فصل: فتنة صاحب خوزستان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  حروب المقتفي مع أهل النواحي

كان سنقر الهمذاني صاحب اللحف وكان في هـذه الفتنـة قـد نهـب سـواد بغـداد وطريـق خراسان فسار المقتفي لحربه في جمادى سنة ثلاث وخمسين وضمن له الأمير خطلو برس إصلاحـه فسـار إليـه خالـه على أن يشرك المقتفي معه في بلد اللحف الأمير أزغش المسترشدي فأقطعها لهمـا جميعـاً ورجـع‏.‏ ثـم عـاد سنقـر علـى أزغـش وأخرجـه وانفـرد ببلـده وخطـب للسلطـان محمـد فسـار إليـه خطلـو بـرس من بغداد في العساكر وهزمه وملك اللحف وسار سنقر إلى قلعة الماهكي للأمير قايماز العميدي ونزلها في أربعمائة ألف فارس‏.‏ ثم سار إليه سنقر سنة أربع وخمسين فهزمه ورجع إلى بغداد فخرج المقتفي إلى النعمانية وبعـث العساكر مع ترشك فهرب سنقر في الجبال ونهب ترشك مخلفه وحاصر قلعة الماهكي‏.‏ ثم عاد إلى البندنجين وبعث بالخبر إلى بغداد ولحق سنقر بملك شاه فأمده بخمسمائة فارس وبعـث ترشـك إلـى المقتفـي فـي المـدد فأمده وبعث إليه سنقر في الإصلاح فحبس رسوله وسار إليـه فهزمـه واستبـاح عسكـره ونجـا سنقـر جريحـاً إلـى بلـاد العجـم فأقام بها‏.‏ ثم جاء بها سنة أربع وخمسيـن إلـى بغـداد وألقـى نفسـه تحـت التـاج فرضـي عنه المقتفي وأذن له في دخول دار الخلافة‏.‏ ثـم زحـف إلـى قايمـاز السلطـان فـي ناحية بادرايا سنة ثلاث وخمسين فهزمه وقتله وبعث المقتفي عساكره لقتال شملة فلحق بملك شاه‏.‏

  وفاة السلطان محمد بن محمود وملك عمه سلطان شاه

ثم أرسلان بن طغرل ثم إن السلطان محمد بن محمود بن ملك شاه لما رجع عن حصار بغداد أصابه مرض السل وطـال بـه وتوفـي بهمـذان فـي ذي الحجـة سنـة أربـع وخمسيـن لسبـع سنيـن ونصـف مـن ملكـه وكان له ولد فيئس من طاعة الناس له ودفعه لأقسنقر الأحمديلي وأوصاه عليه فرحل به إلى مراغة‏.‏ ولمـا مـات السلطـان محمـد اختلـف الأمـر فيمـن يولونه ومال الأكثر إلى سليمان شاه عمه وطائفة إلى ملك شاه أخيه وطائفة إلى أرسلان ابن السلطان طغرل الذي مع الدكز ببلاد أران‏.‏ وبـادر ملكشاه أخوه فسار من خوزستان ومعه شملة التركماني ودكلا صاحب فارس ورحـل إلـى أصبهـان فأطاعه ابن الخجندي وأنفق عليه الأموال‏.‏ وبعث إلى عساكر همذان في الطاعة فلم يجيبوه وأرسل أكابر الأمراء من همذان إلى قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل في سليمان شاه المحبوس عنده ليولوه عليهم وذلك أول سنة خمس وخمسين فأطلقه على أن يكون أتابكاً له وجمال الدين وزيره وزيراً وجهزه بجهاز السلطنة وبعث معه نائبـه زيـن الديـن علـي كوجـك فـي عسكـر الموصـل‏.‏ فلما قاربوا بلاد الجبل وأقبلت العساكر من كل جهة على السلطان سليمـان ارتـاب كوجـك لذلـك وعـاد إلى الموصل فلم ينتظم أمر سليمان ودخل همذان وبايعوا له وخطب له ببغداد‏.‏ وكثرت جموع ملك شاه بأصبهان وبعث إلى بغداد في الخطبة وأن يقطع خطبة عمه ويراجع القواعد بالعراق إلى ما كانت فوضع عليه الوزير عون الدين بن هبيرة جارية بعث بها إليه فسمته فمات سنة خمس وخمسين فأخرج أهـل أصبهـان أصحابـه وخطبـوا لسليمـان شـاه‏.‏ وعاد شملة إلى خراسان فملك كل ما كان ملك شاه تغلب عليه منها‏.‏ واستقر سليمان شاه بتلك البلاد وشغل باللهو والسكر ومنادمة الصفاعين وفوض الأمور إلى شرف الدين دواداره من مشايخ السلجوقية كان ذا دين وعقل وحسن تربية فشكا الأمراء إليه فدخل عليه وعذله وهو سكـران فأمـر الصفاعيـن بالـرد عليـه وخـرج مغضبـاً‏.‏ وصحـا سليمـان فاستـدرك أمـره بالاعتذار فأظهر القبول واجتنب الحضور عنده‏.‏ وبعث سليمان إلـى ابنايـخ صاحـب الـري يستقدمه فاعتذر بالمرض إلى أن يفيق‏.‏ ونمـي الخبـر إلى كربازة الخادم فعمل دعوة عظيمة حضرها السلطان والأمراء وقبض عليه وعلى وزيره أبي القاسم محمود بن عبد العزيز الحامدي وعلى أصحابه في شوال من سنة ست وخمسين فقتل وزيره وخواصه وحبسه أياماً‏.‏ وخرج ابنايخ صاحب الري ونهب البلاد وحاصر همذان وبعث كردبار إلى الدكز يستدعيه ليبايع لربيبه أرسلان شاه بن طغرل فسار في عشرين ألف فارس ودخل همذان وخطـب لربيبه أرسلان شاه بن طغرل بالسلطنة وجعل الدكز أتابكاً له وأخاه من أمه البهلول ابن الدكز حاجبـاً‏.‏ وبعـث إلـى المقتفـي فـي الخطبـة وأن تعاد الأمور إلى ما كانت عليه أيام السلطان مسعود فطـرد رسولـه وعاد إليه على أقبح حالة‏.‏ وبعث إلى ابنايخ صاحب الري فحالفه على الاتفاق وصاهره في ابنته على البهلول وجاءت إليه بهمذان وكان الدكز من مماليك السلطان مسعود وأقطعه أران وبعض أذربيجان ولـم يحضـر شيئـاً مـن الفتنـة وتـزوج أم أرسلـان شـاه وزوجـه طغرل فولدت له محمد البهلوان وعثمان كزل أرسلان‏.‏ ثم بعث الدكز إلى أقسنقر الأحمديلي صاحـب مراغـة فـي الطاعـة لأرسلـان شـاه ربيبـه فأمتنـع وهددهـم بالبيعة للطفل الذي عنده محمود بـن ملـك شـاه‏.‏ وقـد كـان الوزيـر ابـن هبيـرة أطمعـه في الخطبة لذلك تطفل فيما بينهم فجهز الدكز العساكر مع ابنه البهلوان وسار إلى مراغة واستمد أقسنقر ساهرمز صاحب خلاط فأمـده بالعساكر والتقى أقسنقر والبهلوان فانهزم البهلوان وعاد إلى همذان‏.‏ وعاد أقسنقر إلى مراغة ظافراً‏.‏ وكان ملك شاه بن محمود لما مات بأصبهان مسموماً كما ذكرنا لحق طائفة من أصحابه ببلاد فارس ومعه ابنه محمود فقبض عليه صاحب فارس زنكي بن دكلا السلفري بقلعة اصطخر‏.‏ ولما مات بعث الدكز إلى بغداد في الخطبة لربيبه أرسلان وشرع الوزير عون الدين أبو المظفر يحيـى بـن هبيـرة فـي التصريـف بينهـم بعـت ابـن دكـلا وأطمعـه فـي الخطبـة لمحمود بن ملك شاه الذي عنـده أن ظفر بالدكز فأطلقه ابن دكلا وبايع له وضرب الطبل على بابه خمس نوب وبعث إلى ابنايخ صاحب الري فوافقه وسار إليه في عشرة آلاف‏.‏ وبعث إليه أقسنقر الأحمديلي وجمع الدكز العساكر وسار إلى أصبهان يريد بلاد فارس‏.‏ وبعث إلى صاحبها زنكي بن دكلا في الطاعـة لربيبـه أرسلـان فأبـى وقـال إن المقتفي أقطعني بلاده وأنا سائر إليه‏.‏ واستمد المقتفي وابن هبيـرة فواعـدوه وكاتبـوا الأمـراء الذيـن مـع الدكـز بالتوبيـخ علـى طاعتـه والانحراف عنه إلى زنكي بن دكلا صاحب فارس وابنايخ صاحب الري وبدأ الدكز بقصد ابنايخ‏.‏ ثم بلغه أن زنكي بن دكلا نهب سميرم ونواحيها فبعث عسكراً نحواً من عشرة آلاف فارس لحفظها فلقيهم زنكي فهزمهـم فبعـث الدكـز إلـى عساكر أذربيجان فجاء بها ابنه كزل أرسلان‏.‏ وبعث زنكي بن دكلا العساكر إلى ابنايخ ولم يحضر بنفسه خوفاً على بلاد شملة من صاحب خوزستان‏.‏ ثم التقى الدكـز وابنايـخ فـي شعبـان سنـة سـت وخمسين فانهزم ابنايخ واستبيح عسكره وحاصره الدكز ثم صالحه ورجع إلى همذان‏.‏

  وفاة المقتفي وخلافة المستنجد

وهـو أول الخلفـاء المستبديـن علـى أمرهـم من بني العباس عند تراجع الدولة وضيق نطاقها ما بين الموصل وواسط والبصرة وحلوان ثـم توفـي المقتفـي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر في ربيع الأول سنة خمس وخمسين لأربع وعشرين سنة وأربعة أشهر من خلافته وهو أول من استبد بالعراق منفرداً عن سلطان يكـون معـه مـن أول أيـام الديلم فحكم على عسكره وأصحابه فيما بقي لمملكتهم من البلدان بعد استبـداد الملـوك فـي الأعمـال والنواحـي‏.‏ ولمـا اشتد مرضه تطاول كل من أم ولده إلى ولاية ابنها‏.‏ وكانت أم المستنجد تخاف عليه وأم أخيه علي تروم ولاية أبنها واعتزمت على قتل المستنجد واستدعته لزيارة أبيه وقد جمعت جواريها وآتت كل واحدة منهن سكيناً لقتله وأمسكت هي وابنهـا سيفيـن وبلـغ الخبـر إلـى يوسـف المستنجـد فأحضـر إستـادار أبيه وجماعة من الفراشين وأفرغ السلاح ودخل معهم الدار وثار به الجواري فضرب إحداهن وأمكنها فهربوا وقبض على أخيه علـى وأمـه فحبسهـا وقسـم الجـواري بيـن القتـل والتغريق حتى إذا توفى المقتفي جلس للبيعة فبايعه أقاربه أولهم عمه أبو طالب ثم الوزير عون الدين بن هبيرة وقاضي القضاة وأرباب الدولة والعلماء وخطب لـه‏.‏ وأقـر ابـن هبيـرة علـى الـوزارة وأصحـاب الولايـات علـى ولايتهـم وأزال المكوس والضرائب وقرب رئيس الرؤسـاء وكـان استـادار فرفـع منزلتـه عبـد الواحـد المقتفـي وبعـث عـن الأميـر ترشـك سنة ست وخمسين من بلد اللحف وكان مقتطعاً بها فاستدعاه لقتال جمـع مـن التركمـان أفسـدوا فـي نواحـي البندنجيـن فامتنـع من المجيء وقال‏:‏ يأتيني العسكر وأنا أقاتل بهـم فبعـث المستنجـد العساكـر مـع جماعـة مـن الأمـراء فقتلوه وبعثوا برأسه إلى بغداد‏.‏ ثم استولى بعـد ذلـك علـى قلعـة الماهكـي من يد مولى سنقر الهمذاني ولاه عليها سنقر وضعف عن مقاومة التركمان والأكراد حولها فاستنزله المستنجد عنهـا بخمسـة عشـر ألـف دينـار وأقـام ببغـداد‏.‏ وكانت هذه القلعة أيام المقتدر بأيدي التركمان والأكراد‏.‏ اجتمعت خفاجة سنة ست وخمسين إلى الحلة والكوفة وطالبوا برسومهم من الطعام والتمر وكـان مقطـع الكوفـة أرغـش وشحنـة الحلة قيصر وهما من مماليك المستنجد فمنعوهما فعاثوا في تلك البلاد والنواحي فخرجوا إليهم في أثرهم واتبعوهم إلى الرحبة فطلبوا الصلح فلم يجبهم أرغـش ولا قيصـر فقاتلوهـم فانهزمـت العساكر وقتل قيصر وخرج أرغش ودخل الرحبة فاستأمـن لـه شحنتهـا وبعثـوه إلـى بغـداد‏.‏ ومـات أكثـر النـاس عطشاً في البرية وتجهز عون الدين بن هبيـرة فـي العساكـر لطلـب خفاجة فدخلوا البرية ورجع وانتهت خفاجة إلى البصرة وبعثوا بالعدو وسألوا الصلح فأجيبوا‏.‏

  إجلاء بني أسد من العراق

كـان فـي نفـس المستنجـد باللـه مـن بنـي أسـد أهـل الحلـة شـيء لفسادهـم ومساعدتهـم السلطـان محمد فـي الحصـار فأمـر يزدن بن قماج بإجلائهم من البلاد وكانوا منبسطين في البطائح فجمع العساكر وأرسـل إلـى ابـن معروف فقدم السفن وهو بأرض البصرة فجاءه في جموع وحاصرهم وطاولهم فبعـث المستنجـد يعاتبـه ويتهمـه بالتشيـع فجـز هـو وابـن معـروف فـي قتالهـم وسـد مسالكهـم فـي الماء فاستسلموا وقتل منهم أربعة آلاف ونودي عليهم بالملا من الحلة فتفرقوا في البلاد ولم يبق الفتنة بواسط وما جرت إليه كان مقتطـع البصـرة منكبـرس مـن موالـي المستنجـد وقتلـه سنـة تسـع وخمسيـن وولـى مكانـه كمستكيـن وكـان ابـن سنكـاه ابن أخي شملة صاحب خوزستان فانتهز الفرصة في البصرة ونهب قراها وأمر كمستكين بقتاله فعجز عن إقامة العسكر وأصعد ابن سنكاه إلى واسط ونهب سوادها‏.‏ وكان مقتطعها خطلو برس فجمع الجموع وخرج لقتاله واستمال ابن سنكاه الأمراء الذين معه فخذلوه وانهزم وقتله ابن سنكاه سنة إحدى وستين ثم قصد البصرة سنة اثنتين وستين ونهب جهتها الشرقية وخرج إليه كمستكين وواقعـه وسـار ابـن سنكـاه إلـى واسـط وخافه الناس ولم يصل إليها‏.‏

  مسير شملة إلى العراق

سـار شملـة صاحـب خوزستـان إلـى العـراق سنة اثنتين وستين وانتهى إلى قلعة الماهكي وطلب من المستنجد إقطاع البلاد واشتط في الطلب فبعث المستنجـد العساكـر لمنعـه وكتـب إليـه يحـذره عاقبة الخلاف فاعتذر بأن الدكز وربيبه السلطان أرسلان شاه أقطعا الملك الذي عنده وهو ابن ملك شاه بلاد البصرة وواسط والحلة وعرض للتوقيع بذلك وقال أنا أقنع بالثلث منه فأمـر المستنجـد حينئـذ بلعنـه وأنـه مـن الخـوارج وتعبـت العساكـر إلـى أرغمـش المسترشـدي بالنعمانيـة وإلـى شـرف الديـن أبـي جعفـر البلدي ناظر واسط ليجتمعا على قتال شملة وكان شملة أرسـل مليـح ابـن أخيـه فـي عسكـر لقتـال بعـض الأكراد فركب إليه أرغمش وأسره وبعض أصحابه وبعـث إلـى بغـداد وطلب شملة الصلح فلم يجب إليه‏.‏ ثم مات أرغمش من سقطة سقطها عن فرسه وبقي العسكر مقيماً ورجع شملة إلى بلاده لأربعة أشهر من سفره‏.‏

  وفاة الوزير يحيى

ثـم توفـي الوزيـر عـون الديـن يحيـى بـن محمـد بـن المظفـر بن هبيرة سنة ستين وخمسمائة في جمادى الأولى وقبض المستنجد على أولاده وأهله وأقامت الوزارة بالنيابة‏.‏ ثم استوزر المستنجـد سنـة ثلاث وستين شرف الدين أبا جعفر أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن البلدي ناظر واسط وكان عضد الدين أبو الفرج بن دبيس قد تحكم في الدولة فأمره المستنجد بكف يده وأيدي أصحابه وطالب الوزير أخاه تاج الدين بحساب عمله بنهر الملك من أيام المقتفي وكذلك فعل بغيره فخافه العمال وأهل الدولة وحصل بذلك أموالاً جمة‏.‏

  وفاة المستنجد وخلافة المستضيء

كان الخليفة المستنجد قد غلـب علـى دولتـه استـاذدار عضـد الديـن أبـو الفـرج ابـن رئيـس الرؤسـاء وكـان أكبـر الأمـراء ببغـداد وكـان يرادفـه قطب الدين قايماز المظفري‏.‏ ولما ولى المستنجـد أبـا جعفـر البلـدي علـى وزارتـه غـض مـن استاذدار وعارضه في أحكامه فاستحكمت بينهمـا العداوة وتنكر المستنجد لاستاذدار وصاحبه قطب الدين فكانا يتهمان بأن ذلك بسعاية الوزيـر‏.‏ ومـرض المستنجـد سنة ست وستين وخمسمائة واشتد مرضه فتحيلا في إهلاكه يقال إنهمـا واضعـاً عليـه الطبيـب وعلم أن هلاكه في الحمام فأشار عليه بدخوله فدخله وأغلقوا عليه بابـه فمـات‏.‏ وقيـل كتـب المستنجـد إلى الوزير ابن البلدي بالقبض على استاذدار وقايماز وقتلهما وأطلعهما الوزير على كتابه فاستدعيـا يـزدن وأخـاه يتمـاش وفاوضهمـا وعرضـا عليهـم كتابـه واتفقـوا علـى قتلـه فحملـوه إلـى الحمام وأغلقوا عليه الباب وهو يصيح إلى أن مات تاسع ربيع من سنة ست وستين لإحدى عشرة سنة من خلافته‏.‏ ولما أرجف بموته قبل أن يقبض ركب الأمراء والأجناد متسلحين وغشيتهم العامة واحتفـت بهم وبعث إليه استاذدار بأنه إنما كان غشياً عرضاً وقد أفاق أمير المؤمنين وخف ما به فخشـي الوزيـر مـن دخول الجند إلى دار الخلافة فعاد إلى داره وافترق الناس‏.‏ فعند ذلك أغلق استاذدار وقايماز أبواب الدار وأحضر ابن المستنجد أبا محمد الحسن‏.‏ وبايعاه بالخلافة ولمباه المستضيء بأمر الله وشرطا عليه أن يكون عضد الدين وزيـراً وابنـه كمـال الديـن استـاذادر وقطـب قايمـاز أميـر العسكـر فأجابهـم إلـى ذلـك وبايعـه أهـل بيتـه البيعـة الخاصـة‏.‏ ثـم توفـي المستنجـد وبايعه الناس من الغد في التاج البيعة العامة وأظهر العدل وبذل الأموال وسقط في يد الوزير وندم على ما فرط واستدعي للبيعة فلما دخل قتلوه‏.‏ وقبض المستضيء على القاضي ابن مزاحـم وكان ظلوماً جائراً واستصفاه ورد الظلامات منه على أربابها وولى أبا بكر بن نصر بن العطار صاحب المخزن ولقبه ظهير الدين‏.‏

  انتقاض الدولة العلوية بمصر

وعود الدعوة العباسية إليها ولأول خلافة المستضيء كان انقراض الدولة العلوية بمصر والخطبة بهـا للمستضـيء مـن بنـي العباس في شهر المحرم فاتح سنة سبع وستين وخمسمائة قبل عاشوراء وكان آخر الخلفاء العبيدييـن بهـا العاضد لدين الله من أعقاب الحافظ لدين الله عبد المجيد وخافوا المستضيء معه ثامن خلفائهم وكان مغلباً لوزارته‏.‏ واستولى شاور منهم وثقلت وطأته عليهم فاستقدم ابن شوار من أهل الدولة من الاسكندرية وفر شاور إلى الشام مستنجداً بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي من أقسنقر وكان من مماليك السلجوقية وأمرائهم المقيمين للدعوة العباسية‏.‏ وكـان صلـاح الديـن يوسف بن نجم أيوب بن الكردي هو وأبوه نجم الدين أيوب وعمه أسد الدين شيركـوه في جماعة من الأكراد في خدمة نور الدين محمود بالشام‏.‏ فلما جاء شاور مستنجداً بعث معه هؤلاء الأمراء الأيوبية وكبيرهم أسد فأعاده إلى وزارته وقتل الضرغام ولم يوف له شاور بما ضمن له عند مسيره من الشام في نجدته‏.‏ وكان الفرنج قد ملكوا سواحل مصر والشام وزاحموا ما يليها من الأعمال وضيقوا على مصر والقاهرة إلى أن ملكوا بلبيس وأيلـه عنـد العقبـة‏.‏ واستولـوا علـى الدولـة العلويـة فـي الضرائـب والطلبات وأصبحوا مأوى لمن ينحني عن الدولـة‏.‏ وداخلهـم شـاور في مثل ذلك فارتاب به العاضد وبعث عز الدين مستصرخاً به على الفرنج في ظاهر أمره ويسرحون في ارتعاء من إباة شاور والتمكن منه فوصل لذلك وولاه العاضد وزارته وقلده ما وراء بابه فقتـل الوزيـر شـاور وحسـم داءه وكـان مهلكـه قريبـاً مـن وزارته يقال لسنة ويقال لخمسين يوماً فاستوزر العاضد مكانه صلاح الديـن ابـن أخيـه نجـم الدين فقام بالأمر وأخذ في إصلاح الأحوال وهو يعد نفسه وعمه من قبله نائباً عن نور الدين محمود بن زنكي الذي بعثه وعمه للقيام بذلك‏.‏ ولما ثبت قدمه بمصر وأزال المخالفين ضعف أمر العاضد وتحكم صلاح الدين في أموره وأقام خادمه قراقوش للولاية عليه في قصره والتحكم عليه فبعث إليه نور الدين محمود الملك العادل بالشام أن يقطع الخطبة للعاضد ويخطب للمستضيء ففعل ذلك علـى توقـع النكيـر مـن أهـل مصر‏.‏ فلما وقع ذلك ظهر منه الاغتباط وانمحت آثار الدولة العلوية وتمكنت الدولة العباسية فكان ذلك مبدأ الدولة لبني أيوب بمصـر‏.‏ ثـم ملكـوا مـن بعدهـا أعمـال نـور الديـن بالشـام واستضافـوا اليمـن وطرابلـس الغـرب واتسـع ملكهـم كمـا يذكـر في أخبارهم‏.‏ ولما خطب للمستضيء بمصر كتب له نور الدين محمود من دمشق مبشراً بذلك فضربت البشائر ببغداد وبعث بالخلع إلى نور الدين وصلاح الدين مع عماد الدين صندل مـن خـواص المقتفويـة وهـو أستـاذدار المستضـيء فجـاء إلـى نـور الديـن بدمشق وبعث الخلع إلى صلاح الدين وللخطباء بمصر وبإسلـام السـواد‏.‏ واستقـرت الدعـوة العباسيـة بمصر إلى هذا الجهد والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين‏.‏ ثم بعث نور الدين محمود إلى المستضيء رسوله القاضي كمال الدين أبا الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري قاضي بلاده يطلب التقليد لما بيده من الأعمال وهي مصر والشام والجزيرة والموصل وبما هو في طاعته كديار بكر وخلاط وبلاد الروم التي لقليـج أرسلـان وأن يقطـع صريعين ودرب هارون من بلاد سواد العراق كما كانتا لأبيه فأكرم الرسول وزاد في الإحسان خبر يزدن من أمراء المستضيء كان يزدن قد ولاه المستضيء الحلة فكانت في أعماله وكانت حمايتها لخفاجة وبني حزن منهم فجعلها يزدن لبني كعب منهم وأمرهم الغضبان فغضب بنو حزن وأغاروا عليهم على السواد وخـرج يـزدن فـي العسكـر لقتالهـم ومعه الغضبان وعشيرة بنو كعب فبينما هم ليلة يسيرون رمي الغضبان بسهم فمات فعادت العساكر إلى بغداد وأعيدت حفاظة السواد إلى بني حزن‏.‏ ثم مات يزدن سنة ثمان وستين وكانت واسط من إقطاعه فاقتطعت لأخيه ايتامش ولقب علاء الدين‏.‏

  مقتل سنكاه بن أحمد أخي شملة

قد ذكرنا في دولة المستنجد فتنة سنكاه هذا وعمه شملة صاحب خوزستان‏.‏ ثم جاء ابن سنكاه إلى قلعة الماهكي فبنى بإزائها قلعة ليتمكن بها من تلك الأعمال فبعث المستضيء العسكر من بغداد لمنعه فقاتلهم واشتد قتاله‏.‏ ثم انهزم وقتل وعلق رأسه ببغداد وهدمت القلعة‏.‏

  وفاة قايماز وهربه

قد ذكرنا شأن قطب الدين قايماز وأنه الذي بايع للمستضيء وجعلـه أميـر العسكـر وجعلـه عضد الدين أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء وزيراً‏.‏ ثم استفحل أمر قايماز وغلب على الدولة وحمل المستضيء على عزل عضد الدين أبي الفرج من الوزارة فلم يمكنه مخالفته وعزله سنة سبـع وستين فأقام معزولاً‏.‏ وأراد الخليفة سنة تسع وتسعين أن يعيده إلى الوزارة فمنعه قطب الدين من ذلك وركب فأغلق المستضيء أبواب داره مما يلي بغداد وبعث إلى قايماز ولاطفه بالرجوع فيما هم من وزارة عضد الدين فقال لا بد من إخراجه من بغداد فاستجار برباط شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيـل فأجـاره واستطـال قايمـاز علـى الدولـة وأصهر على علاء الدين يتامش في أخته فزوجها منه وحملوا الدولة جميعاً‏.‏ ثم سخط قايماز ظهير الدين بن العطار صاحب المخزن وكان خاصاً بالخليفة وطلبه فهرب فأحرق داره وجمع الأمراء فاستحلفهم على المظاهرة وأن يقصدوا دار المستضيء ليخرجوا منها ابن العطار فقصد المستضيء على سطح داره وخدامه يستغيثون ونادى في العامـة بطلـب قايماز ونهب داره فهـرب مـن ظهـر بيتـه ونهبـت داره وأخـذ منهـا مـا لا يحصـى مـن الأمـوال‏.‏ واقتتل العامة على ولحق قايماز بالحلة وتبعه الأمراء وبعث إليه المستضيء شيخ الشيوخ عبد الرحيم ليسير عن الحلة إلى الموصل تخوفاً من عوده إلى بغداد فيعود استيلاؤه لمحبة العامة فيه وطاعتهـم لـه فسـار إلـى الموصـل وأصابـه ومـن معـه فـي الطريـق عطـش فهلك الكثير منهم وذلك في ذي الحجـة من سنة سبعين‏.‏ وأقام صهره علاء الدين يتامش بالموصل‏.‏ ثم استأذن الخليفة في القدوم إلى بغداد فقدم وأقام بها عاطلاً بغير إقطاع وهو الذي حمل قايماز على ما كان منه وولى الخليفة أستاذ داره سنجر المقتفوي ثم عزله سنة إحدى وسبعين وولى مكانه أبا الفضل هبة الله بن علي بن الصاحب‏.‏

  فتنة صاحب خوزستان

قد ذكرنا أن ملك شاه بن محمود بن السلطان محمد استقر بخوزستان وذكرنا فتنة شملة مع الخلفـاء‏.‏ ثـم مـات شملـة سنة سبعين وملك ابنه مكانه‏.‏ ثم مات ملك شاه بن محمود وبقي ابنه بخوزستـان فجـاء سنـة اثنتيـن وسبعيـن إلـى العـراق وخـرج إلـى البندنجيـن وعاث في الناس‏.‏ وخرج الوزيـر عضـد الديـن أبـو الفـرج فـي العساكـر ووصـل عسكـر الحلـة وواسـط مـع طاش تكين أمير الحاج وغـز علـي وسـاروا للقاء العدو وكان معه جموع من التركمان فأجفلوا ونهبتهم عساكر بغداد‏.‏ ثم ردهـم الملـك ابـن ملـك شـاه وأوقعـوا بالعسكـر أيامـاً ثم مضى الملك إلى مكانه وعادت العساكر إلى بغداد‏.‏ قد ذكرنا أخبار الوزير عضد الدين أبي الفرج محمد بن عبد الله بن هبة الله بن المظفر بن رئيـس الرؤسـاء أبـي القاسـم بن المسلمة كان أبوه أستاذ دار المقتفي‏.‏ ولما مات ولي ابنه مكانه‏.‏ ولمـا مات المقتفي أقره المستنجد ورفع قدره ثم استوزره المستضيء وكان بينه وبين قايماز ما قدمناه وأعاد المستضيء للوزارة فلما كانت سنة ثلاث وسبعين استأذن المستضيء في الحج فأذن له وعبر دجلة فسافر في موكب عظيم من أرباب المناصب واعترضه متظلم ينـادي بظلامته ثم طعنه فسقط وجاء ابن المعوذ صاحب الباب ليكشف خبره فطعن الآخر وحملا إلـى بيتهمـا فماتـا‏.‏ وولـي الوزيـر ظهيـر الديـن أبـو منصـور بـن نصـر ويعـرف بابـن العطـار فاستولـى على الدولة وتحكم فيها‏.‏

  وفاة المستضيء وخلافة الناصر

ثـم توفـي المستضـيء بأمـر الله أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد في ذي القعدة سنة خمس وسبعين لتسع سنين ونصف من خلافته وقام ظهير الدين العطار في البيعة لابنه أبي العباس أحمـد ولقبـه الناصـر لديـن اللـه فقـام بخلافتـه وقبـض علـى ظهيـر الديـن بـن العطار وحبسه واستصفاه‏.‏ ثم أخرجه من عشر ذي القعدة من محبسه ميتاً‏.‏ وفطن به العامة‏.‏ فتناوله العامة وبعثوا به وتحكم في الدولة أستاذ دار مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب وكان تولى أخذ البيعة للناصر مع ابن العطار وبعث الرسل إلى الآفاق لأخذ البيعة وسار صدر الدين شيخ الشيـوخ إلـى البهلـوان صاحـب همـذان وأصبهـان والـري فامتنـع مـن البيعـة فأغلظ له صدر الدين في القـول‏.‏ وحـرض أصحابـه علـى نقـض طاعتـه إن لـم يبايـع فاضطـر إلـى البيعـة والخطبـة‏.‏ ثـم قبـض سنـة ثلاث وثمانين على أستاذ دار أبي الفضل ابن الصاحب وقتله من أجل تحكمه وأخذ له أموالاً عظيمة‏.‏ وكان الساعي فيه عند الناصر عبيد الله بن يونس من أصحابه وصنائعه فلم يزل يسعى فيه عند الناصر حتى أمر بقتله واستوزر ابن يونس هذا ولقبه جلال الدين وكنيته أبو المظفر ومشى أرباب الدولة في خدمته حتى قاضي القضاة‏.‏ هدم دار السلطنة ببغداد وانقراض ملوك السلجوقية قد ذكرنا فيما تقدم ملك أرسلان شاه بن طغرل ربيب الدكز واستيلاء الدكز عليه وحروبه مـع ابنايـخ صاحـب الـري‏.‏ ثـم قتلـه سنـة أربـع وستيـن واستولـى علـى الـري‏.‏ ثـم توفي الدكز الأتابك بهمـذان سنـة ثمـان وستين وقام مكانه ابنه محمد البهلوان وبقي أخوه السلطان أرسلان بن طغرل فـي كفالتـه‏.‏ ثـم مـات سنـة ثلـاث وستيـن ونصـب البهلـوان مكانـه ابنـه طغـرل‏.‏ ثم توفي البهلوان سنة اثنتيـن وثمانيـن وفـي مملكتـه همـذان والـري وأصبهـان وأذربيجـان وأرانيـة وغيرهـا وفـي كفالتـه السلطان طغرل بن أرسلان‏.‏ ولما مات البهلوان قام مكانه أخوه كزل أرسلان ويسمى عثمان فاستبد طغـرل وخـرج عـن الكفالـة ولحق به جماعة من الأمراء والجند واستولى على بعض البلاد ووقعت بينـه وبيـن كـزل حـروب‏.‏ ثـم قـوي أمـر طغرل وكثر جمعه وبعث كزل إلى الناصر يحذره من طغرل ويستنجده ويبذل الطاعة على ما يختاره المستضيء رسوله فأمر بعمارة دار السلطنة ليسكنهـا‏.‏ وكانت ولايتهم ببغداد والعراق قد انقطعت منذ أيام المقتفي فأكرم رسول كزل وعده بالنجدة وانصرف رسول طغرل بغير حرب‏.‏ وأمر الناصر بهدم دار السلطنة ببغـداد فمحـا أثرهـا‏.‏ ثـم بعـث الناصـر وزيـره جلـال الديـن أبا المظفر عبيد الله بن يونس في العساكر لإنجاد كزل ومدافعـة طغـرل عـن البلـاد فسـار لذلـك فـي صفـر لسنـة أربـع وثمانيـن واعترضهـم طغرل على همذان قبل اجتماعهم بكزل واقتتلوا ثامن ربيع وانهزمت عساكر بغداد وأسروا الوزير‏.‏ ثم استولى كزل على طغرل وحبسه ببعض القلاع ودانت له البلاد وخطب لنفسه بالسلطنة وضرب النوب الخمس‏.‏ ثم قتل على فراشه سنة سبع وثمانين ولم يعلم قاتله‏.‏

  استيلاء الناصر على النواحي

توفي الأمير عيسى صاحب تكريت سنة خمس ثمانين قتله إخوته فبعـث الناصـر العساكـر فحصروها حتى فتحوها على الأمان وجاؤوا بإخوة عيسى إلى بغداد فسكنوها وأقطع لهم السلطـان‏.‏ ثـم بعـث سنـة خمـس وثمانيـن عساكـره إلـى مدينـة غانـة فحاصروهـا مـدة وقاتلوها طويلاً‏.‏ ثم جهدهم الحصار فنزلوا عنها على الأمان واقطاع عيونها ووفى لهم الناصر بذلك‏.‏ نهب العرب البصرة كانت البصرة في ولاية طغرل مملوك الناصـر كـان مقطعهـا واستنـاب بهـا محمـد بـن إسماعيـل واجتمـع بنـو عامـر بـن صعصعـة سنة ثمان وثمانين وأميرهم عميرة قصدوا البصرة للنهب والعيث‏.‏ وخـرج إليهـم محمـد بـن إسماعيـل في صفر فقاتلهم سائر يومه‏.‏ ثم ثلموا في الليل ثلماً في السور ودخلوا البلد وعاثوا فيها قتلاً ونهباً‏.‏ ثم بلغ بني عامر أن خفاجة والمشفق ساروا لقتالهـم فرحلـوا إليهـم وقاتلوهـم فهزموهم وغنموا أموالهم وعادوا إلى البصرة وقد جمع الأمير أهل السواد فلم يقوموا للعرب وانهزموا ودخل العرب البصرة فنهبوها ورحلوا عنها‏.‏

  استيلاء الناصر على خوزستان ثم أصبهان والري وهمذان

كـان الناصـر قـد استنـاب فـي الـوزارة بعد أسر ابن يونس مؤيد الدين أبا عبد اله محمد بن علي المعـروف بابـن القصاب وكان قد ولي الأعمال في خوزستان وغيرها وله فيها الأصحاب‏.‏ ولما توفي صاحبها شملة واختلف أولاده راسله بعضهم في ذلك فطلب من الناصر أن يرسل معه العساكـر ليملكهـا فأجابـه وخـرج فـي العساكـر سنة إحدى وتسعين وحارب أهل خوزستان فملك أولاً مدينـة تستر‏.‏ ثم ملك سائر الحصون والقلاع وأخذ بني شملة ملوكها فبعث بهم إلى بغداد وولى الناصر على خوزستان طاش تكين مجير الدين أمير الحاج‏.‏ ثـم سار الوزير إلى جهات الري سنة إحدى وتسعين وجاءه قطلغ ابنايخ بن البهلوان وقد غلبه خـوارزم شاه وهزمه عند زنجان وملك الري من يده‏.‏ وجاء قطلغ إلى الوزير مؤيد ورحل معه إلى همذان وبها ابن خوارزم شاه في العساكر فأجفل عنها إلى الري وملك الوزير همذان ورحل في اتباعهم وملك كل بلد مروا بها إلى الري‏.‏ وأجفل عسكر خوارزم إلى دامغان وبسطـام وجرجـان‏.‏ ورجـع الوزيـر إلـى الـري فأقـام بهـا‏.‏ ثـم انتقـض قطلـغ بـن البهلـوان وطمـع في الملك فامتنع بالري وحاصره الوزير فخرج عنها إلى مدينة آوة فمنعهم الوزير منها ورحل الوزير في أثرهم من الري إلى همذان وبلغه أن قطلغ قصد مدينة الكرج فسار إليه وقاتله وهزمه ورجع إلـى همـذان فجـاءه رسـول خـوارزم شاه محمد تكش بالنكير على الوزير في أخذ البلاد ويطلب إعادتهـا فلـم يجبـه الوزيـر إلـى ذلـك فسار خوارزم شاه إلى همذان وقد توفي الوزير ابن القصاب خلـال ذلـك فـي شعبـان سنـة اثنتيـن وتسعيـن فقاتـل العساكـر التي كانت معه بهمذان وهزمهم وملك همذان وترك ولده بأصبهان وكانوا يبغضون الخوارزمية فبعث صدر الدين الخجندي رئيس الشافعية إلى الديوان ببغداد يستدعي العساكر لملكها فجهز الناصر العساكر مع سيف الدين طغرل يقطع بلد اللحف من العراق وسار فوصل أصبهان ونزل ظاهر البلد وفارقها عسكر الخوارزمية فملكها طغرل وأقام فيها الناصر وكان من مماليك البهلوان‏.‏ ولما رجع خوارزم شاه إلى خراسان اجتمعوا واستولوا على الري وقدموا عليهم كركجة من أعيانهم وساروا إلى أصبهان فوجـدوا بهـا عسكـر الناصـر وقـد فارقهـا عسكـر الخوارزميـة فملكوا أصبهان وبعث كركجة إلى بغداد بالطاعة وأن يكون له الري وساوة وقم وقاشان‏.‏ ويكون للناصر أصبهان وهمذان وزنجان وقزوين فكتب له بما طلب وقوي أمره‏.‏ ثـم وصـل إلـى بغـداد أبـو الهيجـاء السميـن مـن أكابـر أمـراء بنـي أيـوب وكـان في إقطاعه بيت المقدس وأعمالـه فلمـا ملـك العزيـز والعـادل مدينة دمشق من الأفضل بن صلاح الدين عزلوا أبا الهيجاء عن القـدس فسـار إلـى بغـداد فأكرمـه الناصـر وبعثـه بالعساكـر إلى همذان سنة ثلاث وتسعين فلقي بها أزبـك بـن البهلـوان وأميـر علم وابنه قطلمش وقد كاتبوا الناصر بالطاعة فداخل أمير علم وقبض علـى أزبـك وابـن قطلمـش بموافقتـه وأنكر الناصر ذلك على أبي الهيجاء وأمره بإطلاقهم‏.‏ وبعث إليهم بالخلع فلم يأمنوا وفارقوا أبا الهيجاء فخشي من الناصر ودخل إلى اربل لأنه كان من أكرادها ومات قبل وصوله إليها‏.‏ وأقام كركجة ببلاد الجبل واصطنع رفيقه أيدغمش واستخلصه ووثق به فاصطنع أيدغمـش المماليك وانتقض عليه آخر المائة السادسة وحاربه فقتله واستولى على البلاد‏.‏ ونصب أزبك بـن البهلـوان للملـك وكفلـه‏.‏ ثـم توفـي طـاش تكيـن أميـر خوزستـان سنـة اثنتيـن وستمائـة وولى الناصر مكانه صهره سنجر وهو من مواليه‏.‏ وسار سنجر سنة ثلاث وستمائة إلى جبال تركستان جبال منيعة بين فارس وعمان وأصبهان وخوزستان وكان صاحب هذه الجبال يعرف بأبي طاهـر وكان للناصر مولى اسمه قشتمر من أكابر مواليه ساءه وزير الدولة ببعض الأحوال فلحق بأبي طاهر صاحب تركستان فأكرمه وزوجه بابنته‏.‏ ثم مات أبو طاهر فأطاع أهل تلك الولاية قشتمر وملك عليهم وبعث الناصـر إلـى سنجـر صاحـب خوزستان يعضده في العساكر فسار إليه وبذل له الطاعة على البعد‏.‏ فلم يقبل منه فلقيه وقاتله فانهزم سنجر وقوي قشتمر على أمره وأرسل إلى ابن دكلا صاحب فارس وإلى أيدغمش صاحب الجبل فاتفق معهما على الامتناع على الناصر واستمر حاله‏.‏ كان نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي من أهل الري من بيت إمارة وقدم إلى بغداد عندما ملـك الوزيـر ابـن القصاب الري فأقبل عليه الخليفة وجعله نائب الوزارة‏.‏ ثم استوزره وجعل ابنه صاحـب المخـزن فتحكم في الدولة وأساء إلى أكابر موالي الناصر فلما حج مظفر الدين سنقر المعـروف بوجـه السبـع سنـة ثلاث وستمائة وكان أميراً ففارق الحاج ومضى إلى الشام وبعث إلى الناصر أن الوزير ينفي عليك مواليك ويريد أن يدعي الخلافة فعزله الناصر وألزمه بيته‏.‏ وبعث من كل شيء ملكه ويطلب الإقامة بالمشهد فأجابه الناصر بالأمان والاتفاق وأن المعزلة لم لكن لذنب وإنما أكثر الأعداء المقالات فوقع ذلك‏.‏ واحترز لنفسه موضعاً ينتقل إليه موقراً محترماً فاختار أيالة الناصر خوفاً أن يذهب الأعداء بنفسه‏.‏ ولمـا عـزل عـاد سنقر أمهر الحاج وعاد أيضا قشتمر وأقيم نائباً في الوزارة فخر الدين أبو البدر ومحمد بن أحمد بن اسمينا الواسطي ولم يكن له ذلك التحكم وقارن ذلك وفـاة صاحـب المخـزن ببغـداد أبـو فـراس نصـر بـن ناصـر بـن مكـي المدائنـي فولـى مكانـه أبـو الفتـوح المبارك بن عضد الديـن أبـي الفـرج بـن رئيس الرؤساء وأعلى محله وذلك في المحرم سنة خمس وستمائة‏.‏ ثم عزل آخر السنة لعجزه ثم عزل في ربيع من سنة ست وستمائة فخر الدين بن اسمينا ونقل إلى المخزن وولى نيابة الوزارة مكانه مكين الدين محمد بن محمد بن محمد بن بدر القمر كاتب

  انتقاض سنجر بخوزستان

قـد ذكرنـا ولايـة سنجر مولى الناصر على خوزستان بعد طاش تكين أمير الحاج ثم استوحش سنة ست وستمائـة واستقدمـه الناصـر فاعتـذر فبعـث إليـه العساكـر مـع مؤيـد الديـن نائـب الوزارة وعز الدين بن نجاح الشرابي من خواص الخليفة‏.‏ فلما قاربته العساكر لحق بصاحب فارس أتابك سعد بن دكلا فأكرمه ومنعه ووصلت عساكر الخليفة خوزستان في ربيع من سنته وبعثوا إلـى سنجـر فـي الرجـوع إلـى الطاعـة فأبـى وسـاروا إلـى أرجـان لقصـد ابـن دكـلا بشيـراز والرسـل تتـردد بينهـم‏.‏ ثـم رحلوا في شوال يريدون شيراز فبعث ابن دكلا إلى الوزير والشرابي بالشفاعة في سنجـر واقتضـاء الأمـان لـه فأجابـوه إلـى ذلـك وأعـادوا سنجـر إلـى بغـداد فـي المحـرم سنـة ثمـان وستمائـة ودخلـوا بـه مقيـداً‏.‏ وولـى الناصـر مولـاه ياقوتاً أمير الحاج على خوزستان‏.‏ ثم أطلق الناصر سنجر في صفر من سنة ثمان وستمائة وخلع عليه‏.‏

  استيلاء منكلي على بلد الجبل وأصبهان وهرب أيدغمش ثم مقتله

ومقتل منكلي وولاية أغلمش قد ذكرنا استيلاء أيدغمش من أمراء البهلوانية على بلاد الجبل‏:‏ همذان وأصبهان والري وما إليها فاستفحل فيها وعظم شأنه وتخطى إلى أذربيجان وأرانية فحاصر صاحبها أزبك بن البهلوان‏.‏ ثم خرج سنة ثمان وستمائة منكلي مـن البهلوانيـة ونازعـه الملـك وأطاعـه البهلوانيـة فاستولـى علـى سائـر تلـك الأعمال‏.‏ وهرب شمس الدين أيدغمش إلى بغداد وأمر الناصر بتلقيه فكـان يومـاً مشهـوداً‏.‏ وخشـي منكلـي من اتصاله فأوفد ابنه محمداً في جماعة من العسكر وتلقاه الناس على طبقاتهم وقد كان الناصر شرع في إمداد أيدغمش فأمده وسار إلى همذان في جمادى من سنة عشر ووصل إلى بلاد ابن برجم من التركمان الأيوبية وكان الناصر عزله عن إمارة قومه وولى أخاه الأصغر فبعث إلى منكلي بخبر أيدغمش فبعث العساكر بطلبه فقتلوه وافترق جمعه‏.‏ وبعـث الناصـر إلى أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وأرانية يغريه به وكان مستوحشاً منه‏.‏ وأرسل أيضاً إلى جلال الدين صاحب قلعة الموت وغيرها من قلاع الإسماعيلية من بلاد العجم بمعاضدة أزبك على أن يقتسموا بلاد الجبل وجمع الخليفة العساكر من الموصل والجزيرة وبغداد وقدم على عسكر بغداد مملوكه مظفر الدين وجه السبع واستقدم مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كوجك وهو على أربله وشهرزور وأعمالها وجعله مقدم العساكر جميعاً‏.‏ وساروا إلى همـذان فهـرب منكلي إلى جبل قريب من الكرج وأقاموا عليه يحاصرونه ونزل منكلي في بعض الأيـام فقاتـل أزبـك وهزمـه إلـى مخيمـه‏.‏ ثـم جـاء مـن الغـد وقـد طمـع فيهـم فاشتـدوا فـي قتاله وهزموه فهرب البلاد أجمع وافترقت عساكره واستولت العساكر علـى البلـاد وأخـذ جلـال الديـن ملـك الإسماعيليـة منهـا مـا عينته القسمة‏.‏ وولى أزبك بن البهلوان على بقية البلاد اغلمش مملوك أخيه وعادت العساكر إلى بلادها ومضى منكلي منهزماً إلى مدينة ساوة فقبض عليه الشحنة بها وقتله وبعث أزبك برأسه إلى بغداد وذلك في جمادى سنة اثنتي عشرة‏.‏

  ولاية حافد الناصر على خوزستان

كان للناصر ولد صغير اسمه علي وكنيته أبو الحسن قد رشحه لولاية العهد وعزل عنها ابنه الأكبـر وكـان هـذا أحـب ولـده إليـه فمـات فـي ذي القعـدة سنـة عشر فتفجع له وحزن عليه حزناً لم يسمع بمثله‏.‏ وشمل الأسف عليه الخاص والعام‏.‏ وكان ترك ولدين لقبهما المؤيد والموفق فبعثهما الناصر إلى تستر من خوزستان بالعساكر في المحرم سنة ثلاث عشرة وبعث معهما مؤيد الدين نائب الوزارة وعزل مؤيد الدين الشرابي فأقاما بهما أياماً‏.‏ ثم أعاد الموفق مع الوزير والشرابي إلى بغداد في شهر ربيع وأقام المؤيد بتستر‏.‏

  استيلاء خوارزم شاه على بلاد الجبل وطلب الخطبة له ببغداد

كان أغلمش قد استولى على بلاد الجبل كما ذكرناه واستفحل أمره وقوي ملكه فيها‏.‏ ثم قتله الباطنيـة سنـة أربـع عشـرة وستمائة‏.‏ وكان علاء الدين محمد بن تكش خوارزم شاه وارث ملك السلجوقية‏.‏ قـد استولـى علـى خراسـان ومـا وراء النهـر فطمـع فـي إضافـة هـذه البلـاد إليـه فسـار فـي عساكره واعترضه صاحب بلاد فارس أتابك سعد بش دكلا على أصبهان وقد ساقه من الطمع في البلاد مثل الذي ساقه فقاتله وهزمة خوارزم وأخذه أسيراً‏.‏ ثم سار إلى ساوة فملكها ثم قزوين وزنجان وأبهر ثم همذان ثم أصبهان وقم وقاشان‏.‏ وخطب له صاحب أذربيجان وأرانية وكان يبعث في الخطبة إلى بغداد ولا يجاب فاعتزم الآن على المسير إليها وقـدم أميـراً فـي خمسة عشر ألف فارس وأقطعه حلوان فنزلها‏.‏ ثم أتبعه بأمير آخر فلما سار عن همذان سقط عليهم الثلج وكادوا يهلكون تخطف بقيتهم بنو برجم من التركمان وبنو عكا مـن الأكـراد‏.‏ واعتـزم خـوارزم شـاه على الرجوع إلى خراسان وولى على همذان طابسين وجعل إمارة البلاد كلها لابنه ركن الدين وأنزل معه عماد الملك المساوي متولياً أمور دولته وعاد إلى خراسان سنة خمس عشرة وأزال الخطبة للناصر من جميع أعماله‏.‏ إجلاء بني معروف عن البطائح كان بنو معروف هؤلاء من ربيعة ومقدمهم معلى وكانت رحالهم غربي الفرات قرب البطائح فكثر عيثهم وإفسادهم السابلة وارتفعت شكوى أهل البلاد إلى الديوان منهم فرسم للشريف سعد متولي واسط وأعمالها أن يسير إلى قتالهم وإجلائهم فجمع العساكر من تكريت وهيت والحديثـة والأنبـار والحلـة والكوفة وواسط والبصرة فهزمهم واستباحهم وتقسموا بين القتل والأسر والغرق وحملت الرؤوس إلى بغداد في ذي القعدة سنة عشر‏.‏

  ظهور التتر

ظهرت هذه الأمة من أجناس الترك سنة ست عشرة وستمائة وكانت جبال طمغاج من أرض الصين بينها وبين بلاد تركستان ما يزيد على ستة أشهر وكان ملكهم يسمى جنكزخان من قبيلة يعرفون نوحي فسار إلى بلاد تركستان وما وراء النهر وملكها من أيدي الخطا ثم حارب خـوارزم شـاه إلـى أن غلبـه علـى مـا فـي يـده مـن خراسـان وبلـاد الجبـل ثم تخطى أرانية فملكها‏.‏ ثم سـاروا إلـى بلـاد شـروان وبلـد اللـان واللكـز فاستولـوا علـى الأمم المختلفة بتلك الأصقاع‏.‏ ثم ملكوا بلاد قنجاق وسارت طائفة أخرى إلى غزنة وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان فملكـوا ذلـك كلـه فـي سنة أو نحوها وفعلوا من العيث والقتل والنهب ما لم يسمع بمثله في غابر الأزمـان‏.‏ وهزمـوا خـوارزم شـاه عـلاء الديـن محمـد بـن تكـش فلحـق بجزيـرة فـي بحـر طبرستان فامتنع بهـا إلـى أن مـات سنـة سبـع عشـر وستمائـة لإحـدى وعشرين سنة من ملكه‏.‏ ثم هزموا ابنه جلال الديـن بغزنـة واتبعـه جنكزخـان إلـى نهـر السند فعبر إلى بلاد الهند وخلص منهم وأقام هنالك مدة ثـم رجـع سنـة اثنتيـن وعشريـن إلـى خوزستان والعراق‏.‏ ثم ملك أذربيجان وأرمينية إلى أن قتله المظفر حسبما نذكر ذلك كله مقسماً بين دولتهم ودولة بني خوارزم شاه أو مكرراً فيهما‏.‏ فهناك تفصيل هذا المحل من أخبارهم والله الموفق بمنه وكرمه‏.‏

  وفاة الناصر وخلافة الظاهر ابنه

ثم توفي أبو العباس أحمد الناصر بن المستضيء في آخر شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وستمائة لسبع وأربعين سنة من خلافته بعد أن عجز عن الحركة ثلاث سنين من آخر عمره وذهبـت إحـدى عينيـه وضعـف بصـر الأخـرى‏.‏ وكانـت حاله مختلفة في الجد واللعب وكان متفنناً فـي العلـوم ولـه تآليـف فـي فنـون منهـا متعددة ويقال إنه الذي أطمع التتر في ملك العراق لما كانت بينـه وبيـن خـوارزم‏.‏ شاه من الفتنة وكان مع ذلك كثيراً ما يشتغل برمي البندق واللعب بالحمام المناسيـب ويلبـس سراويل الفتوة شأن العيارين من أهل بغداد‏.‏ وكان له فيها سند إلى زعمائها يقتصه على من يلبسه إياها وكان ذلك كله دليلاً على هرم الدولة وذهاب الملك عن أهلها بذهـاب ملاكهـا منهـم‏.‏ ولمـا توفـي بويـع ابنـه أبو نصر محمد ولقب الظاهر وكان ولي عهده عهد له أولاً سنـة خمـس وثمانيـن وخمسمائـة ثـم خلعـه مـن العهـد وعهـد لأخيـه الصغيـر علـي لميلـه إليه‏.‏ وتوفي سنة اثنتـي عشـرة فاضطـر إلـى إعـادة هـذا فلمـا بويـع بعد أبيه أظهر من العدل والإحسان ما حمد منه ويقال إنه فرق في العلماء ليلة الفطر التي بويع فيها مائة ألف دينار‏.‏

  وفاة الظاهر وولاية ابنه المستنصر

ثـم توفـي الظاهر أبو نصر محمد في منتصف رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة لتسعة أشهر ونصـف مـن ولايتـه وكانـت طريقتـه مستقيمـة وأخباره في العدل مأثورة‏.‏ ويقال إنه قبل وفاته كتب بخطه إلى الوزير توقيعاً يقرؤه على أهل الدولة فجاء الرسول به وقال‏:‏ أمير المؤمنين يقول ليس غرضنـا أن يقـال بـرز مرسـوم وأنفـذ مثـال ثـم لا يتبيـن لـه أثر بل أنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال‏.‏ ثم تناولوا الكتاب وقرؤوه فإذا فيه بعد البسملة أنه ليس إمهالنا إهمالا ولا إغضاؤنا إغفـالاً ولكن لنبلوكم أيكم أحسن عملاً وقد غفرنا لكم ما سلف من إخراب البلاد وتشريد الرعايا وتقبيح السنة وإظهار الباطل الجلي في صورة الحق الخفي حيلة ومكيدة وتسمية الاستئصال والاجتياح استيفاء واستدراكاً للأغراض انتهزتم فرصتها مختلسة من براثن ليث باسل وأنياب أسد مهيب تنطقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد وأنتم أمناؤه وثقاته فتميلـون رأيـه إلـى هواكم ماطلتم بحقه فيطيعكم وأنتم له عاصون ويوافقكم وأنتم له مخالفون والآن فقد بدل الله سبحانه بخوفكم أمناً وفقركم غنى وباطلكم حقاً‏.‏ ورزقكم سلطاناً يقبل العثرة ولا يؤاخذ إلا من أصر ولا ينتقم إلا ممن استمـر يأمركـم بالعـدل وهـو يريـده منكـم وينهاكـم عـن الجـور وهـو يكرهه يخاف الله فيخوفكم مكره ويرجو الله تعالى ويرغبكم في طاعته فإن سلكتم مسالك نواب خلفاء الله في أرضه وأمنائه على خلقه وإلا هلكتم والسلام‏.‏ ولما توفي بويع ابنه أبو جعفـر المستنصـر وسلـك مسالـك أبيـه إلا أنـه وجـد الدولـة اختلفـت والأعمال قد انتقضت والجباية قد انتقصت أو عدمت فضاقت عن أرزاق الجند وأعطياتهم فأسقـط كثيـراً مـن الجند واختلفت الأحوال‏.‏ وهو الذي أعاد له محمد بن يوسف بن هود دعوة العباسية بالأندلس آخر دولة الموحدين بالمغرب فولاه عليها وذلك سنة تسع وعشرين وستمائة كمـا يذكر في أخبارهم‏.‏ ولآخر دولته ملك التتر بلاد الروم من يد غياث الدين كنخسرو وآخر ملوك بني قليج أرسلان ثم تخطوها إلى بلاد أرمينية فملكوها‏.‏ ثم استأمن إليهم غياث الدين وفاة المستنصر وخلافة المستعصم آخر بني العباس ببغداد لم يزل هذا الخليفة المستنصر ببغداد فالنطاق الذي بقي لهم بعد استبداد أهل النواحي كما قدمنا‏.‏ ثم انحل أمرهم من هذا النطاق عروة وتملك التتـر سائـر البلـاد وتغلبـوا علـى ملـوك النواحـي ودولهم أجمعين ثم زاحموهم في هذا النطاق وملكوا أكثره‏.‏ ثم توفي المستنصر سنة إحدى وأربعين لست عشرة سنة من خلافته وبويع بالخلافة ابنه عبد الله ولقب المستعصم وكان فقيهاً محدثاً‏.‏ وكان وزيره ابن العلقمي رافضياً وكانت الفتنة ببغداد لا تزال متصلة بين الشيعة وأهل السنة وبين الحنابلة وسائر أهل المذاهب وبين العيارين والدعار والمفسدين مبدأ الأمراء الأول فلا تتجدد فتنة بين الملوك وأهل الدول إلا ويحدث فيها بين هؤلاء ما يعني أهل الدولة خاصة زيادة لما يحدث منهـم أيـام سكـون الدولـة واستقامتهـا وضاقـت الأحـوال علـى المستعصم فأسقط أهل الجند وفرض أرزاق الباقين على البياعات والأسـواق وفـي المعايـش فاضطرب الناس وصافت الأحوال وعظم الهرج ببغداد ووقعت الفتن بين الشيعة وأهل السنة وكـان مسكـن الشيعـة بالكـرخ فـي الجانـب الغربـي وكـان الوزيـر ابـن العلقمي منهم فسطوا بأهل السنة وأنفذ المستعصم ابنه أبا بكر وركن الدين الدوادار وأمرهم بنهب بيوتهم بالكرخ ولم يراع فيه ذمة الوزير فآسفه ذلك وتربص بالدولة وأسقط معظم الجند يموه بأنه يدافع التتر بما يتوفر من أرزاقهم في الدولة‏.‏ وزحف هلاكو ملك التتر سنة اثنتين وخمسين إلى العراق وقد فتح الري وأصبهان وهمذان وتتبع قلاع الإسماعيلية ثم قصد قلعة الموت سنة خمس وخمسين فبلغه في طريقه كتاب ابن الموصلايا صاحب اربل وفيه وصية ابن العلقمي وزير المستعصم إلى هلاكو يستحثه لقصد بغداد ويهون عليه أمرها فرجع عن بلاد الإسماعيلية وسار إلى بغداد واستدعى أمراء التتر فجاءه بنحو مقدم العسكر ببلاد الروم وقد كانوا ملكوها‏.‏ ولما قاربوا بغداد برز للقائهم أيبك الدوادار في العساكر فانكشف التتر أولاً ثم تذامروا فانهزم المسلمون واعترضهم دون بغداد أو حال مياه من بثوق انتفثت من دجلة فتبعهم التتر دونها وقتل الدوادار وأسر الأمـراء الذيـن معه‏.‏ ونزل هلاكو بغداد وخرج إليه الوزير مؤيد الدين بن العلقمي فاستأمن لنفسه ورجع بالأمان إلى المستعصم وأنه يبقيه على خلافته كما فعل بملك بلاد الروم‏.‏ فخرج المستعصم ومعه الفقهاء والأعيان فقبض عليه لوقته وقتل جميع من كان معه‏.‏ ثم قتل المستعصم شدخاً بالغمد ووطأً بالأقدام لتجافيه بزعمه عن دماء أهل البيت وذلك سنة ست وخمسين‏.‏ وركب إلى بغداد فاستباحها واتصل العيث بها أياماً وخرج النساء والصبيان وعلى رؤوسهم المصاحف والألواح فداستهم العساكر وماتوا أجمعين‏.‏ ويقال أن الـذي أحصـي ذلـك اليـوم مـن القتلـى ألـف ألـف وستمائة ألف واستولوا مـن قصـور الخلافـة وذخائرهـا علـى مـا لا يبلغـه الوصـف ولا يحصـره الضبـط والعـد وألقيـت كتـب العلم التي كانت بخزائنهم جميعاً في دجلة وكانت شيئاً لا يعبر عنه مقابلة في زعمهم بما فعله المسلمون لأول الفتح في كتب الفرس وعلومهم‏.‏ واعتزم هلاكو على إضرام بيوتها ناراً فلم يوافقه أهل مملكته‏.‏ ثم بعث العساكر إلى ميافارقين فحاصروهـا سنين ثم جهدهم الحصار واقتحموها عنوة وقتل حاميتها جميعاً وأميرهم من بني أيـوب وهـو الملـك ناصـر الديـن محمد بن شهاب الدين غازي بن العادل أبي بكر بن أيوب وبايع له صاحـب الموصـل وبعـث بالهديـة والطاعـة وولـاه علـى عملـه‏.‏ ثـم بعـث بالعساكـر إلـى اربـل فحاصرها وامتنعت فرحل العساكر عنها ثم وصل إليه صاحبها ابن الموصلايا فقتله واستولى على الجزيرة وديار بكر وديار ربيعة كلها وتاخم الشام جميع جهاته حتى زحف إليه بعد كما يذكـر وانقـرض أمـر الخلافة الإسلامية لبني لعباس بغداد وأعاد لها ملوك الترك رسماً جديداً في خلفـاء نصبوهـم هنالـك مـن أعقـاب الخلفـاء الأوليـن ولم يزل متصلاً لهذا العهد على ما نذكر الآن‏.‏ ومـن العجـب أن يعقـوب بـن إسحـاق الكنـدي فيلسـوف العرب ذكر في ملاحمه وكلامه على القرآن الـذي دل على ظهور الملة الإسلامية العربية أن انقراض أمر العرب يكون أعوام الستين والستمائة فكـان كذلـك وكانـت دولـة بني العباس من يوم بويع للسفاح سنة اثنتين وثلاثين ومائة إلى أن قتل المعتصم سنة خمس وستمائة خمسمائة سنة وأربعاً وعشرين وعدد خلفائهـم ببغـداد سبعـة وثلاثون خليفة‏.‏ والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين‏.‏

  الخلفاء العباسيين بمصر

الخبر عن الخلفاء العباسيين المنصوبين بمصر من بعد انقراض الخلافة ببغداد ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم لما هلك المستعصم ببغداد واستولى التتر على سائر الممالك الإسلامية فافترق شمل الجماعة وانتثر سلك الخلافة وهرب القرابة المرشحون وغير المرشحين من قصور بغداد فذهبوا في الأرض طولاً وعرضاً ولحق بمصر كبيرهم يومئذ أحمد ابن الخليفة الظاهر وهو عم المستعصم وأخـو المستنصـر وكـان سلطانهـا يومئـذ الملـك الظاهـر بيبرس ثالث ملوك الترك بعد بني أيوب بمصر والقاهرة فقام على قدم التعظيم وركب لتلقيه وسر بقدومه وكان وصوله سنة تسع وخمسين فجمع الناس على طبقاتهم بمجلس الملك بالقلعة وحضر القاضي يومئذ تاج ابن بنت الأغر فأثبـت نسبـه في بيت الخلفاء بشهادة العرب الواصلين معه بالاستفاضة ولم يكن شخصه خفياً وبايع له الظاهر وسائر الناس ونصبه للخلافة الإسلاميـة ولقبـوه المستنصـر وخطـب لـه علـى المنابر ورسم اسمه في السكة‏.‏ وصدرت المراسم السلطانية بأخذ البيعة له في سائر أعمال السلطان وفوض هو للسلطان الملك الظاهر سائر أعماله وكتب تقليده بذلك وركب السلطان ثاني يومه إلى خارج البلد ونصب خيمة يجتمع الناس فيها فاجتمعوا وقرأ كتاب التقليد‏.‏ وقام السلطان بأمر هذا الخليفة ورتب له أرباب الوظائف والمناصب الخلافية من كل طبقة وأجـرى الـأرزاق السنيـة وأقام له الفسطاط والآلة‏.‏ ويقال أنفق عليه في معسكره ذلك ألف ألف دينـار مـن الذهـب العيـن واعتزم على بعثه إلى بلاد العراق لاسترجاعه ممالك الإسلام من يد أهل الكفـر‏.‏ وقـد كان وصل على أثر الخليفة صاحب الموصل وهر إسماعيل الصالح بن لؤلؤ أخرجه التتـر مـن ملكـه بعـد مهلـك أبيـه فامتعـض له الملك الظاهر ووعده باسترجاع ملكه وخرج آخر هذه السنـة مشيعـاً للخليفة ولصالح بن لؤلؤ ووصل بهما إلى دمشق فبالغ هنالك في تكرمتهما وبعث معهما أميرين من أمرائه مدداً لهما وأمرهما أن ينتهيا معهما إلى الفرات‏.‏ فلمـا وصلـوا الفـرات بادر الخليفة بالعبور وقصد الصالح بن لؤلؤ الموصل واتصل الخبر بالتتر فجردوا العساكر للقائه والتقى الجمعان بعانة وصدموه هنالك فصادمهم قليلاً ثم تكاثروا عليه فلم يكن له بهم طاقة وسارت عساكر التتر إلى الموصل فحاصروا الصالح إسماعيل بها سبعة أشهر وملكوها عليه عنوة وقتل رحمه الله‏.‏ وتطلب السلطان بمصر الملك الظاهر بعده آخر من أصل هذا البيت يقيم برسم الخلافة الإسلامية وبينما هو يسائل الركبان عن ذلك إذ وصل رجل مـن بغـداد ينسـب إلـى الراشـد بـن المسترشـد‏.‏ قال صاحب حماة في تاريخه عن نسابة مصر‏:‏ إنه أحمد بن حسـن بـن أبـي بكـر ابـن الأميـر أبـي علـي ابـن الأميـر حسـن بـن الراشـد‏.‏ وعنـد العباسييـن السليمانيين فـي درج نسبهـم الثابـت أنه أحمد بن أبي بكر بن علي بن أحمد بن الإمام المسترشد انتهى كلام صاحب حماة‏.‏ ولـم يكـن فـي آبائـه خليفـة فيمـا بينـه وبيـن الراشـد‏.‏ وبايـع لـه بالخلافـة الإسلاميـة ولقبـه الحاكم وفوض هو إليه الأمور العامة والخاصة وخرج هو له عن العهدة وقام حافظاً لسياج الديـن بإقامـة رسـم الخلافـة‏.‏ وعمـرت بذكـره المنابر وزينت باسمه السكة ولم يزل على هذا الحال أيـام الظاهـر بيبرس وولديه بعده ثم أيام الصالح قلاون وابنه الأشرف وطائفة من دولة ابنه الملك الناصر محمد بن قلاون إلى أن هلك سنة إحدى وسبعمائة ونصب ابنه أبو الربيع سليمـان للخلافة بعده ولقبه المستكفي‏.‏ وحفظ به الرسم وحضر مع السلطان الملك الناصر محمد بن قلـاون للقـاء التتـر فـي النوبتين اللتين لقيهم فيها فاستوحش منه السلطان بعض أيامه وأنزله بالقلعة وقطعـه عـن لقـاء الناس عاماً أو نحوه‏.‏ ثم أذن له في النزول إلى بيته ولقائه الناس إذا شاء وكان ثـم تجـددت لـه الوحشـة وغربـه إلـى قـوص سنـة ثمـان وثلاثيـن ثـم هلـك الخليفـة أبو الربيع سنة أربعين قبل مهلك الملك الناصر رحمهما الله تعالى‏.‏ وكان عهد بالخلافة لابنه أحمد فبويع له ولقب الحاكم ثم بدا للسلطان في إمضاء عهد أبيه بذلك فعزله واستبدل منه بأخيه إبراهيم ولقبه الواثـق‏.‏ وكـان مهلـك الناصـر لأشهـر قريبـة مـن ذلـك فأعـادوا أحمـد الحاكـم ولـي عهـد أبيـه سنة إحدى وأربعيـن وأقـام فـي الخلافـة إلـى سنـة ثلـاث وخمسيـن وهلـك رحمـه اللـه فولـي من بعده أخوه أبو بكر ولقب المعتضد ولم يزل مقيماً لرسم الخلافة إلى أن هلك لعشرة أعوام من خلافته سنة ثلاث وستيـن ونصـب بعـده ابنه محمد ولقب المتوكل فأقام برسم الخلافة وحضر مع السلطان الأشرف شعبان بن حسيـن بـن الملـك الناصـر عـام انتقـض عليـه التـرك فـي طريقـه إلـى الحـج‏.‏ وفسـد أمـره ورجـع الفـل إلـى مصـر وطلبـه أمـراء التـرك فـي البيعـة لـه بالسلطـة مـع الخلافـة فامتنـع مـن ذلـك‏.‏ ثـم خلعـه أيبـك مـن أمـراء التـرك المستبديـن أيام سلطانه بالقاهرة سنة تسع وتسعين لمغاضبة وقعت بينهما ونصب للخلافـة زكريا ابن عمه إبراهيم الواثق فلم يطل ذلك وعزل زكريا لأيام قليلة وأعاده إلى منصبه إلى أن كانت واقعة قرط التركماني من أمراء العساكر بمصر ومداخلتـه للمفسديـن فـي الثـورة بالسلطـان الملـك الظاهـر أبـي سعيـد برقـوق سنـة خمـس وثمانيـن وسعـى عنـد السلطـان بأنـه ممـن داخله قـرط هـذا فاستـراب بـه وحبسـه بالقلعـة سنـة ستيـن وأدال منه بعمر ابن عمه الواثق إبراهيم ولقبه فأقام ثلاثاً أو نحوها ثم هلك رحمه الله آخر عام ثمانية وثلاثين ونصب السلطان عوضه أخاه زكريـا الـذي كـان أيبـك نصبـه كمـا قدمنـا ذكره ثم حدثت فتنة بليقا الناصري صاحب حلب سنة إحـدى وتسعيـن وسبعمائة‏.‏ وتعالى على السلطان بحبسه الخليفة وأطال النكير في ذلك فأطلق السلطان الخليفة محمد المتوكل من محبسه بالقلعة وأعاده إلى الخلافة على رسمه الأول وبالغ في تكرمتـه وجـرت فيمـا بيـن ذلـك خطـوب نذكـر أخبارهـا مستوفـاة فـي دولـة التـرك المقيميـن لرسـم هؤلاء الخلفـاء بمصـر‏.‏ وإنمـا ذكرنـا هنـا مـن أخبارهـم مـا يتعلـق بالخلافـة فقط دون أخبار الدولة والسلطان‏.‏ وهذا الخليفة المتوكل المنصوب الآن لرسم الخلافة والمعين لإقامة المناصب الدينية على مقتضى الشريعة والمبرك بذكره على منابر هذه الإيالة تعظيماً لأبيهم الظاهر وجرياً على سنن التبرك بسلفهم ولكمال الإيمان في محبتهم وتوفية لشروط الإمامة بينهم‏.‏ وما زال ملوك الهند وغيرهم من ملوك الإسلام بالنواحي يطلبون التقليد منه ومن سلفه بمصر ويكاتبون في ذلك ملوك الترك بها من بني قلاون وغيره فيجيبونهم إلى ذلك ويبعثون إليهم بالتقليد والخلع والأبهة ويمدون القائمين بأمورهم بمواد التأييد والإعانة بمن الله وفضله‏.‏

  الدولة العلوية

أخبار الدولة العلوية المزاحمة لدولة بني العباس ونبـدأ منهـم بدولـة الأدارسـة بالمغـرب الأقصـى‏.‏ قد تقدم لنا ذكر شيعة أهل البيت لعلي بن أبي طالب وبنيه رضي الله عنهم وما كان من شأنهم بالكوفة وموجدتهم على الحسن في تسليم الأمر لغيره واضطراب الأمر على زياد بالكوفة من أجلهم حتى قتل المتولون كبر ذلك منهم حجـر بـن عـدي وأصحابـه ثم استدعوا الحسين بعد وفاة معاوية فكان من قتله بكربلاء ما هو معـروف ثـم نـدم الشيعة على قعودهم عن مناصرته فخرجوا بعد وفاة يزيد وبيعة مروان وخرج عبيد الله بن زياد عن الكوفة وسموا أنفسهم التوابين وولوا عليهم سليمان بن صرد ولقيتهم جيوش ابن زياد بأطراف الشام فاستلحموهم‏.‏ ثم خرج المختار بن أبي عبيد بالكوفة طالباً بدم الحسين رضي الله عنه وداعيا لمحمد بن الحنفيـة وتبعـه علـى ذلـك جموعـه مـن الشيعة وسماهم شرطة الله وزحف إليه عبيد الله بن زياد فهزمه المختار وقتله وبلغ محمد بن الحنفية من أحوال المختار ما نقمه عليه فكتب إليه بالبراءة منـه فصـار إلـى الدعـاء لعبـد اللـه بـن الزبير‏.‏ ثم استدعى الشيعة من بعد ذلك زيد بن علي بن الحسين إلى الكوفة أيام هشام بن عبد الملك فقتله صاحب الكوفة يوسف بن عمر وصلبه وخـرج إليـه ابنـه يحمـي بالجوزجـان من خراسان فقتل وصلب كذلك وطلت دماء أهل البيت في كل ناحية وقد تقدم ذلك كله في أخبار الدولتين‏.‏ ثم اختلف الشيعة وافترقت مذاهبهم في مصير الإمامة إلى العلوية وذهبوا طرائق قددا فمنهم الإمامية القائلون بوصية النبـي صلـى اللـه علـه وسلـم لعلـي بالإمامـة وشممونـه الوصـي بذلـك ويتبـرؤون مـن الشيخيـن لمـا منعـوه حقـه بزعمهم وخاصموا زيدا بذلك حين دعا بالكوفة‏.‏ ومن لم يتبرأ من الشيخين رفضوه فسموا بذلك رافضة‏.‏ ومنهم الزيدية القائلون بإمامة بني فاطمة لفضل علي وبنيه على سائر الصحابة وعلى شروط يشترطونها وإمامة الشيخين عندهم صحيحة وإن كان علي أفضل وهذا مذهب زيد وأتباعه وهم جمهور الشيعة وأبعدهم عن الإنحراف والغلو‏.‏ ومنهم الكيسانية نسبة إلى كيسان يذهبون إلى إمامة محمد بن الحنفية وبنيه من بعد الحسن والحسيـن ومـن هـؤلاء كانـت شيعـة بنـي العبـاس القائلـون بوصيـة أبـي هاشـم بـن محمد بن الحنفية إلى محمـد بـن علـي بـن عبـد الله بن عباس بالإمامة‏.‏ وانتشرت هذه المذاهب بين الشيعة وافترق كل مذهـب منهـا إلـى طوائـف بحسب اختلافهم‏.‏ وكان الكيسانية شيعة بني الحنفية أكثرهم بالعراق وخراسان‏.‏ ولما صار أمر بني أمية إلى اختلال أجمع أهل البيت بالمدينة وبايعوا بالخلافة سراً لمحمـد بن عبد الله بن حسن المثنى بن الحسن بن علي وسلم له جميعهم وحضرهذا العقد أبو جعفـر عبـد اللـه بـن محمـد بـن علـي بـن عبـد الله بن عباس وهو المنصور وبايع له فيمن بايع له من أهل البيت وأجمعوا على ذلك لثقدمه فيهم لما علموا له من الفضل عليهم ولهذا كان مالك وأبوحنيفة رحمهما الله يحتجان إليه حين خرج من الحجاز ويريدون أن إمامته أصح من إمامة أبي جعفر لإنعقاد هذه البيعة من قبل وربما صار إليه الأمر عند الشيعة بانتقال الوصية من زيـد بـن علـي‏.‏ وكـان أبـو حنيفـة يقـول بفضله ويحتج إلى حقه فتأدت إليهما المحنة بسبب ذلك أيام أبي جعفر المنصور حتى ضرب مالك على الفتيا في طلاق المكره وحبس أبو حنيفة على القضاء‏.‏ ولما انقرضت دولة بني أمية وجاءت دولة بني العباس وصار الأمرلأبي جعفر المنصور سعى عنده ببني حسن وأن محمد بن عبد الله يروم الخـروج وأن دعاتـه ظهـروا بخراسـان فحبـس المنصور لذلك بني حسن وإخوته وإبراهيم وجعفر وعلي القائم وابنه موسى بن عبـد اللـه وسليمـان وعبـد الله ابن أخيه داود ومحمد وإسماعيل واسحاق بنو عمه إبراهيم بن الحسن في خمسة وأربعين من أكابرهم وحبسوا بقصر ابن هبيرة ظاهرالكوفة حتى هلكوا في حبسهم وأرهبـوا لطلب محمد بن عبد الله فخرج بالمدينة سنة خمس وأربعين وبعث أخاه إبراهيم إلى البصرة فغلب عليها وعلى الأهواز وفارس وبعث الحسن بن معاوية إلى مكة فملكها وبعث عاملاً إلى اليمن ودعا لنفسه وخطب على منبر النبي صلى الله عليه وسلم وتسمى بالمهدي وكـان يدعـى النفـس الزكيـة وحبس رباح بن عثمان المري عامل المدينة فبلغ الخبر إلى أبي جعفر المنصور فأشفقوا من أمره وكتب إليه كتابه المشهور ونصه‏:‏ بعد البسملة من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله‏.‏ أما بعد فإنما جزاء الذين يحاربـون اللـه ورسولـه ويسعـون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلـاف أو ينفـوا مـن الـأرض ذلـك لهـم خـزي فـي الدنيـا ولهـم فـي الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم‏.‏ وأن لك ذمة الله وعهده وميثاقه إن تبـت مـن قبـل أن نقدر عليك أن نؤمنك على نفسك وولدك وإخوتك ومن تابعك وجميع شيعتك وأن أعطيك ألف درهم وأنزلك من البلاد حيث شئت وأقضي لك ما شئت من الحاجات وأن أطلق من سجن من أهل بيتك وشيعتك وأنصارك ثم لا أتبع أحداً منكم بمكروه‏.‏ وإن شئت أن تتوثق لنفسك فوجه إلي من يأخذ لك من الميثاق والعهد والأمان ما أحببت والسلام‏.‏ فأجابـه محمـد بـن عبـد اللـه بكتـاب نصـه بعد البسملة من عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين ابن عبد الله محمد‏.‏ أمـا بعـد طسـم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمـة ونجعلهـم الوارثيـن ونمكـن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون وأنـا أعـرض عليـك مـن الأمـان مثـل الـذي أعطيتنـي ففـد تعلـم أن الحـق حقنـا وأنكم إنما أعطيتموه بنا ونهضتم فيه بسعينا وحزتموه بفضلنا وأن أبانا علياً عليه السلام كان الوصي والإمـام فكيـف ورثتمـوه دوننـا ونحـن أحيـاء وقـد علمتـم أنـه ليـس أحد من بني هاشم يشيد بمثل فضلنا ولا يفخر بمثـل قديمنـا وحديثنـا ونسبنـا ونسيبنـا وأنـا بنـو بنتـه فاطمـة في الإسلام من بينكم فإنا أوسط بني هاشـم نسبـاً وخيرهـم أمـاً وأبـاً لـم تلدنـي العجـم ولـم تعـرف في أمهات الأولاد وأن الله عز وجل لم يزل يختار لنا فولدني من النبيين أفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه أقدمهم إسلاماً وأوسعهم علماً وأكثرهم جهاداً علي بن أبي طالب ومن نسائه أفضلهن خديجة بنت خويلد أول من آمن بالله وصلى إلى القبلة ومن بناته أفضلهن وسيدة نساء أهـل الجنـة ومـن المتولديـن فـي الإسلـام سيدا شباب أهل الجنة ثم قد علمت أن هاشما ولد عليا مرتين من قبل جـدي الحسـن لحسيـن فمـا زال اللـه يختـار لـي حتـى اختار لي في معنى النار فولدني أرفع الناس درجة في الجنة وأهون أهل النار عذابأ يوم القيامة فأنا ابن خير الأخيار وابن خير الأشرار وابـن خيـر أهـل الجنـة وابـن خير أهل النار‏.‏ ولك عهد الله إن دخلت في بيعتي أن أؤمنك على نفسك وولدك وكل ما أصبته إلا حداً من حدود الله أو حقاً لمسلم أو معاهد فقد علمت ما يلزمك في ذلك فأنا أوفى بالعهد منك وأحرى بقبول الأمان منك‏.‏ فأما أمانك الذي عرضت علي فهو أي الأمانات هي أأمان ابن هبيرة أم أمان عمك عبد الله بن علي أم أمان أبي مسلم والسلام‏.‏ فأجابه المنصور بعد البسملة‏:‏ من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله‏.‏ فقـد أتانـي كتابـك وبلغنـي كلامـك فـإذا جـل فخـرك بالنساء لتضل به الحفاة والغوغاء ولم يجعل الله النساء كالعمومة ولا الآباء كالعصبة والأولياء وقد جعل الله العم أبا وبدأ به على الولد فقال جل ثناؤه عن نبيه عليه السلام واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب‏.‏ ولقد علمت أن الله تبارك وتعالى بعث محمد صلى الله عليه وسلم وعمومته أربعة فأجابه إثنان أحدهمـا أبـي وكفـر بـه إثنـان احدهمـا أبوك‏.‏ وأما ما ذكرت من النساء وقراباتهن فلو أعطى على قـرب الأنساب وحق الأحساب لكان الخير كله لآمنة بنت لب‏.‏ ولكن الله يختارلدينه من يشاء من خلقه‏.‏ وأما ما ذكرت من فاطمة أم أبي طالب فإن الله لم يهد أحدا من ولدها إلى الإسلام ولو فعل لكان عبد الله بن عبد المطلب أولاهم بكل خير في الآخرة والأولى وأسعدهم بدخول الجنة غداً‏.‏ ولكن الله أبى ذلك فقال أنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وأما ما ذكرت من فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب وفاطمة أم الحسين وأن هاشماً ولد عليا مرتيـن وأن عبـد المطلـب ولـد الحسـن مرتيـن فخيـر الأوليـن رسـول اللـه صلى الله عليه وسلم لم يلده هاشم إلا مرة واحدة ولم يلده عبد المطلب إلا مرة واحدة‏.‏ وأما ما ذكرت من أنك ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل قد أبى ذلك فقال‏:‏ ما كان محمد أبا أحداً من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ولكنكم قرابة ابنته وإنها لقرابة قريبة غير أنها امرأة لا تحوز الميراث ولا يجوز أن تؤم فكيف تورث الإمامة من قبلها ولقد طلب بها أبوك من كل وجه وأخرجها تخاصم ومرضها سراً ودفنها ليلا وأبى الناس إلا تقديـم الشيخيـن‏:‏ ولقـد حضـر أبـوك وفـاة رسـول اللـه صلى الله عليه وسلم فأمر بالصلاة غيره‏.‏ ثم أخـذ النـاس رجـلا رجلا فلم يأخذوا أباك فيهم ثم كان في أصحاب الشورى فكل دفعه عنها بايع عبد الرحمن عثمان وقبلها عثمان وحارب أباك طلحة والزبير ودعا سعداً إلـى بيعتـه فأغلق بابه دونه‏.‏ ثم بايع معاوية بعده وأفضى أمر جدك إلى أبيك الحسن فسلمه إلى معاوية بخـزف ودراهـم وأسلـم في يديه شيعته وخرج إلى المدينة فدفع الأمر إلى غير أهله وأخذ مالاً مـن غيـر حلـة فـإن كـان لكـم فيهـا شـيء فقـد بعتمـوه فأمـا قولك إن الله اختار لك في الكفر فجعل أبـاك أهـون أهـل النـار عذابـا فليـس فـي الشـر خيار ولا من عذاب الله هين ولا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يفتخر بالنار سترد لتعلم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون‏.‏ وأما قولك لم تلدك العجم ولم تعرف فيك أمهات الأولـاد وأنـك أوسـط بنـي هاشـم نسبـا وخيرهم أما وأبا فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طراً وقحمت نفسك على من هو خير منك أولا وآخراً وأصلا وفصلا‏.‏ فخرت على إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى والد والده فانظر ويحك أين تكون من الله غداً وما ولد قبلكم مولود بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من علي بن الحسين وهو لأم ولد ولقد كان خيراً من جدك حسن بن حسن‏.‏ ثم ابنه محمد خير من أبيك وجدته أم ولد ثم ابنه جعفر وهو خير ولقد علمت أن جدك عليا حكم الحكمين وأعطاهما عهده وميثاقه على الرضا بما حكمابه فأجمعا علـى خلعـه‏.‏ ثـم خـرج عمـك الحسيـن بـن علـي بـن مرجانـة فكان الناس الذين معه عليه حتى قتلوه ثـم أتـوا بكـم علـى الأقتـاب كالسبـي المجلـوب إلـى الشـام ثـم خـرج منكم غير واحد فقتلكم بنو أمية وحرقوكم بالنار وصلبوكـم علـى جـذوع النخـل حتـى خرجنـا عليهـم فأدركنـا يسيركـم إذ لـم تدركوه ورفعنا أقداركم وأورثناكم أرضهم وديارهم بعد أن كانوا يلعنون أباك في أدبار كل صلاة مكتوبة كما يلعن الكفرة فسفهناهم وكفرناهم وبينا فضله وأشدنا بذكره فاتخذت ذلـك علينا حجة وظننت أنا بما ذكرنا من فضل علي قدمناه على حمزة والعباس وجعفر كل أولئك مضوا سالمين مسلما منهم وأبتلي أبوك بالدماء‏.‏ ولقد علمت أن مآثرنا في الجاهلية سقاية الحجيج الأعظم وولاية زمزم وكانت للعباس من دون إخوتـه فنازعنـا فيهـا أبـوك إلـى عمـر فقضى لنا عمر بها وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس من عمومته أحد حياً إلا العباس وكان وارثه دون عبد المطلب وطلب الخلافة واحد مـن بنـي هاشـم فلـم ينلهـا إلا ولـده فاجتمع للعباس أنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وبنوه القادة الخلفاء فقد ذهب بفضل القديم والحديث ولو أن العباس أخرج بدر كرهاً لمات عماك طالب وعقيل جوعاً ويلحسان جفان عتبة وشيبة فأذهب عنهما العار والشنار‏.‏ ولقد جاء الإسلام والعباس يمون به طالب للأزمة التي أصابتهم ثم فـدى عقيـلاً يـوم بـدر فعززناكـم فـي الكفر وفديناكم من الأسر وورثنا دونكم خاتم الأنبياء وأدركنا بثأركم إذ عجزتم عنه ووضعناكم بحيث لم تضعوا أنفسكم والسلام‏.‏ ثـم عقد أبو جعفرعلى حربه لعيسى ابن عمه موسى بن علي فزحف إليه في العساكر وقاتله بالمدينة فهزمه وقتله في منتصف رمضان سنة خمس وأربعين ولحق ابنه علي بالسند إلى أن هلـك هنـاك واختفـى ابنه الآخر عبد الله الأشتر إلى أن هلك في أخبار طويلة قد استوفيناها كلها في أخبار أبي جعفر المنصور ورجع عيسى إلى المنصور فجهزه لحرب إبراهيم أخي محمد بالعيرة فقاتله آخر ذي القعدة من تلك السنة فهزمه وقتله حسبما مر ذكره هنالك وقتل معه عيسـى بـن زيـد بـن علـي فيمـن قتـل مـن أصحابـه‏.‏ وزعـم ابـن قتيبـة أن عيسـى بـن زيـد بـن علـي ثار على المنصور بعد قتل أبي مسلم ولقيه في مائة وعشرين ألفا وقاتله أياما إلى أن هم المنصـور بالفـرار ثم أتيح له الظفر فانهزم عيسى ولحق بإبراهيم بن عبد الله بالبصرة فكان معه هنالك إلى أن لقيه عيسى بن موسى بن علي وقتلهما كما مر‏.‏ ثـم خـرج بالمدينـة أيـام المهـدي سنـة تسـع وستين من بني حسن الحسين بن علي بن حسن المثلث وهو أخو عبد الله بن حسن المثنى وعم المهدي وبويع للرضا من آل محمد وسار إلى مكة وكتب الهادي إلى محمد بن سليمان بن علي وقد كان قدم حاجاً من البصرة فولاه حربه يوم التروية فقاتله بفجة على ثلاثة أميال من مكة وهزمه وقتله وافترق أصحابه وكان فيهم عمه إدريـس بـن عبد الله فأفلت من الهزيمة مع من أفلت عنهم يومئذ ولحق بمصر نازعاً إلى المغرب وعلـى بريـد مصـر يومئـذ واضـح مولـى صالـح بـن المنصـور ويعـرف بالمسكيـن وكـان يتشيع فعلم بشأن إدريـس وأتـاه إلـى المكـان الـذي كـان به مستخفيا وحمله على البريد إلى المغرب ومعه راشد مولاه فنزل بوليلى سنة ست وسبعين وبها يومئذ إسحاق بن محمد بن عبد الحميد أمير أوربة من قبائـل البربـر وكبيرهـم لعهـده فأجـاره وأكرمـه وجمـع البربـر علـى القيـام بدعوتـه وخلـع الطاعة العباسية وكشف القناع واجتمع عليه البرابرة بالمغرب فبايعوه وقاموا بأمره وكان فيهم مجـوس فقاتلهم إلى أن أسلموا‏.‏ وملك المغرب الأقصى ثم ملك تلمسان سنة ثلاث وسبعين ودخلت ملـوك زناتـة أجمـع فـي طاعتـه واستفحـل ملكـه وخاطـب إبراهيـم بـن الأغلـب صاحـب القيـروان وخاطـب الرشيـد بذلـك فشد إليه الرشيد مولى من موالي المهدي اسمه سليمان بن حريز ويعرف بالشماخ وأنفذه بكتابه إلى ابن الأغلب فأجازه ولحق بإدريس مظهراً للنزوع إليه فيمن نزع من وحدان المغرب متبرئا من الدعوة العباسية ومنتحلا للطالبيين واختصه الإمام إدريس وحلى بعينيه وكان قد تأبط سماً في سنون فناوله إياه عند شكايته من وجع أسنانه فكان فيها فيما زعموا حتفه ودفـن ببوليلـى سنـة خمـس وسبعيـن وفـر الشمـاخ ولحقـه راشد بوادي ملوية فاختلفا بينهما ضربتين قطع فيها راشد يده وأجاز الشماخ الوادي فأعجزه وبايع البرابرة بعد مهلكه ابنه إدريس سنة ثمـان وثمانيـن واجتمعـوا علـى القيـام بأمره ولحق به كثير من العرب من إفريقيا والأندلس وعجز بنو الأغلـب أمـراء إفريقيـا عنه فاستفحلت له ولبنيه بالمغرب الأقصى دولة إلى أن انقرضت على يد أبـي العافيـة وقومـه مكناسـة أوليـاء العبيدييـن عـام ثلاثـة عشـر وثلاثمائـة حسبمـا نذكـر ذلـك فـي أخبـار البربر ونعدد ملوكهم هناك واحداً واحداً وانقراض دولتهم وعودها ونستوعب ذلك كلـه لأنـه أمس بالبربر فإنهم كانوا القائمين بدعوتهم‏.‏ ثم خرج يحيى أخو محمد بن عبد الله بن حسن وإدريس في الديلم سنة ست وسبعين أيام الرشيد واشتدت شوكتهم وسرح الرشيد لحربه الفضل بن يحيى فبلغ الطالقان وتلطف في استنزاله من بلاد الديلم على أن يشترط ما أحب ويكتب له الرشيد بذلك خطه فتم بينهما وجاء به الفضل فوفى له الرشيد بكل ما أحب وأجرى له أرزاقا سنية ثم حبسه بعد ذلك لسعاية كانت فيه من آل الزبير فيقال أطلقه بعدها ووصله بمـال ويقـال سمـه لشهرمـن اعتقالـه ويقال أطلقه جعفر بن يحيى افتياتاً فكـان بسببـه نكبـة البرامكـة وانقـرض شـأن بنـي حسـن وخفيت دعوة الزيدية حينا من الدهر حتى كان منهم بعد ذلك باليمن والديلم ما نذكره والله غالب على أمره‏.‏