أذفونش ملك الجلالقة‏.‏ وذلك أن الناصر لما أعان عليه شانجة بن رذمير وهو ابن عمه وهو الملك من قبل أردون وحمل النصرانية‏.‏ واستظهـر أردون بصهـره فردلنـد قومـس قشتيليـة‏.‏ ثم توقع مظاهرة الحكم لشانجة كما ظاهره أبوه الناصر فبادر بالوفادة علي الحكم مستجيرا به فاحتفل لقدومه وكان يوماً مشهوداً وصفه ابن حيان‏.‏ كما وصف أيام الوفادات قبله‏.‏ ووصل إلى الحكم وأجلسه ووعده بالنصر على عدوه وخلع عليه لما جاء ملقيا بنفسه وعاقده على موالاة الإسلام ومقاطعة فردلند القومس وأعطى علـى ذلـك صفقـة يمينه ورهن ولده غرسية ودفعت الصلات والحملات له ولأصحابه‏.‏ وانصـرف معـه وجـوه نصـارى الذمة بقرطبة ولبد بن مغيث القاضي وأصبغ بن عبد الله بن نبيل الجاثليق وعبد الله بن قاسم مطران طليطلة ليوطئوا له الطاعة عند رسميته ويقبضوا رهنه وذلك سنة إحدى وخمسين‏.‏ وعند ذلك بعث ابن عمه شانجة بن رذمير ببيعته وطاعته مع قولـب مـن أهـل جليقة وسمورة وأساقفهم يرغب في قبوله ويبقي بما فعل أبوه الناصر معه فتقبل بيعتهم على شروط شرطها كان منها هدم الحصون والأبراج القريبة من ثغور المسلمين‏.‏ ثـم بعـث قومـس الفرنجـة برسل ومسيرة أثناء سير ملك برشلونة وطركونة وغيرهما يسألان تجديد العهد وإقرارهما على ما كانا عليه وبعثا بهدية وهي عشرون صبياً من الخصيان الصقالبة وعشرون قنطاراً من الصوف السمـور وخمسـة قناطيـر مـن الفرصـدس وعشـرة أذراع صقليـة ومائتـا سيـف إفرنجيـة فقبل هديتهم وعقد لهم على أن يهدموا الحصون التي بقرب الثغور وعلى أن لا يظاهروا عليه أهل ملتهم وأن ينذروه بما يكون من النصارى في الإجلاب على المسلمين‏.‏ ثـم وصلـت رسـل غرسيـة بن شانجة ملك البشكنس في جماعة من الأساقفة والقواميس يسألون الصلـح بعـد أن كان توقف فعقد لهم الحكم ورجعوا‏.‏ وفي سنة خمس وستين وثلاثمائة وردت أم لزريـق بـن بلاكـش القومـس بالقـرب مـن جليقـة وهـو القومـس الأكبـر فأخـرج الحكـم لتلقيهـا واحتفل لقدومها في يوم مشهود فوصلها وأسعفها وعقد السلم لابنها كما رغبت وأحبت ودفع لها مالا تقسمه بين وفدها وحملت على بغلة فارهة بسرج ولجام مثقلين بالذهب وملحفـة ديبـاج‏.‏ ثـم عـاودت مجلس الحكم للوداع فعاودوها بالصلات لسفرها وانطلقت‏.‏ ثم أوطأ عساكره من أرض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط وتلقى دعوته ملوك زناتة من مغراوة ومكناسة فبثوهـا فـي أعمالهـم وخطبـوا بهـا علـى منابرهـم وزاحمـوا بهـا دعـوة الشيعـة فيما بينهم‏.‏ ووفد عليه ملوكهم من آل خزر وبني أبي العافية فأجزل صلتهم وأكرم وفادتهم وأحسن منصرفهم واستنزل بني إدريس من ملكهم بالعدوة في ناحية الريف وأجازهم البحر إلى قرطبة ثم أجلاهم إلى الإسكندريـة حسبمـا نشيـر إلـى ذلـك كلـه بعـد‏.‏ وكان محباً للعلوم مكرما لأهلها جماعة للكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله‏.‏ قال ابن حزم‏:‏ أخبرني بكية الخصي - وكان على خزانة العلوم والكتب بدار بني مروان - أن عـدد الفهـارس التـي فيهـا تسميـة الكتـب أربعـة وأربعـون فهرسـة فـي كـل فهرسـة عشـرون ورقة ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين لا غير‏.‏ فأقام للعلم والعلماء سلطانا نفقت فيها بضائعه من كل قطر ووفد عليه أبو علي القالي صاحب كتاب الأمالي من بغداد فأكرم مثواه وحسنت منزلته عنده وأورث أهل الأندلس علمه‏.‏ واختص بالحكم المستنصر واستفاد علمه وكان يبعث في الكتب إلى الأقطار رجالاً من التجار ويسرب إليهم الأموال لشرائهـا حتـى جلـب منهـا إلـى الأندلـس مـا لـم يعهـدوه‏.‏ وبعـث فـي كتـاب الأغانـي إلـى مصنفـه أبـي الفـرج الأصفهانـي وكـان نسبـه في بني أمية وأرسل إليه فيه ألف دينار من الذهب العين فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه بالعراق‏.‏ وكذلك فعل مع القاضي أبي بكر الأبهري المالكي في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم وأمثال ذلـك‏.‏ وجمـع بـداره الحـذاق فـي صناعـة النسـخ والمهـرة فـي الضبـط والإجـادة فـي التجليـد فأوعـى مـن ذلك كله واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده إلا مـا يذكـر عـن الناصـر العباسـي بـن المستضـيء‏.‏ ولـم تـزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها فـي حصـار البربـر أمـر بإخراجهـا وبيعها الحاجب واضح من موالي المنصور بن أبي عامر‏.‏ ونهب مـا بقي منها عند دخول البربر قرطبة واقتحامهم إياها عنوة كما نشير إليه بعد‏.‏ واتصلت أيام الحكم المستنصر وأوطأ العساكـر أرض العـدوة مـن المغـرب الأقصـى والأوسـط وتلقـى دعوتـه ملوك زناتة ومغراوة ومكناسة فبثها في أعمالهم وخطبوا بها على منابرهم وزاحموا بها دعوة الشيعة فيما يليهم ووفد عليه ملوكهم من آل خـزر وبنـي أبـي العافيـة فأجـزل صلتهـم وأكـرم وفادتهم‏.‏ وبيعة ابنه هشام المؤيد ثـم أصابـت الحكـم العلـة فلـزم الفراش إلى أن هلك سنة ست وستين وثلاثمائة لست عشرة سنة مـن خلافتـه وولـي مـن بعـده ابنـه هشـام صغيـرا مناهـز الحلـم وكان الحكم قد استوزر له محمد ابن أبـي عامـر نقلـه مـن خطـة القضاء إلى وزارته وفوض إليه في أموره فاستقل وحسنت حاله عند الحكم فلما توفي الحكم بويع هشام ولقب المؤيد بعد أن قتل ليلتئذ أخو الحكم المرشح لأمره تنـاول الفتـك بـه محمـد بـن عامـر هذا بمبالاة جعفر بن عثمان المصحفي حاجب أبيه وغالب مولى الحكم صاحب مدينة سالم ومن خصيان القصر ورؤسائهم فائق وجودر فقتل محمد بن أبي عامر المغيرة وبايع لهشام‏.‏

  أخبار المنصور ابن أبي عامر

ثم سما محمد بن أبي عامر المتغلب على هشام لمكانه في السن وثاب له رأي في الاستبداد فمكـر بأهل الدولة وضرب بين رجالها وقتل بعضها ببعض‏.‏ وكان من رجال اليمنية من مغافر واسمـه محمـد بـن عبـد اللـه بـن أبـي عامـر بـن محمـد بـن عبـد اللـه بـن عامـر بـن محمـد بـن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المغافري دخل جده عبد الملك مع طارق وكان عظيما في قومه وكان له في الفتح أثر فاستوزره الحكم لابنه هشام كما ذكرنا‏.‏ فلما مات الحكم حجبه محمد وغلب عليه ومنع الوزراء من الوصول إليه إلا في النادر من الأيام يسلمون وينصرفون‏.‏ وأرخص للجند في العطاء وأعلى مراتب العلماء وقمع أهل البدع وكان ذا عقل ورأي وشجاعة وبصر بالحروب ودين متين‏.‏ ثم تجرد لرؤساء الدولة ممن عانده وزاحمه فمال عليهم وحطهم عن مراتبهم وقتل بعضها ببعض‏.‏ كل ذلك عن أمر هشام وخطه وتوقعيه حتى استأصل بهم وفرق جموعهم‏.‏ وأول ما بدأ بالصقالبة الخصيان الخدام بالقصر فحمل الحاجب المصحفي على نكبتهم فنكبهم وأخرجهـم مـن القصـر وكانوا ثمانمائة أو يزيدون ثم أصهر إلى غالب مولى الحكم وبالغ في خدمته والتنصح له واستعان به على المصحفي فنكبه ومحا أثره من الدولة ثم استعان على غالب بجعفـر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة الفازع إلى الحكم أول الدولة بمن كان معه من زناتة والبربر‏.‏ ثم قتل جعفر عماله ابن عبد الودود وابن جوهر وابن ذي النون وأمثالهم من أولياء الدولـة مـن العـرب وغيرهـم‏.‏ ثـم لمـا خـلا الجـو مـن أوليـاء الخلافـة والمرشحيـن للرياسـة رجـع إلى الجند فاستدعى أهل العدوة من رجال زناتة والبرابرة فرتب منهم جنـدا واصطنـع أوليـاء وعـرف عرفاء من صنهاجة ومغراوة وبني يفرن وبني برزال ومكناسة وغيرهم فتغلب على هشـام وحجـره واستولى على الدولة وملأ الدنيا وهو في جوف بيته مع تعظيم الخلافة والخضوع لها ورد الأمور إليها وترديد الغزو والجهاد وقدم رجال البرابرة زناتة وأخر رجال العرب وأسقطهم عن مراتبهم فتم له ما أراد من الاستقلال بالملك والاستبداد بالأمر وابتنى لنفسه مدينة فنزلها وسماها الزاهرة‏.‏ ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحـة وقعـد علـى سريـر الملـك وأمـر أن يحيـا بتحيـة الملـوك وتسمـى بالحاجـب المنصـور ونفـذت الكتـب والأوامـر والمخاطبـات باسمـه وأمر بالدعاء له على المنابر وكتب اسمه في السكة والطرز وعمر ديوانه بما سوى ذلك‏.‏ وجند البرابرة والمماليك واستكثر من العبيد والعلوج للاستيلاء علـى تلـك الرغبـة وقهـر مـن يطاول إليها من الغلبة فظفر من ذلك بما أراد وردد الغزو بنفسه إلى دار الحارث فغزا اثنتين وخمسيـن غـزوة فـي سائـر أيام ملكه لم ينكسر له فيها راية ولا فل له جيش ولا أصيب له بعث ولا هلكـت سريـة وأجـاز عساكـره إلـى العـدوة وضـرب بيـن ملـوك البرابـرة بعضهم في بعض فاستوثق ملكه بالمغرب وأذعنت له ملوك زناتة وانقادوا لحكمه وأطاعوا لسلطانه وأجاز ابنه عبد الملك إلى ملوك مغراوة بفاس من آل خزر لما سخط زيري بن عطية ملكهم لما بلغه من إعلانه بالنيل منـه والغـض مـن ملكهـم والتأنـف لحجـر الخليفة هشام فأوقع به عبد الملك سنة ست وثمانين ونزل بفـاس وملكها وعقد لملوك زناتة على المغرب وأعماله من سجلماسة وغيرها على ما نشير إليه بعـد‏.‏ وشـرد زيري بن عطية إلى تاهرت وأبعد المفر وهلك في مفره‏.‏ ثم قفل عبد الملك إلى قرطبـة واستعمـل واضحـاً علـى المغـرب‏.‏ وهلـك المنصـور أعظـم مـا كـان ملكاً وأشد استيلاء سنة أربـع وسبعيـن ثلاثمائة بمدينة سالم منصرفه من بعض غزواته ودفن هنالك وذلك لسبع وعشرين سنه من ملكه‏.‏

  المظفر بن المنصور

ولما هلك المظفر قام بالأمر من بعده أخوه عبد الرحمن وتلقب بالناصر لدين الله وجرى على سنـن أبيـه وأخيـه فـي حجر الخليفة هشام والاستبداد عليه والاستقلال بالملك دونه‏.‏ ثم ثاب له رأي في الإستئثار بما بقي من رسوم الخلافة فطلب من هشام المؤيد أن يوليه عهده فأجابه وأحضـر لذلـك المـلأ مـن أربـاب الشورى وأهل الحل والعقد فكان يوماً مشهوداً‏.‏ وكتب عهده في إنشـاء أبـي حفـص بـن بـرد بمـا نصـه‏:‏ هـذا ما عهد هشام المؤيد بالله أمير المؤمنين إلى الناس عامة وعاهـد الـذي عليـه مـن نفسـه خاصـة وأعطـى بـه صفقة يمينه بيعة تامة بعد أن أمعن النظر وأطال الاستخارة وأهمه ما جعل الله إليه من الإمامة ونصب إليه من أمر المؤمنين واتقى حلول القدر بما لا يؤمن وخاف نزول القضاء بما لا يصرف وخشي إن هجم محتوم ذلك عليه ونزل مقدوره به ولم يرفع لهذه الأمة علماً تأوي إليه وملجأ تنعطف إليه أن يلقى ربه تبارك وتعالى مفرطاً ساهياً عن أداء الحق إليها‏.‏ واعتبر عند ذلك من أحياء قريش وغيرها من يستحق أن يستند هـذا الأمـر إليه ويعول في القيام به عليه ممن يستوجبه بدينه وأمانته وهديه وصيانته بعد إطراح الهوى والتحري للحق والتزلف إلى الله عز وجل بما يرضيه‏.‏ وبعد أن قطع الأقاصي وأسخط الأقارب فلم يجد أحداً يوليه عهده ويفوض إليه الخلافة بعده غيره لفضل نسبه وكرم خيمه وشرف مرتبته وعلو منصبه مع تقاه وعفافه ومعرفته وحزمـه وتفاوته المأمون العيب الناصح الحبيب أبي المظفر عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر وفقه الله تعالى إذ كان أمير المؤمنين قد ابتلاه واختبره ونظر في شأنه واعتبره فرآه مسارعاً في الخيرات سابقاً إلى الجليات مستولياً على الغايـات جامعـاً للمأثـرات‏.‏ ومـن كـان المنصـور أبـاه والمظفر أخاه فلا غرو أن يبلغ من سبل البر مداه ويحوي من خلال الخير ما حواه‏.‏ مع أن أمير المؤمنين أيده الله بما طالع من مكنون العلم ووعاه من مخزون الغيب رأى أن يكون ولـي عهـده القحطاني الذي حدث عنه عبد الله بن عمرو بن العاص وأبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل عن قحطان يسوق الناس بعصاه فلما استـوى لـه الاختيـار وتقابلـت عنـده الآثـار ولـم يجد عنه مذهبا ولا إلى غيره معدلا خرج إليه من تدبير الأمور في حياته وفوض إليه الخلافة بعد وفاته طائعا راضياً مجتهـداً وأمضـى أميـر المؤمنين هذا وأجازه وأنفذه ولم يشترط فيه ثنياً ولا خياراً وأعطى على الوفاء به في سره وجهره وقوله وفعله عهد الله وميثاقه وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم وذمة الخلفاء الراشدين من آبائه وذمة نفسه أن لا يبدل ولا يغير ولا يحول ولا يزول‏.‏ وأشهد على ذلك الله والملائكة وكفـى باللـه شهيـداً وأشهد من أوقع اسمه في هذا وهو جائز الأمر ماضي القول والفعل بمحضر من ولي عهده المأمون أبي المظفر عبد الرحمن بن المنصور وفقه الله تعالى وقيد له ما قلده وألزمه لنفسه ما في الذمة‏.‏وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وكتب الوزارء والقضاء وسائر الناس شهادتهم بخطوط أيديهم‏.‏ وتسمى بعدها بولي العهد ونقم أهل الدولة عليه ذلك فكان فيه حتفه وانقراض دولته ودولة قومه والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏

  ثورة المهدي ومقتل عبد الرحمن المنصور وانقراض دولتهم

ولما حصل عبد الرحمن المنصور على ولاية العهد ونقم ذلك الأمويون والقرشيون وغصوا بأمره واتفقوا على تحويل الأمر جملة من المضرية إلى اليمنية فاجتمعوا لشأنهم وتمشت من بعض إلى بعض رجالاتهم وأجمعوا أمرهم في غيبة من الحاجب الناصـر ببلـاد الجلالقـة فـي غـزاه مـن صوائف ووثبوا بصاحب الشرطة ففتكوا به بمقعدة من باب قصر الخلافة بقرطبة سنة تسع وتسعيـن وثلاثمائـة وخلعـوا هشامـاً المؤيـد وبايعوا محمد بن هشام بن عبد الجبار بن‏:‏ أمير المؤمنين الناصر لدين الله من أعياص الملك وأعقاب الخلفاء ولقبوه المهدي وطار الخبـر إلـى الحاجـب بمكانه من الثغر فانفض جمعه وقفل إلى الحضرة مدلاً بمكانه زعيما بنفسه حتى إذا‏.‏ قرب من الحضرة تسلـل عنـه الجنـد ووجـوه البربـر ولحقـوا بقرطبـة وبايعـوا المهـدي القائـم بالأمـر وأغـروه بالناصـر واعترضـه منهـم مـن تقبـض عليه واحتز رأسه‏.‏ وحمله إلى المهدي وإلى الجماعة وذهبت دولة العامريين‏.‏ ثورة البربر وبيعة المستعين وفرار المهدي كان الجند من البرابرة وزناتة قد ظاهروا المنصور على أمره وأصبحوا شيعة لبنيه من بعده ورؤساؤهم يومئذ زاوى بن مناد الصنهاجي وبنو ماكير ابن أخيه زيري ومحمد بن عبد الله البرزالي ونصيل بن حميد المكناسي الفازع أبوه عن العبيديين إلى الناصر وزيري بـن عزانـة المتيطي وأبو زيد بن دوناس اليفرني وعبد الرحمن بن عطاف اليفرني وأبو نور بن أبي قرة اليفرني وأبو الفتوح بن ناصر وحزرون بن محصن المغراوي وبكساس بن سيد الناس ومحمد بن ليلى المغراوي فيمن إليهم من عشائرهم فلحقوا بمحمد بن هشام لما رأوا من انتقاض أمر عبد الرحمـن وسوء تدبيره‏.‏ وكانت الأموية تعتد عليهم ما كان من مظاهرتهم العامريين وتنسب إليهم تغلب المنصور وبنيه على أمرهم فسخطتهم القلوب وخزرتهم العيون وتنفست بذلك صدور الغوغاء من أذيال الدوة ولفظت به ألسنة الدهماء من المدينة‏.‏ وأمر محمد بن هشام أن لا يركبوا ولا يتسلحوا وردوا في بعض الأيام من باب القصر وانتهت العامـة يومئـذ دورهـم ودخل زاوي وابن أخيه حساسة وأبو الفتوح بن ناصر على المهدي شاكين بما أصابهم فاعتذر إليهم وقتل من آذاهم من العامة في أمرهم وكان مع ذلك مظهراً لبغضهم مجاهراً بسوء الثناء عليهم‏.‏ وبلغهم أنه سره الفتك بهم فتشمت رجالاتهم وأسروا نجواهم‏.‏ واتفقـوا علـى بيعـة هشـام بـن سليمـان بـن أميـر المؤمنيـن الناصر لدين الله وفشا في الخاصة حديثهم فعوجلوا عن أمرهم ذلك وأغرى بهم السواد الأعظم فثـاروا بهـم وأزعجوهـم عـن المدينـة‏.‏ وتقبض على هشام وأخيه أبي بكر وأحضرا بين يدي المهدي فضرب عنقيهما ولحق سليمان ابن أخيهما الحكـم بجنـود البربـر وزناتـة وقـد اجتمعـوا بظاهـر قرطبـة وتآمـروا فبايعـوه ولقبـوه المستعيـن بالله ونهضوا به إلى ثغر طليطلة فاستجاش بابن أذفونش‏.‏ ثم نهض في جموع البرابرة والنصرانية إلى قرطبة وبرز إليهم المهدي في كافة أهل البلد وخاصة الدولة وكانـت الدبـرة عليهـم واستلحـم منهـم مـا يزيـد علـى عشريـن ألفـا وهلـك مـن خيـار النـاس وأئمـة المساجـد وسدنتم ومؤذنيها عالم‏.‏ ودخل المستعين قرطبة خاتم المائة الرابعة ولحق ابن عبد الجبار بطليلة‏.‏ رجوع المهدي إلى ملكه بقرطبة ولما استولى المستعين على قرطبة خالفه محمد بن هشام المهدي إلى طليطلة واستجاش بابن أذفونـش ثانيـة فنهـض معـه إلـى قرطبـة وهـزم المستعيـن والبرابـرة بعقبـة البقـر مـن ظاهرهـا فـي آخـر باب سبتة ودخل المهدي قرطبة وملكها‏.‏