فصل: وفاة المغيرة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  أمر الحكمين

ولما انقضى الأجل وحان وقت الحكمين بعث علي أبا موسى الأشعري في أربعمائة رجل عليهم شريح بن هاني الحارثي ومعهم عبد الله بن عباس يصلي بهم وأوصى شريحاً بموعظة عمرو‏.‏ فلما سمعها قال متى كنت أقبل مشورة علي واعتد برأيه‏.‏ قال‏:‏ وما يمنعك أن تقبل من سيد المسلمين وأساء الرد عليه فسكت عنه‏.‏ وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام والتقوا بأذرح من دومة الجندل فكان أصحاب عمرو أطوع من أصحاب ابن عباس لابن عباس حتى لم يكونوا يسألونه عن كتاب معاوية إذا جاءه‏.‏ ويسأل أهل العراق ابن عباس ويتهمونه‏.‏ وحضر مع الحكمين عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام وعبد الرحمن بن يغوث الزهري وأبو جهم بن حذيفة العدوي والمغيرة بن شعبة وسعد بن أبي وقاص على خلاف فيه وقيل ندم على حضوره فأحرم بعمرة من بيت المقدس‏.‏ ولما اجتمع الحكمان قال عمرو لأبي موسى أما تعلم أن عثمان قتل مظلومأ وأن معاوية وقومه أولياؤه قال بلى‏!‏ قال فما يمنعك منه وهو في قريش كما علمت وإن قصرت به السابقة قدمه حسن السياسة وإنه صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتبه والطالب بدم عثمان وعرض بالولاية‏.‏ فقال له أبو موسى يا عمرو اتق الله واعلم إن هذا الأمر ليس بالشرف وإلا لكان لآل أبرهة بن الصباح إنما هو بالدين والفضل مع أنه لو كان بشرف قريش لكان لعلي بن أبي طالب وما كنت لأرى لمعاوية طلبه دم عثمان وأوليه وأدع المهاجرين الأولين‏.‏ وأما تعريضك بالولاية فلو خرج لي عثمان عن سلطانه ما وليته وما أرتشي في حكم الله‏.‏ ثم دعاه إلى تولية عبد الله بن عمر‏.‏ قال له عمرو‏:‏ فما يمنعك من ابني وهو من علمت‏.‏ فقال له رجل صدق ولكنك غمسته في الفتنة‏.‏ فقال عمرو‏:‏ إن منا الأمر لا يصلح إلا لرجل له ضرس يأكل ويطعم - وكانت في ابن عمر غفلة‏.‏ وكان ابن الزبير بإزائه فنبهه لما قال‏.‏ فقال ابن عمر لا أرشو عليها أبداً ثم قال أبو موسى يا ابن العاص إن العرب أسندت أمرها إليك بعد المقارعة بالسيوف فلا تردهم في فتنة‏.‏ قال له فخبرني ما رأيك قال أرى أن نخلع الرجلين ونجعل الأمر شورى فيختار المسلمون لأنفسهم‏.‏ فقال عمرو الرأي ما رأيت‏!‏ ثم أقبلوا على الناس وهم ينتظرونهم وكان عمرو قد عود أبا موسى أن يقدمه في الكلام لما له من الصحبة والسن‏.‏ فقال يا أبا موسى‏!‏ أعلمهم أن رأينا قد اتفق فقال‏:‏ إنا رأينا أمراً نرجو الله أن يصلح به الأمة فقال له ابن عباس‏:‏ ويحك أظنه خدعك فاجعل له الكلام قبلك فأبى وقال‏:‏ أيها الناس إنا نظرنا في أمر الأمة فلم نر أصلح لهم مما اتفقنا عليه وهو أن نخلع علياً ومعاوية ويولي الناس أمرهم من أحبوا وإني قد خلعتهما فولوا من أردتم ورأيتموه أهلاً‏.‏ فقال عمرو‏:‏ إن هذا قد خلع صاحبه وقد خلعته كما خلعه وأثبت معاوية فهو ولي ابن عفان وأحق الناس بمقامه‏.‏ ثم عدا ابن عباس وسعد على أبي موسى باللائمة وقال ما أصنع غدرني ورجع باللائمة على عمرو وقال لا وفقك الله غدرت وفجرت‏.‏ وحمل شريح على عمرو فضربه بالسيف وضربه ابن عمر كذلك‏.‏ وحجز الناس بينهم فلحق أبو موسى بمكة وانصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة‏.‏ ورجع ابن عباس وشريح إلى علي بالخبر فكان يقنت إذا صلى الغداة ويقول‏:‏ اللهم العن معاوية وعمراً وحبيباً وعبد الرحمن بن مخلد والضحاك بن قيس والوليد وأبا الأعور‏.‏ وبلغ ذلك معاوية فكان إذا قنت يلعن علياً وابن عباس والحسن والحسين والأشتر‏.‏

  أمر الخوارج وقتالهم

ولما اعتزم علي أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه زرعة بن البرح الطائي وحرقوص بن زهير السعدي من الخوارج وقالا له‏:‏ تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم‏.‏ وقال‏:‏ علي‏:‏ قد كتبنا بيننا وبينهم كتاباً وعاهدناهم‏.‏ فقال حرقوص‏:‏ ذلك ذنب تبتغي التوبة منه‏.‏ فقال علي‏:‏ ليس بذنب ولكن عجز من الرأي فقال زرعة‏:‏ لئن لم تدع تحكيم الرجال لأقاتلنك أطلب وجه الله فقال علي‏:‏ بؤساً لك كأني بك قتيلاً تسفى عليك الرياح قال‏:‏ وددت لو كان ذلك وخرجا من عنده يناديان لا حكم إلا لله‏.‏ وخطب علي يوماً فتنادوا من جوانب المسجد بهذه الكلمة فقال علي‏:‏ الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل‏.‏ وخطب ثانياً فقالوا كذلك فقال‏:‏ أما آن لكم عندنا ثلاثاً صحبتمونا لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه ولا الفيء ما دمتم معنا ولا نقاتلكم حتى تبدأونا وننتظر فيكم أمر الله‏.‏ ثم اجتمع الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسبي فوعظهم وحرضهم على الخروج إلى بعض النواحي لإنكار هذه البدع وتبعه حرقوص بن زهير في المقال‏.‏ فقال حمزة بن سنان الأزدي‏:‏ الرأي ما رأيتم لكن لا بد لكم من أمير وراية فعرضوها على زيد بن حصين الطائي ثم حرقوص ثم زهير‏.‏ حمزة بن سنان ثم شريح بن أبي أوفى العنسي فأبوا كلهم ثم عرضوها على عبد الله بن وهب فأجاب فبايعوه لعشر خلون من شوال‏.‏ وكان يقال له ذو الثفنات‏.‏ ثم اجتمعوا في منزل شريح وتشاوروا وكتب ابن وهب إلى أهل البصرة منهم يستحث بهم على اللحاق بهم‏.‏ ولما اعترفوا على المسير تعبدوا ليلة الجمعة ويومها وساروا فخرج معهم طرفة بن عدي بن حاتم الطائي واتبعه أبوه إلى المدائن فلم يقدروا عليه فرجع ولقيه عبد الله بن وهب في عشرين فارسأ وأراد قتله فمنعه من كان معه من طيء‏.‏ وأرسل علي إلى عامل المدائن بن سعد بن مسعود يخبرهم فاستخلف ابن أخيه المختار بن أبي عبيد وسار في طلبهم في خمسمائة فارس فتركوا طريقهم وساروا على بغداد ولحقهم سعد بالكرخ مساءً وجاءه عبد الله في ثلاثين فارساً وقاتلهم وامتنعوا‏.‏ وأشار أصحابه بتركهم إلى أن يأتي فيهم أمر علي فأبى ولما جن عليهم الليل عبر عبد الله إليهم دجلة وسار إلى أصحابه بالنهروان واجتمعت خوارج البصرة في خمسمائة رجل عليهم مسعر بن فدكي التميمي واتبعهم أبو الأسود الدؤلي بأمر ابن عباس ولحقه فاقتتلوا حتى حجز بينهم الليل‏.‏ فأدلج مسعر بأصحابه فلحق بعبد الله بن وهب بالنهروان ولما خرجت الخوارج بايع علياً أصحابه على قتالهم‏.‏ ثم أنكر شأن الحكمين فخطب الناس وقال‏:‏ بعد الحمد لله والموعظة إلا أن هذين الحكمين نبذا حكم القرآن واتبع كل واحد هواه واختلفا في الحكم وكلاهما لم يرشد فاستعدوا للسير إلى الشام‏.‏ وكتب إلى الخوارج بالنهروان بذلك واستحثهم للمسير إلى العدو وقال‏:‏ نحن على الأمر الأول الذي كنا عليه‏.‏ فكتبوا إليه إنك غضبت لنفسك ولم تغضب لربك فإن شهدت على نفسك بالكفر وتبت نظرنا بيننا وبينك وإلا فقد نابذناك على سواء فيئس علي منهم ورأى أن يمضي إلى الشام ويدعهم‏.‏ وقام في الناس يحرضهم لذلك‏.‏ وكتب إلى ابن عباس من معسكره بالنخيلة يأمره بالشخوص في العساكر والمقام إلى أن يأتي أمره فأشخص ابن عباس الأحنف بن قيس في ألف وخمسمائة‏.‏ ثم خطب ثانية وندب الناس وقال‏:‏ كيف ينفر هذا العدد القليل وأنتم ستون ألف مقاتل ثم تهددهم وأمرهم بالنفير مع جارية بن قدامة السعدي فخرج معه ألف وستمائة ثم خطب أهل الكوفة ولاطفهم بالقول وحرضهم وأخبرهم بما فعل أهل البصرة مع كثرتهم وقال‏:‏ ليكتب إلى كل رئيس منكم ما في عشيرته من المقاتلين من أبنائهم إليهم فأجابه سعيد بن قيس الهمداني ومعقل بن قيس وعدي بن حاتم وزياد بن خصفة وحجر بن عدي وأشراف الناس بالسمع والطاعة وأمروا ذويهم ألا يتخلف منهم فكانوا أربعين ألف مقاتل وسبعة عشر ألفأ ممن بلغ الحلم‏.‏ وانتهت عساكره إلى ثمانية وستين ألفاً‏.‏ وبلغه أن الناس يرون تقديم الخوارج فقال لهم‏:‏ إن قتال أهل الشام أهم علينا لأنهم يقاتلونكم ليكونوا ملوكاً جبارين وليتخذوا عباد الله خولاً فرجعوا إلى رأيه وقالوا‏:‏ سر بنا إلى حيث شئت وبينما هو على اعتزام السير إلى أهل الشام بلغه أن خوارج أهل البصرة لقوا عبد الله بن خباب من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قريباً من النهروان فعرفهم بنفسه فسألوه عن أبي بكر وعمر فأثنى خيراً ثم عن عثمان في أول خلافته وآخرها فقال كان محقاً في الأول والآخر فسألوه عن علي قبل التحكيم وبعده فقال هو أعلم بالله وأشد توقياً على دينه‏.‏ فقالوا إنك توالي الرجال على أسمائها ثم ذبحوه وبقروا بطن امرأته ثم قتلوا ثلاث نسوة من طيء‏.‏ فآسف علياً قتلهم عبد الله بن ضباب واعتراضهم الناس‏.‏ فبعث الحرث بن مرة العبدي لينظر فيما بلغه عنهم فقتلوه فقال له أصحابه‏:‏ كيف ندع هؤلاء ونأمن غائلتهم في أموالنا وعيالنا إنما نقدم أمرهم على الشام‏.‏ وقام الأشعث بن قيس بمثل ذلك‏.‏ فوافقهم علي وسار إليهم وبعث من يقول لهم إدفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم فنكف عنكم حتى نرجع من قتال العرب لعل الله يردكم إلى خير فقالوا‏:‏ كلنا قتلهم وكلنا مستحل دماءكم ودماءهم‏.‏ ثم جاءهم قيس بن سعد ووعظهم وأبو أيوب الأنصاري كذلك‏.‏ ثم جاءهم علي فتهددهم وسفه رأيهم وبين لهم شأن الحكمين وإنهما لما خالفا حكم الكتاب والسنة نبذنا أمرهما ونحن على الأمر الأول فقالوا‏:‏ إنا كفرنا بالتحكيم وقد تبنا فإن تبت أنت فنحن معك وإن أبيت فقد نابذناك‏.‏ فقال‏:‏ كيف أحكم على نفسي بالكفر بعد إيماني وهجرتي وجهادي ثم انصرف عنهم‏.‏ وقيل إن علياً خطبهم وأغلظ عليهم فيما فعلوه من الاستعراض والقتل فتنادوا لا تكلموهم وتأهبوا للقاء الله‏.‏ ثم قصدوا جسر الخوارج ولحقهم علي دونه وقد عبى أصحابه وعلى ميمنته حجر بن عدي وعلى ميسرته شبث بن ربعي أو معقل بن قيس وعلى الخيل أبو أيوب وعلى الرجالة أبو قتادة وعلى أهل المدينة سبعمائة أو ثمانمائة قيس بن سعد‏.‏ وعبأت نحوه الخوارج على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي وعلى الميسرة شريح بن أوفى العنسي وعلى الخيل حمزة بن سنان الأسدي وعلى الرجالة حرقوص بن زهير ودفع علي إلى أبي أيوب راية أمان لهم لمن جاءها ممن لم يقتل ولم يستعرض فناداهم إليها وقال‏:‏ من انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن‏.‏ فاعتزل عنهم فروة بن نوفل الأشجعي في خمسمائة وقال أعتزل حتى يتضح لي أمر في قتال علي فنزل الدسكرة‏.‏ وخرج آخرون إلى الكوفة ورجع آخرون إلى علي وكانوا أربعة آلاف‏.‏ وبقي منهم ألف وثمانمائة فحمل عليهم علي والناس حتى فرقهم على الميمنة والميسرة‏.‏ ثم استقبلتهم الرماة وعطفت عليهم الخيل من المجنبتين ونهض إليهم الرجال بالسلاح فهلكوا كلهم في ساعة واحدة كأنما قيل لهم موتوا وقتل عبد الله بن وهب وزيد بن حصن وحرقوص بن زهير وعبد الله بن شجرة وشريح بن أوفى‏.‏ وأمر علي أن يلتمس المخدج في قتلاهم وهو الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في علاماتهم فوجد في القتلى‏.‏ فاعتبر علي وكبر واستبصر الناس وأخذ ما في عسكرهم من السلاح والدواب فقسمه بين المسلمين ورد عليهم المتاع والإماء والعبيد‏.‏ ودفن عدي بن حاتم ابنه طرفة ورجالاً من المسلمين فنهى علي عن ذلك وارتحل ولم يفقد من أصحابه إلا سبعة أو نحوهم‏.‏ وشكى إليه الناس الكلال ونفود السهام والرماح وطلبوا الرجوع إلى الكوفة ليستعدوا فإنه أقوى على القتال‏.‏ وكان الذي تولى كلامه الأشعث بن قيس فلم يجبه وأقبل فنزل النخيلة ومنعهم من دخول منازلهم حتى يسيروا إلى عدوهم فتسللوا أيام المقامة إلى البيوت وتركوا المعسكر خالياً‏.‏ فلما رأى علي ذلك دخل في ندبهم ثانياً فلم ينفروا فأقام أياماً ثم كلم رؤساءهم عن رأيهم والذي يبطىء بهم فلم ينشط لذلك إلا القليل‏.‏ فخطبهم وأغلظ في عتابهم وأعلمهم بما له عليهم من الطاعة في الحق والنصح فتثاقلوا وسكتوا‏.‏

  ولاية عمرو بن العاص على مصر

قد تقدم لنا ما كان من اجتماع العثمانية بنواحي مصر مع معاوية بن حديج السكوني وإن محمد بن أبي بكر بعث إليهم العساكر من الفسطاط مع ابن مضاهم فهزموه وقتلوه واضطرمت الفتنة بمصر على محمد بن أبي بكر وبلغ ذلك علياً فبعث إلى الأشتر من مكان عمله بالجزيرة وهو نصيبين فبعثه على مصر وقال‏:‏ ليس لها غيرك‏.‏ وبلغ الخبر إلى معاوية وكان قد طمع في مصر فعلم إنها ستمتنع بالأشتر‏.‏ وجاء الأشتر فنزل على صاحب الخراج بالقلزم فمات هنالك وقيل إن معاوية بعث إلى صاحب القلزم فسمه على أن يسقط عنه الخراج وهذا بعيد‏.‏ وبلغ خبر موته علياً فاسترجع واسترحم وكان محمد بن أبي بكر لما بلغته ولاية الأشتر شق عليه فكتب علي يعتذر إليه وإنه لم يوله لسوء رأيه في محمد وإنما هو لما كان يظن فيه من الشدة‏.‏ فقد صار إلى الله ونحن عنه راضون فرضي الله عنه وضاعف له الثواب فاصبر لعدوك وشمر للحرب وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وأكثر من ذكر الله والإستعانة به والخوف منه يكفيك ما أهمك ويعينك على ما ولاك فأجابه محمد بالرضا برأيه والطاعة لأمره‏.‏ وأنه مزمع على حرابة من خالفه‏.‏ ثم لما كان من أمر الحكمين ما كان واختلف أهل العراق على علي وبايع أهل الشام معاوية بالخلافة‏.‏ فأراد معاوية صرف عمله إلى مصر لما كان يرجو من الاستعانة على حروبه بخراجها‏.‏ ودعا بطانته أبا الأعور السلمي وحبيب بن مسلمة وبسر بن أرطاة والضحاك بن قيس وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد وشرحبيل بن السمط وشاورهم في شأنها فأشار عليه عمرو بافتتاحها‏.‏ وأشار ببعث الجيش مع حازم صارم يوثق ويجتمع إليه من كان على رأيه من العثمانية‏.‏ فقال معاوية‏:‏ بل الرأي أن نكاتب العثمانية بالوعد ونكاتب العدو بالصلح والتخويف ونأتي الحرب بعد ذلك‏.‏ ثم قال معاوية‏:‏ إنك يا ابن العاص بورك لك في العجلة وأنا في التؤدة فقال‏:‏ إفعل ما تراه وأظن الأمر لا يصير إلا للحرب‏.‏ فكتب معاوية إلى معاوية بن حديج ومسلمة بن مخلد يشكرهما على الخلاف ويحثهما على الحرب والقيام في دم عثمان وفرحا بجوابهما فطلب المدد فأمر عمرو بن العاص أن يتجهز إلى مصر في ستة آلاف رجل ووصاه بالتوبة وترك العجلة فنزل أدنى أرض مصر واجتمعت إليه العثمانية‏.‏ وبعث كتابه وكتاب معاوية إلى محمد بن أبي بكر بالتهديد وإن الناس اجتمعوا عليك وهم مسلموك فأخرج فبعث بالكتابين إلى علي فوعده بإنفاذ الجيوش وأمره بقتال العدو والصبر‏.‏ فقدم محمد بن أبي بدر كنانة بن بشر في ألفين فبعث معاوية عمرو بن حديج وسرحه في أهل الشام فأحاطوا بكنانة فترجل عن فرسه وقاتل حتى استشهد‏.‏ وجاء الخبر إلى محمد بن أبي بكر فافترق عنه أصحابه وفروا وآوى في مفرة إلى خربة واستتر في تلك الخربة فقبض عليه فأخذه ابن حديج وجاء به إلى الفسطاط وطلب أخوه عبد الرحمن من عمرو أن يبعث إلى ابن حديج في البقاء عليه فأبى‏.‏ وطلب محمد الماء فمنعه ابن حديج جزاء بما فعل بعثمان ثم أحرقه في جوف حمار بعد أن لعنه ودعا عليه وعلى معاوية وعمرو‏.‏ وكانت عائشة تقنت في الصلاة بالدعاء على قتلته ويقال إنه لما انهزم اختفى عند جبلة بن مسروق حتى أحاط به معاوية بن حديج وأصحابه فخرج إليهم فقاتل حتى قتل‏.‏ ولما بلغ الخبر علياً خطب الناس وندبهم إلى أعدائهم وقال‏:‏ اخرجوا بنا إلى الجزعة بين الحيرة والكوفة‏.‏ وخرج عن الغد إلى منتصف النهار يمشي إليها حتى نزلها فلم يلحق به أحد فرجع من العشي وجمع أشراف الناس ووبخهم فأجاب مالك بن كعب الأرحبي في ألفين‏.‏ فقال سر وما أراك تدركهم فسار خمساً‏.‏ ولحق حجاج بن عرفة الأنصاري قادماً من مصر فأخبر بقتل محمد‏.‏ وجاء إلى علي عبد الرحمن بن شبث الفزاري وكان عيناً له بالشام‏.‏ فأخبره بقتل محمد واستيلاء عمرو على مصر فحزن بذلك وبعث إلى مالك بن كعب أن يرجع بالجيش‏.‏ وخطب الناس فأخبرهم بالشبر وعذلهم على ما كان منهم من التثاقل حتى فات هذا الأمر ووبخهم طويلاً ثم نزل‏.‏

  دعاء ابن الحضرمي بالبصرة لمعاوية ومقتله

ولما افتتح معاوية مصر بعث عبد الله بن الحضرمي إلى البصرة داعياً لهم وقد آنس منهم الطاعة بما كان من قتل علي إياهم يوم الجمل وأنهم على رأيه في دم عثمان وأوصاه بالنزول في مصر وأن يتودد إلى الأزد وحذره من ربيعة وقال‏:‏ إنهم ترائبه يعني شيعة لعلي‏.‏ فسار ابن الحضرمي حتى قدم البصرة‏.‏ وكان ابن عباس قد خرج إلى علي واستخلف عليها زياداً ونزل في بنى تميم واجتمع إليه العثمانية فحضهم على الطلب بدم عثمان من علي‏.‏ فقال الضحاك بن قيس الهلالي‏:‏ قبح الله ما جثت به وما تدعو إليه تحملنا على الفرقة بعد الاجتماع وعلى الموت ليكون معاوية أميراً فقال له عبد الله بن حازم السلمي اسكت‏!‏ فلست لها بأهل‏.‏ ثم قال لابن الحضرمي نحن أنصارك ويدك والقول‏!‏ قولك فقرأ كتاب معاوية يدعوهم إلى رأيه من الطلب بدم عثمان على أن يعمل فيهم بالسنة ويضاعف لهم الأعطية فلما فرغ من قراءته قام الأحنف بن قيس معتزلاً وحض عمر بن مرحوم على لزوم البيعة والجماعة‏.‏ وقام العباس بن حجر في مناصرة ابن الحضرمي فقال له المثنى بن خرمة‏:‏ لا يغرنك ابن صحار وارجع من حيث جئت‏.‏ فقال ابن الحضرمي لضبرة بن شيمان الأزدي ألا تنصرني قال لو نزلت عندي فعلت‏!‏ ودعا زياد أمير البصرة حصين بن المنذر ومالك بن مسمع ورؤوس بكر بن وائل إلى المنعة من ابن الحضرمي إلى أن يأتي أمر علي فأجاب حصين وتثاقل مالك وكان هواه في بني أمية‏.‏ فأرسل زياد إلى صبرة بن شيمان يدعوه إلى الجدار بما معه من بيت المال فقال‏:‏ إن حملته إلى داري أجرتك فتحول إليه ببيت المال والمنبر وكان يصلي الجمعة في مسجد قومه وأراد زياد اختبارهم فبعث إليهم من ينذرهم بمسيره إليهم وأخذ زياد جنداً منهم بعد صبره لذلك وقال‏:‏ إن جاءوا جئناهم‏.‏ وكتب زياد إلى علي بالخبر فأرسل أعين بن ضبيعة لنفرق تميماً عن ابن الحضرمي ويقاتل من عصاه بمن أطاعه‏.‏ فجاء لذلك وقاتلهم يوماً أو بعض يوم‏.‏ ثم اغتاله قوم فقتلوه يقال من الخوارج‏.‏ ولما قتل ابن الحضرمي بالبصرة والناس مختلفون على علي طمع أهل النواحي من بلاد العجم في كسر الخراج وأخرج أهل فارس عاملهم سهل بن حنيف فأشار علي الناس فأشار عليه جارية بن قدامة بزياد فأمر ابن عباس أن يوليه عليه فبعثه إليها في جيش كثيف فطوى بهم أهل فارس وضرب ببعضهم بعضاً وهرب قوم وأقام آخرون وصفت له فارس بغير حرب‏.‏ ثم تقدم إلى كرمان فدوخها مثل ذلك فاستقامت وسكن الناس ونزل اصطخر وسكن قلعة بها تسمى قلعة زيار‏.‏

  فراق ابن عباس لعلي رضي الله عنه

وفي سنة أربعين فارق عبد الله بن عباس علياً ولحق بمكة وذلك أنه مر يوماً بأبي الأسود ووبخه على أمر فكتب أبو الأسود إلى علي بأن ابن عباس استتر بأموال الله فأجابه علي يشكره على ذلك وكتب لابن عباس ولم يخبره بالكاتب فكتب إليه بكذب ما بلغه من ذلك وإنه ضابط للمال حافظ له‏.‏ فكتب إليه علي‏:‏ أعلمني ما أخذت ومن أين أخذت وفيما وضعت فكتب إليه ابن عباس فهمت استعظامك لما رفع إليك إني رزأته من هذا المال فابعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه واستدعى أخواله من بني هلال فجاءته قيس كلها فحمل المال وقال‏:‏ هذه أرزاقنا واتبعه أهل البصرة ووقفت دونه قيس فرجع صبرة بن شيمان الهمداني بالأزد وقال قيس‏:‏ إخواننا وهم خير من المال فأطيعوني‏.‏ وانصرف معهم بكر وعبد القيس ثم انصرف الأحنف بقومه من بني تميم وحجز بقية بني تميم عنه ولحق ابن عباس بمكة‏.‏

  مقتل علي رضي الله عنه

قتل علي رضي الله عنه سنة أربعين لسبع عشرة من رمضان وقيل لإحدى عشرة وقيل في ربيع الآخر والأول أصح‏.‏ وكان سبب قتله أن عبد الرحمن بن ملجم المرادي والبرك بن عبد الله التميمي الصريمي واسمه الحجاج وعمرو بن بكر التميمي السعدي‏:‏ ثلاثتهم من الخوارج لحقوا من فلهم بالحجاز واجتمعوا فتذاكروا ما فيه الناس وعابوا الولاة وترحموا على قتلى النهروان وقالوا‏:‏ ما نصنع بالبقاء بعدهم فلو شرينا أنفسنا وقتلنا أئمة الضلال وأرحنا منهم الناس‏.‏ فقال ابن ملجم‏:‏ وكان من مصر أنا أكفيكم علياً وقال البرك أنا أكفيكم معاوية وقال عمرو بن بكر التميمي‏:‏ إنا أكفيكم عمرو بن العاص وتعاهدوا أن لا يرجع أحد عن صاحبه حتى يقتله أو يموت‏.‏ واتعدوا لسبع عشرة من رمضان وانطلقوا‏.‏ ولقي ابن ملجم أصحابه بالكوفة فطوى خبره عنهم‏.‏ ثم جاء إلى شبيب بن شجرة من أشجع ودعاه إلى الموافقة في شأنه‏.‏ فقال شبيب‏:‏ ثكلتك أمك فكيف تقدر على قتله قال أكمن له في المسجد في صلاة الغداة فإن قتلناه وإلا فهي الشهادة‏.‏ قال ويحك لا أجدني انشرح لقتله مع سابقته وفضله قال ألم يقتل العباد الصالحين أهل النهروان قال بلى‏!‏ فال فنقتله بمن قتله منهم فأجابه‏.‏ ثم لقي امرأةً من تيم الرباب فائقة الجمال قتل أبوها وأخوها يوم النهروان فأخذت قلبه فخطبها فشرطت عليه عبداً وقينة وقتل علي‏.‏ فقال كيف يمكن ما أنت تريدين قالت التمس غرته فإن قتلته شفيت النفوس وإلا فهي الشهادة قال‏:‏ والله ما جئت إلا لذلك ولك ما سألت‏.‏ قالت‏:‏ سأبعث معك من يشد ظهرك ويساعدك فبعثت معه رجلاً من قومها إسمه وردان فلما كانت الليلة التي واعد ابن ملجم أصحابه على قتل علي وكانت ليلة الجمعة جاء إلى المسجد ومعه شبيب ووردان وجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي للصلاة‏.‏ فلما خرج ونادى للصلاة علاه شبيب بالسيف فوقع بعضادة الباب وضربه ابن ملجم على مقدم رأسه وقال‏:‏ الحكم لله لا لك يا علي ولا لأصحابك وهرب وردان إلى منزلة وأخبر بعض أصحابه بالأمر فقتله وهرب شبيب مغلساً‏.‏ وصاح الناس به فلحقه رجل من حضرموت فأخذه وجلس عليه والسيف في يد شبيب والناس قد أقبلوا في طلبه‏.‏ وخشي الحضرمي على نفسه لاختلاط الغلس وشد الناس على ابن ملجم واستخلف علي على الصلاة جعدة بن هبيرة وهو ابن أخته أم هانىء فصلى الغداة بالناس وأدخل ابن ملجم مكتوفاً على علي فقال‏:‏ إيه عدو الله ما حملك على هذا قال شحذته أربعين صباحاً وسألت الله أن يقتل به شر خلقة‏.‏ فقال أراك مقتولاً به‏!‏ ثم قال إن هلكت فاقتلوه كما قتلني وإن بقيت رأيت فيه رأيي‏.‏ يا بني عبد المطلب لا تحرضوا على دماء المسلمين وتقولوا قتل أمير المؤمنين لا تقتلوا إلا قاتلي‏.‏ يا حسن‏!‏ أنا إن مت من ضربتي هذه فاضربه بسيفه ولا تمثلن بالرجل فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إياكم والمثلة‏.‏ وقالت أم كلثوم لابن ملجم وهو مكتوف وهي تبكي‏:‏ أي عدو الله لا بأس على أبي والله مخزيك قال فعلام تبكين والله لقد شريته بألف وصقلته أربعين ولو كانت هذه الضربة بأهل بلد ما بقي منهم أحد‏.‏ وقال جندب بن عبد الله لعلي أنبايع الحسن إن فقدناك قال ما آمركم به ولا أنهاكم أنتم أبصر‏.‏ ثم دعا الحسن والحسين ووصاهما قال‏:‏ أوصيكما بتقوى الله ولا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ولا تأسفا على شيء زوى منها عنكما وقولا الحق وارحما اليتيم وأعينا الضائع وكونا للظالم خصماً وللمظلوم ناصراً واعملا بما في كتاب الله ولا تأخذكما في الله لومة لائم‏.‏ ثم قال لمحمد بن الحنفية إني أوصيك بمثل ذلك وبتوقير أخويك لعظيم حقهما عليك ولا تقطع أمراً دونهما‏.‏ ثم وصاهما بابن الحنفية ثم أعاد على الحسن وصيته‏.‏ ولما حضرته الوفاة كتب وصيته العامة ولم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى قبض‏.‏ وأحضر الحسن ابن ملجم فقال له هل لك البقاء علي‏!‏ وإني قد عاهدت الله أن أقتل علياً ومعاوية وإني عاهدت الله على الوفاء بالعهد فخل بيني وبين ذلك فإن قتلته وبقيت فلك عهد الله أن آتيك فقال‏:‏ لا والله حتى تعاين النار ثم قدمه فقتلة وأما البرك فإنه قصد لمعاوية تلك الليلة فلما خرج للصلاة ضربه بالسيف في إليته وأخذ فقال‏:‏ عندي بشرى أتنفعني إن أخبرتك بها قال نعم‏!‏ قال إن أخاً لي قتل علياً هذه الليلة‏.‏ قال فلعله لم يقدر عليه‏.‏ قال بلى إن علياً ليس معه حرس‏.‏ فأمر به معاوية فقتل وأحضر الطبيب فقال‏:‏ ليس إلا الكي أو شربة تقطع منك الولد فقال‏:‏ في يزيد وعبد الله ما تقر به عيني والنار لا صبر لي عليها‏.‏ وقد قيل إنه أمر بقطع البرك فقطع وأقام إلى أيام زياد فقتله بالبصرة‏.‏ وعند ذلك اتخذ معاوية المقصورة وحرس الليل وقيام الشرطة على رأسه إذا سجد‏.‏ ويقال إن أول من اتخذ المقصورة مروان بن الحكم سنة أربع وأربعين حين طعنه اليماني‏.‏ وأما عمرو بن بكر فإنه جلس إلى عمرو بن العاص تلك الليلة فلم يخرج وكان اشتكى فأمر صاحب شرطته خارجة بن أبي حبيبة بن عامر بن لؤي يصلي بالناس فشد عليه فضربه فقتله وهو يرى أنه عمرو بن العاص‏.‏ فلما أخذوه وأدخلوه على عمرو قال‏:‏ فمن قتلت إذا‏.‏ قالوا خارجة فقال لعمرو بن العاص والله ما ظننته غيرك‏!‏ فقال عمر‏:‏ أردت عمراً وأراد الله خارجة‏.‏ وأمر بقتله وتوفي علي رضي الله عنه وعلى البصرة عبد الله بن عباس وعلى قضائها أبو الأسود الدؤلي وعلى فارس زياد بن سمية وعلى اليمن عبيد الله بن لعباس حتى وقع أمر بسر بن أبي أرطاة وعلى مكة والطائف قثم بن عباس وعلى المدينة أبو أيوب الأنصاري وقيل سهل بن حنيف‏.‏

  بيعة الحسن وتسليمه الأمر لمعاوية

ولما قتل علي رضي الله عنه اجتمع أصحابه فبايعوا ابنه الحسن وأول من بايعه قيس بن سعد وقال‏:‏ أبسط يدك على كتاب الله وسنة رسوله وقتال الملحدين فقال الحسن‏:‏ على كتاب الله وسنة رسوله‏.‏ ويأتيان على كل شرط ثم بايعه الناس فكان يشترط عليهم إنكم سامعون مطيعون تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت‏.‏ فارتابوا وقالوا‏:‏ ما هذا لكم بصاحب وما يريد القتال‏.‏ وبلغ الخبر بمقتل علي إلى معاوية فبويع الخلافة ودعي بأمير المؤمنين وكان قد بويع بها بعد اجتماع الحكمين‏.‏ ولأربعين ليلة بعد مقتل علي مات الأشعث بن قيس الكندي من أصحابه‏.‏ ثم مات من أصحاب معاوية شرحبيل بن السمط الكندي وكان علي قبل قتله قد فلما بويع الحسن زحف معاوية في أهل الشام إلى الكوفة فسار الحسن في ذلك الجيش للقائه وعلى مقدمته قيس بن سعد في اثني عشر ألفاً وقيل بل كان عبد الله بن عباس على المقدمة وقيس في طلائعه‏.‏فلما نزل الحسن في المدائن شاع في العسكر أن قيس بن سعد قتل واهتاج الناس وماج بعضهم في بعض وجاءوا إلى سرادق الحسن ونهبوا ما حوله حتى نزعوه بساطه الني كان عليه واستلبوه رداءه وطعنه بعضهم في فخذه‏.‏ وقامت ربيعة وهمدان دونه واحتملوه على سرير إلى المدائن‏.‏ ودخل إلى القصر وكاد أمره أن ينحل فكتب إلى معاوية يذكر له النزول عن الأمر على أن يعطيه ما في بيت المال بالكوفة ومبلغه خمسة آلاف ألف ويعطيه خراج دارابجرد من فارس وأن لا يشتم علياً وهو يسمع‏.‏ وأخبر بذلك أخاه الحسين وعبد الله بن جعفر وعذلاه فلم يرجع إليهما‏.‏ وبلغت صحيفته إلى معاوية فأمسكها وكان قد بعث عبد الله بن عامر وعبد الله بن سمرة إلى الحسن ومعهما صحيفة بيضاء ختم في أسفلها وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة ما شئت فهو لك فاشترط فيها أضعاف ما كان في الصحيفة‏.‏ فلما سلم له وطالبه في الشروط أعطاه ما في الصحيفة الأولى وقال‏:‏ هو الذي طلبت ثم نزعه أهل البصرة خراج دارا بجرد وقالوا‏:‏ هو فيئنا لا نعطيه‏.‏ وخطب الحسن أهل العراق وقال سخى نفسي عنكم ثلاث‏:‏ قتل أبي وطعني وانتهاب بيتي ثم قال ألا وقد أصبحتم بين قبيلتين قبيل بصفين يبكون له وقبيل بالنهروان يطلبون بثأره‏.‏ وأما الباقي فخاذل وأما الباكي فثائر‏.‏ وإن معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله بظبى السيوف وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضى‏.‏ فناداه الناس من كل جانب البقية الباقية فأمضي الصلح‏.‏ ثم بايع لمعاوية لستة أشهر من بيعته ودخل معاوية الكوفة وبايعه الناس‏.‏ وكتب الحسن إلى قيس بن سعد يأمره بطاعة معاوية فقام قيس في أصحابه فقال‏:‏ نحن بين القتال مع غير إمام أو طاعة إمام ضلالة فقال له الناس‏:‏ طاعة الإمام أولى‏.‏ وانصرفوا إلى معاوية فبايعوه وامتنع قيس وانصرف‏.‏ فلما دخل معاوية الكوفة أشار عليه عمرو بن العاص أن يقيم الحسن للناس خطيباً ليبدو للناس عيه فلما قدم حمد الله وقال‏:‏ أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا وإن لهذا الأمر مدة وإن الدنيا دول والله عز وجل يقول لنبيه‏:‏ ‏"‏ وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ‏"‏‏.‏ فقال له معاوية‏:‏ إجلس وعرف أنه خدع في رأيه‏.‏ ثم ارتحل الحسن في أهل بيته وحشمهم إلى المدينة وخرج أهل الكوفة لوداعه باكين فلم يزل مقيماً بالمدينة إلى أن هلك سنة تسع وأربعين‏.‏ وقال أبو الفرج الأصبهاني سنة إحدى وخمسين على فراشه بالمدينة‏.‏ وما ينقل من أن معاوية دس إليه السم مع زوجته جعدة بنت الأشعث فهو من أحاديث الشيعة وحاشا لمعاوية من ذلك‏.‏ وأقام قيس بن سعد على امتناعه من البيعة وكان معاوية قد بعث عبد الله بن عامر في جيش إلى عبيد الله بن عباس لما كتب إليه في الأمان بنفسه فلقيه ليلاً وأمنه وسار معه إلى معاوية فقام بأمر العسكر بعده قيس بن سعد وتعاقدوا على قتال معاوية حتى يشترط لشيعة علي على دمائهم وأموالهم وما كانوا أصابوا في الفتنة‏.‏ وبلغ الخبر إلى معاوية وأشار عليه عمرو في قتاله فقال معاوية‏:‏ يقتل في ذلك أمثالهم من أهل الشام ولا خير فيه ثم بعث إليه بصحيفة ختم في أسفلها وقال‏:‏ اكتب في هذا ما شئت فهو لك‏:‏ فكتب قيس له ولشيعته الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال ولم يسأل مالاً فأعطاه معاوية ذلك لك وبايعه قيس والشيعة الذين معه‏.‏ ثم جاء سعد بن أبي وقاص فبايعه واستقر الأمر معاوية واتفق الجماعة على بيعته وذلك في منتصف سنة إحدى وأربعين وسمي ذلك العام عام الجماعة من أجل ذلك‏.‏ ثم خرج عليه الخوارج من كل جهة من بقية أهل النهروان وغيرهم فقاتلهم واستلحمهم كما يأتي في أخبارهم على ما اشترطناه في تأليفنا من أفراد الأخبار عن الدول أهل النحل دولة دولة وطائفةً طائفة‏.‏ وهذا آخر الكلام في الخلافة الإسلامية وما كان فيها من الردة والفتوحات والحروب ثم الاتفاق والجماعة أوردتها ملخصة عيونها ومجامعها من كتاب محمد بن جرير الطبري وهو تاريخه الكبير فإنه أوثق ما رأيناه في ذلك وأبعد من المطاعن عن الشبه في كبار الأمة وخيارهم وعدولهم من الصحابة رضي الله عنهم التابعين‏.‏ فكثيراً ما يوجد في كلام المؤرخين أخبار فيها مطاعن وشبه في حقهم أكثرها من أهل الأهواء فلا ينبغي أن تسود بها العيون‏.‏ وأبعتها بمفردات من غير كتاب الطبري بعد أن تخيرت الصحيح جهد الطاقة وإذا ذكرت شيئاً في الأغلب نسبته إلى قائله‏.‏ وقد كان ينبغي أن تلحق دولة معاوية وأخباره بدول الخلفاء وأخبارهم فهو تأليهم في الفضل والعدالة والصحبة ولا ينظر في ذلك إلى حديث‏:‏ الخلافة بعدي ثلاثون فإنه لم يصح‏.‏ والحق إن معاوية في عداد الخلفاء وإنما أخره المؤرخون في التأليف عنهم لأمرين‏:‏ الأول‏:‏ إن الخلافة لعهده كانت مغالبة لأجل ما قدمناه من العصبية التي حدثت لعصره وأما قبل ذلك فكانت اختياراً واجتماعاً فميزوا بين الحالتين‏.‏ فكان معاوية أول خلفاء المغالبة والعصبية الذين يعبر عنهم أهل الأهواء بالملوك ويشبهون بعضهم ببعض وحاشى لله أن يشبه معاوية بأحد ممن بعده‏.‏ فهو من الخلفاء الراشدين ومن كان تلوه في الدين والفضل من الخلفاء المروانية ممن تلاه في المرتبة كذلك وكذلك من بعدهم من خلفاء بني العباس‏.‏ ولا يقال‏:‏ إن الملك أدون رتبة من الخلافة فكيف يكون خليفة ملكاً‏.‏ واعلم أن الملك الذي يخالف بل ينافي الخلافة هي الجبروتية والمعبر عنها بالكسروية التي أنكرها عمر على معاوية حين رأى ظواهرها وأما الملك الذي هو الغلبة والقهر بالعصبية والشوكة فلا ينافي الخلافة ولا النبوة فقد كان سليمان بن داود وأبوه صلوات الله عليهما نبيين وملكين وكانا على غاية الاستقامة في دنياهما وعلى طاعة ربهما عز وجل‏.‏ ومعاوية لم يطلب الملك ولا أبهته للاستكثار من الدنيا وإنما ساقه أمر العصبية بطبعها لما استولى المسلمون على الدولة كلها وكان هو خليفتهم فدعاهم بما يدعو الملوك إليه قومهم عندما تستعمل العصبية وتدعو لطبيعة الملك‏.‏ وكذلك شأن الخلفاء أهل الدين من بعده إذا دعتهم ضرورة الملك إلى استعمال أحكامه ودواعيه‏.‏ والقانون في ذلك عرض أفعالهم على الصحيح من الأخبار لا بالواهي‏.‏ فمن جرت أفعاله عليها فهو خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين ومن خرجت أفعاله من ذلك فهو من ملوك الدنيا‏.‏ وإن سمي خليفة في المجاز‏.‏

  الأمر الثاني‏:‏ في ذكر معاوية مع خلفاء بني أمية دون الخلفاء الأربعة

أنهم كانوا أهل نسب واحد عظيمهم معاوية فجعل مع أهل نسبه والخلفاء الأولون مختلفو الأنساب فجعلوا في نمط واحد وألحق بهم عثمان وإن كان من أهل هذا النسب للحوقه بهم قريباً في الفضل والله يحشرنا في زمرتهم ويرحمنا بالاقتداء بهم‏.‏ بسم الله الرحمن الرحيم دولة بني أمية كان لبني عبد مناف في قريش جمل من العدد والشرف‏.‏ لا يناهضهم فيها أحد من سائر بطون قريش‏.‏ وكان فخذاهم بنو أمية وبنو هاشم حياً جميعاً ينتمون لعبد مناف وينسبون إليه‏.‏ وقريش تعرف ذلك وتسأل لهم الرياسة عليهم إلا أن بني أمية كانوا أكثر عدد اً من بني هاشم وأوفر رجالاً والعزة إنما هي بالكثرة قال الشاعر‏:‏ وإنما العزة للكاثر‏.‏ وكان لهم قبيل الإسلام شرف معروف انتهى إلى حرب بن أمية وكان رئيسهم في حرب الفجار‏.‏ وحدث الاخباريون أن قريشا تواقعوا ذات يوم وحرب هذا مسند ظهره إلى الكعبة فتبادر إليه غلمة منهم ينادون يا عم أدرك قومك فقام يجر إزاره حتى أشرف عليهم من بعض الربا ولوح بطرف ثوبه إليهم أن تعالوا فبادرت الطائفتان إليه بعد أن كان حمي وطيسهم‏.‏ ولما جاء الإسلام دهش الناس لما وقع من أمر النبوة والوحي وتنزل الملائكة وما وقع من خوارق الأمور ونسي الناس أمر العصبية مسلمهم وكافرهم‏.‏ أما المسلمون فنهاهم الإسلام عن أمور الجاهلية كما في الحديث أن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها لأننا وأنتم بنو آدم وآدم من تراب‏.‏ وأما المشركون فشغلهم ذلك الأمر العظيم عن شأن العصائب وذهلوا عنه حيناً من الدهر‏.‏ ولذلك لما افترق أمر بني أمية وبني هاشم بالإسلام‏.‏ إنما كان ذلك الإفتراق بحصار بني هاشم في الشعب لا غير‏.‏ ولم يقع كبير فتنة لأجل نسيان العصبيات والذهول عنها بالإسلام حتى كانت الهجرة وشرع الجهاد‏.‏ ولم يبق إلا العصبية الطبيعية التي لا تفارق وهي بعزة الرجل على أخيه وجاره في القتل والعدوان عليه فهذه لا يذهبها شيء ولا هي محظورة بل هي مطلوبة ونافعة في الجهاد والدعاء إلى الدين‏.‏ ألا ترى إلى صفوان بن أمية وقوله عندما انكشف المسلمون يوم حنين وهو يومئذ مشرك في المدة التي جعل له رسول الله فقال له أخوه ألا بطل السحر اليوم فقال له صفوان اسكت فض الله فاك لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن‏.‏ ثم إن شرف بني عبد مناف لم يزل في بني عبد شمس وبني هاشم‏.‏ فلما هلك أبو طالب وهاجر بنوه مع رسول الله وحمزة كذلك‏.‏ ثم من بعده العباس والكثير من بني عبد المطلب وسائر بني هاشم خلا الجو حينئذ من مكان بني هاشم بمكة واسغلظت رياسة بني أمية في قريش ثم استحكمتها مشيخة قريش من سائر البطون في بدر و هلك فيها عظماء بني عبد شمس‏:‏ عتبة وربيعة والوليد وعقبة بن أبي معيط وغيرهم‏.‏ فاستقل أبو سفيان بشرف بني أمية والتقدم في قريش وكان رئيسهم في أحد وقائدهم في الأحزاب وما بعدها‏.‏ ولما كان الفتح قال العباس للنبي لما أسلم أبو سفيان ليلتئذ كما هو معروف وكان صديقاً له يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له ذكراً فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏.‏ ثم من على قريش بعد أن ملكهم يومئذ وقال‏:‏ اذهبوا فأنتم الطلقاء وأسلموا‏.‏ وشكت مشيخة قريش بعد ذلك لأبي بكر ما وجدوه في أنفسهم التخلف عن رتب المهاجرين الأولين وما بلغهم من كلام عمر في تركه شوارهم فاعتذر لهم أبو بكر وقال‏:‏ أدركوا إخوانكم بالجهاد وأنفذهم لحروب الردة فأحسنوا الغناء عن الإسلام وقوموا الأعراب عن الحيف والميل‏.‏ ثم جاء عمر فرمى بهم الروم وأرغب قريشاً في النفير إلى الشام فكان معظمهم هنالك‏.‏ واستعمل يزيد بن أبي سفيان على الشام وطال أمد ولايته إلى أن هلك في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة فولى مكانه أخاه معاوية وأقره عثمان من بعد عمر فاتصلت رياستهم على قريش في الإسلام برياستهم قبيل الفتح التي لم تحل صبغتها ولا ينسى عهدها أيام شغل بني هاشم بأمر النبوة برسوله‏.‏ وما زال الناس يعرفون ذلك لبني أمية‏.‏ وانظر مقالة حنظلة بن زياد الكاتب لمحمد بن أبي بكر‏:‏ أن هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبك عليه بنو عبد مناف‏.‏ ولما هلك عثمان اختلف الناس على علي كانت عساكر علي أكثر عدداً لمكان الخلافة والفضل إلا أنها من سائر القبائل من ربيعة ويمن وغيرهم‏.‏ وجموع معاوية إنما هي جند الشام من قريش شوكة مضر وبأسهم نزلوا بثغور الشام منذ الفتح فكانت عصبيته أشد وأمضى شوكة‏.‏ ثم كسر من جناح علي ما كان من أمر الخوارج وشغله بهم إلى أن ملك معاوية وخلع الحسن نفسه واتفقت الجماعة على بيعة معاوية في منتصف سنة إحدى وأربعين عندما نسي الناس شأن النبوة والخوارق ورجعوا إلى أمر العصبية والتغالب وتعين بنوا أمية للغلب على مضر وسائر العرب ومعاوية يومئذ كبيرهم‏.‏ فلم تتعده الخلافة ولا ساهمه فيها غيره فاستوت قدمه واستفحل شأنه واستحكمت في أرض مصر رياسته وتوثق عقده‏.‏ وأقام في سلطانه وخلافته عشرين سنة ينفق من بضاعة السياسة التي لم يكن أحد من قومه أوفر فيها منه يداً من أهل الترشيح من ولد فاطمة وبني هاشم وآل الزبير وأمثالهم ويصانع رؤوس العرب وقروم مضر بالإغضاء والاحتمال والصبر على الأذى والمكروه‏.‏ وكانت غايته في الحلم لا تدرك وعصابته فيها لا تنزع ومرقاته فيها تزل عنها ذكر أنه مازح عدي بن حاتم يوما يؤنبه بصحبة علي فقال له عدي‏:‏ والله إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا وإن السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ولئن أدنيت إلينا من الغدر شبراً لندنين إليك من الشر باعاً وإن حز الحلقوم وحشرجة الحيزوم لأهون علينا من أن نسمع المساءة في علي فشم السيف يا معاوية يبعث السيف‏.‏ فقال معاوية هذه كلمات حق فاكتبوها وأقبل عليه ولاطفه وتحادثا وأخباره في الحلم كثيرة‏.‏ بعث معاوية العمال إلى الأمصار لما استقل معاوية بالخلافة عام عدم الجماعة بعث العمال إلى الأمصار فبعث على الكوفة المغيرة بن شعبة‏.‏ ويقال إنه ولى عليها أولاً عبد الله بن عمرو بن العاص فأتاه المغيرة منتصحاً وقال عمرو بمصر وابنه بالكوفة فأنت بين نابي أسد فعزله وولى المغيرة‏.‏ وبلغ ذلك عمراً فقال لمعاوية‏:‏ يختان المال فلا تقدر على رده فعد فاستعمل من يخافك‏.‏ فنصب المغيرة على الصلاة وولى على الخراج غيره وكان على القضاء شريح‏.‏ ولما ولى المغيرة على الكوفة استعمل كثير بن شهاب على الري وأقره زياد بعده‏.‏ وكان يغزو الديلم‏.‏ ثم بعث على البصرة بسر بن أرطأة وكان قد تغلب عليها حمران بن زيد عند صلح الحسن مع معاوية فبعث بسراً عليها فخطب الناس وتعرض لعلي‏.‏ ثم قال‏:‏ نشدت الله رجلاً يعلم أني صادق أو كاذب ولا صدقني أو كذبني‏.‏ فقال أبو بكرة‏:‏ اللهم لا نعلمك إلا كاذباً فأمر به فخنق‏.‏ فقام أبو لؤلؤة الضبي فدفع عنه‏.‏ أن على فارس من أعمال البصرة زياد ابن أبيه‏.‏ وبعث إليه معاوية يطلبه في المال فقال‏:‏ صرفت بعضه في وجهه واستودعت بعضه للحاجة إليه وحملت ما فضل إلى أمير المؤمنين رحمه الله‏.‏ فكتب إليه معاوية بالقدوم لينظر في ذلك فامتنع‏.‏ فلما ولي بسر على البصرة جمع عنده أولاد زياد والأكابر عبد الرحمن وعبد الله وعباد وكتب إليه لتقدمن أو لأقتلن بنيك فامتنع واعتزم بسر على قتلهم فأتاه أبو بكرة وكان أخا زياد لأمه فقال‏:‏ أخذتهم بلا ذنب‏.‏ وصالح الحسن على أصحاب علي حيث كانوا فأمهله بسر إلى أن يأتي بكتاب معاوية‏.‏ ثم قدم أبو بكرة على معاوية وقال‏:‏ إن الناس لم يبايعوك على قتل الأطفال وإن بسراً يريد قتل بني زياد فكتب إليه بتخليتهم وجاء إلى البصرة يوم المهاد ولم يبق منه إلى ساعة وهم موثقون للقتل فأدركهم وأطلقهم انتهى‏.‏ ثم عزل معاوية بسراً عن البصرة وأراد أن يولي عتبة بن أبي سفيان فقال له ابن عامر إن لي بالبصرة أموالا وودائع وإن لم تولني عليها ذهبت‏.‏ فولاه وجعل إليه معها خرسان وسجستان وقدمها سنة إحدى وأربعين فولي على خراسان قيس بن الهيثم السلمي وكان أهل بلخ وباذغيس وهراة وبوشنج قد نضوا فسار إلى بلخ وحاصرها حتى سألوا الصلح وراجعوا الطاعة‏.‏ وقيل إنما صالحهم الربيع بن زياد سنة إحدى وخمسين على ما سيأتي‏.‏ ثم قدم قيس على ابن عامر فضربه وحبسه وولى مكانه عبد الله بن حازم وقدم خرسان فأرسل إليه أهل هراة وباذغيس وبوشنج في الأمان والصلح فأجابهم وحمل لابن عامر مالاً انتهى‏.‏ ثم ولى معاوية سنة اثنتين وأربعين على المدينة مروان بن الحكم وعلى مكة خالد بن العاص بن هشام‏.‏ واستقضى مروان عبد الله بن الحارث بن نوفل وعزل مروان عن المدينة سنة تسع وأربعين وولى مكانه سعيد بن العاص وذلك لثمان سنين من ولايته‏.‏ وجعل سعيد على القضاء ابن عبد الرحمن مكان عبد الله بن الحارث ثم عزل معاوية سعيد سنة أربع وخمسين ورد إليها مروان‏.‏

  قدوم زياد

وكان زياد قد امتنع بفارس بعد مقتل علي كما قدمناه وكان عبد الرحمن ابن أخيه أبي بكرة يلي أمواله بالبصرة ورفع إلى معاوية أن زياداً استودع أمواله عبد الرحمن فبعث إلى المغيرة بالكوفة أن ينظر في ذلك فأحضر عبد الرحمن وقال له‏:‏ إن يكن أبوك أساء إلي فقد أحسن عمك وأحسن العذر عند معاوية‏.‏ثم قدم المغيرة على معاوية فذكر له ما عنده من الوجل باعتصام زياد بفارس فقال‏:‏ داهية العرب معه أموال فارس يدبر الحيل فما آمن أن يبايع لرجل من أهل البيت ويعيد الحرب خدعة فاستأذنه المغيرة أن يأتيه ويتلطف له ثم أتاه وقال‏:‏ إن معاوية بعثني إليك وقد بايعه الحسن ولم يكن هناك غيره فخذ لنفسك قبل أن يستغني معاوية عنك‏.‏ قال أشر علي والمستشار مؤتمن‏.‏ فقال‏:‏ أرى أن تشخص إليه وتصل حبلك بحبله وترجع عنه‏.‏ فكتب إليه معاوية بأمانه‏.‏ وخرج زياد من فارس نحو معاوية ومعه المنجاب بن رابد الضبي وحارثة بن بدر الغداني واعترضه عبد الله بن حازم في جماعة وقد بعثه ابن عامر ليأتيه به‏.‏ فلما رأى كتاب الأمان تركه وقم على معاوية فسأله عن أموال فارس فأخبره بما أنفق وبما حمل إلى علي وبما بقي عنده مودعاً للمسلمين فصدقه معاوية وقبضه منه‏.‏ ويقال‏:‏ إنه قال له أخاف أن تكون مكروباً بي فصالحني فصالحه على ألفي ألف درهم بعث بها إليه واستأذنه في نزول الكوفة فأذن له‏.‏ وكان المغيرة يكرمه ويعظمه وكتب إليه معاوية أن يلزم زياداً وحجر بن عدي وسليمان بن صرد وسيف بن ربعي وابن الكوا وابن الحميق بالصلاة في الجماعة فكانوا يحضرون معه الصلوات‏.‏

  عمال ابن عامر على الثغور

لما ولي ابن عامر على البصرة استعمل عبد الرحمن بن سمرة على سجستان فأتاها وعلى شرطتها عباد بن الحصين ومعه من الأشراف عمر بن عبيد الله بن معمر وغيره‏.‏ وكان أهل البلاد قد كفروا‏.‏ ففتح أكثرها حتى بلغ كابل وحاصرها أشهراً ونصب عليها المجانيق حتى ثلم سورها ولم يقدر مشركون على سد الثلمة‏.‏ وبات عباد بن الحسين عليها يطاعنهم إلى الصبح ثم خرجوا من الغد للقتال فهزمهم المسلمون ودخلوا البلد عنوة اه‏.‏ ثم سار إلى نسف فملكها عنوة ثم إلى حسك فصالحه أهلها ثم إلى الرخج فقاتلوه وظفر بهم وفتحها اه‏.‏ ثم إلى زابلستان وهي غزنة وأعمالها ففتحها ثم عاد إلى كابل وقد نكث أهلها ففتحها اه‏.‏ واستعمل على ثغر الهند عبد الله بن سوار العبدي ويقال بل ولاه معاوية من قبله فغزا التيعان فأصاب مغنماً ووفد على معاوية وأهدى له من خيولها ثم عاد إلى غزوهم فاستنجدوا بالترك وقتلوه وكان كريماً في الغاية‏.‏ يقال‏:‏ لم يكن أحد يوقد النار في عسكره وسأل ذات ليلة عن نار رآها فقيل له خبيص يصنع لنفساء فأمر أن يطعم الناس الخبيص ثلاثة أيام‏.‏ واستعمل على خراسان قيس بن الهيثم فتغافل بالخراج والهدنة فولى مكانه عبد الله بن حاتم‏.‏ فخاف قيساً وأقبل فزاد ابن عامر غضباً لتضييعه الثغر وبعث مكانه رجلاً من يشكر وقيل ثم بعث عبد الله بن حازم وقيل إن ابن حازم قال لابن عامر إن قيساً لا ينهض بخراسان وأخاف إن لقي قيس حرباً أن ينهزم ويفسد خراسان فاكتب لي عهداً إن عجز عن عدو قمت مقامه‏.‏ فكتب وخرجت خارجة من طخارستان فأشار ابن حازم عليه أن يتأخر حتى يجتمع عليه الناس فلما سار غير بعيد أخرج ابن حازم عهده وقام بأمر الناس وهزم العدو‏.‏ وبلغ الخبر إلى الأمصار فغضبت أصحاب قيس وقالوا خدع صاحبنا وشكوا إلى معاوية فاستقدمه فاعتذر فقبل منه وقال له أقم في الناس بعذرك فعل اه‏.‏ وفي سنة ثلاث وأربعين توفي عمرو بن العاص بمصر فاستعمل معاوية عبد الله ابنه‏.‏

  عزل ابن عامر

وكان ابن عامر حليماً ليناً للسفهاء فطرق البصرة الفساد من ذلك‏.‏ وقال له زياد جرد السيف فقال‏:‏ لا أصلح الناس بفساد نفسي‏.‏ ثم بعث وفداً من البصرة إلى معاوية فوافقوا عنده وفد الكوفة ومنهم ابن الكوا وهو عبد الله بن أبي أوفى اليشكري‏.‏ فلما سألهم معاوية عن الأمصار أجابه ابن الكوا بعجز ابن عامر وضعفه فقال معاوية‏:‏ تكلم عن أهل البصرة وهم حضور وبلغ ذلك ابن عامر فغضب وولى على خراسان من أعداء ابن الكوا عبد الله بن أبي شيخ اليشكري أو طفيل بن عوف فسخر منه ابن الكوا لذلك وقال‏:‏ وددت أنه ولى كل يشكري من أجل عداوتي‏.‏ ثم إن معاوية استقدم ابن عامر فقدم وأقام أياماً فلما ودعه قال‏:‏ إني سائلك ثلاثا قال هن لك قال ترد علي عملي ولاتغضب وتهب لي مالك بعرفة ودورك بمكة قال‏:‏ قد فعلت‏.‏ قال وصلتك رحم فقال ابن عامر وإني سائلك ثلاثاً‏:‏ ترد علي عملي بعرفة ولا تحاسب لي عاملاً ولا تتبع لي أثراً وتنكحني ابنتك هنداً‏.‏ قال قد فعلت ويقال إن معاوية خيره بين أن يرده على اتباع أثره وحسابه بما سار إليه أو يعزله ويسوغه ما أصاب‏.‏ فاختار الثالثة فعزله وولى مكانه الحارث بن عبد الله الأسدي‏.‏

  استخلاف زياد

كانت سمية أم زياد مولاة للحارث بن كندة الطبيب وولدت عنده أبا بكرة ثم زوجها بمولى له وولدت زياداً‏.‏ وكان أبو سفيان قد ذهب إلى الطائف في بعض حاجاته فأصابها بنوع من أنكحة الجاهلية‏.‏ وولدت زياداً هذا ونسبه إلى أبي سفيان وأقر لها به إلا أنه كان بخفية ولما شب زياد سمت به النجابة‏.‏ واستكتبه أبو موسى الأشعري وهو على البصرة واستكفاه عمر في أمر فحسن منار دينه وحضر عنده يعلمه بما صنع فأبلغ ما شاء في الكلام‏.‏ فقال عمرو بن العاص - وكان حاضراً - لله هذا الغلام لو كان أبوه من قريش لساق العرب بعصاه‏.‏ قال أبو سفيان وعلي يسمع‏:‏ والله إني لأعرف أباه ومن وضعه في رحم أمه فقال له علي‏:‏ اسكت فلو سمع عمر هذا منك كان إليك سريعاً‏.‏ ثم استعمل علي زياداً على فارس فضبطها وكتب إليه معاوية يتهدده ويعرض له بولادة أبي سفيان إياه فقام في الناس فقال‏:‏ عجباً لمعاوية يخوفني دين ابن عم الرسول في المهاجرين والأنصار‏.‏ وكتب إليه علي إني وليتك وأنا أراك أهلاً وقد كان من أبي سفيان فلتة من آمال الباطل وكذب النفس لا توجب ميراثاً ولا نسباً‏.‏ ومعاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فاحذر ثم احذر والسلام اه‏.‏ ولما قتل علي وصالح زياد معاوية وضع مصقلة بن هبيرة الشيباني على معاوية ليعرض له بنسب أبي سفيان ففعل ورأى معاوية أن يستميله باستلحاقه فالتمس الشهادة بذلك ممن علم لحوق نسبه بأبي سفيان فشهد له رجال من أهل البصرة وألحقه وكان أكثر شيعة علي ينكرون ذلك وينقمونه على معاوية حتى أخوه أبو بكرة‏.‏ وكتب زياد إلى عائشة في بعض الأحيان من زياد بن أبي سفيان يستدعي جوابها بهذا النسب ليكون له حجة فكتبت إليه‏:‏ من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد‏.‏ وكان عبد الله بن عامر يبغض زياداً وقال يوماً لبعض أصحابه من عبد القيس‏:‏ ابن سمية يقبح آثاري ويعترض عمالي لقد هممت بقسامة من قريش أن أبا سفيان لم ير سمية‏.‏ فأخبر زياد بذلك فأخبر به معاوية‏.‏ فأمر حاجبه أن يرده من أقصى الأبواب وشكا ذلك إلى يزيد فركب معه فأدخله على معاوية فلما رآه قام من مجلسه ودخل إلى بيته‏.‏ فقال يزيد نقعد في انتظاره فلم يزالا حتى عدا ابن عامر فيما كان منه من القول وقال إني لا أتكثر بزياد من قلة ولا أتعزز به من ذلة ولكن ولاية زياد البصرة‏:‏ كان زياد بعد صلح معاوية واستلحاقه نزل الكوفة وكان يتشوف الإمارة عليها‏.‏ فاستثقل المغيرة ذلك منه فاستعفى معاوية من ولاية الكوفة فلم يعفه‏.‏ فيقال إنه خرج زياد إلى الشام ثم إن معاوية عزل الحارث بن عبد الله الأزدي عن البصرة وولى عليها زياداً سنة خمس وأربعين‏.‏ وجمع له خراسان وسجستان‏.‏ ثم جمع له السند والبحرين وعمان وقدم البصرة فخطب خطبته البتراء وهي معروفة‏.‏ وإنما سميت البتراء لأنه لم يفتتحها بالحمد والثناء فحذرهم في خطبته ما كانوا عليه من الانهماك في الشهوات والاسترسال في الفسق والضلال وانطلاق أيدي السفهاء على الجنايات وانتهاك الحرم وهم يدنون منهم فأطال في ذلك‏.‏ عنفهم ووبخهم وعرفهم ما يجب عليهم من الطاعة من المناصحة والانقياد للأمة‏.‏ وقال لكم عندي ثلاث‏:‏ لا أحتجب عن طالب حاجة ولو طرقني ليلاً ولا أحبس العطاء عن إباية ولا أجر البعوث‏.‏ فلما فرغ من خطبته قال له عبد الله بن الأيهم أشهد أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب‏.‏ قال كذبت ذاك نبي الله داود‏.‏ ثم استعمل على شرطته عبد الله بن حصين وأمره أن يمنع الناس من الولوج بالليل‏.‏ وكان قد قال في خطبته لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه‏.‏ وكان يأمر بقراءة سورة البقرة بعد صلاة العشاء مؤخرة‏.‏ ثم يمهل بقدرما يبلغ الرجل أقصى البصرة‏.‏ ثم يخرج صاحب الشرطة فلا يجد أحداً إلا قتله وكان أول من شدد أمر السلطان وشيد الملك فجرد السيف وأخذ بالظنة وعاقب على الشبهة وخافه السفهاء والدعار وأمن الناس على أنفسهم ومتاعهم حتى كان الشيء يسقط من يد الإنسان فلا يتعرض له أحد حتى يأتي صاحبه فيأخذه ولا يغلق أحد بابه وأدر العطاء واستكثر من الشرط فبلغوا أربعة آلاف‏.‏ وسئل في إصلاح السابلة فقال حتى أصلح المصر‏.‏ فلما ضبطه أصلح ما وراءه وكان يستعين بعدة من الصحابة منهم عمران بن حصين ولاه قضاء البصرة فاستعفى فولى مكانه عبد الله بن فضالة الليثي ثم أخاه عاصماً ثم زرارة بن أوفى وكانت أخته عند زياد وكان يستعين بأنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وسمرة بن جندب‏.‏ ويقال إن زياداً أول من سير بين يديه بالحراب والعمد واتخذ الحرس رابطة فكان خمسمائة منهم لا يفارقون المسجد‏.‏ ثم قسم ولاية خراسان على أربعة فولى على مرو أمين بن أحمد اليشكري وعلى نيسابور خليد بن عبد الله الحنفي وعلى مرو الروذ والعاربات والطالقان قيس بن الهيثم‏.‏ وعلى هراة وباذغيس وبوشنج نافع بن خالد الطائي‏.‏ ثم إن نافعاً بعث إليه بجواد باهر غنمه في بعض وجوهه وكانت قوائمه منه فأخذ منها قائمة وجعل مكانها أخرى ذهباً وبعث الجواد مع غلامه زيد وكان يتولى أموره فسعى فيه عند زياد بأمر تلك القائمة فعزله وحبسه وأغرمه مائة ألف كتب عليه بها كتاباً وقيل ثمانمائة ألف‏.‏ وشفع فيه رجال من الأزد فأطلقه‏.‏ واستعمل مكانه الحكم بن عمرو الغفاري وجعل معه رجالاً على الجباية منهم أسلم بن زرعة الكلابي‏.‏ وغزا الحكم طخارستان فغنم غنائم كثيرة‏.‏ ثم سار سنة سبع وأربعين إلى جبال الغور وكانوا قد ارتدوا ففتح وغنم وسبى وعبر النهر في ولايته إلى ما وراءه‏.‏ فملأه غارة‏.‏ ولما رجع من غزاة الغور مات بمرو واستخلف على عمله أنس بن أبي إياس بن ربين فلم يرضه زياد‏.‏ وكتب إلى خليد بن عبد الله الحنفي بولاية خراسان ثم بعث الربيع بن زياد المحاربي في خمسين ألفاً من البصرة والكوفة‏.‏

  صوائف الشام

ودخل المسلمون سنة اثنتين وأربعين إلى بلاد الروم فهزموهم وقتلوا جماعة من البطارقة وأثخنوا فيها‏.‏ ثم دخل بسر بن أرطأة أرضهم سنة ثلاث وأربعين ومشى بها وبلغ القسطنطينية‏.‏ ثم دخل عبد الرحمن بن خالد وكان على حمص فشتى بهم وغزاهم بسر تلك السنة في البحر‏.‏ ثم دخل عبد الرحمن إليها سنة ست وأربعين فشتى بها وشتى أبو عبد الرحمن السبيعي على أنطاكية‏.‏ ثم دخلوا سنة ثمان وأربعين فشتى عبد الرحمن بأنطاكية أيضاً ودخل عبد الله بن قيس الفزاري في تلك السنة بالصائفة‏.‏ وغزاهم مالك بن هبيرة اليشكري في البحر وعقبة بن عامر الجهني في البحر أيضاً بأهل مصر وأهل المدينة‏.‏ ثم دخل مالك بن هبيرة سنة تسع وأربعين فشتى بأرض الروم ودخل عبد الله بن كرز الجيلي بالصائفة وشتى يزيد بن ثم بعث معاوية سنة خمسين جيشاً كثيفاً إلى بلاد الروم مع سفيان بن عوف وندب يزيد ابنه معهم فتثاقل فتركه‏.‏ ثم بلغ الناس أن الغزاة أصابهم جوع ومرض وبلغ معاوية أن يزيد أنشد في ذلك‏:‏ ما إن أبالي بما لاقت جموعهم بالفدفد البيد من حمى ومن شوم‏.‏ إذا اتطأت على الأنماط مرتفقاً بدير مران عندي أم كلثوم‏.‏ وهي امرأته بنت عبد الله بن عامر فحلف ليلحقن بهم فسار في جمع كثير جمعهم إليه معاوية‏.‏ فيهم ابن عباس وابن عامر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري فأوغلوا في بلاد الروم وبلغوا القسطنطينية وقاتلوا الروم عليها‏.‏ فاستشهد أبو أيوب الأنصاري ودفن قريباً من سورها‏.‏ ورجع يزيد والعساكر إلى الشام ثم شتى فضالة بن عبيد بأرض الروم سنة إحدى وخمسين وغزا بسر بن أرطأة بالصائفة‏.‏

  وفاة المغيرة

توفي المغيرة وهو عامل على الكوفة سنة خمسين بالطاعون وقيل سنة تسع وأربعين وقيل سنة إحدى وخمسين فولى مكانه معاوية زياداً وجمع له المصرين‏.‏ فسار زياد إليها واستخلف على البصرة سمرة بن جندب‏.‏ فلما وصل الكوفة خطبهم فحصبوه على المنبر فلما نزل جلس على كرسي وأحاط أصحابه بأبواب المسجد يأتونه بالناس يستحلفهم على ذلك‏.‏ ومن لم يحلف حبسه‏.‏ فبلغوا ثمانين واتخذ المقصورة من يوم حبس‏.‏ ثم بلغه عن أوفى بن حسين شيء فطلبه فهرب ثم أخذه فقتله‏.‏ وقال له عمارة بن عتبة بن أبي معيط إن عمرو بن الحمق يجتمع إليه شيعة علي فأرسل إليه زياد ونهاه عن الاجتماع عنده‏.‏ وقال لا أبيح أحداً حتى يخرج علي وأكثر سمرة بن جندب اليتامى بالبصرة‏.‏ يقال قتل ثمانية آلاف فأنكر ذلك عليه زياد اه‏.‏كان عمرو بن العاص قبل وفاته استعمل عقبة بن عامر بن عبد قيس على أفريقية وهو ابن خالته انتهى إلى لواتة ومرانة فأطاعوا ثم كفروا فغزاهم وقتل وسبى‏.‏ ثم افتتح سنة اثنتين وأربعين غذامس‏.‏ وفي السنة التي بعدها ودان وكوراً من كور السودان وأثخن في تلك النواحي وكان له فيها جهاد وفتوح‏.‏ ثم ولاه معاوية على أفريقية سنة خمسين وبعث إليه عشرة آلاف فارس فدخل أفريقية وانضاف إليه مسلمة البربر فكبر جمعه ووضع السيف في أهل البلاد لأنهم كانوا إذا جاءت عساكر المسلمين أسلموا فإذا رجعوا عنهم ارتدوا‏.‏ فرأى أن يتخذ مدينة يعتصم بها العساكر من البربر فاختط القيروان وبنى بها المسجد الجامع وبنى الناس مساكنهم ومساجدهم وكان دورها ثلاثة آلاف باع وستمائة باع وكملت في خمس سنين وكان يغزو ويبعث السرايا للإغارة والنهب ودخل أكثر البربر في الإسلام‏.‏ واتسعت خطة المسلمين ورسخ ثم ولى معاوية على مصر وأفريقية مسلمة بن مخلد الأنصاري واستعمل على أفريقية مولاه أبا المهاجر فأساء عزل عقبة واستخف به فسير ابن مخلد الأنصاري عقبة إلى معاوية وشكا إليه فاعتذر له ووعده برده إلى عمله ثم ولاه يزيد سنة اثنتين وستين‏.‏ وذكر الواقدي أن عقبة ولي أفريقية سنة ست وأربعين فاختط القيروان ثم عزله يزيد سنة اثنتين وستين بأبي المهاجر‏.‏ فحينئذ قبض على عقبة وضيق عليه فكتب إليه يزيد يبعثه إليه وأعاده والياً على أفريقية فحبس أبا المهاجر إلى أن قتلهم جميعا كسلة ملك البرانس من البربر كما نذكر بعد‏.‏ كان المغيرة بن شعبة أيام إمارته على الكوفة كثيراً ما يتعرض لعلي في مجالسه وخطبه ويترحم على عثمان ويدعو له‏.‏ فكان حجر بن عدي إذا سمعه يقول‏:‏ بلاياكم قد أضل الله ولعن‏.‏ ثم يقول أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل ومن تزكون أحق بالذم‏.‏ فبعث له المغيرة يقول‏:‏ يا حجر اتق غضب السلطان وسطوته فإنها تهلك أمثالك لا يزيده على ذلك‏.‏ ولما كان آخر أمارة المغيرة قال في بعض أيامه مثل ما كان يقول فصاح به حجر ثم قال له‏:‏ مر لنا بأرزاقنا فقد حبستها منا وأصبحت مولعاً بذم المؤمنين وصاح الناس من جوانب المسجد صدق حجر فمر لنا بأرزاقنا فالذي أنت فيه لا يجدي علينا نفعاً‏.‏ فدخل المغيرة إلى بيته وعذله قومه في جراءة حجر عليه يوهن سلطانه ويسخط عليه معاوية‏.‏ فقال لا أحب أن آتي بقتل أحد من أهل المصر‏.‏ وسيأتي بعدي من يصنع معه مثل ذلك فيقتله‏.‏ ثم توفي المغيرة وولي زياد‏.‏ فلما قدم خطب الناس وترحم على عثمان ولعن قاتليه‏.‏ وقال حجر ما كان يقول فسكت عنه ورجع إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث وبلغه أن حجراً يجتمع إليه شيعة علي ويعلنون بلعن معاوية والبراءة منهم وأنهم حصبوا عمرو بن حريث فشخص إلى الكوفة حتى دخلها ثم خطب الناس وحجر جالس يسمع فتهدده وقال‏:‏ لست بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر وأودعه نكالاً لمن بعده‏.‏ ثم بعث إليه فامتنع من الإجابة فبعث صاحب الشرطة شداد بن الهيثم الهلالي إليه جماعة فسبهم أصحابه‏.‏ فجمع زياد أهل الكوفة وتهددهم فتبرؤوا‏.‏ فقال ليدع كل رجل منكم عشيرته الذين عند حجر ففعلوا حتى إذا لم يبق معه إلا قومه قال زياد لصاحب الشرطة‏:‏ انطلق إليه فأت به طوعاً أو كرهاً‏.‏ فلما جاء يدعوه امتنع عن الإجابة فحمل عليهم وأشار إليه أبو العمرطة الكندي بأن يلحق بكندة فمنعوه هذا وزياد على المنبر ينتظر‏.‏ ثم غشيهم أصحاب زياد وضرب عمرو بن الحمق فسقط ودخل في دور الأزد فاختفى وخرج حجر من أبواب كندة فركب ومعه أبو العمرطة إلى دور قومه واجتمع إليه الناس ولم يأته من كندة إلا قليل‏.‏ ثم أرسل زياد وهو على المنبر مذحج وهمدان ليأتوه بحجر فلما علم أنهم قصدوه تسرب من داره إلى النخع ونزل على أخي الأشتر‏.‏ وبلغه أن الشرطة تسأل عنه في النخع‏.‏ فأتى الأزد واختفى عند ربيعة بن ناجد وأعياهم طلبه‏.‏ فدعا حجر محمد بن الأشعث أن يأخذ له أماناً من زياد حتى يبعث به إلى معاوية فجاء محمد ومعه جرير بن عبد الله وحجر بن يزيد وعبد الله بن الحارث أخو الأشتر فاستأمنوا له زياداً فأجابهم‏.‏ ثم أحضروا حجراً فحبسه وطلب أصحابه فخرج عمرو بن الحمق إلى الموصل ومعه زواعة بن شداد فاختفى في جبل هناك‏.‏ ورفع أمرهما إلى عامل الموصل وهو عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ابن أخت معاوية ويعرف بابن أم الحكم‏.‏ فسار إليهما وهرب زواعة وقبض على عمرو وكتب إلى معاوية بذلك‏.‏ فكتب إليه أنه طعن عثمان سبعاً بمشاقص كانت معه فأطعنه كذلك فمات في الأولى والثانية‏.‏ ثم جد زياد في طلب أصحاب حجر وأتي بقبيصة بن ضبيعة العبسي بأمان فحبسه‏.‏ وجاء قيس بن عباد الشبلي برجل من قومه من أصحاب حجر فأحضره زياد وسأله عن علي فأثنى عليه فضربه وحبسه‏.‏ وعاش قيس بن عباد حتى قاتل مع ابن الأشعث‏.‏ ثم دخل بيته في الكوفة وسعى به إلى الحجاج فقتله‏.‏ ثم أرسل زياداً إلى عبد الله بن خليفة الطائي من أصحاب حجر فتوارى وجاء الشرط فأخذوه‏.‏ ونادت أخته الفرار بقومه فخلصوه فأخذ زياد عدي بن حاتم وهو في المسجد وقال‏:‏ ائتني بعبد الله وخبره جهرةً فقال آتيك بابن عمي تقتله والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه فحبسه فنكر ذلك الناس وكلموه وقالوا تفعل هذا بصاحب رسول الله وكبير طيىء قال‏:‏ أخرجه على أن يخرج ابن عمه عني فأطلقه وأمر عدي عبد الله أن يلحق بجبل طيىء فلم يزل هنالك حتى مات‏.‏ وأتي زياد بكريم بن عفيف الخثعمي من أصحاب حجر وغيره‏.‏ ولما جمع منهم اثني عشر في السجن دعا رؤوس الأرباع يومئذ وهم عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة وخالد بن عرفطة على ربع تميم وهمدان وقيس بن الوليد على ربع ربيعة وكندة وأبو بردة بن أبي موسى على ربع مذحج وأسد‏.‏ فشهدوا كلهم أن حجراً جمع الجموع وأظهر شتم معاوية ودعا إلى حربه‏.‏ وزعم أن الأمر لا يصلح إلا في الطالبيين‏.‏ ووثب بالمصر وأخرج العامل وأظهر غدر أبي تراب والترحم عليه والبراءة من عدوه وأهل حربه وأن النفر الذين معه وهم رؤوس أصحابه على مقدم رأيه‏.‏ ثم استكثر زياد من الشهود فشهد إسحق وموسى ابنا طلحة والمنذر بن الزبير عمارة بن عقبة بن أبي معيط وعمر بن سعد بن أبي وقاص وغيرهم‏.‏ وفي الشهود شريح بن الحارث وشريح بن هانىء‏.‏ ثم استدعى زياد وائل بن حجر الحضرمي وكثير بن شهاب ودفع إليهما حجر بن عدي وأصحابه وهم‏:‏ الأرقم بن عبد الله الكندي شريك بن شداد الحضرمي وصيفي بن فضيل الشيباني وقبيصة بن ضبيعة العبسي وكريم بن عفيف الخثعمي وعاصم بن عوف البجلي وورقاء بن سمي البجلي وكرام بن حبان العنزي وعبد الرحمن بن حسان العنزي ومحرز بن شهاب التميمي عبد الله بن حوية السعدي‏.‏ ثم اتبع هؤلاء الإحدى عشر بعتبة بن الأخنس من سعد بن بكر وسعد بن غوات الهمداني وأمرهما أن يسيرا إلى معاوية‏.‏ ثم لحقهما شريح بن هانىء ودفع كتابه إلى معاوية بن وائل‏.‏ ولما انتهوا إلى مرج غدراء قريب دمشق تقدم ابن وائل وكثير إلى معاوية فقرأ كتاب شريح وفيه‏:‏ بلغني أن زياداً كتب شهادتي وأني أشهد على حجر أنه ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويديم الحج والعمرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حرام الدم والمال فإن شئت فاقبله أو فدعه‏.‏ فقال معاوية ما أرى هذا إلا أخرج نفسه من شهادتكم وحبس القوم بمرج غدراء حتى لحقهم عتبة بن الأخنس وسعد بن غوات اللذين ألحقهما زياد بهما‏.‏ وجاء عامر بن الأسود العجيلي إلى معاوية فأخبره بوصولهما فاستوهب يزيد بن أسد البجلي عاصماً وورقاء ابني عمه‏.‏ وقد كتب يزيد يزكيهما ويشهد ببراءتهما فأطلقهما معاوية‏.‏ وشفع وائل بن حجر في الأرقم وأبو الأعور السلمي في ابن الأخنس وحبيب بن سلمة في أخويه فتركهم‏.‏ وسأله مالك بن هبيرة السكوني في حجر فرده‏.‏ فغضب وحبس في بيته‏.‏ وبعث معاوية هدبة بن فياض القضاعي والحسين بن عبد الله الكلابي وأبا شريف البدري إلى حجر وأصحابه ليقتلوا منهم من أمرهم بقتله فأتوهم وعرض عليهم البراءة من علي فأبوا وصلوا عامة ليلتهم‏.‏ ثم قدموا من الغد للقتل‏.‏ وتوضأ حجر وصلى وقال‏:‏ لولا أن يظنوا بي الجزع من الموت لاستكثرت منها‏.‏ اللهم إنا نستعديك على أمشاء أهل الكوفة يشهدون علينا وأهل الشام يقتلوننا‏.‏ ثم مشى إليه هدبة بن فياض بالسيف فارتعد‏.‏ فقالوا كيف وأنت زعمت أنك لا تجزع من الموت فابرأ من صاحبك وندعك‏.‏ فقال وما لي لا أجزع وأنا بين القبر والكفن والسيف‏.‏وإن جزعت من الموت لا أقول ما يسخط الرب فقتلوه وقتلوا ستة معه وهم‏:‏ شريك بن شداد وصيفي بن فضيل وقبيصة بن حنيفة ومحرز بن شهاب وكرام بن حبان ودفنوهم وصلوا عليهم بعبد الرحمن بن حسان العنزي وجيء بكريم بن الخثعمي إلى معاوية فطلب منه البراءة من علي فسكت واستوهبه سمرة بن عبد الله الخثعمي من معاوية فوهبه له على أن لا يدخل الكوفة فنزل إلى الموصل‏.‏ ثم سأل عبد الرحمن بن حسان عن علي فأثنى خيراً‏.‏ ثم عن عثمان فقال‏:‏ أول من فتح باب الظلم وأغلق باب الحق‏.‏ فرده إلى زياد ليقتله شر قتلة فدفنه حياً وهو سابع القوم‏.‏ وأما مالك بن هبيرة السكوني فلما لم يشفعه معاوية في حجر جمع قومه وسار ليخلصه وأصحابه فلقي القتلة وسألهم فقالوا‏:‏ مات القوم‏.‏ وسار إلى عدي فتيقن قتلهم فأرسل في أثر القتلة فلم يدركوهم وأخبروا معاوية فقال‏:‏ تلك حرارة يجدها في نفسه وكأني بها قد طفئت‏.‏ ثم أرسل إليه بمائة ألف وقال‏:‏ خفت أن يعيد القوم حرباً فيكون على المسلمين أعظم من قتل حجر فطابت نفسه‏.‏ ولما بلغ عائشة خبر حجر وأصحابه أرسلت عبد الرحمن بن الحارث إلى معاوية يشفع فيهم فجاء وقد قتلوا‏.‏ فقال لمعاوية أين غاب عنك حلم أبي سفيان‏.‏ فقال حيث غاب علي مثلك من حلماء قومي وحملني ابن سمية فاحتملت‏.‏ وأسفت عائشة لقتل حجر وكانت تثني عليه‏.‏ وقيل في سياقة الحديث غير ذلك‏.‏ وهو أن زياداً أطال الخطبة في يوم جمعة فتأخرت الصلاة فأنكر حجر ونادى بالصلاة فلم يلتفت إليه‏.‏ وخشي فوت الصلاة فحصبه بكف من الحصباء وقام إلى الصلاة فقام الناس معه فخافهم زياد ونزل فصلى‏.‏ وكتب إلى معاوية وعظم عليه الأمر فكتب إليه أن يبعث به موثقا في الحديد‏.‏ وبعث من يقبض عليه فكان ما مر‏.‏ ثم قبض عليه وحمله إلى معاوية فلما رآه معاوية أمر بقتله فصلى ركعتين وأوصى من حضره من قومه لا تفكوا عني قيداً ولا تغسلوا دماً فإني لاق معاوية غداً على الجادة وقتل اه‏.‏وقالت عائشة لمعاوية أين حلمك عن حجر قال‏:‏ لم يحضرني رشيد اه‏.‏ وكان زياد قد ولى الربيع بين زياد الحارثي على خراسان سنة إحدى وخمسين بعد أن هلك حسن بن عمر الغفاري وبعث معه من جند الكوفة والبصرة خمسين ألفاً فيهم بريدة بن الحصيب وأبو برزة الأسلمي من الصحابة وغزا بلخ ففتحها صلحاً وكانوا انتقضوا بعد صلح الأحمق بن قيس‏.‏ ثم فتح قهستان عنوة واستلحم من كان بناحيتها من الترك ولم يفلت منهم إلا قيزل طرخان‏.‏ وقتله قتيبة بن مسلم في ولايته‏.‏ فلما بلغ الربيع بن زياد بخراسان قتل حجر سخط لذلك وقال‏:‏ لا تزال العرب تقتل بعده صبراً‏.‏ ولو نكروا منعوا أنفسهم من ذلك لكنهم أقروا فذلوا‏.‏ ثم دعا بعد صلاة جمعة لأيام من خبره وقال للناس إني قد مللت الحياة وإني داع فأمنوا ثم رفع يديه وقال‏:‏ اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك عاجلاً وأمن الناس س‏.‏ ثم خرج فما تواترت ثيابه حتى سقط فحمل إلى بيته واستخلف ابنه عبد الله ومات من يومه‏.‏ ثم مات ابنه بعد شهرين واستخلف خليد بن عبد الله الحنفي وأقره زياد‏.‏

  وفاة زياد

ثم مات زياد في رمضان سنة ثلاث وخمسين بطاعون أصابه في يمينه يقال بدعوة ابن عمر وذلك أن زياداً كتب إلى معاوية أني ضبطت العراق بشمالي ويميني فارغة فأشغلها بالحجاز فكتب له عهده بذلك وخاف أهل الحجاز وأتوا عبد الله بن عمر يدعو لهم الله أن يكفيهم ذلك‏.‏ فاستقبل القبلة ودعا معهم وكان من دعائه اللهم اكفناه ثم كان الطاعون فأصيب في يمينه فأشير عليه بقطعها فاستدعى شريحاً القاضي فاستشاره فقال إن يكن الأجل فرغ فتلقى الله أجذم كراهية في لقائه وإلا فتعيش أقطع ويعير ولدك‏.‏ فقال لا أبيت والطاعون في لحاف واحد واعتزم على قطعها‏.‏ فلما نظر إلى النار والمكاوي جزع وتركه وقيل تركه لإشارة شريح‏.‏ وعذل د شريحاً في ذلك فقال المستشار مؤتمن‏.‏ ولما حضرته الوفاة قال له ابنه قد هيأت لكفنك ستين ثوباً‏.‏ فقال يا بني قد دنا لأبيك لباس خير من لباسه‏.‏ ثم مات ودفن بالتوسة قرب الكوفة وكان يلبس القميص ويرقعه‏.‏ ولما مات استخلف على الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد وكان خليفته على البصرة عبد الله بن عمر بن غيلان وعزل بعد ذلك عبد الله بن خالد عن الكوفة وولى عليها الضحاك بن قيس‏.‏ ولاية عبد الله بن زياد على خراسان ثم على البصرة ولما قدم ابنه عبيد الله على معاوية وهو ابن خمس وعشرين سنة قال‏:‏ من استعمل أبوك على المصرين فأخبره فقال‏:‏ لو استعملك لاستعملتك‏.‏ فقال عبيد الله‏:‏ أنشدك الله أن يقول لي أحد بعدك لو استعملك أبوك وعمك استعملتك‏.‏ فولاه خراسان ووصاه فكان من وصيته‏:‏ اتق الله ولا تؤثرن على تقواه شيئاً فإن في تقواه عوضاً وق عرضك من أن تدنسه وإن أعطيت عهداً فأوف به ولا تتبعن كثيراً بقليل ولا يخرجن منك أمر حتى تبرمه فإذا خرج فلا يردن عليك‏.‏ وإذا لقيت عدوك فكبر أكبر من معك وقاسمهم على كتاب الله ولا تطعمن أحداً في غير حقه ولا تؤيسن أحداً من حق هو له‏.‏ ثم ودعه فسار إلى خراسان أول سنة أربع وخمسين وقدم إليها أسلم بن زرعة الكلابي ثم قدم فقطع النهر إلى جبال بخارى على الإبل ففتح رامين ونسف وسكند‏.‏ ولقيه الترك فهزمهم وكان مع ملكهم امرأته خاتون فأعجلوها عن لبس خفيها فأصاب المسلمون أحدهما وقوم بمائتي ألف درهم‏.‏ وكان عبيد الله ذلك اليوم يحمل عليهم وهو يطعن حتى يغيب عن أصحابه ثم يرفع رايته تقطر دماً‏.‏ وكان هذا الزحف من زحوف خراسان المعدودة وكانت أربعة منها للأحنف بن قيس بقهستان والمرعات‏.‏ وزحف لعبد الله بن حازم قضى فيه جموع فاران‏.‏وأقام عبيد الله والياً على خراسان سنتين وولاه معاوية سنة خمس وخمسين على البصرة‏.‏ وذلك أن ابن غيلان خطب وهو أمير على البصرة‏.‏ فحصبه رجل من بني ضبة فقطع يده فأتاه بنو ضبة يسألونه الكتاب إلى معاوية بالاعتذار عنه وأنه قطع على أمر لم يصح مخافة أن يعاقبهم معاوية جميعاً‏.‏ فكتب لهم وسار ابن غيلان إلى معاوية رأس السنة وأوفاه الضبيون بالكتاب فادعوا أن ابن غيلان قطع صاحبهم ظلماً‏.‏ فلما قرأ معاوية الكتاب قال‏:‏ أما القود من عمالي فلا سبيل إليه ولكن أدي صاحبكم من بيت المال‏.‏ وعزل عبد الله بن غيلان عن البصرة واستعمل عليها عبيد الله بن زياد فسار إليها عبيد الله وولى على خراسان أسلم بن زرعة الكلابي فلم يغز ولم يفتح‏.‏

  العهد ليزيد

ذكر الطبري بسنده قال‏:‏ قدم المغيرة على معاوية فشكا إليه الضعف فاستعفاه فأعفاه وأراد أن يولي سعيد بن العاص‏.‏ وقال أصحاب المغيرة للمغيرة‏:‏ إن معاوية قلاك فقال لهم رويداً ونهض إلى يزيد وعرض له بالبيعة‏.‏ وقال ذهب أعيان الصحابة وكبراء قريش ورادوا أسنانهم وإنما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأياً وسياسة وما أدري ما يمنع أمير المؤمنين من العهد لك‏.‏ فأدى ذلك يزيد إلى أبيه واستدعاه وفاوضه في ذلك‏.‏ فقال قد رأيت ما كان من الاختلاف وسفك الدماء بعد عثمان وفي يزيد منك خلف فاعهد له يكون كهفاً للناس بعدك فلا تكون فتنة ولا يسفك دم‏.‏ وأنا أكفيك الكوفة ويكفيك ابن زياد البصرة‏.‏ فرد معاوية المغيرة إلى الكوفة وأمره أن يعمل في بيعة‏.‏ يزيد فقدم الكوفة وذاكر من يرجع إليه من شيعة بني أمية فأجابوه وأوفد منهم جماعة مع ابنه موسى فدعاه إلى عقد البيعة ليزيد‏.‏ فقال‏:‏ أو قد رضيتموه قالوا‏:‏ نعم نحن ومن وراءنا‏.‏ فقال ننظر ما قدمتم له يقضي الله أمره والأناة خير من العجلة ثم كتب إلى زياد يستنيره بفكر‏.‏وكف عن هدم دار سعيد‏.‏ وكتب سعيد إلى معاوية يعذله في إدخال الضغينة بين قرابته ويقول لو لم نكن بني أب واحد لكانت قرابتنا ما جمعنا الله عليه من نصرة الخليفة المظلوم يجب عليك أن تدعي ذلك فاعتذر له معاوية وتنصل‏.‏ وقدم سعيد عليه وسأله عن مروان فأثنى خيراً فلما كان سنة سبع وخمسين عزل مروان وولى مكانه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وقيل سنة ثمان وخمسين‏.‏ عزل الضحاك عن الكوفة وولاية‏.‏ ابن أم الحكم ثم النعمان في بشير عزل معاوية الضحاك عن الكوفة سنة ثمان وخمسين وولى مكانه عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي وهو ابن أم الحكم أخت معاوية فخرجت عليه الخوارج اللذين كان المغيرة حبسهم في بيعة المستورد بن علقمة وخرجوا من سجنه بعد موته‏.‏فاجتمعوا على حيان بن ظبيان السلمي ومعاذ بن جرير الطائي فسير إليهم عبد الرحمن الجيش من الكوفة فقتلوا أجمعين كما يذكر في أخبار الخوارج‏.‏ ثم إن أهل الكوفة نقلوا عبد الرحمن سوء سيرته فعزله معاوية عنهم‏.‏ وولى مكانه النعمان بن بشير‏.‏ وقال‏:‏ أوليك خيراً من الكوفة فولاه مصر وكان عليها معاوية بن خديج السكوني وسار إلى مصر فاستقبله معاوية على مرحلتين منها وقال ارجع إلى حالك لا تسر فينا سيرتك في إخواننا أهل الكوفة فرجع إلى معاوية وأقام معاوية بن خديج في عمله‏.‏

  ولاية عبد الرحمن بن زياد خراسان

وفي سنة تسع وخمسين قدم عبد الرحمن بن زياد وافداً على معاوية فقال يا أمير المؤمنين أما لنا حق‏.‏ قال‏:‏ بلى فماذا قال توليني قال بالكوفة النعمان بن بشير من أصحاب رسول الله بالبصرة وخراسان عبيد الله أخوك وبسجستان عباد أخوك‏.‏ ولا أرى ما بشبهك إلا أن أشركك في عمل عبيد الله فإن عمله واسع يحتمل الشركة‏.‏ فولاه خراسان فسار إليها وقدم بين يديه قيس بن الهيثم السلمي فأخذ أسلم بن زرعة وحبسه‏.‏ ثم قدم عبد الرحمن فأغرمه ثلاثمائة ألف درهم‏.‏ وأقام بخراسان وكان متضعفاً لم يقر قط‏.‏ وقدم على يزيد بين يدي قتل الحسين فاستخلف على خراسان قيس بن الهيثم‏.‏ فقال له يزيد‏:‏ كم معك من مال خراسان قال عشرون ألف ألف درهم‏.‏ فخيره بين أخذها بالحساب ورده إلى عمله أو تسويغه إياها وعزله على أن يعطي عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم فاختار تسويغها والعزل‏.‏ وبعث إلى ابن جعفر بألف ألف وقال نصفها من يزيد ونصفها مني‏.‏ ثم إن أهل البصرة وفدوا مع عبيد الله بن زياد على معاوية فأذن له على منازلهم ودخل الأحنف آخرهم وكان هيأ المنزلة من عبيد الله فرحب به معاوية وأجلسه معه على سريره ثم تكلم القوم وأثنوا على عبيد الله وسكت الأحنف فقال معاوية‏:‏ تكلم يا أبا بحر فقال أخشى خلاف القوم فقال انهضوا فقد عزلت عنكم عبيد الله واطلبوا والياً ترضونه فطفق القوم يختلفون إلى رجال بني أمية وأشراف الشام وقعد الأحنف فني منزله ثم أحضرهم معاوية وقال من اخترتم فسمى كل فريق رجلاً والأحنف ساكت‏.‏ فقال معاوية تكلم يا أبا بحر فقال‏:‏ إن وليت علينا من أهل بيتك لم نعدل بعبيد الله أحداً وإن وليت من غيرهم ينظر في ذلك‏.‏ قال فإني قد أعدته عليكم ثم أوصاه بالأحنف وقبح رأيه في مباعدته‏.‏ ولما هاجت الفتنة لم يعزله غير الأحنف ثم أخذ على وفد البصرة البيعة لابنه يزيد معهم‏.‏

  بقية الصوائف

دخل بسر بن أرطاة سنة اثنتين وخمسين أرض الروم وشتى بها وقيل رجع ونزل هناك سفيان بن عوف الأزدي فشتى بها وتوفي هنالك اه‏.‏ وغزا بالصائفة محمد بن عبد الله الثقفي ثم دخل عبد الرحمن بن أم الحكم سنة ثلاث وخمسين إلى أرض الروم وشتى بها وافتتحت في هذه السنة رودس فتحها جنادة بن أبي أمية الأزدي ونزلها المسلمون على حذر من الروم ثم كانوا يعترضونه في البحر ويأخذون سفنه وكان معاوية يدركهم بالعطاء حتى خافهم الروم ثم نقلهم يزيد في ولايته‏.‏ ثم دخل سنة أربع وخمسين إلى بلاد الروم محمد بن مالك وشتى بها وغزا بالصائفة ابن يزيد السلمي وفتح المسلمون جزيرة أروى القسطنطينية ومقدمهم جنادة بن أبي أمية فملكوها سبع سنين ونقلهم يزيد في ولايته‏.‏ وفي سنة خمس وخمسين كان شتى سفيان بن عوف بأرض الروم وقيل عمر بن محرز وقيل عبد الله بن قيس وفي سنة ست وخمسين كان شتى جنادة بن أبي أمية وقيل عبد الرحمن بن مسعود وقيل غزا في البحر يزيد بن سمرة‏.‏ وفي البر عياض بن الحارث‏.‏ وفي سنة سبع خمسين كان شتى عبد الله بن قيس بأرض الروم‏.‏ وغزا مالك بن عبد الله الخثعمي في البر وعمر بن يزيد الجهني في البحر‏.‏ وفي سنة ثمان وخمسين كان شتي عمر بن مرة الجهني بأرض الروم وغزا في البحر جنادة بن أمية‏.‏ وفتح المسلمون في هذه السنة حصن كفخ من بلاد الروم وعليهم عمير بن الحباب السلمي صعد سورها وقاتل عليه وحده حتى انكشف الروم وفتحه وفي‏.‏ سنة ستين غزا مالك بن وفاة معاوية‏:‏ وتوفي معاوية سنة ستين وكان خطب الناس قبل موته وقال‏:‏ إني كزرع مستحصد وقد طالت إمارتي عليكم حتى مللتكم ومللتموني وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه كما أن من كان قبلي خير مني‏.‏ وقد قيل من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه‏.‏ اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي وبارك لي‏.‏ فلم يمض إلا قليل حتى ازداد به مرضه فدعا ابنه يزيد وقال‏:‏ يا بني إني قد كفيتك الرحلة والترحال ووطأت لك الأمور وأخضعت لك رقاب العرب‏.‏ وجمعت لك معه أحد‏.‏ وإني لا أخاف عليك أن ينازعك هذا الأمر الذي انتسب لك إلا أربعة نفر قريش‏:‏ الحسين بن علي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير عبد الرحمن بن أبي بكر‏.‏ فأما ابن عمر فرجل قد وقذته العبادة إذا لم يبق غيره بايعك‏.‏ وأما الحسين فإن أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه فإن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه فإن له رحماً ما مثله وحقاً عظيماً‏.‏ وأما ابن أبي بكر فإن رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله وليس له همة إلا في النساء‏.‏ وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك روغان الثعلب وإذا أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير‏.‏ فإن هو فعلها بك وقدرت عليه فقطعه إرباً إرباً‏.‏ هذا حديث الطبري عن هاشم وله عن هاشم من طريق آخر قال‏:‏ لما حضرت وفاة معاوية سنة ستين كان يزيد غائباً فدعا بالضحاك بن قيس الفهري وكان صاحب شرطته ومسلم بن عتبة المزني فقال‏:‏ أبلغا يزيد وصيتي انظر أهل الحجاز فإنهم أهلك فأكرم من قدم إليك منهم وتعاهد من غاب‏.‏ وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل فإن عزل عامل أخف من أن يشهر عليك مائة ألف سيف‏.‏ وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك وإن رابك شيء من عدوك فانتصر بهم فإذا أصبتم فاردد أهل الشام إلى بلادهم فإنهم إن قاموا بغير بلادهم تغيرت أخلاقهم‏.‏ ولست أخاف عليك من قريش إلا ثلاثاً ولم يذكر في هذا الطريق عبد الرحمن بن أبي بكر‏.‏ وقال في ابن عمر قد وقذه الدين فليس ملتمساً شيئاً قبلك‏.‏ وقال في الحسين ولو أني صاحبه عفوت عنه وأنا أرجو أن يكفيك الله بمن قتل أباه وخذل أخاه‏.‏ وقال في ابن الزبير إذا شخص إليك فالبد له إلا أن يلتمس منك صلحاً فاقبل واحقن دماء قومك ما استطعت‏.‏ وتوفي في منتصف رجب ويقال في جمادى لتسع عشرة سنة وأشهر من ولايته وكان على خاتمه عبد الله بن محصن الحميري وهو أول من اتخذ ديوان الخاتم وكان سببه أنه أمر لعمر بن الزبير بمائة ألف درهم وكتب له بذلك إلى زياد بالعراق ففض عمر الكتاب وصير المائة مائتين فلما رفع زياد حسابه أنكرها معاوية وأخذ عمر بردها وحبسه فأداها عنه أخوه عبد الله‏.‏ فأحدث عند ذلك ديوان الخاتم وحزم الكتب ولم تكن تحزم‏.‏ وكان على شرطته قيس بن همزة الهمداني فعزله ابن بيد بن عمر العدوي وكان على حرسه المختار من مواليه‏.‏ وقيل أبو المحاري مالك مولى حميرة وهو أول من اتخذ الحرس‏.‏ وعلى حجابه مولاه سعد وكان كاتبه وصاحب أمره سرجون بن منصور الرومي وعلى القضاء فضالة بن عبد الله الأنصاري وبعده أبو دويس عائد بن عبد الله الخولاني‏.‏

  بيعة يزيد

بويع يزيد بعد موت أبيه وعلى المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وعلى مكة عمرو بن سعيد بن العاص وعلى البصرة عبيد الله بن زياد وعلى الكوفة النعمان بن بشير ولم يكن همه إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية بيعته فكتب إلى الوليد بموت معاوية وأن يأخذ حسيناً وابن عمر وابن الزبير بالبيعة من غير رخصة‏.‏ فلما قرأ مروان الكتاب بنعي معاوية استرجع وترحم واستشاره الوليد في أمر أولئك النفر فأشار عليه أن يحضرهم لوقته فإن بايعوا وإلا قتلتهم قبل أن يعلموا بموت معاوية فيثب كل رجل في ناحية إلا ابن عمر فإنه لا يحب القتال ولا يحب الولاية إلا أن يرفع إليه الأمر فبعث الوليد لوقته عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو غلام حدث فجاء إلى الحسين وابن الزبير في المسجد في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس‏.‏ وقال وجمع الحسين فتيانه وأهل بيته وسار إليهم فأجلسهم بالباب وقال إن دعوتكم أو سمعتم صوتي عالياً فادخلوا بأجمعكم‏.‏ ثم دخل فسلم ومروان عنده فشكرهما على الصلة بعد القطيعة ودعا لهما بإصلاح ذات البين‏.‏ فأقرأه الوليد الكتاب بنعي معاوية ودعاه إلى البيعة فاسترجع وترحم وقال‏:‏ مثلي لا يبايع سراً ولا يكتفي بها مني فإذا ظهرت إلى الناس ودعوتهم كان أمرنا واحداً وكنت أول مجيب‏.‏ فقال الوليد‏:‏ وكان يحب المسالمة انصرف‏.‏ فقال مروان‏:‏ لا يقدر منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينك وبينهم ألزمه البيعة وإلا اضرب عنقه‏.‏ فوثب الحسين وقال‏:‏ أنت تقتلني أو هو كذبت والله وانصرف إلى منزله‏.‏ وأخذ مروان في عذل الوليد‏.‏ فقال يا مروان والله ما أحب أن لي ما طلعت الشمس من مال الدنيا وملكها وأني قتلت الحسين أن قال لا أبايع‏.‏ وأما ابن الزبير فاختفى في داره وجمع أصحابه وألح الوليد في طلبه وبعث مواليه فشتموه وهددوه وأقاموا ببابه في طلبه فبعث ابن الزبير أخاه جعفراً يلاطف الوليد ويشكو ما أصابه من الذعر ويعده بالحضور من الغداة وأن يصرف رسله من بابه فبعث إليهم وانصرفوا وخرج ابن الزبير من ليلته مع أخيه جعفر وحدهما وأخذا طريق الفرع إلى مكة فسرح الرحالة في طلبه فلم يدركوه ورجعوا وتشاغلوا بذلك عن الحسين سائر يومه‏.‏ ثم أرسل إلى الحسين يدعوه فقال‏:‏ وسار في الليلة الثانية ببنيه وإخوته وبني أخيه إلا محمد بن الحنفية وكان قد نصحه وقال تنح عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت وابعث دعاتك إلى الناس فإن أجابوك فاحمد الله وإن اجتمعوا على غيرك فلم يضر بذلك دينك ولا عقلك ولم تذهب به مروءتك ولا فضلك‏.‏ وأنا أخاف أن تأتي مصراً أو قوماً فيختلفون عليك فتكون الأول إساءة فإذاً خير الأمة نفساً وأباً أضيعها ذماراً وأذلها‏.‏ قال له الحسين‏:‏ فإني ذاهب‏.‏ قال انزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فسبيل ذلك وإن فاتت بك لحقت بالرمال وشعب الجبال ومن بلد إلى آخر حتى ننظر مصير أمر الناس وتعرف الرأي‏.‏ فقال يا أخي نصحت وأشفقت ولحق بمكة‏.‏ وبعث الوليد إلى ابن عمر ليبايع فقال‏:‏ أنا أبايع أمام الناس وقيل ابن عمر وابن عباس كانا بمكة ورجعا إلى المدينة فلقيا الحسين وابن الزبير وأخبراهما بموت معاوية وبيعة يزيد‏.‏ فقال ابن عمر‏:‏ لا تفرقا جماعة المسلمين وقم هو وابن عباس المدينة وبايعا عنه بيعة الناس‏.‏ ولما دخل ابن الزبير مكة وعليها عمرو بن سعيد قال‏:‏ أنا عائذ بالبيت ولم يكن يصلي ولا يقف معهم ويقف هو وأصحابه ناحية‏.‏

  عزل الوليد عن المدينة وولاية عمرو بن سعيد

ولما بلغ الخبر إلى يزيد بصنيع الوليد بن عتبة في أمر هؤلاء النفر عزله عن المدينة واستعمل عليها عمرو بن سعيد الأشدق فقدمها في رمضان واستعمل على شرطته عمر بن الزبير بالمدينة لما كان بينه وبين أخيه من البغضاء وأحضر نفراً من شيعة الزبير بالمدينة فضربهم من الأربعين إلى الخمسين إلى الستين منهم المنذر بن الزبير وابنه محمد وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام ومحمد بن عمار بن ياسر وغيرهم‏.‏ ثم جهز البعوث إلى مكة سبعمائة أو نحوها‏.‏ وقال لعمر بن الزبير‏:‏ من نبعث إلى أخيك‏:‏ فقال لا تجد رجلاً أنكى له مني فجهز معه سبعمائة مقاتل فيهم أنس بن عمير الأسلمي‏.‏ وعذله مروان بن الحكم في غزو مكة وقال له‏:‏ اتق الله ولا تحل حرمة البيت‏.‏ فقال‏:‏ والله لنغزونه في جوف الكعبة‏.‏ وجاء أبو شريح الخزاعي إلى عمرو بن سعيد فقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ إنما أذن لي بالقتال فيها ساعة من نهار ثم عادت كحرمتها بالأمس ‏"‏‏.‏ فقال له عمرو‏:‏ نحن أعلم بحرمتها منك أيها الشيخ وقيل‏:‏ إن يزيد كتب إلى عمرو بن سعيد أن يبعث عمر بن الزبير بالجيش إلى أخيه فبعثه في ألفي مقاتل وعلى مقدمته أنيس‏.‏ فنزل أنيس بذي طوى ونزل عمر بالأبطح وبعث إلى أخيه أن بريمين يزيد فإنه حلف أن لا يقبل بيعة إلا أن يؤتى بك في جامعه فلا يضرب الناس بعضهم بعضاً فإنك في بلد حرام‏.‏ فأرسل عبد الله بن الزبير من اجتمع له من أهل مكة مع عبد الله بن صفوان فهزموا أنيساً بذي طوى وقتل أنيس في الهزيمة وتخلف عن عمر بن الزبير أصحابه فدخل دار ابن علقمة وأجاره عبدة بن الزبير‏.‏ وقال لأخيه قد أجرته فأنكر ذلك عليه‏.‏ وقيل‏:‏ إن صفوان قال لعبد الله بن الزبير اكفني أخاك وأنا أكفيك أنيس بن عمر وسار إلى أنيس فهزمه‏.‏ وقتله وسار مصعب بن عبد الرحمن إلى عمر فتفرق عنه أصحابه وأجاره أخوه عبدة يجز أخوه عبد الله جواره وضربه بكل من ضربه بالمدينة وحبسه بسجن عارم ومات تحت السياط‏.‏ مسير الحسين إلى الكوفة ومقتله ولما خرج الحسين إلى مكة لقيه عبد الله بن مطيع وسأله أين تريد فقال مكة وأستخير الله فيما بعد فنصحه أن لا يقرب الكوفة وذكره قتلهم أباه وخذلانهم أخاه وأن يقيم بمكة لا يفارق الحرم حتى يتداعى إليه الناس‏.‏ ورجع عنه وترك الحسين بمكة فأقام والناس يختلفون إليه وابن الزبير في جانب الكعبة يصلي ويطوف عامة النهار ويأتي الحسين فيمن يأتي ويعلم أن أهل الحجاز لا يلقون إليه مع الحسين‏.‏ ولما بلغ أهل الكوفة بيعة يزيد ولحاق الحسين بمكة اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد وكتبوا إليه عن نفر منهم سليمان والمسيب بن محمد ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر وغيرهم يستدعونه وأنهم لم يبايعوا للنعمان ولا يجتمعون معه في جمعة ولا عيد ولو جئتنا أخرجناه‏.‏ وبعثوا بالكتاب مع عبد الله بن سبع الهمداني وعبد الله بن وال‏.‏ ثم كتبوا إليه ثانياً بعد ليلتين نحو مائة وخمسين صحيفة ثم ثالثاً يستحثونه للحاق بهم‏.‏ كتب له بذلك شيث بن ربعي وحجاز بن أبجر ويزيد بن الحارث ويزيد بن رويم وعروة بن قيس وعمر بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي‏.‏ فأجابهم الحسين‏:‏ فهمت ما قصصتم وقد بعثت إليكم ابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل يكتب إلي بأمركم ورأيكم فإن اجتمع ملؤكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم عليكم قريبًا‏.‏ ولعمري ما الإمام إلى العامل بالكتاب القائم بالقسط يدين بدين الحق‏.‏ وسار مسلم فدخل المدينة وصلى في المسجد وودع أهله واستأجر دليلين من قيس فضلا الطريق وعطش القوم فمات الدليلان بعد أن أشارا إليهم بموضع الماء فانتهوا إليه وشربوا ونجوا‏.‏ فتطير مسلم من ذلك وكتب إلى الحسين يستعفيه‏.‏ فكتب إليه‏:‏ خشيت أن لا يكون حملك على ذلك إلا الجبن فامض لوجهك والسلام وسار مسلم فدخل الكوفة أول ذي الحجة من سنة ستين واختلف إليه الشيعة وقرأ عليهم كتاب الحسين فبكوا ووعدوه النصر‏.‏ وعلم مكانه النعمان بن بشير أمير الكوفة وكان حليماً يجنح إلى المسالمة فخطب وحذر الناس الفتنة‏.‏ وقال‏:‏ لا أقاتل من لا يقاتلني ولا آخذ بالظنة والتهمة ولكن إن نكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم فو الله لأضربنكم بسيفي ما دام قائمته بيدي ولو لم يكن لي ناصر‏.‏ فقال له بعض حلفاء بني أمية‏:‏ لا يصلح ما ترى إلا الغشم وهذا الذي أنت عليه مع عدوك رأي المستضعفين‏.‏ فقال‏:‏ أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله ثم تركه‏.‏ فكتب عبد الله بن مسلم وعمارة بن الوليد وعمارة بن سعد بن أبي وقاص إلى يزيد بالخبر وتضعف النعمان وضعفه فابعث إلى الكوفة رجلاً قوياً ينفذ أمرك ويعمل عملك في عدوك فأشار عليه سرجون مسيرة المختار إلي الكوفة وأخذها من ابن المطيع بعد وقعة كربلاء مضى إبراهيم إلى المختار وأخبره الخبر وبعثوا في الشيعة ونادوا بثأر الحسين ومضى إبراهيم إلى النخع فاستركبهم وسار بهم في المدينة ليلاً وهو يتجنب المواضع التي فيها الأمراء‏.‏ ثم لقي بعضهم فهزمهم ثم آخرين كذلك ثم رجع إلى المختار فوجد شبث بن ربعي وحجاز بن أبجر العجلي يقاتلانه فهزمهما وحاشب بن المطيع فأشار إليه بجمع الناس والنهوض إلى القوم قبل‏.‏ فولى أمرهم فركب واجتمع الناس وتوافى إلى المختار نحو أربعة آلاف من الشيعة وبعث ابن مطيع شبث بن ربعي في ثلاثة آلاف وربع بن إياس في أربعة آلاف‏.‏ فسرح إليهم المختار إبراهيم بن الأشتر لراشد في ستمائة فارس وستمائة راجل ونعيم بن هبيرة لشبث في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل واقتتلوا من بعد صلاة الصبح‏.‏ وقتل نعيم فوهن المختار لقتله وظهر شبث وأصحابه عليهم‏.‏ وقاتل إبراهيم بن الأشتر راشد بن إياس فقتله وانهزم أصحابه وركبهم الفشل‏.‏ وبعث ابن المطيع جيشاً كثيفاً فهزمهم ثم حمل على شبث فهزمه وبعث المختار فمنعه الرماة من دخول الكوفة‏.‏ ورجع المنهزمون إلى ابن مطيع فدهش فشجعه عمر بن الحجاج الزبيدي وقال له اخرج واندب الناس ففعل‏.‏ وقام في الناس ووبخهم على هزيمتهم وندبهم‏.‏ ثم بعث عمر بن الحجاج في ألفين وشمر بن ذي الجوشن في ألفين ونوفل بن مساحق في خمسة آلاف‏.‏ ووقف هو بكتائبه‏.‏ واختلف على القصر شبث بن ربعي فحمل ابن الأشتر على ابن مساحق فهزمه وأسره ثم من عليه‏.‏ ودخل ابن مطيع القصر وحاصره إبراهيم بن الأشتر ثلاثاً ومعه زيد بن أنس وأحمد بن شميط ولما اشتد الحصار على ابن مطيع أشار عليه شيث بن ربعي بأن يستأمن للمختار ويلحق بابن الزبير وله ما يعده‏.‏ فخرج عنهم مساءً ونزل دار أبي موسى‏.‏ واستأمن القوم للمختار فدخل القصر وغدا على الناس في المسجد خطبهم ودعاهم إلى بيعة ابن الحنفية فبايعه أشراف الكوفة على الكتاب والسنة واللطف بأهل البيت ووعدهم بحسن السيرة‏.‏ وبلغه أن ابن مطيع في دار أبي موسى بعث إليه بمائة ألف درهم وقال يجهز بهذه‏.‏ وكان ابن مطيع قد فرق بيوت الأموال على الناس وسار ابن مطيع إلى وجهه وملك الكوفة وجعل على شرطته عبد الله بن كامل على حرسه كيسان أبا عمرة وجعل الأشراف جلساءه وعقد لعبد الله بن الحارث بن الأشتر على أرمينية ولمحمد بن عمير بن عطارد على أذربيجان ولعبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل ولإسحق بن مسعود على المدائن ولسعد بن حذيفة بن اليمان على حلوان‏.‏ وأمره بقتال الأكراد وإصلاح السابلة‏.‏ وولى شريحًا على القضاء‏.‏ ثم طعنت فيه الشيعة بأنه شهد على حجر بن عدي ولم يبلغ عن هانىء بن عروة رسالته إلى قومه وأن علياً غرمه وأنه عثماني‏.‏ وسمع ذلك هو فتمارض فجعل مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود ثم مرض فولى مكانه عبد الله بن مالك الطائي‏.‏

  مسيرة ابن زياد إلى المختار وخلافة أهل الكوفة عليه

كان مروان بن الحكم لما استوثق له الشام بعث جيشين أحدهما إلى الحجاز مع جيش بن دلجة القيني وقدشاتة ومقتلة والأخر إلى العراق مع عبيد الله بن زياد فكان من أمره وأمر التوابين من الشيعة ما تقدم وأقام محاصراً لزفر بن الحارث بقرقيسيا وهو مع قومه قيس على طاعة ابن الزبير فاشتغل بهم عن العراق سنة أو نحوها‏.‏ ثم توفي مروان وولى بعده عبد الملك فأقره على ولايته وأمره بالجد ويئس من أمر زفر وقيس فنهض إلى الموصل فخرج عنها عبد الرحمن بن سعيد عامل المختار إلى تكريت وكتب إلى المختار بالخبر فبعث يزيد بن أنس الأسدي في ثلاثة آلاف إلى الموصل فسار إليها على المدائن وسرح ابن زياد للقائه ربيعة بن المختار الغنوي في ثلاثة آلاف‏.‏ فالتقيا ببابل‏.‏ وعبى يزيد أصحابه وهو راكب على حمار وحرضهم‏.‏ وقال إن مت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي وإن هلك فعبد الله بن ضمرة الفزاري وإن هلك فسعد الخثعمي‏.‏ ثم اقتتلوا يوم عرفة وانهزم أهل الشام وقتل ربيعة وسار الفل غير بعيد فلقيهم عبد الله بن حملة الخثعمي قد سرحه ابن زياد في ثلاثة آلاف فرد المنهزمين وعاد القتال يوم الأضحى فانهزم أهل الشام وأثخن فيهم أهل الكوفة بالقتل والنهب وأسروا منهم ثلاثمائة فقتلوهم‏.‏ وهلك يزيد بن أنس من آخر يومه وقام بأمرهم ورقاء بن عازب خليفته وهاب لقاء ابن زياد بعد يزيد وقال‏:‏ نرجع بموت أميرنا قبل أن يتجرأ علينا أهل الشام بذلك‏.‏ وانصرف الناس وتقدم الخبر إلى وسر المختار رجوع العسكر فسرح إبراهيم بن الأشتر في سبعة آلاف وضم إليه جيش يزيد ثم تأخر ابن زياد فسار لذلك‏.‏ ثم اجتمع أشراف الكوفة عند شيث بن ربعي وكان شيخهم جاهلياً إسلامياً وشكوا من سيرة المختار وإيثاره الموالي عليهم ودعوه إلى الوثوب به‏.‏ فقال حتى ألقاه وأعذر إليه ثم ذهب إليه وذكر له جميع ما نكروه فوعده الرجوع إلى مرادهم وذكر له شأن الموالي وشركتهم في الفيء‏.‏ فقال‏:‏ إن أعطيتموني عهدكم على قتال بني أمية وابن الزبير تركتهم‏.‏ فقال اخرج إليهم بذلك وخرج فلم يرجع‏.‏ واجتمع رأيهم على قتاله وهم شبث بن ربعي ومحمد بن الأشعث وعبد الرحمن بن سعد بن قيس وشمر بن ذي الجوشن وكعب بن أبي كعب النخعي وعبد الرحمن بن مخنف الأزدي‏.‏ وقد كان ابن مخنف أشار عليهم بأن يمهلوه لقدوم أهل الشام وأهل البصرة فيكفونكم أمره قبل أن يقاتلكم بمواليكم وشجعانكم وهم عليكم أشد فأبوا من رأيه وقالوا لا تفسد جماعتنا‏.‏ ثم خرجوا وشهروا السلاح وقالوا للمختار‏:‏ اعتزلنا فإن ابن الحنفية لم يبعثك‏.‏قال نبعث إليه الرسل مني ومنكم وأخذ يعللهم بأمثال هذه المراجعات وكف أصحابه عن قتالهم ينتظر وصول إبراهيم بن الأشتر وقد بعث إليه بالرجوع‏.‏ فجاء فرأى القوم مجتمعين ورفاعة بن شداد الجلي يصلي بهم‏.‏ فلما وصل إبراهيم عبأ المختار أصحابه وسرح بين يديه أحمد بن شميط البجيلي وعبد الله بن كامل الشادي فانهزم أصحابهما وصبرا ومدهما المختار بالفرسان والرجال فوجاً بعد فوج وسار ابن الأشتر إلى مصر وفيهم شيث بن ربعي فقاتلوه فهزمهم فاشتد ابن كامل على اليمن ورجع رفاعة بن شداد أمامهم إلى المختار فقاتل معه حتى قتل من أهل اليمن عبد الله بن سعيد بن قيس والفرات بن زحر برت قيس وعمر بن مخنف‏.‏ وخرج أخوه عبد الرحمن فمات وانهزم أهل اليمن هزيمةً قبيحة وأسر من الوادعيين خمسمائة أسير فقتل المختار كل من شهد قتل الحسين منهم فكانوا نصفهم وأطلق الباقين‏.‏ ونادى المختار الأمان إلا من شهد في دماء أهل البيت وفر عمر بن الحجاج الزبيدي وكان أشد من حضر قتل الحسين فلم يوقف له على خبر‏.‏ وقيل أدركه أصحاب المختار فأخذوا رأسه وبعث في طلب شمر بن ذي الجوشن فقتل طالبه وانتهى إلى قرية الكلبانية فارتاح يظن أنه نجا‏.‏ وإذا في قرية أخرى بإزائه أبو عمرة صاحب المختار بعثه مسلحة بينه وبين أهل البصرة فنمي إليه خبره فركب إليه فقتله شلوه للكلاب‏.‏ وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلاً أكثرهم من اليمن وكان آخر سنة ست وستين وخرج أشراف الناس إلى البصرة وتتبع المختار قتلة الحسين ودل على عبيد الله بن أسد الجهني ومالك بن نسير الكندي‏.‏ وحمل ابن مالك المحاربي بالقادسية فأحضرهم وقتلهم‏.‏ ثم أحضر زياد بن مالك الضبعي وعمران بن خالد العثري عبد الرحمن بن أبي حشكارة البجلي وعبد الله بن قيس الخولاني وكانوا نهبوا من الورث الذي كان مع الحسين فقتلهم‏.‏ وأحضر عبد الله أو عبد الرحمن بن طلحة وعبد الله بن وهيب الهمداني ابن عم الأعشى فقتلهم‏.‏ وأحضر عثمان بن خالد الجهني وأبا أسماء بشر بن سميط القابسي وكانا مشتركين في قتل عبد الرحمن بن عقيل وفي سلبه فقتلهما وحرقهما بالنار‏.‏ وبحث عن خولي بن يزيد الأصبحي صاحب رأس الحسين فجيء برأسه وحرق بالنار‏.‏ ثم قتل عمر بن سعد بن أبي وقاص بعد أن كان أخذ له الأمان منه عبد الله بن أبي جعدة بن هبيرة فبعث أبا عمرة فجاءه برأسه وابنه حفص عنده‏.‏ فقال تعرف هذا قال‏:‏ نعم ولا خير في العيش بعده فقتله‏.‏ ويقال‏:‏ إن الذي بعث المختار على قتلة الحسين أن يزيد بن شراحيل الأنصاري قدم على محمد بن الحنفية فقال له ابن الحنفية‏:‏ يزعم المختار أن لنا شيعة وقتلة الحسين عنده على الكراسي يحدثونه‏.‏ فلما سمع المختار ذلك تتبعهم بالقتل وبعث برأس عمرو ابنه إلى ابن الحنفية وكتب إليه أنه قتل من قدر عليه وهو في طلب الباقين‏.‏ ثم أحضر حكيم بن طفيل الطائي وكان رمى الحسين بسهم وأصاب سلب العباس ابنه‏.‏ وجاء عدي بن حاتم يشفع فيه فقتله ابن كامل والشيعة قبل أن يصل حذراً من قبول المختار شفاعته‏.‏ وبحث عن مرة بن منقذ بن عبد القيس قاتل علي بن الحسين فدافع عن نفسه ونجا إلى مصعب بن الزبير وقد شلت يده بضربة‏.‏ وبحث عن زيد وفاد الحسين قاتل عبد الله بن مسلم بن عقيل رماه بسهمين وقد وضع كفه على جبهته يتقي النبل فأثبت كفه في جبهته وقتله بالأخرى فخرج بالسيف يدافع‏.‏ فقال ابن كامل ارموه بالحجارة فرموه حتى سقط وأحرقوه حياً‏.‏ وطلب سنان بن أنس الذي كان يدعي قتل الحسين فلحق بالبصرة‏.‏ وطلب عمر بن صبح الصدائي فقتله طعناً بالرماح وأرسل في طلب محمد بن الأشعث وهو في قريته عند القادسية فهرب إلى مصعب وهدم المختار داره‏.‏ وطلب آخرين كذلك من المتهمين بأمر الحسين فلحقوا بمصعب وهدم دورهم‏.‏ شأن المختار مع ابن الزبير كان على البصرة الحارث بن أبي ربيعة وهو القباع عاملاً لابن الزبير‏.‏ وعلى شرطته عباد بن حسين وعلى المقاتلة قيس بن الهيثم‏.‏ وجاء المثنى بن مخرمة العبدي وكان ممن شهد مع سليمان بن صرد ورجع فبايع للمختار وبعثه إلى البصرة يدعو له بها فأجابه كثير من الناس وعسكر لحرب القباع فسرح إليه عباد بن حسين وقيس بن الهيثم في العساكر فانهزم المثنى إلى قومه عبد القيس وأرسل القباع عسكراً يأتونه به‏.‏ فجاءه زياد بن عمر العنكبي فقال له‏:‏ لتردن خيلك عن إخواننا أو لنقاتلنهم‏.‏ فأرسل الأحنف بن قيس وأصلح الأمر على أن يخرج المثنى عنهم فسار إلى الكوفة‏.‏ وقد كان المختار لما أخرج ابن مطيع من البصرة كتب إلى ابن الزبير يخادعه ليتم أمره في الدعاء لأهل البيت وطلب المختار في الوفاء بما وعده به الولاية فأراد ابن الزبير أن يتبين الصحيح من أمره فولى عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام على الكوفة وأعلمه بطاعة المختار وبعثه إليها‏.‏ وجاء الخبر إلى المختار فبعث زائدة بن قدامة في خمسمائة فارس وأعطاه سبعين ألف درهم وقال ادفعها إلى عمر فهي ضعف ما أنفق وأمره بالانصراف بعد تمكث فإن أبى فأره الخيل فكان كذلك‏.‏ ولما رأى عمر الخيل أخذ المال وسار نحو البصرة واجتمع هو وابن مطيع في إمارة القباع قبل وثوب ابن مخرمة‏.‏ وقيل إن المختار كتب إلى ابن الزبير إني اتخذت الكوفة داراً فإن سوغتني ذلك وأعطيتني مائة ألف درهم سرت إلى الشام وكفيتك مروان فمنعه من ذلك‏.‏ فأقام المختار بطاعته ويوادعه ليتفرغ لأهل الشام‏.‏ ثم بعث عبد الملك بن مروان عبد الملك بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص إلى وادي القرى فكتب المختار إلى ابن الزبير يعرض عليه المدد فأجابه أن يعجل بإنفاذ الجيش إلى جند عبد الملك بوادي القرى فسرح شرحبيل بن دوس الهمداني في ثلاثة آلاف أكريم من الموالي وأمره أن يأتي المدينة ويكاتبه بذلك واتهمه ابن الزبير فبعث من مكة عباس بن سهل بن سعد في ألفين وأمره أن يستنفر العرب وإن رأى من جيش المختار خلافاً ناجزهم وأهلكهم‏.‏ فلقيهم عباس بالرقيم وهم على تعبية فقال سيروا بنا إلى العدو الذي بوادي القرى‏.‏ فقال ابن دوس إنما أمرني المختار أن آتي المدينة ففطن عباس لما يريد‏.‏ فأتاهم بالعلوفة والزاد وتخير ألفاً من أصحابه وحمل عليهم فقتل ابن دوس وسبعين معه من شجعان قومه وأمن الباقين فرجعوا للكوفة ومات أكثرهم في الطريق‏.‏ وكتب المختار إلى ابن الحنفية يشكو ابن الزبير ويوهمه أنه بعث الجيش في طاعته ففعل بهم ابن الزبير ما فعل‏.‏ ويستأذنه في بعث الجيوش إلى المدينة ويبعث ابن الحنفية عليهم رجلاً من قبله فيفهم الناس أني في طاعتك فكتب إليه ابن الحنفية قد عرفت قصدك ووفاءك بحقي وأحب الأمر إلي الطاعة فأطع الله وتجنب دماء المسلمين‏.‏ فلو أردت القتال لوجدت الناس إلي سراعاً والأعوان كثيراً لكني أعتزلهم وأصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين‏.‏ ثم دعا ابن الزبير محمد بن الحنفية ومن معه من أهل بيته وشيعته إلى البيعة فامتنع وبعث إليه ابن الزبير وأغلظ عليه وعليهم فاستكانوا وصبروا فتركهم‏.‏ فلما استولى المختار على الكوفة وأظهر الشيعة دعوة ابن الحنفية خاف ابن الزبير أن يتداعى الناس إلى الرضا به فاعتزم عليهم في البيعة وتوعدهم بالقتل وحبسهم بزمزم وضرب لهم أجلاً‏.‏ وكتب ابن الحنفية إلى المختار بذلك فأخبر الشيعة وندبهم وبعث أمراء منهم في نحو ثلاثمائة عليهم أبو عبد الله الجدلي‏.‏ وبعث لابن الحنفية أربعمائة ألف درهم وساروا إلى مكة فدخلوا المسجد الحرام وبأيديهم الخشب كراهة إشهار السيوف في الحرم وطفقوا ينادون بثأر الحسين حتى انتهوا إلى زمزم‏.‏ وأخرج ابن الحنفية وكان قد بقي من أجله يومان واستأذنوه في قتال ابن الزبير فقال لا أستحل القتال في الحرم‏.‏ ثم جاء باقي الجند وخافهم ابن الزبير وخرج ابن الحنفية إلى شعب علي واجتمع له أربعة آلاف رجل فقسم بينهم المال‏.‏ ولما قتل المختار واستوثق أمر ابن الزبير بعث إليهم في البيعة فخافه على نفسه وكتب لعبد الملك فأذن له أن يقدم الشام حتى يستقيم أمر الناس ووعده بالإحسان‏.‏ وخرج ابن الحنفية وأصحابه إلى الشام‏.‏ ولما وصل مدين لقيه خبر مهلك عمرو بن سعيد فندم وأقام بايلة وظهر في الناس فضله وعبادته وزهده‏.‏ وكتب له عبد الملك أن يبايعه فرجع إلى مكة ونزل شعب أبي طالب فأخرجه ابن الزبير فسار إلى الطائف وعذل ابن عباس بن الزبير على شأنه ثم خرج عنه ولحق بالطائف ومات هنالك‏.‏ وصلى عليه أبن الحنفية وعاش إلى أن أدرك حصار‏.‏ الحجاج لابن الزبير‏.‏ ولما قتل ابن الزبير بايع لعبد الملك وكتب عبد الملك إلى الحجاج بتعظيم حقه وبسط أمله ثم قدم إلى الشام وطلب من عبد الملك أن يرفع حكم الحجاج عنه ففعل وقيل إن ابن الزبير بعث إلى ابن عباس وابن الحنفية في البيعة حتى يجتمع الناس على إمام فإن في هذه فتنةً‏.‏ فحبس ابن الحنفية في زمزم وضيق على ابن عباس في منزله وأراد إحراقهما فأرسل المختار جيشه كما تقدم ونفس عنهما‏.‏ ولما قتل المختار قوي ابن الزبير عليهما فخرجا إلى الطائف‏.‏