فصل: استيلاء الموفق علي الجهة الغربية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  موت يعقوب الصفّار وولاية عمرو أخيه

وفي سنة خمس وستّين أخريات شوّال منها مات يعقوب الصفَارُ وقد كان افتتح الرجح وقتل مَلِكَهَا وأسلم أهلُها على يده وكانت مملكةً واسعة الحمود‏.‏ وافتتح زابَلَسْتَانَ وهي غزنة وكان المعتمـد قـد استمالـه وقلّـده أعمـال فـارس‏.‏ ولمـا مات قام أخوه عمرو بن الليث وكتب إلى المعتمد بطاعته فولّاه المُوَفّقُ من قِبَلِهِ ما كان له من الأعمال‏:‏ خراسان وأصْبَهَانَ والسِنْد وسِجِسْتَان والشرْطة ببغداد وسُرّ مَن رَأى وقبله عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن طاهر وخلع الموفّق عمرو بن الليث وولّى على أصبهان من قبله أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف محمد بن أبي الساج‏.‏

  أخبار الزنج مع أغرتمش

قـد كـان تقـدّم لنـا إيقاع سليمان بن جامع بأغرتمش وحربه بعد ذلك مع تكين وجعلان ومطر بن جامـع وأحمـد بـن كيتونـة واستيلـاؤه علـى مدينـة واسـط‏.‏ ثم ولي أغرتمش مكان تكين البخاريّ ما يتولّـاه مـن أعمـال الأهـواز فدخـل تستـر فـي رمضـان ومعـه مطر بن جامع وقتل جماعة من أصحاب أبّان كانوا مأسورين بها‏.‏ ثم سار إلى عسكر مكرم ووافاه هناك عليّ بن أبان والزنج فاقتتلوا ثـم تحاجـزوا لكثـرة الزنـج ورجع علي إلى الأهواز وسار أغرتمش إلى الخليل بن أبّان ليعبروا إليه من قنطرة أربل وجاءه أخوه عليّ وخاف أصحابه المخلفون بالأهواز فارتحلوا إلى نهر السروة وتحـارب علـي وأغرتمـش يومـاً ثـم رجـع علـي إلى الأهواز ولم يجد أصحابه فبعث مَن يردّهم إليه فلم يرجعوا‏.‏ وجاء أغرتمش وقتل مطر بن جامع في عدّة من القوّاد وجاء المَدد لابن أبّان من صاحبه الخبيث فوادعه أغرتمش وتركه‏.‏ ثـم بعـث محمـد بـن عبيـد اللَّـه إلـى أبِكْلـاي ابـن الخبيـث فـي أن يرفع عنه يد ابن أبان فزاد ذلك في غيظه وبعث يطالبه محمد بالخراج ودافعه فسار إليه وهرب محمد من رَامَهُرْمُز إلى أقصـى معاقله ودخل عليّ والزنج رامهرمز وغنموا ما فيها‏.‏ ثم صالحه محمد على مائتي ألف درهم وتـرك أعماله‏.‏ تم استنجده محمد بن عبيد الله على الأكراد على أن لعليّ غنائمهم فاستخلف علـي علـى ذلـك مُجْلِـز وطلـب منـه الرهـنَ فمطـل وبعث إليه الجيش فزحف بهم إلى الأكراد‏.‏ فلما نشب القتال انهزم أصحاب محمد فانهزم الزنج وأثخن الأكراد فيهم وبعث عليٌّ مَن يعترضهم فاستلبوهم وكتب عليّ إلى محمد يتهدده فاعتذر وردّ عليهم كثيراً من أسلابهم وخشي من الخبيث وبعـث إلـى أصحابـه مـالاً ليسألـوه فـي الرضـا عنـه فأجابهـم إلـى ذلـك علـى أن يقيـم دعوتـه فـي أعمال ففعل كذلك‏.‏ ثم سار ابن أبان لحصار مؤتة واستكثر من آلات الحصار وعلم بذلك مسرور البلخي وهو بكور الأهواز فسار إليه ووافاه عليها فانهزم ابن أبان وترك ما كان حمله هناك وقتل من الزنج خلق وجاء الخبر بمسير الموفّق إليهم‏.‏

  استرجاع ابن الموفّق ما غلب عليه الزنج من أعمال دجلة

لما دخل الزنْجُ واسط وعاثوا فيها كما ذكرناه بعث المُوَفَّقُ ابنه أبا العَباس وهـو الـذي وَلـيَ الخلافة بعد المُعْتَمَدِ ولقِّبَ المُعْتَضِدُ فبعثه أبوه بين يديـه فـي ربيـع سنـة سـت وستّيـن فـي عشـرة آلـاف مـن الخيـل والرجـال وركـب لتشييعه وبعث معه السفُنَ في النهر عليها أبو حمزة نصر فسار حتى وافى الخيل والرَجْل والسفن النهرية وعلى مُقدمته الجناني وأنهم نزلوا الجزيرة قريباً من بردروبا وجاءهـم سليمـان بـن موسـى الشعرانـي مَدَداً بمثل ذلك وأن الزنج اختلفوا في الاحتشاد ونزلوا من السفـح إلـى أسفـل واسـط ينتهـزوا الفرصـة فـي ابـن الموفّـق لما يظنون من قِلّة درايَتِهِ بالحرب‏.‏ فركب أبـو العبـاس لاستعـلاء أمرهـم ووافـى نصيراً فلقيهم جماعة من الزنج فاستطرد لهم أوّلًا ثم كر في وجوه‏!‏ وصاح بنصير فرجع وركب أبو العبّاس السفن النهريّة فهزم الزنج وأثخن فيهم واتّبعهم ستّة فراسخ وغنم من سعيهم وكان ذلك أوّل الفتح‏.‏ ورجع سُلَيمان بن جامع إلى نهر الأمين وسليمان بن مؤمن الشعراني إلى سوق الخميس وأبو العباس على فرسخ من واسط يغاديهم القتال ويُراوحُهُم‏.‏ ثم احتشد سليمان وجاء من ثلاثة وجوه وركب في السفن النهرية وبرز إليه نُصَيْر في سفنه وركب معه أبو العباس في خاصّته وأمر الجند بمحاذاته من الشطِّ ونثب الحرب فوقعت الهزيمة على الزنج وغُنِمَتْ سُفُنُهُمْ وأفلت سليمان والجناني من الهلكة وبلغوا طَهْتا ورجع أبو العباس إلى معسكره وأمر بإصلاح السفن المغنومة وحفر الزنج في طريق الجبل الآبار وغطوها فوقع بعض الفرسان فيها فعـدل جنـد السلطان عن ذلك الطريق‏.‏ وأمر الخبيث أصحابه بالسفن في النهر وأغاروا على سفن أبي العَباس وغنموا بعضها وركب في أتباعهم واستنقذ سفنهم وغنم من سفنهم نحواً من ثلاثين وجد في قتالهم وتحضن ابن جامع بطهتا وسمّى مدينته المنصورة‏.‏ والشعراني بسوق الخميس وسمّى مدينته المنيعة‏.‏ وكـان أبـو العبـاس يُغيـر علـى الميـرة التـي تأتيهـم مـن سائـر النواحي وركب في بعض الأيام إلى مدينة الشعرانـي التـي سماهـا المنيعـة وركـب نُصَـيْرُ في النهر وافترقوا في مسيرهم واعترضت أبا العباس جماعةٌ من الزنج فمنعوه من طريق المدينة وقاتلوه مقدار نهاره وأشاعـوا قتـل نصيـر وخالفهـم نصير إلى المدينـة فأثخـن فيهـا وأضرمـوا النـار فـي بيوتهـا‏.‏ وجـاء الخبـر بذلـك إلـى أبـي العبـاس بسبـرة‏.‏ ثـم جـاء نصيـر ومعـه أسـرى كثيرون فقاتلوا الزنج وهزموهم ورجع أبو العباس إلى عسكره وبعث الخبيث إلى ابن أبان وابن جامع فأمرهما بالاجتماع على حرب أبي العباس‏.‏ وصول الموفق لحرب الزنج وفتح المنيعة والمنصورة كان المُوَفَقُ لما بعث ابنه أبا العباس لحرب الزِنْج تأخر لإمداده بالحشود والعُمَدِ وإزاحة علله ومسارقة أحواله فلما بلغه اجتماع ابن أبان وابن جامع لحربه سار من بغداد إليه فوصل إلى واسط في ربيع الأول من سنة سبع وستّين ولقيه ابنه وأخبره بالأحوال ورجع إلى عسكره‏.‏ ونـزل المُوَفَـقُ علـى نهـر شَـدَّاد ونزل ابنه شرقي دجلة على موهة بن مساور فأقام يومين ثم رحل إلى المنيعة بسوق الخميس سار إليها في النهر ونادى بالمقامة ولقيه الزنج فحاربوه‏.‏ ثم جاء الموفـق فانهزمـوا وأتّبعهم أصحاب أبي العباس فاقتحموا عليهم المنيعة وقتلوا خلقاً وأسروا آخرين وهرب الشعراني واختفى في الآجام آخـرون ورجـع الموفـقُ إلـى عسكـره وقـد استنقـذ مـن المسلمـات نحـو خَمْسَ عَشَرَةَ امرأةً ثم غدا على المنيعة فأمر بنهبها وهدم سورها وطمِّ خندقها وإحراق ما بقي من السُفنِ فيها وبيعت الأقوات التي أخذت فكانت لا حدّ لها فصرفت في الجند‏.‏ وكتب الخبيث إلى ابن جامع يحذره مثل ما نزل بالشعْرانيّ وجاءت العيون إلى الموفّق أن ابن جامـع بالحوانيـت فسـار إلـى الضبِيـةِ وأمـر ابنـه بالسيـرِ فـي النهـر إلى الحوانيت فلم يلقَ ابن جامع بها ووجد قائدين من الزنج استخلفهم عليها بحفظ الغلات ولحق بمدينته المنصورة بطهتا فقاتل ذلك الجند ورجـع إلـى أبيـه بالخبـر فأمـره بالمسيـر إليـه وسـار علـى أثـره بـرّاً وبحـراً حتـى نزلـوا علـى ميليـن مـن طهتا وركب لبيوني مقاعد القتال على المنصورة فلقيه الزنج وقاتلوه وأسروا جماعة من غلمانه‏.‏ ورمى أبو العباس بن الموفّق أحمد بن مهدي الجناني فمات وأوهن موته ثم ركب يوم السبت آخر ربيع من سنة سبع وعبّى عسكره وبعث السفن إلى البحر الذي يصل إلى المنصورة ثم صلّى وابتهل بالدعاء وقدِمَ ابنه أبا العباس إلى السور واعترضه الجنا فقاتلهم عليه واقتحموا وولّوا منهزمين إلى الخنادق وراءه فقاتلوه عندها واقتحمها عليه كلها ودخلت السفن المدينة من النهر فقتلوا وأسروا وأجلوهم عن المدينة ومـا اتصـل بهـا وهـو مقـدار فرسـخ وملكـه الموفّـق وأفلت ابن جامع فـي نفـر مـن أصحابـه‏.‏ وبلـغ الطلـاب فـي أثـره إلـى دجلـة وكثـر القتـل فـي الزنـج والأسـر واستنقـذ العبـاس مـن نسـاء الكوفـة وواسط وصبيانهم أكثر من عشرة آلاف وأعطى ما وجد في المنصورة من الذخائر والأموال للأجناد وأسر من نساء سليمان وأولاده عدّة‏.‏ ولما جاء جماعة مـن الزنـج إلـى الآجـام اختفـوا فأمـر بطلبهـم وهـدم سـور المدينـة وطـمّ خنادقهـا وأقام سبعة عشر يوماً حصار مدينة الخبيث المختارة وفتحها ثـم إن المُوَفَّـقَ عـرض عساكـره وأزاح علَلَهُـم وسـار معه ابنه أبو العبّاس إلى مدينة الخبيث فأشرف عليها ورأى من حصانتها بالأسوارِ والخنادق ووعر الطرق وما أعدّ من الآلات للحصار ومن كثـرة المقاتلـة مـا استعظمـه‏.‏ ولمـا عايـن الزنـجُ عساكـر الموفّـق دهشـوا وقدمِ ابنه أبا العباس في السفن حتى ألصقها بالأسوار فرموه بالحجارة في المجانيق والمقاليع والأيدي ورأوا من صبره وأصحابه مـا لـم يحتسبـوه‏.‏ ثـم رجعـوا وتبعهـم مستأمنـة مـن المقاتلـة والملّاحين نزعوا إلى الموفّق فقبلهم وأحسن إليهـم فتتابـع المُسْتَأمِنُـونَ فـي النهر فوكّل الخبيث بفوهة النهر من منعهم وتعبّى أهل السفن للحرب مـع بهبـود قائـد الخبيـث فزحـف إليـه أبـو العبـاس فـي السفـن وهزمه وقتل الكثير من أصحابه ورجع فاستأمن إليه بعض تلك السفن النهريّة وكثير من المقاتلة فأمّنهم وأقام شهراً لم يقاتلهم‏.‏ ثم عبَّى عساكـره منتصـف شعبـان فـي البـرّ والبحـر وكانـوا نحـواً مـن خمسيـن ألفـاً‏.‏ وكـان الزنـجُ فـي نحـو ثلثمائة ألف مقاتل فأشرف عليهم وناس بالأمان إلّا للخبيث ورمى بالرقَاع في السهام بالأمان فجـاء كثيـر منهـم ولـم يكـن حرب‏.‏ ثم رحل من مكانه ونزل قريباً من المختارة ورتّب المنازل من إنشاء السفن وشرع في اختطاط مدينة لنزله سفاها المُوَفَقِيَّةِ‏.‏ فأكمل بناءها وشيّد جامعها وكتب بحمل الأموال والميرة إليها وأغبّ الحرب شهراً فتتابعت الميرة إلى المدينة ورحل إليها التجّار بصنوف البضائع واستبحر فيها العمران ونفقت الأسواق وجلبت صنوف الأشياء‏.‏ ثم أمر الموفّق ابنه أبا العباس بقتال مَن كان من الزنج خارج المُخْتَارة فقاتلهم وأثخـن فيهـم فاستأمن إليه كثير منهم فأمّنهم ووصلهم وأقام الموفق أياماً يحاصر المحاربين ويصل المستأمنين واعترض الزنج بعض الوفاد الجائية بالميرة فأمر بترتيب السفن على مخارج الأنهار ووكل ابنه أبا العبّاس بحفظها وجاءت طائفة من الزنج بعض الأيام إلى عسكر نُصَيْر يريدون الإيقاع به فأوقع بهم وظفر ببعض القوّاد منهم فقتل رشقَاً بالسهام وتتابع المستأمنة فبلغوا إلى آخـر رمضـان خمسين ألفاً‏.‏ ثم بعث الخبيث عسكراً من الزِنْج مع عليّ بن أبان ليأتوا من صراء الموفّق إذا ناشَبَهُم الحرب ونمى إليه الخبر بذلك فبعث ابنه أبا العبّاس فأوقع بهم وحملت الأسرى والرؤوس في السفن النهرية ليراها الخبيث وأصحابه وظنوا أن ذلك تمويه فرميت الروس في المجانيق حتى عرفوها فظهـر منهم الجزع وتكرّرت الحرب في السفن بين أبي العباس وبين الزنج وهو يظهر عليهم في جميعها حتى انقطعت الميـرة عنهـم فاشتـد الحصـار عليهـم وخـرج كثيـر مـن وجـوه أصحابـه مستأمنين مثل محمد بن الحارث القُميّ وأحمد اليربوعي‏.‏ وكان من أشجع رجاله القميّ منهم موكلًا بحفظ السور فأمنهم الموفق ووصلهم وبعدة الخبيث قائلين من أصحابه في عشرة آلاف ليأتوا البُطيْحَة من ثلاثة وجوه فيعبروا من تلك النواحي ويقطعوا الميرة عن الموفق‏.‏ وبلغ الموفق خبرهم فبعث إليهم عسكراً مع مولاه ونزل فأوقع بهم وقتل وأسر وأخذ منهم أربعمائة سفينة‏.‏ ولما تتابع خروج المستأمنة وكل الخبيث من يحفظها وجهدهم الحصار فبعث جماعة من قواده إلى الموفق يستأمنون وان يناشبهم الحرب ليجدوا السبيل إليه فأرسل ابنه أبا العبّاس إلى نهر الغربـي وبـه علـيّ بـن أبـان فاشتـدّ الحـرب وظهـر أبـو العبّـاس علـي ابـن أبـان وأمدّه الخبيث بابن جامع ودامت الحرب عامّة يومهم وكان الظفـر لأبـي العبـاس وسـار إليـه المستأمنـة الذيـن واعـدوه‏.‏ وانصرف أبو العباس إلى مدينة الخبيث وقاتل بعض الزنج طمعاً فيهم لقتلهم فتكاثروا عليه ثم جـاءه المـدد مـن قبـل أبيـه فظهر عليهم‏.‏ وكان ابن جامع قد صعد في النهر وأتى أبا العباس من ورائه وخفقت طبولة فانكشف أصحاب أبي العباس ورجع منهزمة الزنج فأجَبَّت جماعة من غِلمَان الموفّق وعدة من أعلامهم وحامى أبو العباس عن أصحابه حتى خلصوا وقوي الزنج بهذه الواقعة فأجمع الموفّق العبور إلى مدينتهم بعسكره‏.‏ فعبى الناس لذلك من الغداة آخر ذي الحجّة واستكثر من المعابر والسُفُن وقصدوا حِصْنَ أو كان بالمدينة وفيها بكلاي بن الخبيث وابن جامع وابن أبان وعلية المجانيق والآلات فأمر غلمانه بالدنُـوّ منـه فخافـوا لاعتـراض نهـر الأتـراك بينهـم وبينـه فصـاح بهم فقطعوا النهر سبحاً وتناولوا الركن بالسلـاح يهدمونـه ثـم صعـدوا عليـه وملكوا ونصبوا به علم الموفق وأحرقوا ما كان عليه من الآلات وقتلوا من الزنج خلقاً عظيماً‏.‏ وكان أبو العباس يقاتلهم من الناحية الآخرى وابن أبّان قبالته فهزمه ووصل أصحاب أبي العباس إلى السور فثلموه ودخلوا ولقيهم ابن جامع فقاتلهم حتى ردّهم إلى مواقفهم‏.‏ ثم توافى الفَعَلَة فثلموا السور في مواضع ونصبوا على الخندق جسراً عبر عليه المقاتلة فانهزم الزنج عن السور وأتبعهم أصحاب الموفق يقتلونهم إلى دير ابن سمعان فملكه أصحاب الموفق وأحرقوه وقاتلهم الزنج هناك‏.‏ ثم انهزموا فبلغوا ميدان الخبيث‏.‏ فركب من هنالك وانهزم عنه أصحابه وأظلم الليل ورجع الموفّق بالناس وتأخر أبو العباس لحمل بعض المستأمنين في السفن واتّبعه بعض الزنج ونالوا من آخر السفن‏.‏ وكان بهبود بإزاء مسرورٍ البَلْخِيّ فنال من أصحابه واستأمن بعض المنهزمين من الزنج والأعراب بعثوا بذلك من عبادان والبصرة وكان منهم قائده ريحان أبو صالح المعرّي فأمنهم الموفق وأحسن إليهم وضمّ ريحان إلى أبي العباس‏.‏ وخـرج فـيِ المحـرّم إلـى الموفّـق مـن قـواد الخبيـث وثقاته جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان فأحسن إليـه الموفّـق وحملـه فـي بعـض السفـن إلـى قصـر الخبيـث فوقـف وكلـم الزنـوج فـي ذلـك وأقـام الموفـق أياماً استَجَم فيها أصحابه فلما كان منتصف ربيِع الثاني قصد مدينة الخبيث وفرّق القوّاد على جهاتها ومعهم النقّابون للسور ومن ورائهم الرماة يحمونهم‏.‏ وتقدّم إليهم أن لا يدخلوا بعد الهزم إلاّ بإذنـه فوصلـوا إلـى السـور وثلمـوه وحاربوا الزنج من ورائه وهزموهم وبلغوا أبعد مما وصلوا إليه بالأمـس‏.‏ ثـم تراجـع الزنـج وحاربـوا مـن المكامن فرجع أصحاب الموفّق نحو دجلة بعد أن نال منهم الزنج ورجع الموفّق إلى مدينته ولام أصحابه على تقدمتهم بغير إذنه‏.‏ ثـم بلـغِ الموفّـق أنّ بعـض الأعـراب مـن بني تميم يجلبون الميرة إلى الزنج فبعث إليهم عسكراً أثخنوا فيهم قتلاً وأسراً وجيء بالأسرى فقتلهم وأوعز إلى البصرة بقطع الميرة فانقطعت عن الزنج بالكليّة وجهدهم الحصار وكثر المستأمنة وافترق كثير من الزنج في القرى والأمصار البعيدة وبـث الموفّـق دعاتـه فيهم ومَن أبى قتلوه وعرض المستأمنين وأحسن إليهم ليستميلهم وتابع الموفّق وابنـه قتـال الزنج وقتل بهبود بن عبد الواحد من قوّاد الخبيث في ذَلك الحروب فكان قتله من أعظم الفتوح وكان قتله في السُفُن البَحْرِيَّةِ ينصب فيها أعلاماً كأعلام الموفّق ويخايل أطراف العَسكر فيصيب منهم‏.‏ وأفلت فـي بعـض الأيـام مـن يـد أبـي العبـاس بعـد أن كـان حصـل فـي قبضتـه‏.‏ ثم خيل أخرى لبعض السفن طامعاً فيها فحاربوه وطعنه بعض الغلمان منها فسقط في الماء وأخفـه أصحابـه فمـات بين أيديهم وخلع المُوَفُّقُ على الغلام الذي طعنه وعلى أهل السفينة‏.‏ ولما هلـك بَهبُـود قبـض الخبيـث علـى بعـض أصحابـه وضربهـم علـى مـا لـه فاستفسد قلوبهم وهرب كثير منهـم إلـى الموفّـق فوصلهـم ونـاس بالأمـان لبَقِيَّتِهِـم‏.‏ ثـم اعتـزم علـى العبـور إلـى الزنـج مـن الجانـب الغربي وكانت طرقه ملتفّة بالنخيل فأمر بقطعها وأدار الخنادق على معسكره حذراً من البيات‏.‏ ثم صعب على الموفّق القتال من الجانب الغربي لكثرة أوعاره وصعوبة مسالكه وما يتوجّه فيها على أصحابه من خيل الزنج لقلّة خبرتهم بها فصرف قصده إلى هدم أسوارهم وتوسعت الطرق فهدم طائفة من السور من ناحية نهر سلمى وباشر الحرب بنفسه واشتدّ القتال وكثرت القتلـى فـي الجانبين وفشت الجِراح وكانت في النهر قنطرتان يعبر منهما الزنج عند القتال ويأتون أصحاب الموفّق من ورائهم فأمر بهدمهما فهدمتا‏.‏ ثم هدم طائفة من السور ودخلوا الملينة وانتهوا إلى دار ابن سمعان من خزائن الخبيث ودواوينه‏.‏ ثـم تقدمـوا إلـى الجامـع فخرّبـوه وجـاؤوا بمنبـره إلـى الموفّـق بعد أن استمات الزنج دونه فلم يَغْنَوْا به‏.‏ ثم أكثروا من هدم السور وظهرت علامات الفتح ثم أصاب المُوَفَق في ذلك اليوم سهمٌ في صدره وذلك لخمس بقين من جمادى سنة تسع وستين فعاد إلى عسكره‏.‏ ثم صابح الحرب تقوية لقلوب الناس‏.‏ ثم لزم الفراش واضطرب العسكر وأشير عليه بالذهاب إلى بغداد فأبى فاحتجب عن الناس ثلاثة أشهر حتى اندمل جرحه‏.‏ ثم ركب إلى الحرب فوجد الزنج قد سددوا ما تثلم من الأسوار فأمر بهدمها كلِّها واتصل القتال مما يلِي نهر سلمى كما كان والزنج يظنون أنهم لا يأتون إلا منها فركب يوماً لقتالهم وبعث السفن أسفل نهر أبي الخصيب فانتهوا إلى قصر من قصور الزنج فأحرقوه وانتهبوا ما فيه واستنقذوا كثيراً من الساكن فيه‏.‏ ورجـع الموفّق آخر يومه ظافراً‏.‏ ثم بكّر لحربهم فوصلت المقدّمات دار أنكلاي بن الخبيث وهي متصلة بدار أبيه‏.‏ وأشار ابن أبّان بإجراء المياه على الساج وحفر الخنادق بين يدي العساكر وأمر الموفق بطمّ الخنادق والأنهار ورام إحراق قصره وقصده من دجلة فمنع مـن ذلـك كثـرة الحُماة عنه فأمر أن تسقف السفن بالأخشاب وتُطلى بالأدوية المانعة من الإحراق‏.‏ ورتّب فيها أنجاد أصحابه وباتَوا على أهبة الزحف من الغد‏.‏ وجاء كاتب الخبيث وهو محمد بن سمعان عشاء ذلك اليوم مستأمنَاً وبكّروا إلى الحرب وأكل الموفّق ابنه أبا العباس بإحراق منازل القواد المتصلة بقصر الخبيث ليشغلهـم عـن حمايتـه وقصـدت السفـن المطليـة قصـر الخبيـث فأحرقـوا الرواشن والأبنية الخارجة وعلت النار فيه ورموا بالنار على السفن فلم تؤثّر فيها‏.‏ ثم حصر الماء من النهر فزحفتَ السفن فلما جاء الدعاة إلى القصر أحرقوا بيوتاً كانت تَشرع علـى دجلـة واشتعلت النار فيها وقويت وهرب الخبيث وأصحابه وتركوها وما فيها‏.‏ واستولى أصحـاب الموفّـق علـى ذلـك كلـه واستنقـذوا جماعـة مـن النسـاء وأحـرق قصر أنكلاي ابنه وجرحـا وعـاد الموفّـق عشاء يومه مظفراً‏.‏ ثم بكّر من الغد للقتال وأمر نصيراً قائد السفن بقصد القنطـرة التـي كـان الخبيـث عملهـا فـي نهـر أبـي الخصيـب دون القنطـرة التـي كـان اتخذهـا وفـرّق العسكـر في الجهات فدخل نصير في أول المد ولصق بالقنطرة واتصل الشد من ورائه فلم يقدر على الرجوع حتى حسر الماء عنها وفطن لها الزنج فقصدوها فألقى الملاحون أنفسهـم فـي المـاء وألفـى نصيـر فنفسـه وقاتـل ابـن جامع ذلك اليوم أشَد قتال‏.‏ ثم انهزم وسقط في الحريق فاحترق ثم خَلُصَ بعد الجهد‏.‏ وانصـرف الموفّـق سالمـاً وأصابـه مـرض المفاصـل واتصل به إلى شعبان من سنته فأمسك في هذه المـدّة عـن الحرب حتى أبلى فأعاد الخبيث القنطرة التي غرق عندها نصير وزاد فيها وأحكمها وجعـل أمامهـا سكـراً من الحجارة ليضيق المدخل على السفن فبعث الموفّق طائفة من شرقي نهر أبي الخصيب وطائفة من بحريه ومعهم الفَعَلَة لقطع القنطرة وجعل أمامها سفناً مملوءة من القصب لتصيبها النار بالنفط فيحترق الجسر وفرّق جنده على القتال وساروا لما أمرهم عاشر شوّال وتقدّمـوا إلى الجسر ولقيهم أنكلاي بن الخبيث وابن أبان وابن جامع وحاموا على القنطرة لعلمهم بما في قطعها من المضرّة عليهم ودامت الحرب عليها إلى العشيّ‏.‏ ثم غلبهم أصحاب الموفّق عليها ونقضها النجَّارون ونقضوا الأثقال التي دونها وأدخلوا السفن بالقصب وأضرموها ناراً ووافت القنطـرة فأحرقتهـا ووصـل النجّـارون بذلـك إلـى مـا أرادوا‏.‏ وسهّل سبيل السفن في النهر وقتل من الزنج خلق واستأمن آخرون وانتقل الخبيث بعد حرق قصوره ومساكن أصحابه إلى الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب ونقل أسواقه إليه وتبيّن ضعفه فانقطعت عنه الميرة وفقدت الأقوات وغَلَت حتى أكل بعضهم بعضاً وأجمعِ الموفق أن يحرق الجانب الشرقي كما أحرق الغربي‏.‏ فقصد دار الهمذان وكان حصيناً وعليه الآلات فلما انتهى إليها تعذّر الصعود لعلو السور فرموا بالكلاليب ونشبت في أعلام الخبيث وجذبوها فتساقطـت فانهـزم المقاتلة وصعد النفاطون فأحرقوا ما كان عليها من الآلة ونهبوا الأثاث والمتاع‏.‏ واتصل الحريق بما حولها من الدور واستأمن للموفّق جماعة من خاصة الخبيث فأمّنهم ودلّوه علـى سـوق عظيمة متصلة بالجسر الأول تسمى المباركة وبها التجار الذين بهم قوامهم فقصدها لإحراقها وحاربه الزنج بعدها وأضرم أصحابه النار فيها فاتصلت وبقي الحريق عامّة اليوم‏.‏ ثـم رجـع الموفّـق ثـم انتقـل التجار بأمتعتهم وأموالهم إلى أعلى المدينة ثم فعل الخبيث في الجانب الشرقي بعد هذه من حفر الخنادق وتغوير الطرق مثل ما كان فعل في الجانب الغربي واحتفر خندقـاً عريضـاً حَصَّـنَ بـه منـازل أصحابـه علـى النهـر الغربـي‏.‏ ثـم خـرق الموفـق باقـي السـور إلـى النهـر الغربي بعد حرب شديدة كانت عليه وكان للخبيث جمع من الزنج وهم أشجع أصحابه وقد تحصنوا بحصن منيع يخرجون على أصحاب الموفق عند الحرب فيعوقونهم فأجمع على تخريبه وجمع المقاتلة عليه برّاً وبحراً وفرّقهم على سائر جهاته وجهات الخبيث وأمدّ الخبيث الحصن بالمُهَلَبـيّ وابـن جامـع فلـم يغنـوا عنـه وانهزمـوا وتركـوا الحصـن في يدي أصحاب الموفّق وهزموه وقتلوا من الزنجِ خلقاً وخلصوا من الحصن كثيـراً مـن النسـاء والصبيـان ورجـع الموفّـق إلـى عسكـره ظافراً‏.‏

  استيلاء الموفق علي الجهة الغربية

ولما هدم الموفّق سور دار الخبيث أمر بتوسعة الطرق للحرب وأحرق الجسر الأول الذي على نهـر أبـي الخصيـب ليمنـع مـن مدد بعضهم بعضاً فكان في إحراقه حرب عظيمة‏.‏ وأعدّت لذلك سفينة مُلِئَت قصباً وجعل فيها النفط وأرسلت في قوّة المدد فتبادر الزنوج إليها وغرّقوها‏.‏ فركب الموفّق إلى فوهة نهر أبي الخصيب وقصدهم من غربي النهر وشرقيه إلى أن انتهوا إلى الجسر من غربيه وعليه أنكلاي بن الخبيث وابن جامع فأحرقوه وفعال مثل ذلك من الجانب الشرقـي فاحتـرق الجسر والحظيرة التي كانت لإنشاء السفن وسجن كان هناك للخبيث‏.‏ وانحاز هو وأصحابه من الجانب الغربي‏.‏ واستأمن كثير من قوّاده فأمّنهم وأخرجـوا أرسالًـا وخـرج قاضيه هارباً ووكّل بالجسر الثاني من يحفظه‏.‏ وأمر الموفّق ابنه أبا العباس بأن يتجهّز لإحراقه فزحف في إنجاد غلمانه ومعه الفعلة والآلات‏.‏ وكان في الجانب الغربي أي العباس أنكلاي وابن مجامع وفي الجانب الغربي قبالة أسد مولى الموفق الخبيث نفسه والمهلبي‏.‏ وجاءت السفن في النهر وقاتلوا حامية الجسر فانهزم ابن مجامع وأنكلـاي وأضرمـت النار في الجسر ولما وافياه وهو مضطرم ناراً ألقيا أنفسهما في النهر فخلصا بعد أن غرق أصحابهما خلق واحترق الجسر واتصل الحريق بدُورهم وقصورهـم وأسواقهـم وافتـرق الجيـش فـي الجانبيـن ونهبـت دار الخبيـث واستنقـذ مَـن كـان فـي حبسـه من النسوة والرجال‏.‏ وأخرج ما كان في نهر أبي الخصيب من أصناف السفن إلى دجلة ونهبها أصحاب الموفّـق واستأمن أنكلاي بن الخبيث وعلم أبوه فثنـاه عـن ذلـك‏.‏ واستأمـن ابـن سليمـان بـن موسـى الشعراني من رؤساء قواده فأجيب بعد توقّف‏.‏ ولما خرج تبعه أصحـاب الخبيـث فقاتلهـم ووصـل إلـى الموفّـق فأحسـن إليـه واقتفـى أثـره فـي ذلـك شبـل بـن سالـم مـن قـوّاده وعَظُـمَ على الخبيث وأوليائـه استئمـان هـؤلاء وصـار شبـل بـن سالـم يخـرج فـي السرايـا إلـى عسكـر الخبيث ويُكثِر النكاية فيهم‏.‏ وفي خلال هذه الحروب واتصالها مَرِنَ أصحاب الموفّق على تخلّل تلك المسالك والشِعاب مع تضايقها ووعرها وأجمع الموفّق على قصد الجانب الشرقي في نهر أبي الخصيب وندب لذلك قوّاد المستأمنة لخبرتهم بذلك دون غيرهم ووعدهم بالإحسان والزيادة فأبوا وسألوه الإقالة فأبى لتتميّز مُنَاصَحَتهُم‏.‏ وجمع سفن دجلة من كل جانب وكان فيها عشرة آلاف مَلّاَح من المُرْتَزِقَةِ‏.‏ وأمـر ابنـه أبـا العبـاس بقصـد مدينـة الخبيـث الشرقيَّـةِ مـن جهاتهـا فسـار إلـى دار المهلبـي وهو في مائة وخمسيـن قطعـة مـن السفن قد شحنها بأنجاد غلمانه وانتخب عشرة آلاف مقاتل وأمرهمِ بالمسير حفافـي النهـر يشاهـد أحوالهـم وبكّـر الموفّـق لثمـانٍ خَلَـونَ من في القعدة زاحفاً للحرب فاقتتلوا مليّاً وصبـروا‏.‏ ثم انهزم الزنج وقتل منهم خلق وأسِرَ آخرون فقتلوا وقصد الموفّق بجمعه دار الخبيث وقد جمع الخبيث أصحابه للمدافعة فلم يغنوا عنه وانهزموا وأسلموها فنهبها أصحاب الموفّق وسبوا حريمه وبنيه وكانوا عشرين‏.‏ ونجا إلى دار المهلّبي ونهبها واشتغل أصحابهم جميعاً بنقل الغنائـم إلـى السفـن فأطمع ذلك الزنج فيهم وتراجعوا وردوا الناس إلى مواقفهم‏.‏ ثم صدق الموفّق الحملة عشيّ النهار فهزم الزنج إلى دار الخبيث ورجع الناس إلى عسكره ووصله كتاب لؤلؤ غلام ابن طولون يستأذنه في القدوم عليه فأخر القتال إلى حضوره‏.‏ ولمـا وصـل غُلـام ابـن طولـون فـي ثالـث المحـرّم مـن سنـة سبعيـن وجـاء فـي جيـش عظيـم فأحسن إليهم المُوَفَـق وأجـرى لهـم الأرزاق على مراتبهم وأمره بالتأهُّب لقتال الخبيث‏.‏ وقد كان لما غلب على نهر أبي الخصيب وقُطِعَتِ القناطر والجسور التي عليه أحدث فيه سكراً وضيق جِرْيَةَ الماء ليمنع السُفُنَ من دخوله إذا حضر ويتعذرُ خروجها أمامه‏.‏ وبقي جَرْيُهُ لا يتهيأ إلا بإزالة ذلك السِـكْرِ‏.‏ فحـاول ذلـك مـدَّةً والزنـجُ يدافعـون عنـه‏.‏ ودفـع الموفـق لذلـك لؤلـؤاً فـي أصحابـه ليتمرّنـوا على حـرب الـزنْج فـي تلـك المسالـك والطرق فأحسنوا البلاء فيها ووصلهم وألحّ على العسكر وهو كل يوم يقتل مُقاتِلَتَهُمْ ويحرِقُ مساكنهم ويقتل المُسْتأمِنَة منهم‏.‏ وقد كان بقي بالجِهَةِ الغربِيَّة بقيَّة من أبنيِةِ ومزارع وبها جماعة يحفظونها‏.‏ فسار إليهم أبو العباس وأوقع بهم ولم يسلَـم منهـم إلّـا الشريد‏.‏ ثم غلبهم على السِكْرِ وأحرقه واعتزم على لقاء الخبيث وقدَّم ابنه أبا العبَّاسِ إلىِ دار المُهَلبِ وأضـافَ المستأمنـة إلـى شِـبْل بن سالمٍ وأمرهم أن ينتظروا بالقتال نفْخ لبوق ونَصْبَ عَلَمِهِ الأسود على دار الكَرْمَانِيّ‏.‏ ثم صَمَدَ إليهم وزحف الناسُ في البر النهر ونُفِخَتِ الأبْوَاقُ وذلك لثلاث بقين من المُحَرَّم سنة سبعين واشتدّ القتال وانهزم الزِنْجُ ومات منهم قتلاً وغَرَقَاً ما لا يُحصى واستولى المُوَفَّق على المدينة واستنقذوا لأسرى وأسروا الخليل وابن أبـان وأولادهمـا وعيـال أخيهما ومضى الخبيث ومعه ابنه نبهلاي وابن جامع وقوادٌ من الزِنْج إلى موضع بنهر السُفْيَانِيّ كانـوا أعـدّوه ملجـأ إذا غلـب علـى المدينـة واتبعه المُوَفّق في السُفُن ولؤلؤ في البرّ‏.‏ ثم اقتحم النهر بفرسه واتَّبعه أصحابه فأوقعوا بالخبيث ومَن معه حتى عبروا نهر السامان واعتصموا بجبل وراءه ورجع لؤلؤ عنهم وشكره المُوَفَّق ورفع منزلته واستبشر الناس بالفتح‏.‏ وجمع المُوَفٌق أصحابه فوبَّخهم على انقطاعهم عنه فاستعذروا بأنهم ظنّوا انصرافه‏.‏ ثم تحالفوا على الإقدام والثباتِ حتى يظفروا وسألوه أن ترد المعابِر التي يعبُرون فيها ليستميت الناس في حـرب عدوهـم فوعدهـم بذلك وأصبح ثالث صَفر فعبى المراكب وبعثهم إلى المراكز وردّ المعابر التي عبروا فيها وتقدّم العسكر فأوقعوا بالخبيث وأصحابه ففضوا جماعةً وأثخنوا فيهم قتلاً وأسراً وافترقوا كلّ ناحيةٍ‏.‏ وثَبُتَ مع الخبيث لمة من أصحابه فيهم المُهًلّبِيّ وذهب ابنه أنكِلاي وابـنُ جامِع وأتبع كلاً منهم طائفةً من العسكر بأمر أبي العباس بن المُوَفّق‏.‏ ثم أسر إبراهيم بن جعفر الهَمَذَانيّ فاستوثقوا منه‏.‏ ثم كرّ الخبيث والمنهزمون معه على مَن اتَبعهم من أهل العسكر فأزالوهم عن مواقفهم‏.‏ ثم رجعـوا ومضـى الموفّـق فـي اتّبـاع الخبيث إلى آخر نهر أبي الخصيب فلقيه غلام من أصحاب لُؤْلُؤ بـرأس الخبيـث وسـار أنكلـاي نحـو الدينـاريّ ومعـه المهَلّبـيّ‏.‏ وبعث الموَفّق أصحابه في طلبهمِ فظفر بهم وبمَن معهم وكانوا زهاء خمسة آلاف فاستوثق منهم ثم استأمن إليه وَرْمُونةُ وكان عند البُطَيْحَةِ قد اعتصم بمغايضَ وآجامٍ هنالك يُخيفُ السابِلَةَ ويغيرُ على تلـك النواحـي وعلـى الواردين إلى مدينة المُوَفّق‏.‏ فلما علم بموت الخبيث سُقِطَ في يده وبعث يستأمن فأمّنه الموفّق فحسُنَت توبته وردِّ الغصوبات إلى أهلها ظاهراً وأمر المُوَفَق بالنداء برجوع الزنْج إلى موطنهم فرجعوا وأقام الموفّق بمدينة المُوَفِّقيةِ ليأمن الناسُ بِمُقامه وولّى على البصرة والأبلَّة وكور دِجْلَةَ محمـد بـن حَمّـاد وقـدّم ابنـه أبـا العبـاس إلى بغداد فدخلها منتصف جمادى من سنة سبعين وكان خروج صاحب الزنْج آخر رمضان سنة خمس وخمسين وقتله أوّل صفر سنة سبعين لأربع عشرة سنة وأربعة أشهر من دولته‏.‏

  ولاية ابن كنداج على الموصل

لما سار أحمد بن موسى بن بغا إلى الجزيرة وولّى موسى بن أتامش على ديار ربيعة فتغيَّر لذلك إسحاق بن كنداج وفارق عسكره وأوقع بالأكراد اليعقوبيَّةِ وانتهب أموالَهُم ثم لقي ابن مُساوِرَ الخارِجيّ فقتله وسار إلى الموصل فقاطع أهلها على مالٍ وكان عليهم عليّ بن داود قائداً فدفعه وسار ابن كنداج إليه فخرج عليُ بن داود واجتمع حمدان بن حمدون الثَعْلَبِيّ وإسحاق بن عُمَرَ بن أيُوب بن الخَطّاب الثعلَبِيّ العدوِيّ فكانوا خمسة عَشَرَ وجاءهم عليّ بن داود فلقِيَهُـمْ إسحـاق فـي ثلاثـة آلـاف فهزمهـم بدسيسـةٍ مـن أهـل مسيرتهـم‏.‏ وسـار حمـدان وعلي بن داود إلى نيسابـور وابـن أيُّـوب إلـى نصيبيـن وابـن كنـداجَ فـي أتباعـه فسـار عنهـا وأستجـار بعيسـى ابـن الشيخ الشَّيْبَانِي وهو بآمد وأبي العزّ موسى بن زُرَارَةَ وهو عامل أردن فأنجداه وبعث المعتمد إلى إسحاق بن كنداج بولاية الموصل فدخلها وأرسل إليه ابن الشيخ وابن زُرارَةَ مائة ألف دينار على أن يُقرّهم على أعمالهم فأبى فاجتمعوا على حربه فرجع إلى إجابتهم‏.‏ ثم حاربوه سنـة سبـع وستّيـن‏.‏ واجتمـع لحربـه إسحـاق بـن أيـوب وعيسى ابن الشيخ وأبو العزّ بن حمدان بن حمـدون فـي ربيعـة وثعلـب وبكـر واليمـن فهزمهـم ابـن كنـداج إلـى نُصيبيـن ثـم إلـى آمد وحَمّر عسكره الجِصار ابن الشيخ بآمد وكانت بينهم حروب‏.‏

  حروب الخوارج بالموصل

كان مُساوِرُ الخارِجِيّ قد هلك في حروبه مع العساكر سنة ثلاث وستّين بالبوارسح وأراد أصحابه ولاية محمد بن حَرْداد بشهرزور فامتنع وبايعوا أيوب بن حيّان المعروف بالغُلام فقُتِل فبايعوا هارون بن عبد اللِّه البَجَلِيّ وكثُر أتباعه واستولى على بلد الموصل وخرج عليه من أصحابه محمد بن حَرْداد وكان كثير العبادة والزهْدِ يجلِسُ في الأرض ويلبَسُ الصوف الغَليظ ويركـبُ البقـر لئـلاَّ يفِـرّ مـن الحـرب‏.‏ فنـزل واسِـطَ وجـاء أهـل الموصـل فسـار إليهـم وهارون غائب في الأحشاد فادر إليه واقتتلا وانهزم هارون وقتل من أصحابه نحو مائتين‏.‏ وقصد بني ثَعْلَبَ مستنجداً بهم فأنجدوه وسار معه حمدان بن حمدون ودخل معه الموصل ودخل ابن حرداد واستمال هارون أصحابه ورجع إلى الحُدَيْثَةِ ولم يبقَ مع ابن حرداد إلّا قليل من الأكراد فمالوا إلى هارون بالموصل فخرج وأوقع بابن حرداد فقتله وأوقع بالأكراد الجلالِيةِ وكثر أتباعه وغلب علـى القُـرى والرساتيـق وجعـل علـى دجلـة مَـن يأخـذ الزكـاة مـن الأمـوال المُصَعـدَةِ والمنحـدِرة ووضع فيٍ الرساتيق مَن يقبض اعتبار الغلات واستقام أمره‏.‏ ثم جاء بنو ساسان لقتاله سنة ست وسبعين واستنجد بحمدان بن حمدون فجاءه بنفسه وسار إلى نهر الخازِنِ وانهزمت طليعتهم وانهزموا بانهزامها وجاء بنو شيبان إلى فسا فانجفل أهلها وأقـام هـارون وأصحابـه بالحُدَيْثَة‏.‏

  أخبار رافع بن هرثمة من بعد الخجستاني

لما قُتِلَ أحمدُ الخُجِسْتَانِي سنة ثمانٍ وستِّين كما قدّمناه اجتمع أصحابه على هرثمة من قُوّاد محمـد بـن طاهـر وكـان رافع هذا لما استولى يَعْقُوبُ الصَفَار على نيسابور وزال بنو طاهِرٍ صار رافع في جملته وصَحْبِه إلى سِجِسْتَانَ‏.‏ ثم أقصاه عن خدمته وعاد إلى منزله بنواحي جي حتـى استخدمـه الخُجِسْتَانِـيُّ وجعله صاحبَ جيشه‏.‏ فلما قُتِلَ الخجستاني اجتمع الجيش عليه بهراة وأمروه وسار إلى نيسابور فحاصر بها أبا طلحة بن شركب وقد كان وصل إليها من جرجان فضيقَ عليه المخنق ففارقها أبو طلحة إلى مرو وولي هراة ابن الْمَهدِيّ وخطب لمحمَّد بن طاهر بِمَرْو وهَرَاة وزحف إليه عمرو بن الليث فهزمه وغلبه على ما بيده واستخلف عل مرو محمد بن سهل بن هاشم وخرج أبو طلحة إلى مَكْمَد واستعـان بإسماعيـل بـن أحمـد الساماني فأمده بعسكر وأخرج محمد بن سهـل وخطـب بهـا لعمـرو بـن الليـث سنـة إحـدى وسبعين‏.‏ ثم قلّد المُوَفَقُ تلك السنة أعمالَ خُراسان لمحمد بن طاهر وهو ببغداد فاستخلف عليها رافع بن الليث وأقر على ما وراء النهر نصر بن أحمد ووردت ووردت كُتُبُ المُوَفٌق بعزل عمرو بن الليث ولعنه فسار رافع إلى هَراة وقد كان بها محمَّدُ بن المهديّ خليفة أبي طلحة فثار عليه يوسـف بـن معبـد‏.‏ فلمـا جـاء رافـع استأمـن إليـه فأمّنـه واستعمل على هَراة مهدي بن مُحْسِن‏.‏ ثم سـار رافـع إلـى أبـي طلحـة بمـرو بعـد أن استمدّ إسماعيل بن أحمد وأمده بنفسه في أربعة آلاف فارس واستقدم عليّ بن مُحسِن الْمَرْوَروزيّ فقَدِمَ عليه في عسكره وساروا جميعاً إلى أبي طلحـة بمـرو سنـة اثنتيـن وسبعيـن فهزمـوه وعـاد إسماعيـل إلـى بخارى ولحق بأبي طلحة وبها مهدي فاجتمع معه على مخالفة رافع فهزمهما رافع ولحق أبو طلحة بعمرو بن الليث‏.‏ وقبض على مهـدي سنـة اثنتين وسبعين ثم خلّى سبيله وسار رافع إلى خوارِزم فجبى أموالها ورجع إلى نيسابور‏.‏ مغاضبة المعتمد للموفق ومسيرة ابن طولون وما نشأ من الفتنة لأجل ذلك كـان المُوَفَّقُ حدثت بينه وبين ابن طولون وحشة وأراد عزله وبعث موسى بن بغا في العساكر إليه سنة اثنتين وستّين فأقام بالرَّقَّةِ عشرة أشهر واختلف عليه العسكر فرجع‏.‏ وكان المُوَفَّقُ مُسْتَبِدّاً على أخيه المُعْتَمد منذ قيامه بأمر دولته مع ما كان من الكِفايَة والغَناء إلا أنه كان المعتمـد يتأفّـف مـن الحَـجْرِ‏.‏ وكتـب إلـى أحمـد بـن طولـون فـي السـرّ يشكـو ذلـك وأشـار عليـه باللحاق إليـه بِمِـصْرَ لينصـره‏.‏ وبعـث عسكـراً إلـى الرقَّـةِ فـي انتظاره وكان الموفّق مشغولًا بحرب الزنج فسار المُعْتَمدُ منتصف سنة تسـعٍ وستّيـن فـي القـوّاد ظهِـراً أنـه يتصيـد‏.‏ ثـم سـار إلـى أعمـال الموصـل وعليهـا يومئـذ وعلـى سائـر الجزيـرة أصحـاب كِنـداج‏.‏ وكتـب صاعِدُ بن مُخْلِد وزير الموفّق عن الموفّق إلى فلمـا وصـل المُعْتَمَـدُ إلـى عملـه أظهـر إسحـاق طاعتـه فارتحـل فـي خدمتـه إلـى أوّل عمل ابن طولون‏.‏ ثم اجتمع بالمعتمد والقـوّاد وفيهـم نَـيْزَك وأحمـد بـن خاقـان وغيرهـم فعذلهـم فـي المسيـر إلـى ابـن طولـون والمقام تحت يده وطال الكلام منهم ملياً‏.‏ ثم دعاهم إلى خيمته للمناظرة في ذلك أدباً مع المعتمـد وقيّدهـم وجاء إلى المُعْتَمَد فعذله في المسير عن دار خلافَتِه ومغاضَبَة أخيه وهو في دفـاع عـدوّه ومَـن يريـد خـراب ملكـه وحمـل الجميـع إلـى سامـرا وقطع ابن طولون الدعاء للموفق على منابره وأسقط اسمه من الطُرَرِ وغضب الموفـق بسبـب ذلـك علـى أحمـد بـن طولـون وحمـل المعتمد على أن يُشار بلعنه على المنابر‏.‏ وولـى إسحـاق بـن كنـداج علـى أعمالـه وفـوض إليـه مـن بـاب الشماسِيَـة إلـى إفريقيـة‏.‏ وكان لؤلؤ مولى ابن طولون عاملاً له على حِمْصَ وحَلَب وقَنِسْرين وديار مِصر من الجزيرة‏.‏ وكان منزله بالرقَةِ فانقض عليه في هذه السنة وسار إلى بالِسَ فنهبها وكتب إلى الموفق فمر بفرقيسيا وبها ابن صفـوان العُقَيْلِـيّ فحاربـه وغلبـه عليهـا وسلّمهـا إلـى أحمـد بـن مالـك بـن طَـوْق‏.‏ ووصـل إلـى الموفّـق في عسكر عظيم وهو يقاتل صاحبَ الزِنج فأكرمه المُوَفقُ وأحسن هو الغَنَاءَ في تلك الحرب‏.‏ ثم بعث ابن طولون في تلك السنة جيشه إلى مكّة لإقامة الْمَوْسِم وعامل مكّة هارون بن محمد ففارقهـا خوفـاً منهـم وبعـث الموفـق جعفـراً فـي عسكـرٍ فقـوي بهم هارون ولقوا أصحاب ابن طولون فهزمزهـم وصـادروا القائـد علـى ألف دينار‏.‏ وقرئ الكتاب في المسجد بلعن ابن طولون وانقلب أهل مصـر إلـى بلدهـم آمنيـن‏.‏ ولـم يـزل لؤلـؤ فـي خدمـة المُوَفَّـقِ إلـى أن قُبِـضَ عليـه سنـة ثلـاث وسبعيـن وصادره على أربعمائة ألف وأدْبَرَ أمره ثَمّ ثم عاد إلى مِصْرَ آخر أيام هارون بن خمارويه‏.‏ طولون ومسير ابن كنداج إلى الشام

  وفي سنة سبعين

انتقض بازمان الخادم بطَرْسوس وقبض على نائبه وسار إليه طولون في العساكـر وحاصـروه فامتنـع عليـه فرجع إلى إنطاكية فمرض هنالك لست وعشرين سنة من ولايته على مِصْرَ ووليَ بعده ابنه خَمارَوَيْه وانتقضت عليه دمشق فبعث إليها العساكر وعادت إلى طاعته‏.‏ وكان يومئذ بالموصل والجزيرة إسحاق بن كنداج وعلى الأنبار والرَحَبَة وطريق الفرات محمد بن أبي الساج فكاتبا المُوَفّقَ في المسير إلى الشام واستمدّاه فأذِنَ لهما ووعدهما بالمَدَد فسارا وملكا ما يجاورهما من بلاده واستولى إسحاق على أنطاكية وحلب وحِمص وكاتبه نائب دِمَشْق واجتمع على خمارويه فسار إِليه فهرب إلى شَيْزَر وهي في طاعـة خمارويـه ودمشق‏.‏ وجـاء أبـو العبَّـاس بـن المُوَفَّـقِ وهـو الْمُعْتَضِـدُ من بغداد بالعساكر فكبس شَيْزَر وقتل من جند ابن طولـون مقتلـةً عظيمـةً ولحـق فلُّهُـم بدمشـق وأبـو العبّـاس فـي اتِّباعهـم فجلَوْا عنها ومَلَكَها في شَعْبًانَ سنة إحدى وسبعين‏.‏ ورجعت عساكر خَمَارَوَيْه إلى الرَمْلَة فأقاموا بها وزحف إسحاق بن كنـداج إلـى الرَقَـةِ وعليهـا وعلـى الثغـور والعواصم ابن دعاصٍ من قِبَل خمارويه فقاتله وكان الظهور لإسحاق‏.‏ ثم زحف أبو العبّاس المُعْتَضِدُ من دمشق إلى الرملة وسـار خمارويـه مـن مِـصْرَ واجتمـع بعساكـره فـي الرملـة علـى مـاء الطواحيـن‏.‏ وكـان المعتضـد قـد استفسـد لابـن كنـداج وابـن أبـي الساج ونسبهما إلى الجُبْنِ في انتظارهما إياه في محاربة خمّارويه‏.‏ وعبّـى المُعْتَضِـدُ عساكـره ولقـيَ خمـارَوَيْه وقـد أكمَـن لـه فانهـزم خمّارويـه أوّلاً وملك المعتضد خيامه وشُغِلَ أصحابه بالنَّهْبِ فخرج عليهم الكميِن فانهزم المعتضد إلى دمشق فلم يفتح له أهلها فراح إلى طرسوس وأقام العسكران يقتتلان دون أمير وأقام أصحاب خمّارويه عليهم أخاه سعداً مكانه وذهبوا إلى الشام فملكوه أجمع وأذهبوا منه دعوة المُوَفَّق وابنه‏.‏ وبلغ الخبر إلى خمّارَوَيْه فسرّ وأطلق الأسرى الذين كانوا معه‏.‏ ثم سار أَهل طرسوس بأبي العبَّاس فأخرجوه وسـار إلى بغداد وولّوا عليهم مازيار فاستبدّ بها‏.‏ ثم دعا لخمّارَوَيه بعد أن وصله بمال جليل يقال أنفذ إليه ثلاثين ألف دينار وخمسمائة ثوب وخمسمائة مِطْرَف وسلاحاً كثيراً فدعا له ثم بعث إليه بخمسين ألف دينار‏.‏ ثم تُوُفِّي الحسن بن زيد العَلَوِي صاحب طَبَرسَتَان في رجب سنة سبعين لعشرين سنة من ولايته ووليَ مكانه أخوه وكان على قزوين أتكوتكين فسار إلى الريّ في أربعة آلاف فارس وسـار إليـه محمـد بـن زيـد فـي عالـم كثير من الدّيْلَم والخراسانِيَّة والتقوا فانهزم محمد بن زيد وقُتِل من عسكره نحوٌ من ستة آلاف واسر ألفان وغنم أتكوتكين عسكراً وملك الريّ وأغرم أهلها مائـة ألـف دينـار وفـرّق عُمُّاله عليها‏.‏ وسار محمد بن زيدٍ إلى جَرْجَان ثم عزل عمرو بن الليث عن خُراسان وولّى عليها محمد بن طاهر واستخلف محمد بن رافع بن هَرْثَمَةَ وسار سنة خمس وسبعين إلى جَرْجان وهرب عنها ليلاً إلى استراباد فحاصره رافع فيها سنتين حتى أجهده الحصار ففز عنها ليكلاً إلى سارية فاتبعه فهرب عن طبرستان سنة سبع وسبعين واستأمـن رستـم بـن قـارِن إلـى رافـع بطبرستـان فأمنـه وبعـث إلـى سالـوس محمـد بـن هـارون نائبـاً عنـه وأتـاه بابـا علـي بن كاني مستأمناً‏.‏ ثم جاءه محمد وحاصرهما بسالوس وانقطعت أخبارهما عن نافع‏.‏ ثم جاءه الخبر بحصارهما فسار إليهما فارتحل محمد بن زيد إلى أرض الدَيْلَم فدخل رافـع خلفـه وأثخـن فيهـا نهبَاً وتخريباً إلى حدود قزوين وعاد إلى الريّ إلى أن توفي المعتمد سنة تسع وتسعين‏.‏ كـان ابـن أبـي السـاج فـي أعمالـه بِقِنَسْرين والفُرات والرحَبَة ينافِسُ إسحاق وهو على الجزيرة ويريِد التقدم عليه فحدثت لذلك منهما فتنة‏.‏ فخطب ابن أبي الساج لمخمارَوَيْه بن طولون‏.‏ وبعث ابنـه ديـوداد رهينـة إليـه فبعـث إليه خمارويه أموالاً جمَّة وسار إلى الشام واجتمع بابن أبي الساج ببالـس‏.‏ ثـم عبـر ابـن أبـي السـاج الفُـرات إلى الرقَّة وهزم إسحاق بن كنداج واستولى على أعماله وعبر خمّارويه ونزل الرقَّة‏.‏ ومضى إسحاق إلى قلعة ماردين وحاصره ابن أبي الساج بها ثم أفرج عنها وسار إلى سنجار لقتال بعض الأعراب فسار ابن كِنْداج من ماردين إلى الموصل فاعترضه ابن أبي الساج وهزمه فعاد إلى ماردين‏.‏ واستولى ابـن أبـي السـاج علـى الجزيـرة والموصل وخطب لخمّارويه ثـم لنفسـه بعـده وبعـث غلامـه فتحـاً إلـى أعمـال الموصـل لجبايـة الخراج‏.‏ وكان اليَعْقُوبِيةُ من السراةِ قريباً منه فهادنهم ثم غدر بهم فكبسهم وجاءهم أصحابهم من غير شعور بالواقعة فحملوا على أصحاب فتح فاستلحموهم‏.‏ ثم انتقض ابن أبي الساج واستبيح عسكـره‏.‏ وكـان له بحمْصَ مخلف من أثقاله فقَدِمَ خمّارويه طائفة من العسكرٍ إليها فاستولوا على ما فيها ومنعوا أبن أبي الساج من دخولها فسار إلى حلب ثم إلى الرًقَةِ وخمارويه في اتّباعه فعبـر الفُـرات إلـى الموصـل‏.‏ وجـاء خمارويه إلى بلد وأقام بها وسار ابن أبي الساج إلى الحُدَيْثَةِ‏.‏ وكان إسحاق بن كِنْداج قد لحق بخمارويه من ماردين فبعث معه جيشاً وجماعة من القواد وسار في طلب ابن أبي الساج وقد عبر دجلة فجمع ابن كِنْداج السُفُن ليوطئ جسراً للعبور‏.‏ وبينما هو في ذلك أسرى ابن أبي الساج من تكريت إلى الموصل فوصلها الرابعة وسار ابن كنـداج فـي اتّباعـه‏.‏ فاقتتلـوا بظاهـر الموصـل وابـن أبي الساج في ألفين فصبر واشتد القتال وانهزم ابـن كنـداج وهـو فـي عشريـن ألفـاً‏.‏ فخلـص إلـى الرقـة ومحمـد ابـن أبـي السـاج فـي اتباعـه‏.‏ وكتب إلى الموفّق يستأذنه في عبور الفُرات إلى بلاد خَمارَويه بالشام فأمره بالتوقُّف إلى وصول المدَدِ من عنده ومضى ابن كنداج إلى خمّارويه فجاء بجيوشه إلى الفُرات وتوافق مع ابن أبي الساج والفُـرات بينهمـا‏.‏ ثـم عبـرت طائفـة مـن عسكـر ابـن كنـداج فأوقعـوا بطائفـة مـن عسكر ابن أبي الساج فانهزمـوا إلـى الرقّـة فسـار ابـن أبـي الساج عن الرقّة إلى بغداد سنة ست وسبعين في ربيع منها فأكرمه المُوَفّق ووصله واستولى ابن كِنْداج على ديار ربيعة من أعمال الجزيرة وأقام بها وولى الموفـق محمـد بـن أبـي السـاج علـى أذربيِجـان فسـار إليها فخرج إليه عبد اللَّه بن الحُسَيْن الهَمَذاني عامل مراغة ليصده فهزمه ابن أبي الساج فحاصره وأخذ منه مراغة سنة ثمان وسبعين وقتله واستقرّ ابن أبي الساج في عمله بأذرَبيجَان‏.‏ كان عمرو بن الليث بعد مهلك أخيه يعقوب قد ولّاه الموَفَّقُ خراسانَ وأصبهانَ وسجستتان والسنـد وكرمان والشرطة ببغداد كما كان أخوه وقد ذكرنا ذلك قبل‏.‏ وكان عامله على فارس ابن الليث فانتقض عليه سنة ثمانٍ وستّين فسار عمرو لحربه فهزمه واستباح عسكره ونهب اصطخـر ثـم ظفِـرَت جيوشُـهُ بمحمـد وأسـره وحبسـه بكرمـان فأقـام بهـا ثـم بعث إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلف وهو بأصبهان يطلبه بالمال‏.‏ فبعث إليه بالأموال وبعث عمرو إلى الموفّق بثلثمائـة ألـف دينـار وبخمسيـن مَنّاً من المِسْكِ ومثلها من العَنْبَر ومائتين من العود وثلثمائة ثوب من الـوَشْي ومن آنية الذِّهَب والفِضَةِ والدوابّ والغلمان‏.‏ قيمة مائة ألف دينار‏.‏ واستأذنه في غزو محمد بن عُبَيْد الكُرْديّ وامهرْمُز فأذِنَ له فبعث قائداً من جيشه إليه فأسره وجاء به إلى عمرو‏.‏ ثـم عـزل المعتمـد سنـة إحـدى وستّيـن عمـرو بـن الليـث عمّـا كـان قلّـده من الأعمال وأدخل إليه الحاجّ من أهلها عند مُنْصَرِفِهِم من مكَّة فأعلمهم بعزله وأنه قد ولّى على خُراسان محمد بن طاهر وأمـر بلعـن عمـرو علـى المنابـر‏.‏ وجهّـز مُخلِـد بـن صاعد إلى فارِسَ لحرب عمرو واستخلف محمد بـن طاهـر علـى خُراسـان رافـع بـن هَرْثَمَـةَ‏.‏ وكتـب المعتمد إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلَف يأمره بقتاله وبعث إليه الجيوش فاقتتلوا مع عمرو وكان في خمسة عشر ألف مُقاتـل فانهـزم عمرو وخرج قائده الديلمي وقتل مائة من أعيانهم وأسر ثلاثة آلاف فاستأمن منهم وغنموا من عسكـره مـا لا يُحصـى‏.‏ ثـم زحـف للموَفـق سنـة أربـع وسبعيـن إلـى فـارس لحـرب عمـرو فأنفـذ عمرو ابنـه محمـداً إلـى أرًجـان فـي العساكـر وعلـى مقدمتـه أبـو طلحـة بن شركب وعباس بن إسحاق إلى سيـراف واستأمـن أبـو طلحـة إلى المُوَفق ففت ذلك في عَضُدِ عمرو وعاد إلى كَرْمان واستراب الموفـق بأبـي طلحـة فقبـض عليـه قريبـاً مـن شيـراز وجعـل مالـه لابنـه أبـي العباس المعتضد وسار في طلب عمرو فخرج من كرمان إلى سِجسْتان‏.‏ ومات ابنه محمد بالمفازة ورجع عنه الموفـق وسار رافع بن الليث من خراسان وغلب محمد بن زَيْدٍ على طبَرسَتان كما قدمناه وقـدِم عليه هنالك عليُ بـن الليـث هـو وابنـاه المعـدل والليـث ‏"‏ بـن حسـن أخيـه علـي ‏"‏ بكرمـان ثـم قتلـه رافـع سنة ثمانَ وستين‏.‏ مسيرة الموفق إلى أصبهان والجبل كـان كاتـب أتكوتكيـن أنهـى إلـى المُعْتَضِـد أنَّ لـه مـالاً عظيمـاً ببلاد الجبل فتوجه فلم يجد شيئاً‏.‏ ثم سـار إلـى الكـرخ ثـم إلـى أصبهـان يريـد أحمـد بـن عبد العزيز بن أبي دلف فتنخى أحمد عن البلد بعسكره وترك داره بفرشها لنُزُل المُوَفَق عند قدومه ثم رجع الموفق إلى بغداد‏.‏ قبض الموفق على ابنه أبي العباس ثم وفاته وقيام ابنه أبي العباس بالأمر بعده كـان المُوَفق بعد رجوعه من أصبهان نزل واسِطَ ثم عاد إلى بَغْدادَ وترك المُعْتَمَدُ وأمر ابنه أبا العبَّاس وهو المعتضد بالمسير إلى بعض الوجوه فأبى فأمر بحبسه ركب القواد من أصحابه واضطربت بغدادُ فركب المُوَفًق إلى المَيْدان وسكَّن الناس وقال‏:‏ إني احتجت إلى تقويم ابني فقوّمته فانصرف الناس وذلك سنة ست وسبعين‏.‏ كان عند منصَرَفه من الجبل قد اشتدّ به وجـع النـقْرِس ولـم يقـدر علـى الركوب فكان يحمل في المِحَفًةِ ووصل إلى داره في صفر من سنة سبع وطال مرضه وبعث كاتبه أبا الصَّقْرِ بن بُلْبُل إلى الميْدان فجاء بالمعتمد وأولاده وأنزله بداره ولم يأت دار الموفّق فارتاب الأولياء لذلك وعمد غِلْمَانُ أبي العبّاس فكسروا الأقفال المغلقة عليه وأخرجوه وأقعدوه عند رأس أبيه وهو يجود بنفسه فلما فتح عينه قرّبه وأدناه وجمع أبو الصقر عنده القوّاد والجند‏.‏ ثـم تسامـع النـاس أن الموفّـق حـيّ فتسلّلـوا عن أبي الصفر وأوّلهم محمد بن أبي الساج فلم يَسَعْ أبا الصقـر إلا الحضـور بدار الموفٌق فحضر هو وابنه وأشاع أعداءُ أبي الصقر أنه هرب بمال الموفّق إلـى المعتمـد فنهبـوا داره وأخرِجَـت نسـاؤه حُفـاةً عُـراةً ونُهِـبَ مـا يجـاوره من الدُور وفتقت السجـون ثـم خلـع المُوَفَّـقُ علـى ابنه أبي العبَّاس وأبي الصقر وركب إلى منزلهما وولّى أبو العباس غلامـه بـدار الشرطـة‏.‏ ثـم مات لثمانٍ بقين من صفر سنة ثمانٍ وسبعين ودفِنَ بالرصافة واجتمع القـوّاد فبايعوا ابنه أبا العبّاس المُعْتَضِد باللّه واجتمع عليه أصحاب أبيه ثم قبض المعتضد على أبي الصقر ابن بلبل وأصحابه وانْتُهِبَت منازلهم وولّى عبد اللًه بن سُليمان بن وهب الوِزَارَةَ وبعـث محمـد بـن أبـي السـاج إلى واسط ليردِّ غلامه وصيفاً إلى بغداد فأبى وصيف وسار إلى السُّوس فأقام بها‏.‏

  القرامِطَة ابتداء أمر القرامطة

كان ابتداء أمرهم فيما زعموا أن رجلاً ظهر بسواد الكوفة سنة ثمانٍ وسبعين ومائتين يتسم بالزُهد وكان يدعى قُرْمُط يقال لركوبه على ثور كان صاحبه يدعى كَرْمَيْطة فعُرِّب وقيل بل اسمه حمدان ولقبه قرمط‏.‏ يقال وزعم أنه داعيةٌ لأهل البيت للمنتظر منهم‏.‏ واتَّبَعه العبَّاس فقبـض عليه الهَيْصَم عامل الكوفة وحبسه ففرّ من حبسه وزعم أن الإغلاق لا يمنعه‏.‏ ثم زعم أنـه الـذي بشَـر بـه أحمـد بـن محمـد بـن الحَنَفِيَّـة وجاء بكتاب تناقله القرامِطَة فيه بعد البسملة‏:‏ يقول الفرح بن عُثمانَ من قرية نَصرانة أنه داعِيَةُ المسيح وهو عيسى وهو الكلمة وهو المَهْدِيّ وهو أحمد بن محمَّد بن الحَنَفِيَّة وهو جِبريل‏.‏ وإن المسيح تصوّر له في جسم إنسان فقال له إنك الداعية وإنك الحُجَّةِ وإنك الناقة وإنك الدابَّة وإنك يحيى بن زكريّا وإنك روح القدس وعرفه أن الصلاة أربعُ ركعات قبل طلوع الشمس وركعتان قبل غروبها وأن الأذان بالتكبير في افتتاحه وشهـادة التوحيـد مرّتيـن ثم شهادة بالرسالة لآدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم عيسى ثم محمد صلوات اللـه عليهـم ثـم لأحمـد محمـد بـن الحَنَفِيّـة ويقـرأ الاستفتـاح فـي كـل ركعَـةٍ وهـو مـن المنزل على أحمد بن محمد بن الحنفية والقبلة بيتُ المَقْدِس والجُمعة يوم الاثنين ولا يعمل فيه شيء‏.‏ والسورة التي تقرأ فيها‏:‏ الحمد لله بكلمته وتعالى لاسمه المُنْجد لأوليائه بأوليائه قل إن الأهلة مواقيت للناس ظاهرها ليعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام وباطنها أوليائـي الذيـن عرفوا عبادي سبيلي اتقوني يا أولي الألباب وأنا الذي لا أسأل عما أفعل وأنا العليم الحكيم وأنا الذي أبلو عبادي وأمتحن خلقي فمن صبر علـى بلائـي ومحنتـي واختبـاري ألقيتـه فـي جنتـي وفـي نعمتـي ومـن زال عـن أمري وكذب رسلي أخلدته مهاناً في عذابي وأتممت أجلي وأظهرت على ألسنة رسلي‏.‏ فأنا الذي لم يعل جبار إلا وضعته وأذللته فبئس الذي على أمره ودام جهالته‏.‏ وقـال‏:‏ لـن نَـبْرَح عليـه عاكفيـنَ وبـه موقنيـن أولئك هُمُ الكافرون‏.‏ ثم يركعُ ويقول في ركوعه مرتين‏:‏ سبحـان رَبّـي وربّ العِـزة وتعالى عمّا يَصِفُ الظالمون وفي سجوده‏:‏ الله أعلى مرتين الله أعظم مرة والصوم مشروع يوم المِهْرَجان والنَّيْرُوز‏.‏ والنبيذ حـرام والخمـر حلـال والغُـسْل مـن الجنابـة كالوضوء‏.‏ ولا يؤكل ذو ناب ولا ذو مخالب‏.‏ ومَن خالفهم وحارب وجب قتله وإن لم يحارب أخِـذت منـه الجزيـة وانتهـى‏.‏ إلـى غيـر ذلـك من شنيعة متعارضة يهدم بعضُها بعضاً وتشهد عليهم بالكَذِب‏.‏ وهذا الفَرَحُ بن يحيى الذي ذكر هذا أول الكتاب أنه داعِيَةُ القَرَامِطَةِ يُلقَب عندهم ذِكْرَوَيْه بن مَهْرَوَيْه‏.‏ ويقال‏:‏ إن ظهور هذا الرجل كان قبل مقتل صاحب الزنج وإنه سار إليه علـى الأمـان وقـال لـه‏:‏ إن ورئـي مائـة سيـف فتعـالَ نتناظَـرْ فلعلنا نتّفق ونتعاون‏.‏ ثم تناظرا فاختلفا وانصرف قُرمط عنه‏.‏ وكان يسمي نفسه القائم بالحق‏.‏ ويزعم بعض الناس أنه كان يرى رأي الأزارِقَةِ من الخوارج‏.‏

  فتنة طرسوس

قد تقدم لنا انتقاض بازمان بطرسوس على مولاه أحمد بن طولون وأنه حاصـره عليـه وأنـه راجـع بعـد طاعـة ابنـه خَمـارَوَيْه ممـا حمـل إليـه مـن الأمـوال والأمتعـة والسلـاح فاستقـام أمره بطرسـوس مدّةً وغزا سنة ثمانٍ وسبعين بالصائفة مع أحمد الجُعْفِيّ وحاصروا اسْكَنْدا فأصيب بحجر مَنْجَنيق فرجع وهلك في طريقه ودُفِنَ بطرسوس‏.‏ وكان استخلف ابن عَجيف فأقَره خمارويـه وأمـده بالخيـل والسلـاح والمـال‏.‏ ثـم عزلـه واستعمـل عليهـا ابن عمّه ابن محمد بن موسى بن طولون‏.‏ ولما تُوُفِّي المُوَفًقُ نزعَ خادم من خواصِّه اسمه راغب إلى الشكِّ وطلب المُقَامَ بالثّغْرِ للجهـاد فـأذِنَ له المُعْتَضِدُ فسار إلى طرسوس وحطً أثقاله بها وسار إلي لقاء خمّارويه بدِمَشْقِ فأكرمـه واستجلـب أنسَـهُ فطـال مُقامه وألهم أصحابه بطرسوس أنه قبض عليه فأوصوا أهل البلد فـي ذلـك فوثبـوا بأميرهـم محمـد بـن موسـى حتـى يُطْلِقَ لهم راغبَ وبلغ الخبر إلى خمارويه فأطلقه فجـاء إليهـم ووبخهـم علـى فعلهـم فأطلقوا محمد بن موسى وسار عنهم إلى بيت المقدس فأعادوا ابن عجيف إلى وِلايَتِهِ‏.‏

  فتنة أهل الموصل مع الخوارج

قد تقمّ لنا أن هارون بن سليمان كان على الشَرَاةِ من الخوارج وكان بنـو شَيْبـانَ يقاتلونهـم ويَغيـرون علـى الموصـل‏.‏ فلمـا كانـت سنـة تسـعٍ وسبعيـن جـاء بنـو شيبـان لذلـك وأغاروا على سُوى وغيرها من الأعمال فاجتمع هارونُ الشاري في الخوارج وحَمْدان بن حَمْدون الثعلبي على مدافعتهـم‏.‏ وكـان مـع بنـي شيبـان هـارون بـن سيمـا مولـى أحمـد بـن عيسـى بـن الشيـخ الشَيْبَانِـيّ بعثـه محمد بن إسحاق بن كِنْدَاجق والياً على الموصل عندما مات أبوه إسحاق ووليَ مكانه على أعماله بالموصل وديار ربيعَةَ فلم يَرْضَهُ أهل الموصل وطردوه فسار إلى بني شيبان مُسْتَنْجِداً بهم فلما التقى الجمعان انهزم بنو شيبان أولاً واشتغل أصحاب حمدان والخوارج بالنهب فكرّ عليهم بنو شيبان وظفروا بهم‏.‏ وكتب هارونُ بن سيما إلى محمَّدٍ بن إسحاق بن كِنْداجُق يستمدّه فسار بنفسه وخَشِيَهُ أهل الموصل فسار بعضهم إلى بغداد يطلبون عاملاً يكفيهم أمر ابـن كِنْداجُـق ومـرّوا فـي طريقهـم بمحمَّـد بـن يحيـى المجـروح الموكَـل بحفـظ الطريـق فألفـوه وقد وصل إليه بولاية العهد بالموصل فبادر ملكها وتواثق ابن كنداجق في مكانه وبعث إلى خمارويه بالهدية وشمـال إمارة الموصل كما كان من قبل فلم يُجِبْهُ إلى ذلك ثم عزل المجروح وولى بعده علي بن داود الكردي‏.‏

  الصّوائف الصوائف أيام المعتمد

وصـل الخبـر فـي سنـة سبـع وخمسيـن بـأنّ ملـك الـروم بالقسْطَنْطينيّـة ميخائيـل بـن روفائيل وثب عليه قريبه مسك ويعرف بالصقلي فقتله لأربع وعشرين سنة من ملكه وملك مكانه‏.‏

  وفي سنة تسع وخمسين

خرجت عساكر الروم فنازلوا سمسياط ثم نازلوا مليطة وقاتلهم أهلها فانهزموا وقتـل بطريـق مـن بطارقتهـم

  وفي سنة ثلـاث وستين

استولى الروم على قلعة الصقالبة وكانت ثغراً لطرسـوس وتسمَّـى قلعـة كَرْكَـرَةَ فـرد المعتمـد ولايـة ثـغْر طرسـوس لابـن طولـون‏.‏ وكـان أحمـد بـن طولون قد خطب ولايتها من الموفَّق يريد أن يجعلها ركاباً لجهاده لخبرته بأحوالها‏.‏ وكان يردد الغزو من طرسوس إلى بلاد الروم قبل ولاية مِصْرَ فلم يُجِبْه الموفّق وولّى عليها المُوَفَّق محمد بن هارون الثعلبـي واعترضه السَراة أصحاب مساور وهو مسافر في دجْلةَ فقتلوه فولّى مكانه أماجور بن أولغ بن طُرخان من التُرْكِ فسار إليها وكان غِرّاً جاهلاً فأساء السيرة ومنع أقران أهل كركره ميرتهـم وكتبـوا إلـى أهل طرسوس يشكون فجمعوا لهم خمسة عشر ألف دينار فأخذها أماجور لنفسه وأبطأ على أهل القلعة شأنها‏.‏ فنزلوا عنها وأعطوها الروم وكثر أسف أهل طرسوس لذلـك بمـا كانـت ثغرَهُـم وعينـاً لهـم علـى العدوّ وبلغ ذلك المعتمَدُ لأحمد بن طولون بولايتها وفوّض إليهم أمر الثغور فولِيَها واستعمل فيها مَن يحفظ الثغر ويقيم الجِهاد وقارن ذلك وفاة أماجور عامل دمشق وملك ابن طولون الشام جميعها كما ذكرناه قبل‏.‏

  وفي سنة أربـع وستّيـن

غـزا بالصائفـة عبـد اللـه بـن رشيـد بـن كـاوُس فـي أربعيـن ألفـاً مـن أهـل الثغـور الشامية فأثخن فيهم وغنم ورجع‏.‏ فلما رحل عن البَدْبَدون خرج عليه بطريق سلوقية وقرة كوكب وحرسية وأحاطوا بالمسلمين فاستمات المسلمون واستَلْحَمَهم الروم بالقتل ونجا فلُّهم إلى الثغـر وأسـر عبـد اللَّـه بـن كـاوس وحمـل إلـى القُسْطَنْطِيييـةِ

  وفي سنة خمس وستين

خرج خمسة من بطارقـة الـروم إلىِ أدَنة فقتلوا وأسروا والي الثغور أوخرد فعزل عنها وأقام مرابطاً‏.‏ وبعث ملك الروم بعبد اللَه بـن كـاوس ومَـن معـه مـن الأسـرى إلـى أحمـد بـن طولـون وأهـدى إليـه عـدة مصاحف‏.‏

  وفي سنة سـت وستيـن

لقـي أسطـول المسلميـن أسطـول الـروم عنـد صقليـة فظفـر الـروم بهـم ولحـق مَن سَلِـمَ منهـم بصقليـة وفيهـا خرجـت الروم على ديار ربيعَةَ واستنفر الناس ففرّوا ولم يطيقوا دخول الدرب لشدة البرد فيها‏.‏ وغزا عامل ابن طولون على الغور الشامِية فـي ثلثمائـة مـن أهـل طرسـوس واعترضهـم أربعـة آلـاف مـن الـروم مـن بلاد هِرقل فنال المسلمون منهم أعظم النَيل‏.‏

  وفي سنة ثمانٍ وستين

خرج ملك الروم‏.‏ وفيها غزا بالصائفة خَلفُ الفَرغانيّ عامل ابن طولون على الثغور الشامِية فأثخن ورجع‏.‏

  وفي سنة سبعيـن

زحـف الـروم فـي مائـة ألـف ونزلـوا قلميـة علـى ستـة أميال من طرسوس فخرج إليهم بازيار فهزمهم وقتل منهم سبعين ألفاً وجماعة من البطارقة وقتل مقدَّمهم بطريق البطارقة وغنم منهـم سبـع صلبـان ذهبـاً وفِضَّـةً وكـان أعظمهـا مكلَّـلاً بالجواهر‏.‏ وغنم خمسة عشر ألف دابّة ومن السروج والسيوف مثل ذلك وأربع كـراسٍ مـن ذهب ومائتين من فِضة وعشرين علماً من الديباج وآنية كثيرة‏.‏

  وفي سنة ثلاث وسبعين

غزا بالصائفة بازيار وتوغَّل في أرض الروم وقتل وغنم وأسر وسبى وعاد إلى طرسوس‏.‏

  وفي سنة ثمانٍ وسبعين

دخل أحمد الجُعفي طرسوس وغزا مع بازيار بالصائفة ونازلوا إسكندا فأصيب بازيار عليها بحجر منجنيق فرجع ومات في طريقه ودُفِنَ بطرسوس‏.‏ الولايات في النواحي الولايات بالنواحي أيام المعتز كانت الفتنة قد ملأت نواحي الدولة من أطرافها وأوساطها واستولى بنو سامان على ما وراء النهر والصفّار على سجستان وكرمان وملك فارسَ من يد عمال الخليفة وانتزع خراسان من بنـي طاهـر وكلهـم مـع ذلـك يقيمـون دعـوة الخليفـة‏.‏ وغلب الحسن بن زيد على طبرستان وجرحان مُنازعـاً بالدعـوة ومحاربـاً بالديلـم لابـن سامـان والصفّـار وعساكـر الخليفـة بأصبهـان واستولى صاحـب الزِنْج على البصرة والأبَلّة إلى واسط وكور دجلة منازعاً للدعوة ومُشاققاً وأضرم تلك النواحـي فتنـة‏.‏ ولـم يـزل الموفّـق فـي محاربتـه حتى حسم علَّته وقطع أثره واضطرمت بلاد الموصل والجزيـرة فتنةً بخوارج السراةِ وبالقرب من بني شَيْبان وتغلْب بالأكراد واستولى ابن طولون على مصر والشام مقيماً لدعوة الخلافة العباسية وابن الأغلب بإفريقية كذلك‏.‏ وأما المغرب الأقصى والأندلس فاقتطعا عن المملكة العبّاسيّة منذ أزمان كما قلنا ولم يكن لِلْمُعتَمَدِ مدة خلافته كلها حكم ولا أمر ونهي إنما كان مغلباً لأخيه الموفق وتحت استبداده ولم يكـن لهمـا جميعـاً كبيـر ولايـة فـي النواحـي باستيـلاء مَن استولى عليها ممّن ذكرناه إلا بعض الأجناس فلنذكـر مـا وصـل إلينـا مـن هذه الولايات أيام المعتمد فلأول ولايته استوزر عُبَيْدَ الله بن يحيى بن خاقـان وبعـث جعلـان لحرب الزنج بالبصرة فكان أمره معهم كما مرّ‏.‏ ثم ولّي عيسى ابن الشيخ مـن بنـي شيبـان علـى دمشـق فاستأثـر بهـا ومنـع الخـراج وجاءه حسين الخادم من بغداد يطلب المال فاعتـذر بأنـه أنفقـه علـى الجنـد فكتـب لـه المعتمـد عهـده فـي أرمينيَّة ليقيم بها دعوته وقلّد أماجور دمشـق وأعمالهـا فسـار إليهـا وأنفـذ عيسى ابن الشيخ ابنه منصوراً لقتال أماجور في عشرين ألفاً فانهزموا وقتل منصور وسار عيسى إلى أرمينية على طريق الساحل ودخل أماجور دمشق‏.‏