فصل: وفاة الحافظ وولاية ابنه الظافر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  حروب المعز مع القرامطة واستيلاؤه على دمشق

كـان للقرامطة على بني طفج بدمشق ضريبة يؤدونها إليهم فلما ملك ابن فلاح بدعوة المعز قطع تلك الضريبة وآسفهم بذلك فرجعوا إلى دمشق وعليهم الأعصم ملكهم فبرز إليهم جعفر بن فلـاح فهزمـوه وقتلوه وملكوا دمشق وما بعدها إلى الرملة وهرب من كان بالرملة وتحصنوا بيافا‏.‏ وملك القرامطة الرملة وجهزوا العساكر على يافا وساروا إلى مصر ونزلوا عين شمس وهي المعروفة لهذا العهد بالمطرية‏.‏ واجتمع إليهم خلق كثير من العرب وأولياء بني طفج وحاصروا المغاربة بالقاهرة وقاتلوهم أياماً فكان الظفر بهم‏.‏ ثم خرج المغاربة واستماتوا وهزمهم فرحلوا إلـى الرملـة وضيقـوا حصـار يافـا وبعـث إليهم جعفر بالمدد في البحر فأخذه القرامطة وانتهى الخبر إلى المعز القيروان‏.‏ وجاء إلى مصر ودخلها كما ذكرناه‏.‏ وسمع أنهم يريدون المسير إلى مصر فكتب إلى الأعصم يذكره فضل بنيه وأنهم إنما دعوا له ولآبائه وبالغ في وعظه وتهدده فأساء في جوابه وكتب إليه‏:‏ وصل كتابك الذي قل تحصيله وكثر تفصيله ونحن سائرون إليك والسلام‏.‏ وسار من الأحساء إلى مصر ونزل عين شمس في عساكـره واجتمع إليه الناس من العرب وغيرهم‏.‏ وجاء حسان بن الجراح في جموع عظيمة من طيـىء وبـث سرايـاه فـي البلـاد فعاثـوا فيهـا وأهـم المعـز شأنه فراسل ابن الجراح واستماله بمائة ألف دينـار علـى أن ينهـزم عـن القرامطـة واستحلفـوه علـى ذلك‏.‏ وخرج المعز ليوم عينوه لذلك فإنهزم ابن الجـراح بالعـرب‏.‏ وثبـت القرامطـة قليـلا ثـم إنهزمـوا وأخـذ منهم نحو ألف وخمسمائة أسير‏.‏ وساروا في أتباعهم ولحق القرامطة باذرعات وساروا منها إلى الأحساء وقتلوا صبراً ونهب معسكرهم‏.‏ وجرد المعز القائد أبا محمود في عشرة آلاف فارس وبعث المعز القائد ظالم ابن موهوب العقيلي والياً على دمشق فدخلها وكان العامل بها من قبل القرامطة أبو اللجاء وابنه‏.‏ في جماعة منهم فحبسهم ظالم وأخذ أموالهم ورجع القائد أبو محمود من أتباع القرامطة إلى دمشق فتلقاه ظالم وسر بقدومه وسأله المقام بظاهر دمشق حذراً من القرامطة ففعل ودفع أبا اللجـاء وابنـه فبعـث بهـم إلـى مصـر فحبسـوا بهـا وعـاث أصحاب أبي محمود في دمشق فاضطرب النـاس وقتـل صاحـب الشرطـة بعضهم فثاروا به وقتلوا أصحابه‏.‏ وركب ظالم بذراريهم وأجفل أهـل الضواحـي إلـى البلـد مـن عيـث المغاربـة ثم وقعت في منتصف شوال من سنة ثلاث وستين فتنـة بيـن العامـة وبيـن عسكـر أبـي محمـود وقاتلـوه أيامـاً‏.‏ ثـم هزمهـم وتبعهم إلى البلد وكان ظالم بن موهوب يداري العامة فأشفق في هذا اليوم على نفسه وخرج من دار الإمارة وأحرق المغاربة ناحيـة بـاب الفراديـس ومـات فيهـا خلـق واتصلـت الفتنـة إلى ربيع الآخر من سنة أربع وستين‏.‏ ثم وقـع الصلـح بينهـم علـى إخـراج ظالـم مـن البلـد وولايـة جيـش بـن الصمصامـة ابن أخت محمود فسكن الناس إليه ثم رجع المغاربة إلى العيث وعاد العامة إلى الثـورة وقصـدوا القصـر الـذي فيـه جيش فهرب ولحق بالعسكر وزحف إلى البلد فقاتلهم وأحرق ما كان بقي وقطع الماء عن البلد فضاقت الأحوال وبطلت الأسواق وبلغ الخبـر إلـى المعـز فنكـر ذلـك علـى أبـي محمـود واستعظمـه وبعـث إلـى ريـان الخـادم فـي طرابلس يأمره بالمسير إلى دمشق لاستكشاف حالها وأن يصرف القائد أبا محمود عنها فصرفه إلى الرملة وبعث إلى المعز بالخبر وأقام بدمشق إلى أن وصل أفتكين والياً على دمشق‏.‏ وكـان أفتكيـن هـذا مـن موالي عز الدولة بن بويه ولما ثار الأتراك على ابنه بختيار مع سبكتكين ومات سبكتكين قدمه الأتراك عليهم وحاصروا بختيار بواسط وجاء عضد الدولـة لأنجـاده فأجفلـوا عـن واسـط فتركـوه ببغـداد‏.‏ وسـار أفتكيـن فـي طائفـة مـن الجنـد إلـى حمـص فنـزل قريباً منها وقصـده ظالـم بـن موهـوب العقيلـي ليقبضـه فعجـز عنـه وسـار أفتكيـن فنـزل بظاهـر دمشق وبها زياد خادم المعز وقد غلب عليه وعلى أعيان البلد الأحداث والذعار فلم يملكوا معهم أمر أنفسهم فخرج الأعيان إلى أفتكين وسألوا منه الدخول إليهم ليولـوه وشكـوا إليـه حـال المغاربـة ومـا يحملونهم عليه من عقائـد بعـض الرفـض ومـا أنـزل بهـم عمالهـم مـن الظلـم والعسـف فأجابهـم واستحلفهـم وحلـف لهـم وملـك البلـد وخـرج منهـا زياد الخادم وقطع خطبة المعز العلوي وخطب للطائع العباسي وقمع أهل الفساد ودفع العرب عما كانوا استولوا عليه من الضواحي‏.‏ واستقل ملك دمشق وكاتب المعز بطلب طاعته وولايتها من قبله فلم يثـق إليـه ورده وتجهـز لقصده وجهز العساكر فتوفي بعسكره ببلبيس كما يذكر‏.‏

  وفاة المعز وولاية ابنه العزيز

ثـم توفـي المعـز بمصـر فـي منتصـف ربيـع الآخـر سنـة خمـس وستيـن لثلـاث وعشريـن سنـة مـن خلافته وولـي ابنـه نزار بعهده إليه ووصيته ولقب العزيز بالله وكتم موت أبيه إلى عيد النحر من السنة فصلى بالناس وخطبهم ودعا لنفسه وعزى بأبيه وأقر يعقوب بن كلس على الوزارة كما كان أيـام أبيـه وأقـر بلكيـن بن زيري على ولاية إفريقية وأضاف إليه ولاية عبد الله بن يخلف الكتامي وهي طرابلس وسرت وجر أبيه‏.‏ وكان أهل مكة والمدينة قد خطبوا للمعز أبيه في الموسم فتركوا الخطبة للعزيز فبعث جيوشه إلى الحجاز فحاصروا مكة والمدينة وضيقوا عليهم حتى رجعوا إلى دعوتهم وخطب للعزيز بمكة وكان أمير مكة عيسى بن جعفر والمدينة طاهر بن مسلم ومات في هذه السنة فولي ابنه الحسن وابن أخيه مكانه‏.‏

  بقية أخبار أفتكين

ولما توفي المعز وولي العزيز قام أفتكين وقصد البلاد التي لهم بساحل الشام فبدأ بصيـدا فحاصرها وبها ابن الشيخ في رؤوس المغاربة وظالم بن موهوب العقيلي فبرزوا إليه وقاتلوه فاستنجد لهم ثم كر عليهم وأوقع بهم وقتل منهم أربعة آلاف وسار إلى عكة فحاصرها وقصد طبرية وفعل فيها مثل صيدا‏.‏ ورجع واستشار العزيز وزيره يعقوب بن كلس فأشار بإرسال جوهر الكاتب إليه فجهزه العزيز وبعثه وأقبل أفتكين على أهل دمشق يريهم التحول عنهـم ويذكرهـم بذلـك ليختبرهـم فتطارحـوا إليـه واستماتـوا واستحلفهـم علـى ذلـك ووصل جوهـر فـي ذي القعـدة سنـة خمـس وستيـن فحاصـر دمشـق شهريـن وضيـق حصارها وكتب أفتكين إلى الأعصم ملك القرامطة يستنجده فسار إليه من الإحساء واجتمع إليهم من رجال الشام والعرب نحو من خمسين ألفاً وأدركوا جوهراً بالرملة وقطعوا عنه الماء فارتحل إلى عسقلـان فحاصروه بها حتى بلغ الجهد وأرسل جوهر إلى أفتكين بالمغاربة والوعد والقرمطي يمنعه ثم سأله في الاجتماع فجاءه أفتكين ولم يزل جوهر يعتل له في الدروة والغارب وأفتكين يعتذر بالقرمطـي ويقـول‏:‏ أنت حملتني على مداراته‏.‏ فلما أيس منه كشف له عما هم فيه من الضيق سأله الصنيعة وأنها يتخذها عند العزيز فحلف له على ذلك وعزله القرمطي‏.‏ وأراه جوهـر أن يحمـل العزيـز علـى المسير بنفسه فصم من عزله وأبى إلا الوفاء وانطلق جوهر إلى مصـر وأغرى العزيز بالمسير إليهم فتجهز في العساكر وسار وجوهر في مقدمته ورجع أفتكين والقرمطـي إلـى الرملـة واحتشدوا ووصل العزيز فصطوا للحرب بظاهر الرملة في محرم سنة سبع وستيـن‏.‏ وبعـث العزيـز إلـى أفتكيـن يدعـوه إلى الطاعة يرغبه ويعده بالتقدم في دولته ويدعوه إلى الحضـور عنـده فتقـدم بيـن الصفيـن وترجـل وقبل الأرض وقال‏:‏ قل لأمير المؤمنين لو كان قبل هذه لسارعت وأما الآن فلا يمكنني‏.‏ وحمل على المسيرة فهزمهم وقتل الكثير منهم فامتعض العزيز وحمـل هـو والميمنـة جميعـاً فهزمهـم ووضـع المغاربـة السيـف فقتلوا نحواً من عشرين ألفا‏.‏ ثم نزل في خيامه وجيء بالأسرى فخلع على من جاء بهم وبذل لمن جاء بأفتكين مائة ألف دينار فلقيه المفرج بن دغفل الطائي وقد جهده العطش فاستسقاه وتركه بعرشه مكرماً‏.‏ وجاء إلى العزيز ولما حضر عند العزيز وهو لا يشك أنه مقتول أكرمه العزيز ووصل ونصب له الخيـام وأعـاد إليـه ما نهب له ورجع به إلى مصر فجعله أخص خدمه وحجابه وبعث إلى الأعصم القرمطي من يرده إليه ليصله كما فعل بأفتكين فأدرك بطبرية وامتنع من الرجوع فبعث إليه بعشرين ألف دينار وفرضها له ضريبة‏.‏ وسار القرمطي إلى الأحساء وعاد العزيز إلى مصر ورقي رتبة أفتكين وخص به الوزير يعقوب بن كلس فسمه وسمع العزيز بأنه سمه فحبسه أربعين يوماً وصـادره علـى خمسمائـة ألـف دينـار ثـم خلـع عليـه وأعاده إلى وزارته‏.‏ وتوفي جوهر الكاتب في ذي القعدة من سنة إحدى وثمانين وقام ابنه الحسن مقامه ولقب قائد القواد‏.‏ وكان أفتكين قد استخلص أيام وزارته دمشق رجلا اسمه قسام فعـلا صبتـه وكثـر تابعـه واستولى على البلد‏.‏ ولما انهزم أفتكين والقرامطة بعث العزيز القائد أبا محمود بن إبراهيم واليا علـى دمشـق كمـا كـان لأبيـه المعـز فوجـد فيها قساما قد ضبط البلد وهو يدعو للعزيز فلم يتم له معـه ولايـة‏.‏ وبقـي قسـام مستبـداً عليـه إلـى أن مـات أبـو محمـود سنـة سبعيـن‏.‏ ثـم جاء أبو ثعلب بن حمدان صاحب الموصل إلى دمشق عند انهزامه أمام عضد الدولة فمنعه قسام من الدخول وخاف أن يغلبه على البلد بنفسه أو بأمر العزيز واستوحش أبو ثعلب لذلك فقاتله قليلا ثم رحل إلى مطرية‏.‏ وجاءت عساكر العزيز مع قائده الفضل فحاصروا قساما بدمشق ولم يظفروا به ورجعوا ثم بعث العزيز سنة تسع وستين سليمان بن جعفر بن فلاح فنزل بظاهرها ولم يمكنه قسام من دخولها ودس إلى الناس فقاتلوه وأزعجوه عن مكانه‏.‏ وكان مفرج بن الجراح أمير بني طيىء وسائر العرب بأرض فلسطين قد كثرت جموعه وقويت شوكته وعاث في البلاد وخربها فجهز العزيز العساكر لحربه مع قائده بلتكين التركي فسار إلى الرملة واجتمع إليه العرب من قيس وغيرهم ولقي ابن الجراح وقد أكمن لهم بلتكين من ورائهم فانهزم ومضى إلى إنطاكية فأجاره صاحبها‏.‏ وصادف خروج ملك الروم من القسطنطينية إلى بلاد الشام فخاف ابن الجراح وكاتب بكجور مولـى سيـف الدولـة وعاملـه على حمص ولجأ إليه فأجاره‏.‏ ثم زحف بلتكين إلى دمشق وأظهر لقسـام أنـه جـاء لإصلـاح البلـد‏.‏ وكـان مـع قسـام جيـش بن الصمصامة ابن أخت أبي محمود قد قام بعده في ولايتـه فخـرج إلـى بلتكيـن فأمـره بالنـزول معـه بظاهـر البلـد هـو وأصحابـه‏.‏ واستوحـش قسـام وتجهـز للحـرب‏.‏ ثـم قاتـل وانهـزم أصحابـه ودخـل بلتكيـن أطـراف البلـد فنهبـوا وأحرقوا‏.‏ واعتزم أهل البلـد علـى الاستئمـان إلـى بلتكيـن وشافهـوه بذلـك فـأذن لهـم وسمع قسام فإضطرب وألقى ما بيده واستأمن الناس إلى بلتكين لأنفسهم ولقسام فأمن الجميع‏.‏ وولى على البلد أميراً اسمه خطلج ثم اختفى قسام بعد يومين فنهبت دوره ودور أصحابه وجاء ملقياً بنفسه على بلتكين فقبله وحمله إلى مصر فأمنه العزيز‏.‏ وكان بكجور في غوية من غلمان سيف الدولة وعامله على حمص‏.‏ وكان يمد دمشق أيام هذه الفتنة والغلاء ويحمل الأقوات من حمص إليها ويكاتب العزيز بهـذه الخدم‏.‏ ثم استوحش سنة ثلاث وسبعين من مولاه أبي المعالي فاستنجز من العزيز وعده إياه بولاية دمشق وصادف ذلك أن المغاربة بمصر أجمعوا على التوثب بالوزير بن كلس ودعت الضرورة إلى استقدام بلتكين من دمشق فأمره العزيز بالقدوم وولاية بكجور على دمشق ففعل ودخلها بكجور في رجب من سنة ثلاث وسبعين وعاث في أصحاب ابن كلس وحاشيته بدمشق لما كان يبلغه عنه من صد العزيز عن ولايته‏.‏ ثـم أسـاء السيـرة فـي أهـل دمشـق فسعـى ابـن كلـس في عزله عند العزيز وجهز العساكر سنة ثمان وسبعين مع منير الخادم وكتب إلى نزال عامل طرابلس بمظاهرته وجمع بكجور العرب وخرج للقائه فانهزم‏.‏ ثم خاف من وصول نزال فاستأمن لهم وتوجه إلى الرقة فاستولى عليها ودخل منيـر دمشـق واستقـر فـي ولايتهـا وارتفعت منزلته عند العزيز وجهزه لحصار سعد الدولة بحلب‏.‏ وكان بكجور بعد انصرافه من دمشق إلى الرقة سأل من سعد الدولة العود إلى ولاية حمص فمنعه فأجلب عليه واستنجد العزيز لحربه ويعث إلى نزال عامل طرابلس بمظاهرته فسار إليه بالعساكر وخرج سعد الدولة من حلب للقائهم‏.‏ وقد أضمر نزال الغدر ببكجور تقدم إليـه بذلك عيسى بن نسطورس وزير العزيز بعد ابن كلس‏.‏ وجاء سعد الدولة للقائهم وقد استمد عامل إنطاكية للروم فأمده بجيش كثير وداخل العرب الذيـن مع بكجور في الانهزام عنه ووعدوه ذلك من أنفسهم فلما تراءى الجمعان وشعر بكجور بخديعة العرب إستمات وحمل على الصف بقصد سعد الدولة فقتل لؤلؤ الكبير مولاه بطعنه إياه ثم حمل عليه سعد الدولة فهزمه فسار إلى بعض العرب وحمل إلى سعد الدولة فقتله وسار إلى الرقة فملكها وقبض جميع أمواله وكانت شيئاً لا يعبر عنه‏.‏ وكتب أولاده إلى العزيز يستشفعـون بـه فشفـع إلـى سعـد الدولـة فيهم أن يبعثهم إلى مصر ويتهدده على ذلك فأساء سعد الدولة الرد وجهز لحصار حلب الجيوش مع منجوتكين فنزل عليها وحاصرها وبها أبو الفضائل بن سعد الدولة ومولاه لؤلؤ الصغير‏.‏ وأرسلا إلى بسيل ملك الروم يستنجدانه وهو في قتال بلغـار فبعـث إلـى عامـل إنطاكيـة أن يمدهما فسار في خمسين ألفا حتى نزل حبس العاصي وبلغ خبره إلى منجوتكين فارتحل عن حلب ولقي الروم فهزمهم وأثخن فيهم قتلاً وأسراً‏.‏ وسار إلى إنطاكية وعاث في نواحيها وخرج أبو الفضائل في مغيب منجوتكين إلى ضواحي حلب فنقل ما فيها من الغلال وأحرق بقيتها لتفقـد عساكـر منجوتكيـن الأقـوات‏.‏ فلمـا عـاد منجوتكين إلى الحصار جهز عسكره وأرسل لؤلؤ إلى أبي الحسن المغربي في الصلح فعقد له ذلـك ورحـل منجوتكيـن إلى دمشق وبلغ الخبر إلى العزيز فغضب‏.‏ وكتب إلى منجوتكين بالعود إلى حصار حلب وإبعاد الوزير المغربي وأنفذ الأقوات للعسكر في البحر إلى طرابلس‏.‏ وأقام منجوتكيـن فـي حصـار حلـب‏.‏ وأعادوا مراسلة ملك الروم فاستنجدوه وأغزوه وكان قد توسط بلـاد البلغـار فعـاد مجـداً فـي السيـر‏.‏ وبعـث لؤلـؤ إلـى منجوتكيـن بالخبـر حـذراً علـى المسلمين وجاءته جواسيسه بذلك فأجفل بعـد أن خـرب مـا كـان اتخـذه فـي الحصـار مـن الأسـواق والقصـور والحمامات‏.‏ ووصل ملك الروم إلى حلب ولقي أبا الفضائل ولؤلؤاً ثم سار في الشام وافتتح حمص وشيزر ونهبهما وحاصـر طرابلـس أربعيـن يومـاً فامتنعـت عليـه وعـاد إلـى بلـاده وبلـغ الخبـر إلـى العزيـز فعظـم عليـه واستنفر الناس للجهاد وبرز من القاهرة وذلك سنة إحدى وثمانين‏.‏ ثم انتقض منير في دمشق فزحف إليه منجوتكين إلى دمشق‏.‏

  أخبار الوزراء

كان وزير المعز لدين الله يعقوب بـن يوسـف بـن كلـس أصلـه مـن اليهـود وأسلـم وكـان يدبـر الأحوال الإخشيدية بمصر وعزله أبو الفضائل بن الفرات سنة سبع وخمسين وصادره فاستتر بمصـر ثـم فـر إلـى المغـرب ولقـي المعـز لدين الله وجاء في ركابه إلى مصر فاستوزره وعظم مقامه عنده واستوزره بعده ابنه العزيز إلى أن توفي سنة ثمانين وصلى عليه العزيز وحضر دفنه وقضى عنه دينه‏.‏ وقسم عمله فرد النظر في الظلامات إلى الحسن بن عمار كبير كتامة ورد النظـر فـي الأمـوال إلـى عيسـى بـن نسطـورس ولـم تـزل الـوزارة سائـر دولتهم في أرباب الأقلام وكانوا بمكان وكان منهم البارزي‏.‏ وكان مع الوزارة قاضي القضاة وداعي الدعاة‏.‏ وسأل أن يرسم اسمـه علـى السكـة فغـرب ومنـع ومـات قتيـلا بتنيـس‏.‏ وأبو سعيد النسري وكان يهودياً وأسلم قبل وزارته والجرجاني وقطع الجرجاني في أمر منع من الكتب فيه فكتب وحلف الحاكم بيمين لا تكفـر ليقطعنـة‏.‏ ثـم رده بعـد ثلـاث وخلـع عليـه وابـن أبـي كدينـة ثلاثـة عشـر شهـراً‏.‏ ثم صرف وقتل وأبو الطاهر بن ياشاد وكان من أهل الدين واستعفى فأعفي وأقام معتكفا في جامع مصر وسقط ليلة من السطح فمات‏.‏ وكان آخرهم الوزير أبو القاسم بن المغربي وكان بعده بدر الجمالـي أيـام المستنصـر وزير سيف الدولة واستبد له على الدولة ومن بعده منهم كما يأتي في أخبارهم‏.‏

  أخبار القضاة

كـان النعمـان بـن محمـد بـن منصـور بـن أحمـد بـن حيـون فـي خطة القضاء للمعز بالقيروان‏.‏ ولما جاء إلـى مصـر أقـام بها في خطة القضاء إلى أن توفي وولي ابنه علي ثم توفي سنة أربع وسبعين وثلاثمائـة فولـى العزيـز أخـاه أبـا عبـد الله محمداً خلع عليه وقلده‏.‏ وكان المعز قد وعد أباه بقضاء ابنـه محمـد هـذا بمصـر وتم في سنة تسع وثمانين أيام الحاكم‏.‏ وكان كبير الصيت كثير الإحسان شديـد الاحتيـاط فـي العدالـة فكانـت أيامـه شريفـة‏.‏ وولـي بعـده ابـن عمـه أبـو عبـد اللـه الحسين علي بن النعمان أيام الحاكم ثم عزل سنة أربع وتسعين وقتل وأحرق بالنار وولي مكانه ملكة بن سعيـد الفارقـي إلـى أن قتلـه الحاكـم سنـة خمـس وأربعمائة بنواحي القصور وكان عالم المنزلة عند الحاكـم ومداخـلا لـه فـي أمـور الدولـة وخالصـة لـه فـي خلواتـه‏.‏ وولي بعده أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي العوام‏.‏ واتصل في آخرين إلى آخر دولتهم كان كثيراً ما يجمعون للقاضي المظالم والدعـوة فيكـون داعـي الدعـاة وربما يفردون كلا منهما‏.‏ وكان القاضي عندهم يصعد مع الخليفة المنبر مع من يصعده من أهل دولته عندما يخطب الخلفاء في الجمع والأعياد‏.‏

  وفاة المعز وولاية ابنه الحاكم

قد تقدم لنا أن العزيز استنفر الناس للجهاد سنة إحدى وثمانين وبرز في العساكر لغزو الروم ونـزل بلبيـس فاعتورتـه الأمـراض واتصلـت بـه إلـى أن هلـك آخـر رمضان سنة ست وثمانين لإحدى عشـرة سنة ونصف من خلافته ولقب الحاكم بأمر الله واستولى برجوان الخادم على دولته كما كـان لأبيـه العزيـز بوصيتـه بذلـك وكـان مدبـر دولتـه وكـان رديفـه في ذلك أبو محمد الحسن بن عمار ويلقب بأمين الدولة وتغلب على ابن عمار وانبسطت أيدي كتامة في أموال الناس وحرمهم ونكـر منجوتكيـن تقديـم ابـن عمار في الدولة وكاتب برجوان بالموافقة على ذلك فأظهر الانتقاض وجهز العساكر لقتاله مع سليمان بن جعفر بن فلاح فلقيهم بعسقلان وانهزم منجوتكين وأصحابه وقتل منهم ألفين وسيق أسيراً إلى مصر فأبقى عليه ابن عمار واستماله للمشارقة‏.‏ وعقد على الشام لسليمان بن فلاح ويكنى أبا تميم فبعث من طبرية أخاه علياً إلى دمشق فامتنـع أهلهـا فكاتبهـم أبـو تميـم وتهددهـم وأذعنـوا ودخـل علـى البلد ففتك فيهم‏.‏ ثم قدم أبو تميم فأمـن وأحسـن وبعـث أخاه عليا إلى طرابلس وعزل عنها جيش ابن الصمصامة فسار إلى مصر وداخل برجوان في الفتك بالحسن بن عمار وأعيان كتامة وكان معهما في ذلك شكر خادم عضـد الدولة نزع إلى مصر بعد مهلك عضد الدولة ونكبة أخيه شرف الدولة إياه فخلص إلى العزيز فقربه وحظي عنده فكان مع برجوان وجيش بن الصمصامـة‏.‏ وثـارت الفتنـة واقتتـل المشارقة والمغاربة فانهزمت المغاربة واختفى ابن عمار وأظهر برجوان الحاكم وجدد له البيعة وكتـب إلـى دمشـق بالقبـض على أبي تميم بن فلاح فنهب ونهبت خزائنه واستمر القتل في كتامة واضطربت الفتنة بدمشق واستولى الأحداث‏.‏ ثم أذن برجوان لابـن عمـار فـي الخـروج مـن أستاره وأجرى له أرزاقه على أن يقيم بداره‏.‏ واضطرب الشام فانتقض أهـل صـور وقـام بهـا رجـل ملـاح اسمـه العلاقـة وانتقـض مفـرج بـن دغفل بن الجراح ونزل على الرملة وعاث في البلاد وزحف الدوقس ملك لروم إلى حصـن أفامية محاصراً لها‏.‏ وجهز برجوان العساكر مع جيش ابن الصمصمامة فسار إلى عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدون وأسطولا في البحر واستنجد العلاقة ملك الروم فأنجده بالمقاتلة في المراكب فظفر بهم أسطول المسلمين‏.‏ واضطرب أهل صور وملكها ابن حمدان وأسر العلاقة وبعث به إلى مصر فسلخ وصلب وسار جيش ابن الصمصامة إلى الفرج بن دغفل فهرب أمامه ووصل إلى دمشق وتلقاه أهلها مذعنين وأحسن إليهم وسكنهم ورفع أيدي العدوان عنهم‏.‏ ثـم سـار إلـى أفامية وصاف الروم عندها فانهزم أولاً هو وأصحابه وثبت بشارة الأخشيدي بن قـرارة فـي خمسمائـة فـارس ووفـق الدوقـس ملـك الروم على رابية في ولده وعدة من غلمانه ينظر فعل الروم في المسلمين فقصد كردي من مصاف الأخشيدي وبيده عصا من حديد يسمى الخشت وظنه الملك مستأمناً فلما دنا منه ضربه بالخشت فقتله وانهزم الروم واتبعهم جيش ابـن الصمصامـة إلـى أنطاكية يغنم ويسبي ويحرق‏.‏ ثم عاد مظفراً إلى دمشق فنزل بظاهرها ولم يدخـل‏.‏ واستخلـص رؤسـاء الأحـداث واستحجبهم وأقيم له الطعام في كل يوم وأقام على ذلك برهـة‏.‏ ثـم أمـر أصحابـه إذا دخلـوا للطعـام أن يغلـق بـاب الحجـرة عليهم ويوضع السيف في سائرهم فقتل منهم ثلاثة آلاف ودخل دمشق وطاف بها وأحضر الأشرف فقتل أيديهم وبعث بهم إلى مصر وأمن الناس‏.‏ ثم إنه توفي وولى محمود بن جيش وبعث برجوان إلى بسيل ملك الروم فصالحه لعشر سنين وبعث جيشاً إلى برقة وطرابلس المغرب ففتحها وولى عليها يانساً الصقلي‏.‏ ثم ثقل مكان برجـوان علـى الحاكـم فقتلـه سنة تسع وثمانين وكان خصياً أبيض وكان له وزير نصراني استوزره الحاكم من بعده‏.‏ ثم قتل الحسين بن عمار ثم الحسين بن جوهر القائد‏.‏ ثم جهز العساكر مع يارختكين إلى حلب وقصد حسان بن فرج الطائي لما بلغ من عيثه وفساده‏.‏ فلما رحل من غزوه إلى عسقلان لقيه حسان وأبوه مفرج فانهزم وقتل ونهبـت النواحـي وكثـرت جمـوع بنـي الجـراح وملكـوا الرملـة واستقدمـوا الشريـف أبـا الفتـوح الحسن بن جعفر أمير مكة فبايعوه بالخلافة‏.‏ ثـم استمالهمـا الحاكـم ورغبهمـا فـرداه إلـى مكـة وراجعـا طاعـة الحاكم وراجع هو كذلك وخطب له بمكة‏.‏ ثم جهز الحاكم العساكر إلى الشام مع علي بن جعفر بن فلاح وقصد الرملة فانهزم حسان بن مفرج وقومه وغلبهم على تلك البلاد واستولى على أموالهم وذخائرهم وأخذ مـا كـان لهـم مـن الحصـون بجبـل السـراة ووصـل إلى دمشق في شوال سنة تسعين فملكها واستولى عليها وأقام مفرج وابنه حسان شريدين بالقفز نحواً من سنتين‏.‏ ثم هلك مفرج وبعث حسان ابنه إلى الحاكم فأمنه وأقطعه ثم وفد عليه بمصر فأكرمه ووصله‏.‏

  خروج أبي ركوة ببرقة والظفر به

كـان أبو ركوة هذا يزعم أنه الوليد بن هشام بن عبد الملك بن عبد الرحمن الداخل وأنه هرب من المنصور بن أبي عامر حين تتبعهم بالقتل وهو ابن عشرين سنة وقصد القيروان فأقام بها يعلم الصبيان‏.‏ ثم قصد مصر وكتب الحديث ثم سار إلى مكة واليمن والشام وكان يدعو للقائم من ولد أبيه هشام واسمه الوليد وإنما لقبه أبا ركوة لأنه كان يحملها لوضوئه على عادة الصوفية‏.‏ ثم عاد إلى نواحي مصر ونزل على بني قرة من بادية هلال بن عامر وأقام يعلم الصبيـان ويؤمهـم فـي صلاتهـم‏.‏ ثـم أظهر ما في نفسه ودعا للقائم‏.‏ وكان الحاكم قد أسرف في القتل في أصناف الناس وطبقاتهم والناس معه على خطر وكان قتل جماعـة مـن بنـي قـرة وأحرقهـم بالنار لفسادهم فبادر بنو قرة وكانوا في أعمال برقة فأجابوه وانقاد له وبايعوا‏.‏ وكان بينهم وبين لواتة ومزاتة وزناتة جيرانهم في الأصل حروب ودماء فوضعوها واتفقوا على بيعته‏.‏ وكتـب عامـل برقـة أنيـال الطويـل بخبرهـم إلى الحاكم فأمره بالكف عنهم‏.‏ ثم اجتمعوا وساروا إلى برقة فهزموا العامل برمادة وملكوا برقة وغنموا الأموال والسلاح وقتلوه‏.‏ وأظهر أبو ركوة العدل وبلغ الخبر إلى الحاكم فاطمأنت نفسه وكف عن الأذى والقتل وجهز خمسة آلاف فارس مع القائـد أبي الفتوح الفضل بن صالح فبلغ ذات الحمام وبينها وبين برقة مفازة صعبة معطشة وأمر أبو ركوة من غور المياه التي فيها على قلبها‏.‏ ثم سار للقائهم بعد خروجهم من المفازة على جهد العطش فقاتلهم ونال منهم وثبت أبو ركوة واستأمن إليه جماعة من كتامة لما نالهم من أذى الحاكم وقتله فأمنهم ولحقوا به وانهزمت عساكر الحاكم وقتل خلق كثير منهم‏.‏ ورجع أبو ركوة إلى برقة ظافراً وردد البعوث والسرايا إلى الصعيد وأرض مصر‏.‏ وأهم الحاكم أمره وندم على ما فرط‏.‏ وجهز علي بن فلاح العساكر لحربهم‏.‏ وكاتب الناس أبا ركوة يستدعونه وممن كتب إليه الحسن بـن جوهـر قائـد القـواد وبعثهـم فـي ستـة عشـر ألـف مقاتـل سـوى العـرب وبعـث أخـاه في سرية فواقع بنـي قـرة وهزمهـم وقتـل مـن شيوخهـم عبـد العزيز بن مصعب ورافع بن طراد ومحمد بن أبي بكر واستمال الفضل بني قرة فأجابه ماضي بن مقرب من أمرائهم وكان يطالعه بأخبارهم‏.‏ وبعث علي بن فلاح عسكراً إلى الفيوم فكبسه بنو قرة وهزموه ونزل أبو ركوة بالهرمين ورجع من يومه‏.‏ ثم رحل الفضل إلى الفيوم لقتالهم فواقعهم برأس البركة وهزمهـم واستأمـن بنـو كلـاب وغيرهم ورجع علي بن فلاح وتقدم الفضل لطلب أبي ركوة وخذل ماضي بن مقرب بني قرة عن أبي ركوة فقالوا له انج بنفسك إلى بلد النوبة ووصل إلى تخومهم وقال‏:‏ أنا رسول الحاكم فقالوا‏:‏ لا بد من استئذان الملك فوكلوا به وطالعوا الملك بحقيقة الحال‏.‏ وكان صغيرا قد ولي بعـد سرقـة أبيـه وبعـث إليـه الفضـل بشأنـه وطلبه فكتب إلى شجرة بن مينا قائد الخيل الثغر بأن يسلمـه إلى نائب الحاكم فجاء به رسول الفضل وأنزله الفضل في خيمة وحمله إلى صر فطيف به على جمل لابساً طرطوراً وخلفه قرد يصفعه‏.‏ ثم حمل إلى ظاهر القاهرة ليقتل فمات قبل وصوله‏.‏ وقطع رأسه وصلب‏.‏ وبالغ الحاكم في إكرام الفضل ورفع مرتبته ثم قتله بعد ذلك وكان ظفر الحاكم بأبي ركوة سنة سبع وتسعين‏.‏ بقية أخبار الحاكم‏:‏ كان الحسن بن عمار زعيم كتامة مدبر دولته كما ذكرناه وكان برجوان خادمه وكافله وكان بيـن الموالـي والكتامييـن فـي الدولـة منافسـة‏.‏ وكان كثيراً ما يفضي إلى القتال‏.‏ واقتتلوا سنة سبع وثمانيـن‏.‏ وأركب المغاربة ابن عمار والموالي برجوان وكانت بينهم حروب شديدة‏.‏ ثم تحاجزوا واعتزل ابن عمار الأمور وتخلى بداره عن رسومه وجراياته وتقدم برجوان بتدبير الدولـة‏.‏ وكان كاتب بن فهر بن إبراهيم يربع وينظر في الظلامات ويطالعه‏.‏ وولي على برقـة يأنـس صاحـب الشرطـة مكـان صنـدل‏.‏ ثـم قتـل برجـوان سنـة تسع وثمانين ورجع التدبير إلى القائد أبي عبـد اللـه الحسيـن بـن جوهـر وبقي ابن فهر على حاله‏.‏ وفي سنة تسعين انقطعت طرابلس عن منصور بن بلكين بن زيري صاحب إفريقية وولى عليها يأنس العزيزي من موالي العزيز فوصل إليها وأمكنه عامل المنصور منها وهو عصولة بن بكار‏.‏ وجـاء إلى الحاكم بأهله وولده وماله وأطلق يد يأنس على مخلفه بطرابلس يقال كان له من الولد نيف وستون بين ذكر وأنثى ومن السراري خمس وثلاثون فتلقي بالمبرة وهيىء له القصور ورتب له الجراية وقلـده دمشـق وأعمالهـا فهلـك بهـا لسنـة مـن ولايتـه‏.‏ وفي سنة اثنتيـن وتسعيـن وصـل الصريـخ مـن جهة فلفول بن خزرون المغراوي في ارتجاع طرابلس إلى منصور بن بلكين فجهزت العساكـر مـع يحيـى بـن علي الأندلسي الذي كان جعفر أخوه عامل الزاب للعبيديين ونزع إلى بني أميـة وراء البحـر‏.‏ ولـم يـزل هـو وأخـوه فـي تصريفهـم إلـى أن قتـل المنصـور بـن أبـي عامر جعفراً منهما ونزع أخـوه يحيـى إلـى العزيـز بمصـر فنـزل عليـه وتصـرف فـي خدمتـه وبعثـه إلـآن الحاكـم فـي العساكـر لمـا قدمناه فاعترضه بنو قرة ببرقة ففضوا جموعه‏.‏ ورجع إلى مصر وسار يأنس من برقة إلى طرابلس فكان من شأنه مع عصولة ما ذكرناه‏.‏ وبعـد وفـاة عصولـة ولـي علـى دمشـق مفلـح الخادم وبعده علي بن فلاح سنة ثمان وتسعين‏.‏ وبعد مسير يأنـس ولـي علـى برقـة صنـدل الأسـود‏.‏ وفي سنة ثمـان وتسعيـن عـزل الحسيـن بـن جوهـر القائـد وقـام بتدبيـر الدولـة صالـح بـن علـي بـن صالـح الروبـاذي‏.‏ ثـم نكـب حسيـن القائـد بعد ذلك وقتل ثم قتـل صالـح بعـد ذلـك وقـام بتدبيـر الدولـة الكافـي بـن نصر بن عبدون وبعده زرعة بن عيسى بن نسطورس ثم أبو عبد الله الحسن بن طاهر الوزان‏.‏ وكثر عيث الحاكم في أهل دولته وقتله إياهم - مثل الجرجراي وقطعه أيديهم حتى إن كثيراً منهم كانوا يهربون من سطوته وآخرون يطلبون الأمان فيكتب لهم به السجلات‏.‏ وكـان حاله مضطربا في الجور والعدل والإخافة والأمن والنسك والبدعة‏.‏ وأما ما يرمى به من الكفر وصدور السجلات بإسقاط الصلوات فغيـر صحيـح ولا يقولـه ذو عقـل ولـو صـدر مـن الحاكم بعض ذلك لقتل لوقته‏.‏ وأما مذهبه في الرافضة فمعروف‏.‏ ولقد كان مضطرباً فيه مع ذلـك فكـان يـأذن فـي صلـاة التراويـح ثـم ينهى عنها‏.‏ وكان يرى بعلم النجوم ويؤثره‏.‏ وينقل عنه أنه منـع النساء من التصرف في الأسواق ومنع من أكل الملوخيا‏.‏ ورفع إليه أن جماعة من الروافض تعرضوا لأهل السنة في التراويـح بالرجـم وفـي الجنائـز فكتـب فـي ذلـك سجـلاً قـرىء علـى المنبـر بمصـر كان فيه‏:‏ أمـا بعـد فـإن أميـر المؤمنيـن يتلـو عليكـم آيـة مـن كتاب الله المبين ‏"‏ لا إكراه في الدين ‏"‏ الآية‏.‏ مضى أمس بما فيه وأتى اليوم بما يقتضيه‏.‏ معاشر المسلمين نحن الأئمة وأنتم الأمة‏.‏ لا يحل قتل من شهـد الشهادتين ولا يحل عروة بين اثنين تجمعها هذه الأخوة عصم الله بها من عصم وحرم لها مـا حـرم مـن كـل محـرم من دم ومال ومنكح الصلاح والأصلح بين الناس أصلح والفساد والإفساد بين العباد يستقبح‏.‏ يطوى ما كان فيما مضى فلا ينشر ويعرض عما انقضى فلا يذكـر‏.‏ ولا يقبـل علـى مـا مـر وأدبـر مـن إجـراء الأمـور علـى مـا كانـت عليه في الأيام الخالية أيام آبائنا الأئمـة المهتديـن سلـام اللـه عليهـم أجمعيـن مهديهـم بالله وقائمهم بأمر الله ومنصورهم بالله ومعزهم لدين الله وهـو إذ ذاك بالمهديـة والمنصوريـة وأحـوال القيـروان تجـري فيهـا ظاهـرة غيـر خفية ليست بمستورة عنهم ولا مطوية‏.‏ يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون ولا يعـارض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ومفطرون‏.‏ صلاة الخمس للدين بها جاءهم فيهـا يصلـون وصلاة الضحى وصلاة التراويح لا مانع لهم منها ولا هم عنها يدفعون يخمس في التكبير على الجنائز المخمسون ولا يمنع من التكبير عليها المربعون‏.‏ يؤذن بحي على خير العمل المؤذنون ولا يؤذى من بها لا يؤذنون‏.‏ لا يسب أحد من السلف ولا يحتسب على الواصف فيهم بما يوصف والخالـف فيهم بما خلف‏.‏ لكل مسلم مجتهد في دينه اجتهاده وإلى الله ربه ميعاده عنده كتابه وعليـه حسابـه‏.‏ ليكـن عبـاد اللـه علـى مثـل هـذا عملكـم منـذ اليـوم لا يستعلي مسلم على مسلم بما اعتقـده ولايعتـرض معتـرض علـى صاحبـه فيمـا اعتمـده‏.‏ مـن جميـع مـا نصـه أمير المؤمنين في سجله هـذا وبعد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى اللـه مرجعكـم جميعـاً فينبئكـم بمـا كنتـم تعملون ‏"‏‏.‏ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏ كتب في رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة‏.‏

  وفاة الحاكم وولاية الظاهر

ثم توفي الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز نزار قتيلا ببركة الحبش بمصر وكان يركب الحمار ويطوف بالليل ويخلو بدار في جبل المقطم للعبادة ويقال لاستنزال روحانية الكواكب‏.‏ فصعد ليلة من ليالي لثلاث بقين من شوال سنة إحدى عشرة ركب على عادته ومشى معه راكبان فردهمـا واحـداً بعـد آخـر فـي تصاريـف أمـوره‏.‏ ثـم افتقـد ولم يرجع وأقاموا أياماً في انتظاره‏.‏ ثم خرج مظفر الصقلي والقاضي وبعض الخواص إلى الجبل فوجدوا حماره مقطوع اليدين واتبعوا أثره إلى بركة الحبش فوجدوا ثيابه مزررة وفيها عدة ضربات بالسكاكين فأيقنوا بقتله‏.‏ ويقال بلغه عن أخته أن الرجال يتناوبون بها فتوعدها فأرسلت إلى ابن دواس من قواد كتامة وكان يخاف الحكم فأغرته بقتله وهونته عليه لما يرميه به الناس من سوء العقيدة فقد يهلك النـاس ونهلـك معـه ووعدتـه بالمنزلـة والإقطـاع فبعث إليه رجلين فقتلاه في خلوته‏.‏ ولما أيقنوا بقتله اجتمعـوا إلـى أختـه سـت الملـك فأحضـرت علي بن دواس وأجلس علي بن الحاكم صبياً لم يناهز الحلم وبايع له الناس ولقب الظاهر لإعزاز دين الله ونفذت الكتب إلى البلاد بأخذ البيعة له‏.‏ ثم حضر ابن دواس من الغد وحضر معه القواد فأمرت ست الملـك خادمهـا فعلـاه بالسيـف أمامهم حتى قتله وهو ينادي بثأر الحاكم فلم يختلف فيه اثنان وقامت بتدبير الدولة أربع سنين‏.‏ ثم ماتت وقام بتدبير الدولة الخادم معضاد وتافر بن الوزان وولي وزارته أبو القاسم علي بن أحمد الجرجراي وكان متغلباً على دولته وانتقض الشام خلال ذلك وتغلب صالح بن مـرداس مـن بنـي كلـاب علـى حلـب وعـاث بنـو الجـراح فـي نواحيه فبعث الظاهر سنة عشرين قائده الزريري والي فلسطين في العساكر وأوقع بصالح بن الجراح وقتل صالح وابنه وملك دمشق‏.‏ وملـك حلـب مـن يـد شبـل الدولـة نصـر بـن صالـح وقتله وكان بينه وبين بني الجراح قبل ذلك وهو بفلسطين حروب حتى هرب من الرملة إلى قيسارية فاعتصم بها وأخرب ابن الجراح الرملة وأحرقها‏.‏ وبعث السرايا فانتهت إلى العريش وخشي أهل بلبيس وأهل القرافة على أنفسهم فانتفلوا إلى مصر وزحف صالح بن مرداس في جموع العرب لحصار دمشق وعليها يومئذ ذو القرنين ناصر الدولة بن الحسين‏.‏ وبعث حسان بن الجراح إليهم بالمدد ثم صالحوا صالح بن مرداس وانتقل إلى حصار حلب وملكها من يد شعبان الكتامي وجردت العساكر من الشام وفاة الظاهر وولاية ابنه المستنصر ثـم توفـي الظاهـر لإعـزاز ديـن اللـه أبـو الحسـن علـي ابـن الحاكـم منتصف شعبان سنة سبع وعشرين لست عشرة سنة من خلافته فولي ابنه أبو تميم معد ولقب المستنصر بأمر الله وقام بأمره وزيـر أبيـه أبـو القاسـم علـي بـن أحمد الجرجراي وكان بدمشق الوزيري اسمه أقوش تكين‏.‏ وكانت البلاد صلحت على يديه لعدله ورفقه وضبطه وكان الوزير جرجراي يحسده ويبغضه وكتب إليه بإبعاد كاتبه أبي سعيد فأنفذ إليه أنه يحمل الوزيري على الانتقاض فلم يجب الوزيري إلى ذلـك واستوحش وجاء جماعة من الجند إلى مصر في بعض حاجاتهم فداخلهم الجرجراي في التوثب به ودس معهم بذلك إلى بقية جند بدمشق فتعللوا عليه فخرج إلى بعلبك سنة ثلاث وثلاثين فمنعه عاملها من الدخول فسار إلى حماة فمنع أيضاً فقوتل وهو خلال ذلـك ينهـب فاستدعـى بعـض أوليائـه مـن كفرطـاب فوصـل إليـه فـي ألفـي رجـل وسار إلى حلب فدخلها وتوفي بهـا فـي جمـادى الآخـرة مـن السنـة وفسـد بعـده أمـر الشام وطمع العرب في نواحيه وولى الجرجراي على دمشق الحسين بن حمدان فكان قصارى أمره منع الشام وملك حسان بن مفرج فلسطين وزحف معز الدولة بن صالح الكلابي إلى حلب فملك المدينة وامتنع عليه أصحاب القلعة وبعثوا إلى مصر للنجدة فلم ينجدهم فسلموا القلعة لمعز الدولة بن صالح فملكها‏.‏ كان المعز بن باديس قد انتقض دعوة العبيديين بإفريقية وخطب للقائم العباسي وقطع الخطبة للمستنصر العلـوي سنـة أربعيـن وأربعمائـة فكتـب إليـه المستنصـر يتهـدده‏.‏ ثـم إنـه استـوزر الحسيـن بـن علي التازوري بعد الجرجراي ولم يكن في رتبته فخاطبه المعز دون ما كان يخاطب من قبله كان يقول في كتابه إليهم عبده ويقول في كتاب التازوري صنيعته فحقد ذلك وأغـرى بـه المستنصر وأصلح بين زغبة ورياح من بطون هلال وبعثهم إلى إفريقية وملكهم كل ما يفتحونه وبعـث إلـى المعز‏:‏ أما بعد فقد أرسلنا إليك خيولا وحملنا عليها رجالا فحولا ليقضي الله أمراً كان مفعولاً‏.‏ فساروا إلى برقة فوجدوها خالية لأن المعز كان أباد أهلها من زناتة فاستوطن العرب برقة واحتقر المعز شأنهم واشترى العبيد واستكثر منهم حتى اجتمع له منهم ثلاثون ألفاً‏.‏ وزحف بنو زغبة إلى طرابلس فملكوها سنة ست وأربعين وجازت رياح الأتبح وبنو عدي إلـى إفريقيـة فأضرموهـا نـاراً‏.‏ ثـم سـار أمراؤهـم إلـى المعـز وكبيرهـم مؤنـس بـن يحيى من بني مرداس من زياد فأكرمهم المعز وأجزل لهم عطاياه فلـم يغـن شيئـاً وخرجـوا إلـى مـا كانـوا عليـه مـن الفسـاد ونـزل بإفريقيـة بـلاء لـم ينـزل بهـا مثلـه‏.‏ فخرج إليهم المعز في جموعه من صنهاجة والسودان نحواً من ثلاثين ألفاً والعرب في ثلاثة آلاف فهزموه وأثخنوا في صنهاجة بالقتل واستباحوهم‏.‏ ثم سار إليهم بعد أن احتشد زناتة معه فانهزم ثالثة وقتل من عسكره نحو من ثلاثة آلاف ونزل العرب بمصلى القيروان ووالوا عليهم الهزائم وقتلت منهم أمم‏.‏ ثم أباح لهم المعز دخول القيروان للميرة فاستطالت عليهم العامة فقتلوا منهم خلقاً وأدار المعز السور على القيروان سنة سـت وأربعيـن‏.‏ ثـم ملـك مؤنـس بـن يحيـى مدينـة باجـة سنـة سـت وأربعين وأمر المعز أهل القيروان بالانتقـال إلـى المهديـة للتحصيـن بهـا وولـى عليهـا ابنـه تيمـا سنة خمس وأربعين‏.‏ ثم انتقل إليها سنة تسع وأربعين وانطلقت أيدي العرب علـى القيـروان بالنهـب والتخريـب وعلـى سائـر الحصـون والقرى كما يذكر في أخبارهم‏.‏ ثم كانت الخطبة للمستنصر ببغداد على يد البساسيري من مماليك بني بويه عند انقراض دولتهم واستيلاء السلجوقية كما نذكره في أخبارهم‏.‏

  مقتل ناصر الدولة ابن حمدان بمصر

كانت أم المستنصر متغلبة على دولته وكانت تصطنع الوزراء وتوليهم وكانوا يتخذون الموالـي من الأتراك للتغلب على الدولة‏.‏ فمن استوحشت منه أغرت به المستنصر فقتله‏.‏ فاستوزرت أولاً أبا الفتح الفلاحي ثم استوحشت منه فقبض عليه المستنصر وقتله ووزر بعده أبا البركات حسـن بن محمد وعزله‏.‏ ثم ولي الوزارة أبا محمد التاوزري من قرية بالرملة تسمى تازور فقام بالدولة إلى أن قتل‏.‏ ووزر بعده أبو عبد الله الحسين بن البابلي وكان في الدولة من موالي السودان ناصر الدولة ابن حمدان واستمالوا معهم كتامة والمصامدة‏.‏ وخرج العبيد إلى الضياع واجتمعوا في خمسين ألف مقاتل وكان الأتراك ستة آلاف وشكوا إلى المستنصر فلم يشكهم فخرجوا إلى غرمائهم والتقوا بكوم الريش وأكمن الأتراك للعبيد ولقوهم فانهزموا وخرج كمينهم على العبيد وضربوا البوقات والكاسات فارتاب العبيد وظنوه المستنصر فانهزموا وقتل منهم وغرق نحو أربعين ألفاً‏.‏ وفدى الأتراك وتغلبوا وعظـم الافتـراء فيهـم فخلـت الخزائـن واضطربـت الأمـور وتجمـع باقـي العسكر من الشام وغيره إلى الصعيد واجتمعوا مع العبيد وكانوا خمسة عشر ألفاً وساروا إلى الجيزة فلقيهم الأتراك وعليهم ناصر الدولة بن حمدان فهزموهم إلى الصعيد وعاد ناصر الدولة والأتـراك ظافريـن‏.‏ واجتمع العبيد في الصعيد وحضر الأتراك بدار المستنصر فأمرت أمه العبيد بالدار أن يفتكوا بمقدمي الأتراك ففعلوا وهربوا إلى ظاهـر البلـد ومعهـم ناصـر الدولـة وقاتـل أولياء المستنصر فهزمهم وملك الإسكندرية ودمياط وقطـع الخطبـة منهمـا ومـن سائـر الريـف للمستنصر وراسل الخليفة العباسي ببغداد وافترق الناصر من القاهرة‏.‏ ثم صالح المستنصر ودخـل القاهرة واستبد عليه وصادر أمه على خمسين ألف دينار وافترق عنه أولاده وكثير من أهلـه فـي البلـاد ودس المستنصـر لقواد الأتراك بأنه يحول الدعوة فامتعضوا لذلك وقصدوه في بيته وهـو آمـن منهـم فلمـا خـرج إليهـم تناولوه بسيوفهم حتى قتلوه وجاؤوا برأسه ومروا على أخيه في بيتـه فقطعـوا رأسـه وأتـوا بهمـا جميعـا إلى المستنصر وذلك سنة خمس وستين وولى عليهم الذكر منهم وقام بأمر الدولة‏.‏

  استيلاء بدر الجمالي على الدولة

أصل بدر هذا من الأرمن من صنائع الدولة بمصـر ومواليهـا وكـان حاجبـا لصاحـب دمشـق واستكفاه فيما وراء بابه‏.‏ ثم مات صاحب دمشق فقام بالأمور إلى أن وصل الأميـر علـى دمشـق وهـو ابـن منيـر فسـار هـو إلى مصر وترقى في الولايات إلى أن ولي عكا وظهر منه كفاية واضطلاع‏.‏ ولما وقع بالمستنصر ما وقع من استيلاء الترك عليه والفساد والتضييق إستقـدم بـدراً الجمالـي لولاية الأمور بالحضرة فاستأذن في الاستكثار من الجند لقهر من تغلب من جند مصر فأذن له في ذلك وركب البحر من عكا في عشرة مراكب ومعه من جند كثيف من الأرمن وغيرهم فوصل إلى مصر وحضر عند الخليفة فولاه ما وراء بابه وخلع عليه بالعقد المنظـوم بالجوهـر مكـان الطوق ولقبه بالسيد الأجل أمير الجيوش مثل والي دمشق‏.‏ وأضيف إلى ذلك كافل قضاة المسلمين وداعي دعاة المؤمنين ورتب الوزارة وزاده سيفه ورد الأمـور كلهـا إليه ومنه إلى الخليفة‏.‏ وعاهده الخليفة على ذلك وجعل إليه ولاية الدعاة والقضاة وكان مبالغاً في مذهب الإمامية فقام بالأمور واسترد ما كان تغلب عليه أهل النواحي مثل ابن عمار بطرابلـس وابـن معـروف بعسقلـان وبنـي عقيـل بصـور‏.‏ ثـم استـرد من القواد والأمراء بمصر جميع ما أخذوه أيام الفتنة من المستنصر من الأموال والأمتعة‏.‏ وسار إلى دمياط وقد تغلب عليها جماعة من المفسدين من العرب وغيرهم فأثخن في لواته بالقتل والنهب في الرجال والنساء وسبى نساءهم وغنم خيولهم‏.‏ ثم سار إلى جهينة وقد ثـاروا ومعهـم قـوم من بني جعفر فلقيهم على طرخ العليا سنة تسع وستين فهزمهم وأثخن فيهم وغنـم أموالهـم‏.‏ ثـم سـار إلـى أسـوان وقـد تغلـب عليهـا كنـز الدولة محمد فقتله وملكها وأحسن إلى الرعايا ونظم حالهم وأسقط عنهم الخراج ثلاث سنين وعادت الدولة إلى أحسن ما كانت عليه‏.‏ وصول الغز إلى الشام واستيلاؤهم عليه وحصارهم مصر‏:‏ كـان السلجوقيـة وعساكرهـم مـن الغـز قـد استولـوا فـي هذا العصر على خراسان والعراقين وبغداد وملكهـم طغرلبـك وانتشـرت عساكرهـم فـي سائـر الأقطـار وزحـف إتسـز بـن أنـز مـن أمـراء السلطان ملك شاه وسماه الشاميون أفسفس والصحيح هذا وهو اسم تركي هكذا قال ابن الأثيـر فزحـف سنـة ثلـاث وثلاثيـن بـل وستين ففتح الرملة ثم بيت المقدس وحاصر دمشق وعاث فـي نواحيهـا وبهـا المعلـى بـن حيـدرة ولـم يـزل يوالـي عليهـا البعـوث إلـى سنـة ثمـان وستيـن وكثر عسف المعلى بأهلها مع ما هم فيه من شدة الحصار فثاروا به وهرب إلى بلسيس‏.‏ ثم لحق بمصر فحبـس إلـى أن مـات ولمـا هـرب مـن دمشـق اجتمعت المصامدة وولوا عليهم انتصار بن يحيى منهم ولقبـوه وزيـر الدولـة‏.‏ ثـم اضطربوا مما هم فيه من الغلاء وجاء أمير من القدس فحاصرهم حتى نزلوا على أمانه‏.‏ وأنزل وزير الدولة بقلعة بانياس ودخل دمشق في ذي القعدة وخطب فيها للمقتدي العباسي‏.‏ ثـم سـار إلـى مصـر سنـة تسـع وستين فحاصرها وجمع بدر الجمالي العساكر من العرب وغيرهم وقاتله فهزمه وقتل أكثر أصحابه ورجع إتسز منهزماً إلى الشام فأتى دمشق وقد صانوا مخلفه فشكرهـم ورفـع عنهـم خـراج سنة تسع وستين وجاء إلى بيت المقدس فوجدهم قد عاثوا في مخلفـه وحصـروا أهلـه وأصحابـه في مسجد داود عليه السلام فحاصرهم ودخل البلد عنوة وقتل أكثر أهله حتى قتل كثيراً في المسجد الأقصى‏.‏ ثم جهز أمير الجيوش بدر الجمالي العساكر من مصر مع قائده نصير الدولة فحاصر دمشق وضيق عليها وكان ملك السلجوقية السلطان ملك شاه قد أقطـع أخـاه تتـش سنـة سبعيـن وأربعمائة بلاد الشام وما يفتحه منها فزحف إلى حلب وحاصرها وضيق عليها ومعه جموع كثيـرة مـن التركمان فبعث إليه إتسز من دمشق يستصرخه فسار إليه وأجفلت عساكر مصر عن دمشـق وخـرج إتسـز مـن دمشق للقائه فقتله وملك البلد وذلك سنة إحدى وسبعين‏.‏ وملك ملك شـاه بعـد ذلـك حلـب واستولـى السلجوقيـة علـى الشـام أجمـع وزحـف أميـر الجيـوش بدر الجمالي من مصر في العساكر إلى دمشق وبها تاج الدولة تتش حاصره وضيق عليه وامتنع عليه ورجع وزحفت عساكر مصر سنة اثنتين وثمانين إلى الشام فاسترجعوا مدينة صور من يـد أولـاد القاضـي عيـن الدولـة بـن أبي عقيل كان أبوهم قد انتزى عليها ثم فتحوا مدينة صيدا ثم مدينة جبيـل وضبـط أميـر الجيـوش البلـاد وولـى عليهـا العمـال‏.‏ وفي سنة أربـع وثمانين استولى الفرنج على جزيرة صقلية وكان أمير الجيوش قد ولى على مدينة صور منير الدولة الجيوشي من طائفته فانتقض سنة ست وثمانين وبعث إليه أمير الجيوش العساكر فثار به أهل المدينة واقتحمت عليهم العساكر وبعث منير الدولة إلى مصر في جماعة من أصحابه فقتلوا كلهم‏.‏ ثم توفي أمير الجيوش بـدر الجمالـي سنـة سبـع وثمانيـن فـي ربيـع الـأول لثمانيـن سنـة مـن عمـره‏.‏ وكـان لـه موليان أمين الدولة لاويز ونصير الدولة أفتكين فلما قضى بدر نحبه استدعى المستنصر لاويز ليقلده فأنكر ذلك أفتكين وركب في الجند وشغبوا على المستنصر واقتحموا القصر وأسمعوه خشن الكلام فرجع إلى ولاية ولد بدر وقدم للوزارة ابنه محمداً الملك أبا القاسم شاه ولقبه بالأفضل مثل لقب أبيه‏.‏ وكان أبو القاسم بن المقري رديفا لبدر في وزارته بما كان اختصه لذلك فولى بعد موته الوزارة المقري وكانت عندهم عبارة عن التوقيع بالقلم الغليظ‏.‏ وقام الأفضـل أبـو القاسـم بالدولـة وجـرى علـى سنـن أبيـه في الاستبداد وكانت وفاة المستنصر قريباً من ولايته‏.‏

  وفاة المستنصر وولاية ابنه المستعلي

ثـم توفي المستنصر معد بن الظاهر يوم التروية سنة سبع وثمانين لستين سنة من خلافته ويقال لخمـس وستيـن بعـد أن لقـي أهـوالا وشدائـد وانفتقـت عليـه فتـوق استهلـك فيهـا أمواله وذخائره حتى لـم يكـن لـه إلا بساطـه الـذي يجلـس عليـه وصار إلى حد العزل والخلع حتى تدارك أمره باستقدام بـدر الجمالـي مـن عكـا فتقـوم أمـره ومكنـه فـي خلافتـه‏.‏ ولمـا مـات خلف من الولد أحمد ونزاراً وأبا القاسـم‏.‏ وكـان المستنصـر فيما يقال قد عهد لنزار وكانت بينه وبين أبي القاسم الأفضل عداوة فخشـي بادرتـه وداخـل عمته في ولاية أبي القاسم على أن تكون لها كفالة الدولة فشهدت بأن المستنصر عهد له بمحضر القاضي والداعي فبويع ابن ست ولقب المستعلي بالله وأكره أخوه الأكبر على بيعته ففر إلى الإسكندرية بعد ثلاث وبها نصير الدولة أفتكين مولى بدر الجمالي الذي سعى للأفضل فانتقض وبايع لنزار بعهده ولقب المصطفى لدين الله‏.‏ وسار الأفضل بالعساكر وحاصرهـم بالإسكندريـة واستنزلهـم علـى الأمـان وأعطاهـم اليميـن على ذلك وأركب نزاراً السفن إلى القاهرة وقتل بالقصر‏.‏ وجاء الأفضل ومعه افتكين أسيراً فأحضره يوماً ووبخه فهم بالرد عليه فقتل بالضرب بالعصى وقال‏:‏ لا يتناول اليمين هذه للقتلة ويقال إن الحسين بن الصباح رئيس الإسماعيلية بالعراق قصد المستنصر في زي تاجر وسأله إقامـة الدعـوة لـه ببلـاد العجـم فأذن له في ذلك وقال له الحسن من إمامي بعدك فقال‏:‏ ابني نزار فسار ابن الصباح ودعا الناس ببلاد العجم إليه سراً‏.‏ ثم أظهر أمره وملك القلاع هنالك مثل قلعة الموت وغيرها كما نذكره في أخبار الإسماعيلية وهم من أجل هذا الخبر يقولون بإمامة نزار‏.‏ ولما ولي المستعلي خرج ثغر عن طاعته وولي عليه واليه كشيلة وبعث المستعلـي العساكـر فحاصره ثم اقتحموا عليه وحملوه إلى مصر فقتل بها سنة إحدى وتسعين وأربعمائة‏.‏ وكان تتـش صاحـب الشـام قـد مـات واختلـف بعـده ابنـاه رضـوان ودقاق وكان دقاق بدمشق ورضوان بحلب فخطب رضوان في أعماله للمستعلي بالله أيامـاً قلائـل ثـم عـاودوا الخطبـة للعباسيين‏.‏

  استيلاء الفرنج على بيت المقدس

كان بيت المقدس قد أقطعه تاج الدولة تتش للأمير سليمان بن أرتق التركماني وقارن ذلك استفحال الفرنج واستطالهم على الشام وخروجهم سنة تسعين وأربعمائة ومروا بالقسطنطينية وعبروا خليجها وخلى صاحب القسطنطينية سبيلها ليحولوا بينه وبين صاحـب الشـام مـن السلجوقية والغز فنازلوا أولا أنطاكية فأخذوها من يد باغيسيان من قواد السلجوقية وخرج منهـا هاربـاً فقتلـه بعـض الأرمـن فـي طريقـه وجـاء برأسـه إلى الفرنج بأنطاكية‏.‏ وعظم الخطب على عساكر الشام وسار كربوقا صاحب الموصل فنزل مـرج دابـق واجتمـع إليـه دقـاق بـن تتـش وسليمان بن أرتق وطغتكين أتابك صاحب حمص وصاحب سنجار وجمعوا من كان هنالك من الترك والعرب وبادروا إلى أنطاكية لثلاثة عشر يوماً من حلول الفرنج بها‏.‏ وقد اجتمع ملوك الفرنج ومقدمهم بنميد وخرج الفرنج وتصادموا مع المسلمين فانهزم المسلمون وقتل الفرنج منهم ألوفا واستولوا على معسكرهم وساروا إلى معرة النعمان وحاصروها أياماً وهربـت حاميتهـا وقتلـوا منهـا نحـوا مـن مائة ألف وصالحهم ابن فنقذ على بلده شيزر وحاصـروا حمـص فصالحهـم عليهـا جنـاح الدولـة ثـم حاصـروا عكة فامتنعت عليهم وأدرك عساكر الغز من الوهن ما لا يعبر عنه فطمع أهل مصر بهم وسار الأفضل بن بدر بالعساكر لاسترجاع بيت المقدس فحاصرها وبها سقمان وأبو المغازي ابنا أرتق وابن أخيهما ياقوتي وابن عمهما سوتج ونصبوا عليها نيفاً وأربعين منجنيقاً وأقاموا عليها نيفاً وأربعين يوماً ثم‏.‏ وأحسن الأفضل إلى سقمان وأبي المغازي ومن معهما وخلى سبيلهم فسار سقمان إلى بلد الرهـا وأبـو المغـازي إلـى بلـد العراق وولى الأفضل على بيت المقدس ورجع إلى مصر ثم سارت الفرنج إلى بيت المقدس وحاصروه نيفاً وأربعين يوماً ونصبوا برجين ثم اقتحموها من الجانب الشمالي لسبع بقين من شعبان واستباحوها أسبوعـاً ولجـأ المسلمـون إلـى محـراب داود عليـه السلام واعتصموا بـه إلـى أن استنزلهـم بالأمـان وخرجـوا إلـى عسقلـان وقتـل بالمسجـد عنـد الشجرة سبعون ألفاً وأخذوا من المسجد نيفاً وأربعين قنديلا من الفضة يزن كل واحد منها ثلاثـة آلاف وستمائة وتنوراً من الفضة يزن أربعين رطلاً بالشامي ومائة وخمسين قنديلاً الصفر وغيـر ذلـك ممـا لا يحصـى‏.‏ وأجفـل أهـل بيـت المقـدس وغيرهـم مـن أهـل الشام إلى بغداد باكين على ما أصاب الإسلام ببيت المقدس من القتل والسبي والنهب‏.‏ وبعث الخليفة أعيان العلماء إلى السلطـان بركيـارق وإخوته محمد وسنجر بالمسير إلى الجهاد فلم يتمكنوا من ذلك للخلاف الذي كـان بينهـم‏.‏ ورجـع الوفـد مؤيسيـن من نصرهم‏.‏ وجمع الأفضل أمير الجيوش بمصر العساكر وسار إلى الفرنج فساروا إليهم وكبسوهم على غير أهبة فهزموهم‏.‏ وافترق عسكر مصر وقد لاذوا بخم الشعراء هناك فأضرموها عليهم ناراً فاحترقوا وقتل من ظهر ورجع الفرنج إلى عسقلان فحاصروها حتى أنزلوا لهم عشرين ألف دينار فارتحلوا‏.‏ ثـم توفـي المستعلـي أبـو القاسـم أحمـد بـن المستنصـر منتصـف صفـر سنـة خمـس وتسعيـن لسبـع سنين من خلافته فبويع ابنه أبو علي ابن خمس سنين ولقب الآمر بأحكام الله ولم يل الخلافة فيهم أصغر منه ومن المستنصر فكان هذا لا يقدر على ركوب الفرس وحده‏.‏

  هزيمة الفرنج لعساكر مصر

ثم بعث الأفضل أمير الجيوش بمصر العساكر لقتال الفرنج مع سعد الدولة الفراسي أميراً مملوك أبيه فلقي الفرنج بين الرملة ويافا ومقدمهم بغدوين فقاتلهم وانهزم وقتل واستولى الفرنج على معسكـره فبعـث الأفضـل ابنـه شـرف المعالي في العساكر فبارزوهم قرب الرملة وهزمهم واختفى بغدويـن فـي الشجـر ونجـا إلـى الرملـة مـع جماعـة من زعماء الفرنج فحاصرهم شرف المعالي خمسة عشـر يومـاً حتـى أخذهـم فقتـل منهـم أربعمائـة صبـراً‏.‏ وبعـث ثلاثمائـة إلـى مصر ونجى بغدوين للغزو وسار بهم إلى عسقلان فهرب شرف المعالي وعاد إلى أبيه‏.‏ وملك الفرنج عسقلان وبعث العساكـر في البر مع تاج العجم مولى أبيه إلى عسقلان وبعث الأسطول في البحر إلى يافا مع القاضـي ابـن قـادوس فبلغ إلى يافا واستدعى تاج العجم وحبسه‏.‏ وبعث جمال الملك من مواليه إلى عسقلان مقدم العساكر الشامية‏.‏ ثم بعث الأفضل سنة ثمان وتسعين ابنه سنا الملك حسين وأمر جمال الملك بالسير معه لقتال الفرنج فساروا في خمسة آلاف واستمدوا طغتكين أتابك دمشق فأمدهم ألف وثلاثمائة ولقوا الفرنج بين عسقلان ويافا فتفانوا بالقتل وتحاجزوا وافترق المسلمون إلى عسقلان ودمشق‏.‏ وكان مـع الفرنـج بكتـاش بـن تتـش عـدل عنـه طغتكيـن بالملـك إلـى بنـي أخيـه دقـاق بن تتش فلحق الإفرنج مغاضباً‏.‏

  استيلاء الفرنج على طرابلس وبيروت

كانت طرابلس رجعت إلى صاحب مصر وكان يحاصرها من الفرنـج ابـن المردانـي صاحـب صيحيل والمدد يأتيهم من مصر‏.‏ فلما كانت سنة ثلاث وخمسين وصل أسطول من الفرنج مع ‏"‏ ويمتديـن ‏"‏ إلـى صيحيل من قمامصتهم فنزل على طرابلس وتشاجر مع المرداني فبادر بغدوين صاحب القدس وأصلح بينهم ونزلوا جميعاً على طرابلس وألصقوا أبراجهم بسورها وتأخرت الميـرة عنهـم مـن مصـر فـي البحر لركود البحر فاقتحمها الفرنج عنوة ثاني الأضحى من سنة ثلاث وخمسيـن وقتلـوا ونهبـوا وأسـروا وغنمـوا‏.‏ وكـان واليهـا قـد إستأمـن قبـل فتحها في جماعة من الجند فلحقوا بدمشق ووصل الأسطول بالمدد وكفاية سنة من الأقوات بعد فتحها ففرقوه في صور وصيدا وبيروت واستولى الفرنج على معظم سواحل الشام‏.‏ وإنما خصصنا هذه بالذكر في الدولة العلوية لأنها كانت من أعمالهم وسنذكر البقية في أخبار الفرنج إن شاء الله تعالى‏.‏ كـان الأميـر قـد استولـى علـى عسقلـان وبها قائد من قواد شمس الخلافة فداخل بغدوين صاحب بيت المقدس من الفرنج وهاداه ليمتنع به على أهل مصر وجهز أمير الجيوش عسكراً من مصر للقبض عليه إذا حضر وشعر بذلك وانتقض وأخرج من عنده من أهل مصر وخاف الأفضل أن يسلـم عسقلـان إلـى الفرنـج فأقره على عمله وارتاب شمس الخلافة بأهل عسقلان وأتخذ بطانة مـن الأرمـن فاستوحـش أهـل البلـد فثـاروا بـه وقتلوه وبعثوا إلى الآمر والأفضل بذلك فأرسل إليهم الوالي من مصر وأحسن إليهم واستقامت أحوالهم‏.‏ وحاصر بغدوين بعد ذلك مدينة صور وفيها عساكر الأرمن واشتد في حصارها بكل نوع وكان به عز الملك الأعز من أولياء الأمر فاستمد طغتكين أتابك دمشق فأمده بنفسه وطال الحصار وحضر أوان الغلال فخشي الفرنج أن يفسـد طغتكين غلال بلدهم فأفرجوا عنها إلى عكا وكفى بالله شرهم‏.‏ ثم زحف بغدوين ملـك الفرنـج مـن القـدس إلى مصر وبلغ سنتين وسبح في النيل فانتقض عليه جرح كان به وعاد إلى القدس ومات وعهد بملك القدس للقمص صاحب الرها ولولا ما نزال بملوك السلجوقية من الفتنة لكانوا قد استرجعوا من الفرنج جميع ما ملكوه من الشام‏.‏ ولكن الله خبأ ذلك لصلاح الدين بن أيوب حتى فاز بذكره‏.‏

  مقتل الأفضل

قد قدمنا أن الآمر ولاه الأفضل صغيراً ابن خمس فلما استجمع واشتد تنكر للأفضل وثقلت وطأته عليه فانتقل الأفضل إلى مصر وبنى بها داراً ونزلها وخطب منه الأفضل ابنته فزوجها على كره منه وشاور الآمر أصحابه في قتله فقال له ابن عمه عبد المجيد وكان ولي عهده لا تفعـل وحـذره سـوء الأحدوثة لما اشتهر بين الناس من نصحه ونصح أبيه وحسن ولايتهما للدولة ولا بـد مـن إقامـة غيـره والاعتمـاد فيتعـرض للحذر من مثلها إلى الامتناع منه‏.‏ ثم أشار عليه من مداخلـة ثقتـه أبي عبد الله بن البطائحي في مثل ذلك فإنه يحسن تدبيره ويضع عليه من يغتاله ويقتل به فيسلـم عرضـك‏.‏ وكـان ابـن البطائحـي فراشـاً بالقصـر واستخلصـه الأفضـل ورقـاه واستحجبـه فاستدعـاه الآمـر وفـي داخلـه فـي ذلـك ووعده بمكانه فوضع عليه رجلان فقتلاه بمصر وهـو سائر في موكبه من القاهرة منقلباً من خزانة السلاح في سنة خمس عشرة وخمسمائة كان يفرق السلاح على العادة في الأعياد وثار الغبار في طريقه فانفرد عن الموكب فبدره الرجلان وطعناه فسقط وقتلا وحملا إلى داره وبه رمق فجاءه الآمر متوجعاً وسأله عن ماله فقال‏:‏ أما الظاهر فأبو الحسن ابن أبي أسامة يعرفه وكان أبوه‏.‏ قاضياً بالقاهرة وأصله من حلب‏.‏ وأما الباطن فإن البطائحي يعرفه‏.‏ ثم قضى الأفضل نحبه لثمان وعشرين سنة من وزارته وإحتاط الآمر على داره فوجد له ستة آلاف كيس من الذهب العين وخمسين أردبا من الورق ومن الديباج الملون والمتاع البغدادي والاسكندري وطرف الهند وأنواع الطيوب والعنبر والمسك ما لا يحصـى‏.‏ حتـى لقـد كان من ذخائره دكة عاج وأبنوس محلاه بالفضة عليها عرم متمن من العنبر زنته ألف رطل وعلى العرم مثل طائـر مـن الذهـب برجليـن مرجانـاً ومنقـار زمـرذاً وعينـان ياقوتتان كان ينصبها في بيته ويضوع عرفها فيعم القصر وصارت إلى صلاح الدين‏.‏

  ولاية ابن البطائحي

قال ابن الأثير‏:‏ كان أبوه من جواسيس الأفضل بالعراق ومات ولم يخلف شيئاً ثم ماتت أمه معلقـاً فتعلم البناء أولا‏.‏ ثم صار يحمل الأمتعة بالأسواق ويدخل بها على الأفضل فخف عليه واستخدمـه مـع الفراشيـن وتقدم عنده واستحجبه ولما قتل الأفضل ولاه الآمر مكانه وكان يعرف بابن فاتت وابن القائد فدعاه الآمر جلال الإسلام ثم خلع عليه بعد سنتين من ولايته للوزارة ولقبه المأمون فجرى على سنن الأفضل في الاستبداد ونكر ذلك الآمر وتنكر له واستوحش المأمـون وكـان لـه أخ يلقـب المؤتمـن فاستـأذن الآمر في بعثه إلى الإسكندرية لحمايتها ليكون له ردءاً هنالك فأذن له وسار معه القواد وفيهم علي بن السلار وتاج الملوك قائمين وسنا الملك الجمل ودري الحروب وأمثالهم وأقام المأمون على استيحاش من الآمر وكثرت السعاية فيه وأنه يدعي أنه ولد نزار من جارية خرجت من القصر حاملا به وأنه بعث ابن نجيب الدولة إلى اليمن

  مقتل البطائحي

ولما كثرت السعاية فيه عند الآمر وتوغر صدره عليه كتب إلى القواد الذين كانوا مع أخيه بثغـر الإسكندريـة بالوصول إلى دار الخلافة فهم لذلك علي بن سلار فحضروا واستأذن المؤتمن بعدهـم فـي الوصـول فـأذن لـه‏.‏وحضـر رمضـان مـن سنـة تسـع عشـرة فجاؤوا إلى القصر للإفطار على العادة ودخل المأمون والمؤتمن فقبض عليهما وحبسهما داخل القصر وجلس الآمر من الغد في إيوانه وقرأ عليه وعلى الناس كتاباً بتعديد ذنوبهم‏.‏ وترك الآمر رتبة الوزارة خلواً وأقام رجليـن مـن أصحـاب الدواويـن يستخرجـان الأمـوال مـن الخراج والزكاة والمكس ثم عزلهما لظلمهما‏.‏ ثم حضر الرسول الذي بعثة إلى اليمن ليكشف خبر المأمـون وحضـر ابـن نجيـب وداعيته فقتل وقتل المأمون وأخوه المؤتمن‏.‏

  مقتل الآمر وخلافة الحافظ

كـان الآمـر مؤثـراً للذاتـه وطموحاً إلى المعالي وقاعداً عنها وكان يحدث نفسه بالنهوض إلى العراق في كل الوقت ثم يقصر عنه وكان يقرض الشعر قليلا ومن قوله‏:‏ أصبحت لا أرجو ولا ألقى إلا إلهي وله الفضل جـدي نبـي وإمامـي أبي ومذهبي التوحيد والعـدل وكانت الفداوية تحاول قتله فيتحرر منهم واتفق أن عشرة منهم اجتمعوا في بيت وركب بعض الأيام إلى الروضة ومر على الجسر بين الجزيرة ومصر فسبقوه فوقفوا في طريقه‏.‏ فلما توسط الجسر إنفرد عن الموكب لضيقة فوثبوا عليه وطعنوه وقتلوا لحينهم ومات هو قبل الوصول إلى منزله سنة أربع وعشرين وخمسمائة‏.‏ لتسع وعشرين سنة‏.‏ ونصف من خلافته‏.‏ وكان قلد استخلص مملوكين وهما برغش العـادل وبرعـوارد هزبـر الملـوك وكـان يؤثـر العـادل منهمـا فلمـا مـات الآمـر تحيلـوا فـي قيـام المأمـون عبـد الحميـد بالأمـر وكـان أقرب القرابة سناً وأبوه أبو القاسم بن المستضيء معه وقالوا إن الآمر أوصى بأن فلانة حامل فدلته الرؤيا بأنها تلد ذكراً فهو الخليفة بعدي وكفالته لعبد الحميد فأقاموه كافلا ولقبوه الحافظ لدين الله وذكروا من الوصية أن يكون هزبر الملوك وزيراً والسعيدباس من موالي الأفضل صاحب الباب وقرأوا السجل بذلك في دار الخلافة‏.‏

  ولاية أبي علي بن الأفضل الوزارة ومقتله

ولمـا تقـرر الأمـر على وزارة هزبر الملوك وخلع عليه أنكر ذلك الجند وتولى كبر ذلك رضوان بن ونحش كبيرهم‏.‏ وكان أبو علي بن الأفضل حاضرا بالقصر فحثه برغش العادل على الخروج حسداً لصاحبه وأوجد له السبيل إلى ذلك فخرج وتعلق به الجند وقالوا‏:‏ هذا الوزير ابن الوزير وتنصل فلم يقبلوا وضربوا له خيمة بين القصرين وأحدقوا بـه وأغلقـت أبـواب القصـر فتسـوروه وولجـوا مـن طيقانـه‏.‏ واضطـر الحافـظ إلـى عـزل هزبـر الملوك ثم قتله وولى أبو علي أحمد بن الأفضل الوزارة وجلـس بدسـت أبيـه ورد النـاس أمـوال الـوزارة المقضيـة‏.‏ واستبـد علـى الحافظ ومنعه من التصرف ونقل الأموال من الذخائر والقصر إلـى داره وكـان إماميـا متشـدداً فأشـار عليه الإمامية بإقامة الدعوة للقائم المنتظر‏.‏ وضرب الدراهم بإسمه دون الدنانير‏.‏ ونقش عليها الله الصمد الإمام محمد وهو الإمام المنتظر‏.‏ وأسقط ذكر إسماعيل من الدعاء على المنابر وذكر الحافظ وأسقط من الآذان حي على خير العمل‏.‏ ونعت نفسه بنعوت أمر الخطباء بذكرها على المنابر‏.‏ وأراد قتل الحافظ بمن قتله الآمر من أخوته فإن الآمر أجحفهم عند نكبة الأفضل وقتلهم فلم يقدر أبو علي على قتله فخلعه واعتقله‏.‏ وركب بنفسه في المواسم وخطب للقائـم مموهـا فتنكـر لـه أوليـاء الشيعـة ومماليـك الخلفـاء‏.‏ وداخـل يونـس الجنـد مـن كتامـة وغيرهـم في شأنه واتفقوا على قتله‏.‏ وترصد له قوم من الجند فاعترضوه خارج البلد وهو في موكبه وهم يتلاعبون على الخيل‏.‏ ثم اعتمدوه فطعنوه وقتلوه وأخرجوا الحافظ من معتقله وجددوا له البيعة بالخلافة ونهب دار أبي علي‏.‏ وركب الحافظ وحمل ما بقي فيها إلى القصر‏.‏ واستوزر أبا الفتح يانساً الحافظي ولقبه أمير الجيوش وكان عظيم الهيبة بعيد الغور واستبد عليه فاستوحش كل منهما بصاحبه‏.‏ ويقال إن الحاكم وضع له سما في المستراح هلك به وذلك آخر في الحجة سنة ست وعشرين‏.‏ ولما هلك يانس أراد الحافظ أن يخلي دست الوزارة ليستريح مـن التعـب الـذي عـرض منهـم للدولة وأجمع أن يفوض الأمور إلى ولده وفوض إلى ابنه سليمان‏.‏ ومات لشهرين فأقام ابنه الآخر حسنا فحدثته نفسه بالخلافة وعزم على اعتقال أبيه وداخل الإجناد في ذلك فأطاعوه واطلـع أبـوه علـى أمـره ففتـك بهـم‏.‏ يقـال إنـه قتـل منهـم فـي ليلـة أربعيـن‏.‏ وبعـث أبوه خادماً من القصر فهزمه حسن وبقي الحافظ محجورا وفسد أمره وبعث حسـن بهـرام الأرمنـي لحشـد الأرمـن ليستظهر بهم على الجند وثاروا بحسن وطلبوه من أبيه ووقفوا بين القصرين وجمعوا الحطب لإحـراق القصر‏.‏ واستبشع الحافظ قتله بالحديد فأمر طبيبه ابن فرقة عنه في ذلك سنة تسع وعشرين‏.‏ وزارة بهرام ورضوان بعده‏:‏ ولما مات حسـن بـن الحافـظ ورحـل بهـرام لحشـد الأرمـن اجتمـع الجنـد وكـان بهـرام كبيرهـم وراودوا الحافظ على وزارته فوافقهم وخلع عليه وفوض إليه الأمور السلطانية وأستثنى عليه الشرعية وتبعه تاج الدولة أفتكين في الدولة واستعمل الأرمن وأهانوا المسلمين وكان رضوان بن ولحيس صاحب الباب وهو الشجاع الكاتب من أولياء الدولة وكان ينكر على بهرام ويهزأ به فولاه بهرام الغربية ثم جمع رضوان وأتى إلى القاهرة ففر بهرام وقصد قوص في ألفين من الأرمـن ووجـد أخـاه قتيـلا فلـم يعرض لأهل قوص وباء بحق الخلافة وصعد إلى أسوان فامتنعت عليه بكنز الدولة‏.‏ ثم بعث رضوان العساكر في طلبه مع أخيه الأكبر وهو إبراهيم الأوحد فاستنزلـه علـى الأمـان لـه وللأرمـن الذيـن معـه‏.‏ وجـاء بـه فأنزلـه الحافـظ فـي القصر إلى أن مات على دينه واستقر رضوان في الوزارة ولقب بالأفضل وكان سنيا وكان أخو إبراهيم إمامياً فأراد الأستبداد وأخذ في تقديم معارفه سيفاً وقلماً‏.‏ وأسقط المكوس وعاقب من تصـدى لهـا فتغيـر لـه الخليفـة فـأراد خلعـه وشاور في ذلك داعي الدعاة وفقهاء الإمامية فلم يعينوه في ذلك بشيء‏.‏ وفطـن لـه الحافـظ فـدس خمسيـن فارسـاً ينـادون في الطرقات بالثورة عليه وينهضون باسم الحافظ فركب لوقته هارباً منتصف شوال سنة ثلـاث وثلاثيـن ونهبـت داره وركـب الحافـظ وسكـن الناس ونقل ما فيها إلى قصره‏.‏ وسار رضوان يريد الشام ليستنجد الترك وكان في جملته شاور وهو من مصطفيه وأرسل الحافظ الأمير بن صال ليرده على الأمان فرجع وحبس في القصـر وقيـل وصـل إلى سرخد فأكرمه صاحبها أمين الدولة كمستكين وأقام عنده ثم رجع إلى مصـر سنـة أربـع وثلاثيـن فقاتلهـم عنـد بـاب القصـر وهزمهـم‏.‏ ثم افترق عنه أصحابه وأرادوا العود إلى الشام فبعث عنه الحافظ بن مصال وحبسه بالقصر إلى سنة ثلاث وأربعين فنقب الحبس وهرب إلى الجيزة وجمع المغاربـة وغيرهـم ورجع إلى القاهرة ونزل عند جامع الأقمر وأرسل إلى الحافظ في المال ليفرقه فبعث عشرين ألفاً على عادتهم مع الوزير ثم استزاد عشرين وعشرين‏.‏ وفي خلال ذلك وضع الحافـظ عليه جمعاً كثيراً من السودان فحملوا عليه وقتلوه وجاؤوا برأسه إلى الحافظ‏.‏ واستمر الحافظ في دولته مباشراً لأموره وأخلى رتبة الوزارة فلم يول أحداً بعده‏.‏

  وفاة الحافظ وولاية ابنه الظافر

ثم توفي الحافظ لدين الله عبد الحميد بن الأمير أبي القلسم أحمد بن المستنصر سنة أربع وأربعين لتسع عشرة سنة ونصف من خلافته وعن أبي العالية يقال بلغ عمره سبعاً وسبعين سنـة ولـم يـزل فـي خلافتـه محجـور الـوزارة ولمـا مـات ولـي بعـده ابنـه أبـو منصور إسماعيل بعهده إليه بذلك ولقب الظافر بأمر الله‏.‏ وزارة ابن مصال ثم ابن السلار‏:‏ كان الحافظ لما عهد لابنه الظافر أوصاه بوزارة ابن مصال فاستوزره أربعين يوماً وكان علي ين السلار والياً على الإسكندرية ومعه بلارة بنت عمه القاسم وابنه منها عباس وتزوجت بعده بابن السلار شب عباس وتقدم عند الحافظ حتى ولي الغربية فلم يرض ابن السلار وزارة ابـن مصال واتفق مع عباس على عزله وبلغ الخبر إلى ابن مصال فشكا إلى الظافر‏.‏ فلم يشكـه فقـال ذوو الحـرب‏:‏ ليـس هنـا من يقاتل ابن السلار فغضب الظافر ودس عليه من بني علي مصلحيـه فخـرج إلـى الصعيـد وقدم ابن السلار إلى القاهرة فاستوزره الظافر وهو منكر له ولقبه العادل‏.‏ وبعث العساكر مع العباس ربيبه في أتباع ابن مصال خرج في طلبه‏.‏ وكان جماعة من لواتة السودان فتحصنوا من عباس في جامع دولام فأحرقه عليهم وقتل ابن مصال وجاء برأسه‏.‏ وقام ابن سلار بالدولة وحفظ النواميس وشد من مذاهبه أهله‏.‏ وكان الخليفة مستوحشاً منه منكراً له وهو مبالغ في النصيحة والخدمة‏.‏ واستخدم الرجالة لحراسته فارتـاب لـه صبيـان الخـاص مـن حاشيـة الخليفـة فاعتزمـوا علـى قتلـه ونمـي ذلـك فقبـض على رؤوسهم فحبسهم وقتل جماعة منهم وافترقوا ولم يقدر الظافر على إنكار ذلك‏.‏ وأحتفل ابن السلار بأمـر عسقلـان ومنعها من الفرنج وبعث إليها بالمدد كل حين من الأقوات والأسلحة فلم يغن ذلك عنها وملكها الفرنج وكان لذلك من الوهن على الدولة ما تحدث به الناس‏.‏ ولما قتل العادل ين السلار صبيان الخاص تأكد نكر الخليفة له واشتد قلقه‏.‏ وكان عباس بن أبي الفتوح صديقاً ملاطفاً له فكان يسكنه ويهديه‏.‏ وكان لعباس ولد اسمه نصير استخصه الظافر وأستدناه ويقال كان يهواه ففاوض العادل عباساً في شأن ابنه عن مخالطة ابنه للظافر فلم ينته ابنه فنهى العادل جدته عن السماح للولد أن يدخل إلى بينه فشق ذلك على نصير وعلى أبيه وتنكر للعادل‏.‏ وزحف الفرنج إلى عسقلان فجهز العادل الجيوش والعساكر إليهـا مـدداً مـع مـا كـان يمدهـا وبعثهم مع عباس ابن أبي الفتوح فارتاب لذلك وفاوض الظافر في قتل العادل وحضر معهم مؤيداً لدولة الأمير أسامة بن منقذ أحد أمراء شيزر وكان مقرباً عند الظافـر وصديقـا لعبـاس فاستصـوب ذلـك وحـث عليـه وخـرج عبـاس بالعساكـر إلى بلبيس وأوصـى ابنـه نصيـر بقتله فجاء قي جماعة إلى بيت جدته والعادل نائم فدخل إليه وضربه فلم يجهـز عليـه وخـرج إلـى أصحابـه‏.‏ ثـم دخلوا جميعاً فقتلوه وجاؤوا برأسه إلى الظافر ورجع عباس من بلبيس بالعساكر فاستوزره الظافر وقام بالدولة وأحسن إلى الناس وأيس أهل عسقلان من المدد فأسلموا أنفسهم وبلدهم بعد حصار طويل وكان ذلك كله سنة ثمان وأربعين‏.‏

  مقتل الظفر وأخويه وولاية ابنه الفائز

ولمـا وزر عبـاس للظافـر وقـام بالدولـة كـان ولـده نصير من ندمان الظافر وكان يهواه كما تقدم‏.‏ وكان أسامة بن منقذ من خلصاء عباس وأصدقائه فقبح عليه سوء المقالة في ابنه وأشـار عليـه بقتـل الظافـر فاستدعـى ابنـه نصيـرا وقبح عليه في شناعة الأحدوثة فيه بين الناس وأغراه باغتيال الظافـر ليمحـو عنـه مـا يتحـدث بـه النـاس فسـأل نصيـر مـن الظافـر أن يأتـي إلـى بيتـه فـي دعـوة فركـب مـن القصـر إليـه فقتلـه نصيـر ومـن جـاء معـه ودفنهـم في داره وذلك في محرم سنة تسع وأربعين وباكر إلى القصر ولم ير الظافر وسأل خدام القصر فأحسن العذر ورجع إلى أخوي الظافر يوسف وجبريل فخبرهما بركوب الظافر إلى دار نصير فقالا له‏:‏ خبر الوزير‏.‏ فلما جاء عبـاس مـن الغـد أخبـره بأنـه ركـب إلـى بيت نصير ابنه ولم يعد فاستشاط غيظاً عليه ورماه بأنه داخل أخويه في قتله‏.‏ ثم استدعاهما فقتلهما وقتل معهما ابنا هنالك لحسن بن الحافظ‏.‏ ثم أخـرج ابنـه القاسـم عيسـى ابن خمس سنين وحمله على كتفه وأجلسه على سرير الملك وبايع له بالخلافة ولقبه الفائز بالله ونقل عباس بسب ذلك ما في القصر من الأموال والذخائر ما لا حد له‏.‏ وعند خروجه بأخويه رأى القتلى فاضطرب وفزع وبقي سائر أيامه يعتاده الصرع‏.‏ وزارة الصالح بن رزيك‏:‏ ولما قتل الظافر وأخواه كما ذكرناه كتب النساء من القصر إلى طلائع بن زريك وكان والياً علـى الأشمونيـن والبهنسـة‏.‏ وجـاء الخبـر بـأن النـاس اختلفوا على عباس بسبب ذلك فجمع وقصد القاهرة ولبس السواد حزنا ورفع على الرماح الشعور التي بعث بها النساء حزناً‏.‏ ولما عبر البحر خرج عباس وولده ودفعوا ما قدروا عليه من مال وسلاح من حاصل الدولة ومعهما صديقهما أسامة بن منقذ فاعترضهم الفرنج وقاتلوا فقتل عباس وأسر ولده ونجا أسامة إلى الشام‏.‏ ودخـل طلائـع القاهـرة فـي ربيـع سنـة تسـع وخمسيـن وجـاء إلـى القصـر راجـلا‏.‏ ثـم مضـى إلـى دار عباس ومعه الخادم الذي حضر لقتله فاستخرجه من التراب ودفنه عند آبائه وخلع الفائز عليه الوزارة ولقبه الصالح‏.‏ وكان إمامياً كاتباً أديبا فقام بأمر الدولة وشرع في جمع الأموال والنظـر فـي الولايـات‏.‏ وكـان الأوحـد بـن تميـم مـن قرابـة عبـاس واليـاً على تنيس وكان لما سمع بفعله قريبه عباس جمع وقصد القاهرة فسبقه طلائع فلما إستقل بالوزارة أعاده إلى عمله بدمياط وتنيـس‏.‏ ثـم بعـث فـي فـداء نصيـر مـن عبـاس بـن الفرنـج فجـيء بـه وقتلـه وصلبـه بـه زويلـه‏.‏ ثم نظر فـي المزاحميـن مـن أهـل الدولـة ولـم يكن أرفع رتبة من تاج الملوك قايماز وابن غالب فوضع عليهما الجند فطلبوهما فهربا ونهب دورهما وتتبع كبراء الأمراء بمثل ذلك حتى خلا الجو ووضع الرقباء والحجاب على القصر وثقلت وطأته على الحرم ودبرت عمة الفائـز فـي قتـل الصلـح وفرقت الأموال في ذلك‏.‏ ونمي الخبر إليه فجاء إلى القصر وأمر الأستاذين والصقالبة بقتلها فقتلوهـا سـراً وصـار الفائـز فـي كفالـة عمتـه الصغـرى وعظـم إشتـداد الفائـز واستفحـل أمـره وأعطى الولايات للأمراء واتخذ مجلساً لأهل الأدب يسامرون فيه وكان يقرض الشعر ولا يجيده‏.‏ وولى شاور السعدي على قرضه وأشار عليه حجابه يصرفـه واستقدمـه فامتنـع وقـال‏:‏ إن عزلنـي دخلـت بلـاد النوبـة‏.‏ وعلى عهده كان استيلاء نور الدين محمود الملك العادل على دمشق من يد ابن طغتكين أتابك تتش سنة تسع وأربعين وخمسمائة‏.‏

  وفاة الفائز وولاية العاضد

ثم توفي الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى بن الظافر إسماعيل سنة خمس وخمسين لست سنين من خلافته فجاء الصالح بن رزيك إلى القصر وطلب الخدام بإحضار أبناء الخلفاء ليختار منهم وعدل عن كبرائهم إلى صغرائهم لمكان استبداده فوقع اختياره على أبي محمد عبد الله بن يوسف قتيل عباس فبايع له بالخلافة وهو غلام ولقبه العاضد لدين الله وزوجه ابنته وجهزها بما لم يسمع بمثله‏.‏

  مقتل الصالح بن رزيك وولاية ابنه رزيك

ولما استفحل يمر الصالح وعظم استبداده بجباية الأموال والتصرف وحجر العاضد تنكر له الحـرم ودس إلـى الأمـراء بقتلـه‏.‏ وتولـت كبـر ذلـك عمـة العاضد الصغرى التي كانت كافلة الفائز بعد أختها‏.‏ واجتمع قوم من القواد والسودان منهم الريفـي الخـادم وابـن الداعـي والأميـر بـن قـوام الدولة وكان صاحب الباب وتواطؤا على قتلـه ووقفـوا فـي دهليـز القصـر وأخـرج ابـن قـوام الدولة الناس أمامه وهو خارج من القصر واستوقفه عنبر الريفي يحادثـه وتقـدم ابنـه رزيـك فوثـب عليـه جماعـة منهـم وجرحوه وضرب ابن الداعي الصالح فأثبته وحمل إلى داره فبقي يجود بنفسه يومه ذلك‏.‏ وإذا أفاق يقول رحمك الله يا عباس ومات من الغد‏.‏ وبعث إلى العاضد يعاتبه على ذلك فحلف على البراءة من ذلك ونسبه إلى العمـة وأحضـر ابنـه رزيـك وولـاه الوزارة مكان أبيه ولقبه العادل فأفذ له في الأخذ بثأره فقتل العمة وابن قوام الدولة والأستاذ عنبر الريفي وقام بحمل الدولة وأشير عليه بصرف شاور من قوص وقد كان أبوه أوصاه ببقائه وقال له قد ندمت على ولايته ولم يمكني عزله فصرفه وولى مكانه الأمير بن الرفعة فاضطـرب شـاور وخرج إلى طريق الواحات وجمع وقصد القاهرة وجاء الخبر إلى رزيك فعجز عـن لقائـه وخـرج فـي جماعـة من غلمانه بعدة أحمال من المال والثياب والجوهر وانتهى إلى طفيحة واعترضه ابن النضر وقبض عليه وجاء به إلى شاور فاعتقله واعتقل معه أخاه فأراد الهرب من محبسه فوشى به أخوه فقتل لسنة من ولايته ولتسع سنين من ولاية أبيه‏.‏ وزارة شاور ثم الضرغام من بعده ودخل شاور القاهرة سنة ثمان وخمسين ونزل بدار سعيد السعداء ومعه ولده طبن وشجاع والطازي وولاه العاضد الوزارة ولقيه أمير الجيوش وأمكنه من أموال بني رزيـك فاستصفـى معظمها وزاد أهل الرواتـب والجرايـات عشـرة أمثالهـا واحتجـب عـن النـاس وكـان الصالـح بـن رزيك قد أنشأ في لواتة أمراء يسمون البرقية وكان مقدمهم الضرغام وكان صاحب البـاب فنازع شاور في الوزارة لتسعة أشهر من ولايته وثار عليه وأخرجه من القاهرة فلحق بالشام وقتل ولده علياً وكثيراً من أمراء المصريين حتى ضعفت الدولة وخلت من الأعيان وأدى ذلك إلى خرابها‏.‏

  مسير شيركوه وعساكر نور الدين إلى مصر مع شاور

ولما لحق شاور إلى الشام نزل على الملك العادل نور الدين بدمشق صريخاً وشرط له ثلث الجباية على أن يقيم له العساكر‏.‏ وجهز نور الدين شيركوه وكان مقدماً في دولته ويذكر سبب إتصالـه بـه فـي موضعه فساروا في جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وقد تقدم نور الدين إلى أسد الدين شيركوه بأن يعيد شاور إلى وزارته وينتقم له ممن نازعه وسار نور الدين بعساكره إلى طرف بلاد الفرنج ليمنعهم من اعتراض أسد الدين إن هموا به ولمـا وصـل أسـد الديـن وشاور إلى بلبيس لقيهم ناصر الدين همام وفخر الدين همام أخو الضرغام في عساكر مصر فهزموه ورجع إلى القاهرة وقتل رفقاؤه الأمراء البرقية الذين أغروه بشاور‏.‏ ودخل أسد الدين القاهرة ومعه أخو الضرغام أسيراً وفر الضرغام فقتل بالجسر عند مشهد السيدة نفيسة وقتل أخواه وعاد شاور إلى وزارته وتمكن منها‏.‏ ثم نكث عهده مع أسد الدين وسلطانه وصرفه إلى الشام‏.‏

  فتنة أسد الدين مع شاور وحصاره

ولمـا رجـع أسـد الدين من مصر إلى الشام أقام بها في خدمة نور الدين‏.‏ ثم استأذن نور الدين العـادل سنـة اثنتيـن وستيـن فـي العـود إلـى مصـر فـأذن لـه وجهـزه فـي العساكـر وسـار إلـى مصر ونازل بلاد الفرنج في طريقه ثم وصل إلى من ديار مصر وعبر النيل إلى الجانب الغربي ونزل الجيزة وتصرف في البلاد الغربية نيفاً وخمسين واستمد شاور الفرنج وجاء‏.‏ بهم إلى مصر وخرج معهم للقاء أسد الدين شيركوه فأدركوه بالصعيد فرجعا للقائهـم علـى رهـب لكثـرة عددهـم وصدقهـم القتـال فهزمهـم علـى قلـة مـن معه لم يبلغوا ألفي فارس‏.‏ ثم سار إلى الإسكندرية وهو يجبي الأموال في طريقه إلى أن وصلها فاستأمن أهلها وملكها وولى عليها صلاح الدين يوسف بن أخيه نجم الدين أيوب ورجع إلى جباية الصعيد‏.‏ واجتمعت عساكر مصر والفرنج على القاهرة وأزاحوا عللهم وساروا إلى الأسكندرية وحاصروا بها صلاح الدين فسار أسد الدين إليهم من الصعيد ثم خذله بعض من معه من التركمان بمداخلة شاور وبعثوا له أثر ذلك في الصلح فصالحهم ورد إليهم الإسكندرية ورجع إلى دمشق فدخلها آخر ذي القعدة من سنـة اثنتين وستين‏.‏ واستطال الفرنج على أهل مصر وشرطوا عليهم أن ينزلوا القاهرة وشحنة وأن تكون أبوابها بأيديهم لئلا تدخل عساكر نور الدين وقرر ضريبة يحملها كل سنة فأجابه إلى ذلك‏.‏ رجوع أسد الدين إلى مصر ومقتل شاور وزارته ثم طمع الإفرنج في مصر واستطالوا على أهلها وملكوا بلبيس واعتزموا على قصد القاهرة‏.‏ وأمر‏.‏ شاور بتخريب مصر خشية عليها منهم فحرقت ونهب أهلها ونزل الفرنج على القاهرة وأرسل العاضد إلى نور الدين يستنجده وخشي شاور من إتفاق العاضد ونور الدين فداخل الفرنج في الصلح على ألفي ألف دينار مصرية معجلة وعشرة آلاف إردب من الزرع وحذرهم أمر القهر إلى ذلك وكان فيه السفير الجليس بن عبد القوي وكان الشيخ الموفق كاتب السر وكان العاضد قد أمرهم بالرجوع إلى رأيه وقال‏:‏ هو رب الحرمة علينا وعلـى آبائنـا وأهـل النصيحة لنا‏.‏ فأمر الكامل شجاع بن شاور القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني أن يأتيه ويشاوره فقال له قل لمولانا يعني العاضد أن تقرير الجزية للفرنـج خيـر مـن دخـول الغـز للبلـاد وإطلاعهم على الأحوال‏.‏ ثم بعث نور الدين العساكر مع أسد الدين شيركوه مدداً للعاضد كما سأل وبعث معه صلاح الدين ابن أخيه وجماعة الأمراء فلما سمع الفرنج بوصولهم أفرجوا عن القاهـرة ورجعـوا إلـى بلادهم‏.‏ وقال ابن الطويل مؤرخ دولة العبيدين‏:‏ إنه هزمهم على القاهرة ونهب معسكرهم ودخل أسد الديـن إلـى القاهـرة فـي جمـادى سنـة أربـع وستيـن وخلـع عليـه العاضـد ورجع إلى معسكره وفرضت له الجرايات‏.‏ وبقي شاور على ريبة وخوف وهو يماطله فيمـا يعيـن لـه مـن الأمـوال‏.‏ ودس العاضـد إلـى أسـد الديـن بقتـل شـاور وقـال‏:‏ هـذا غلامنـا ولا خيـر لـك في بقائه ولا لنا فبعث عليه صلاح الدين بن أخيه وعز الدين خرديك‏.‏ وجاء شاور إلى أسد الدين على عادته فوجده عند قبر الإمام الشافعي فسار إليه هنالك فاعترضه صلاح الدين وخرديك فقتلاه وبعثا برأسه إلى العاضد ونهبت العامة لدوره واعتقل ابناه شجاع والطازي وجماعة من أصحابه بالقصر وخلع عليه للوزارة واستقر في الأمـر وغلـب علـى الدولـة وأقطـع البلـاد لعساكـره‏.‏ واستعـد أصحابـه فـي ولايتهـا ورد أهـل مصر إلى بلدهم وأنكر ما فعلوه في تخريبها‏.‏ ثم اجتمع بالعاضد مرة أخرى وقال له جوهر الأستاذ‏:‏ يقول لك مولانا لقد تيقنا أن الله أدخرك نصرة لنا على أعدائنا فحلف له أسد الدين على النصيحة فقال له‏:‏ الأمل فيك أعظم وخلع عليه وحسن عنده موقع الجليس بن عبد القوي وكان داعي الدعاة وقاضي القضاة فأبقاه على مراتبه‏.‏ ثـم توفـي أسـد الديـن رحمـه الله تعالى لشهرين في أيام قلائل من وزارته وقيل لأحد عشر شهراً وأوصـى أصحابـه أن لا يفارقـوا القاهرة‏.‏ ولما توفي كان معه جماعة من الأمراء النورية منهم عين الدولة الفاروقي وقطـب الديـن نسـال وعيـن الديـن المشطـوب الهكـاوي وشهـاب الديـن محمـود الحازمـي فتنازعـوا فـي طلـب الرياسة وفي الوزارة جمع كل أصحابه للمغالبة‏.‏ ومال العاضد إلى صلاح الدين لصغره وضعفه عنهم ووافقه أهل دولته على ذلك بعد أن ذهب كثير منهم إلى دفع الغز وعساكرهم إلى شرقية ويولى عليهم قراقوش‏.‏ ومال آخرون إلى وزارة صلاح الدين ومـال العاضـد إلـى ذلـك لمكافأتـه عـن خدمتـه السالفة فاستدعاه وولاه الوزارة واضطرب أصحابه‏.‏ وكان الفقيه عيسى الهكاري من خلصاء صلاح الدين فاستمالهم إليه إلا عين الدولة الفاروقي فأنه سار إلى الشام وقام صلاح الدين بوزارة مصر نائباً عن نور الدين يكاتبه بالأمير الأصفهسان ويشركه في الكتاب مع كافة الأمراء بالديـار المصريـة‏.‏ ثـم استبـد صلـاح الديـن بالأمـور وضعف أمر العاضد وهدم دار المعرفة بمصر وكانت حبسا‏.‏ وبناها مدرسة للشافعية وبنى دار الغزل كذلك للمالكية وعزل قضاة الشيعة وأقام قاضياً شافعياً في مصر واستناب في جميع البلاد‏.‏