فصل: وفي سنة اثنتيـن وأربعيـن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  انتقاض خراسان ومسير المهدي إليها

كان السفاح قد ولى على خراسان أبا داود خالد بن إبراهيم الذهلي بعد انتقاض بسام بن إبراهيم ومهلكه‏.‏ فلما كان سنة أربعين ثار به بعض الجند وهو بكشماهن وجاؤوا إلى منزله فأشرف عليهم ليـلاً مـن السطـح فزلـت قدمـه فسقـط ومـات ليومـه‏.‏ وكـان عصـام صاحـب شرطته فقام بالأمر بعده‏.‏ ثم ولى المنصور على خراسان عبد الجبار بن عبد الرحمن فقدم عليها وحبس جماعة من القواد اتهمهم بالدعاء للعلوية منهم مجاشع بن حريث الأنصاري عامل بخـارى وأبـو المعـرة خالـد بـن كثيـر مولـى بنـي تميـم عامـل قهستـان والحريـش بـن محمد الذهلي ابن عم أبي داود في أخرين‏.‏ ثـم قتـل هـؤلاء وألـح علـى عمـال أبـي داود فـي استخراج المال وانتهت الشكوى إلى المنصور بذلك فقـال لأبـي أيـوب إنمـا يريـد بفنـاء شيعتنـا الخلع فأشار عليه أبو أيوب أن تبعث من جنود خراسان لغزو الروم فإذا فارقوه بعثت إليه من شئت واستمكن منه‏.‏ فكتب إليه بذلك فأجاب بأن التـرك قـد جاشـت وإن فرقـت الجنود خشيت على خراسان‏.‏ فقال له أبو أيوب اكتب إليه بأنك ممـده بالجيـوش وابعث معها من شئت يستمكن منه فأجاب عبد الجبار بأن خراسان مغلبة في عامها ولا تحتمل زيادة العسكر‏.‏ فقال له أبو يوسف هذا خلع فعاجله‏.‏ فبعث ابنه المهدي فسار ونزل الري‏.‏ وقدم خازم بن خزيمة لحرب عبد الجبار فقاتلوه فانهزم وجاء إلى مقطنة وتوارى فيها‏.‏ فعبر إليه المحشد بن مزاحم من أهل مرو الروذ وجاء به إلى خازم فحمله على بعير وعليه جبة صوف ووجهه إلى عجز البعير وحمله إلى المنصور في ولده وأصحابه‏.‏ فبسط إليهم العذاب حتـى استخـرج الأمـوال ثـم قطـع يديـه ورجليـه وقتلـه‏.‏ وذلـك سنة اثنتين وأربعين وبعث بولده إلى دهلك فعزلهم بها وأقام المهدي بخراسان حتى رجع إلى العراق سنة تسع وأربعين

  وفي سنة اثنتيـن وأربعيـن

انتقض عيينة بن موسى بن كعب بالسند وكان عاملاً عليها من بعد أبيه وكان أبـوه يستخلـف المسيـب بـن زهيـر علـى الشرط فخشي المسيب إن حضر عيينة عند المنصور أن يوليه على الشرط فحذره المنصور وحرضه على الخلاف فخلع الطاعة‏.‏ وسار المنصور إلى البصـرة وسـرح من هنالك عمر بن حفص بن أبي صفوة العتكي لحرب عيينة وولاه على السند والهند فورد السند وغلب عليها‏.‏ وفي هذه السنة انتقض الأصبهبذ بطبرستان وقتل من كان فـي أرضـه مـن المسلميـن فبعث المنصور مولاه أبا الخصيب وخازم بن خزيمة وروح بن حاتم في العساكر فحاصروه في حصنه مدة ثم تحيلوا ففتح لهم الحصن من داخله وقتلوا المقاتلة وسبى الذرية وكان مع الأصبهبد سم فشربه ومات‏.‏ أمر بني العباس بنـو هاشم حين اضطرب أمر مروان بن محمد اجتمعوا إليه وتشاوروا فيمن يعقدون له الخلافة فاتفقوا على محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى بن علي وكان يقال إن المنصور ممن بايعه تلك الليلـة‏.‏ ولمـا حـج أيـام أخيـه السفـاح سنـة سـت وثلاثيـن تغيـب عنـه محمد وأخوه إبراهيم ولم يحضرا عنـده مـع بنـي هاشـم‏.‏ وسـأل عنهمـا فقـال لـه زياد بن عبيد الله الحرثي أنا آتيك بهما وكان بمكة فرده المنصور إلى المدينة‏.‏ ثم استخلف المنصور وطفق يسأل عن محمد ويختص بني هاشم بالسؤال سراً فكلهم يقول إنك ظهرت على طلبه لهذا الأمر فخافك على نفسه ويحسن العذر عنه إلا الحسن بن زيد بن الحسن بن علي فإنه قال له والله ما آمن وثوبه عليك فإنه لا ينام عنـك‏.‏ فكـان موسـى بـن عبـد اللـه بـن حسـن يقـول بعـد هـذا‏:‏ اللهـم اطلـب الحسن بن زيد بدمائنا‏.‏ ثـم إن المنصـور حـج سنـة وألـح علـى عبـد اللـه بـن حسـن فـي إحضـار ابنـه محمـد فاستشـار عبـد اللـه سليمان بن علي في إحضاره فقال له‏:‏ لو كان عافياً عفى عن عمه فاستمر عبد الله على الكتمان وبث المنصـور العيـون بيـن الأعـراب فـي طلبـه بسائـر بـوادي الحجـاز ومياههـا‏.‏ ثـم كتـب كتابـاً علـى لسـان الشيعـة إلـى محمـد بالطاعـة والمسارعـة وبعثـه مع بعض عيونه إلى عبد الله وبعث معه بالمال والألطاف كأنه من عندهم‏.‏ وكان للمنصور كاتب على سره يتشيع فكتب إلى عبد الله بن حسـن بالخبـر وكـان محمـد بجهينـة وألـح عليـه صاحـب الكتـاب أمـر محمـد ليدفـع إليـه كتـاب الشيعـة‏.‏ فقال له‏:‏ اذهب إلى علي بـن الحسـن المدعـو بالأغر يوصلك إليه في جبل جهينة فذهب وأوصله إليه‏.‏ ثم جاءهم حقيقة خبـره مـن كاتب المنصور وبعثوا أبا هبار إلى محمد وعلي بن حسن يحذرهما الرجل فجاء أبو هبار إلى علي بن حسن وأخبره ثم سار إلى محمد فوجد العين عنده جالساً مع أصحابه فخـلا بـه وأخبـره‏.‏ فقـال ومـا الرأي‏.‏ قال تقتله قال لا أقارف دم مسلم‏.‏ قال‏:‏ تقيده وتحمله معك قـال‏:‏ لا آمـن عليه لكثرة الخوف والإعجال‏.‏ قال‏:‏ فتودعه عند بعض أهلك من جهينة قال هذه إذن‏.‏ ورجع فلم يجد الرجل ولحق بالمدينة‏.‏ ثم قدم على المنصور وأخبره الخبر وسمى اسم أبي هبار وكنيته وقال معه وبر‏.‏ فطلب أبو جعفر وبرا المري فسأله عن أمر محمد فأنكره وحلف فضربه وحبسه‏.‏ ثم دعا عقبة بن سالم الـأزدي وبعثـه متنكراً بكتاب والطاف من بعض الشيعة بخراسان إلى عبد الله بن حسن ليظهر على أمره فجاءه بالكتاب فانتهره وقال‏:‏ لا أعرف هؤلاء القوم‏.‏ فلم يزل يتردد إليه حتى قبله وأنس به وسأله عقبة الجواب فقال لا أكتب لأحد ولكن أقرئهم مني سلاماً وأعلمهم أن ابني خارجان لوقت كذا‏.‏ فرجـع عقبـة إلـى المنصـور فأنشأ الحج فلما لقيه بنو حسن رفع مجالسهم وعبد الله إلى جنبه ثم دعـا بالغـداء فأصابـوا منـه‏.‏ ثـم قـال لعبـد اللـه بـن حسـن قـد أعطيتني العهود والمواثيق أن لا تبغيني بسـوء ولا تكيـد لـي سلطانـاً فقـال وأنـا علـى ذلـك‏.‏ فلحـظ المنصـور عقبـة بـن سالـم فوقف بين عبد الله حتى ملأ عينه منه فبادر المنصور يسأله الإقالة فلم يفعل وأمر بحبسه‏.‏ وكان محمد يتردد فـي النواحـي وجـاء إلـى البصـرة فنـزل فـي بنـي راهـب وقيـل في بني مرة بن عبيد وبلغ الخبر إلى المنصور فجاء إلى البصرة وقد خرج عنها محمد فلقي المنصور عمر بن عبيد فقال له‏:‏ يا أبا عثمـان هـل بالبصـرة أحد نخافه على أمرنا فقال لا فانصرف واشتد الخوف على محمد وإبراهيم وسـار إلـى عـدن ثـم إلـى السنـد ثم إلى الكوفة ثم إلى المدينة‏.‏ وكان المنصور حج سنة أربعين وحـج محمـد وإبراهيـم وعزمـا علـى اغتيـال المنصـور وأبى محمد من ذلك‏.‏ ثم طلب المنصور عبد الله بإحضار ولديه وعنفه وهم به فضمنه زياد عامل المدينة‏.‏ وانصرف المنصور وقدم محمد المدينة قدمة فتلطف له زياد وأعطاه الأمان له ثـم قـال لـه‏:‏ الحق بأي بلاد شئت‏.‏ وسمع المنصور فبعث أبا الأزهر إلى المدينة في جمادى سنة إحدى وأربعين ليستعمل على المدينة عبد العزيز بن المطلب ويقبض زيـاداً وأصحابـه‏.‏ فسـار بهـم فحبسهـم المنصـور وخلـف زيـاد ببيـت المال ثمانين ألف دينار‏.‏ ثم استعمل على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسري وأمره بطلب محمد وإنفاق المال في ذلك‏.‏ فكثرت نفقته واستبطأه المنصـور واستشـار فـي عزلـه فأشـار عليـه يزيـد بـن أسيـد السلمـي من أصحابه باستعمال رباح بن عثمـان بـن حسـان المزنـي فبعثـه أميـراً علـى المدينـة في رمضان سنة أربع وأربعين وأطلق يده في محمد بن خالد القسري‏.‏ فقدم المدينة وتهدد عبد الله بن حسن في إحضار ابنيه‏.‏ وقال له عبد الله يومئذ إنك لتريق المذبوح فيها كما تذبح الشاة فاستشعر ذلك ووجد فقال له حاجبه أبو البختري‏:‏ إن هذا ما اطلـع علـى الغيـب‏.‏ فقال ويلك والله ما قال إلا ما سمع فكان كذلك‏.‏ ثم حبس رباح محمد بن خالد وضربه وجد في طلب محمد فاخبر أنه في شعبان رضوى من أعمال ينبع وهو جبل جهينـة فبعـث عاملـه فـي طلـب فأفلـت منـه‏.‏ ثـم إن ربـاح بـن مـرة حبـس بنـي حسن وقيدهم وهم‏:‏ عبد الله بن حسن بن الحسن وإخوته حسن وإبراهيم وجعفر وابنه موسى بن عبد الله وبنو أخيه داود وإسماعيل وإسحاق بنو إبراهيم بن الحسن ولم يحضر معهم أخوه علي العائد‏.‏ ثم حضر من الغد عند رباح وقال جئتك لتحبسني مع قومي فحبسه وكتب إليه المنصور أن يحبـس معهـم محمـد بـن عبـد اللـه بـن عمـر بن عثمان المعروف بالديباجة‏.‏ وكان أخا عبد الله لأمه أمهما فاطمة بنت الحسين‏.‏ وكـان عامـل مصـر قـد عثـر علـى علي بن محمد بن عبد الله بن حسن بعثه أبوه إلى مصر يدعو لـه فأخـذه وبعـث بـه إلـى المنصـور فلـم يزل في حبسه‏.‏ وسمى من أصحاب أبيه عبد الرحمن بن أبي المولى وأبا جبير فضربهما المنصور وحبسهما‏.‏ وقيل عبد الله حبس أولاً وحده وطال حبسـه‏.‏ فأشـار عليـه أصحابـه بحبسـن الباقيـن فحبسهـم ثـم حج المنصور سنة أربع وأربعين فلما قـدم مكـة بعـث إليهـم وهـم فـي السجـن محمـد بـن عمـران بـن إبراهيـم بـن طلحـة ومـال بـن أنـس يسألهـم أن يرفعوا إليه محمداً وإبراهيم ابني عبد الله فطلب عبد الله الإذن في لقائه فقال المنصور لا والله حتى يأتيني به وبابنيه وكان محسناً مقبولاً لا يكلم أحداً إلا أجابه إلى رأيه‏.‏ ثم إن المنصور قضى حجه وخرج إلى الربذة وجاء رباح ليودعه فأمر بأشخاص بني حسن ومن معهم إلى العراق فأخرجهم في القيود والأغلال وأردفهم فـي محامـل بغيـر وطء وجعفـر الصادق يعاينهم من وراء ستر ويبكي‏.‏ وجاء محمـد وإبراهيـم مـع أبيهمـا عبـد اللـه يسايرانـه مستترين بزي الأعراب ويستأذنانه في الخروج فيقول‏:‏ لا تعجلا حتى يمكنكما وإن منعتما أن تعيشـا كريميـن فـلا تمنعـا أن تموتـا كريميـن وانتهوا إلى الزيدية‏.‏ وأحضر العثماني الديقا عند المنصور فضربـه مائـة وخمسيـن سوطـاً بعـد ملاحـاة جـرت بينهمـا أغضبـت المنصور‏.‏ ويقال‏:‏ إن رباحاً أغرى المنصور به وقال له‏.‏ ‏:‏ إن أهل الشام شيعته ولا يتخلف عنه منهم أحد‏.‏ ثم كتب أبو عون عامل خراسان إلى المنصور بأن أهل خراسان منتظرون أمر محمد بن عبد اللـه واحـذر منهـم‏.‏ فأمـر المنصور بقتل العثماني وبعث برأسه إلى خراسان وبعث من يحلف أنه رأس محمد بن عبد الله وأن أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلـم ثـم‏.‏ قـدم المنصور بهم الكوفة وحبسهم بقصر ابن هبيرة‏.‏ يقال إنه قتل محمد بن إبراهيم بن حسن منهم علـى إسطوانـة وهـو حـي فمـات ثـم بعـده عبد الله بن حسن ثم علي بن حسن ويقال إن المنصور أمـر بهـم فقتلـوا ولـم ينـج منهـم إلا سليمـان وعبد الله ابنا داود وإسحاق وإسماعيل ابنا إبراهيم بن حسن وجعفر بن حسن والله أعلم‏.‏ ولمـا سـار المنصـور إلـى العـراق وحمـل معـه بنـي حسـن رجـع ربـاح إلى المدينة وألح في طلب محمد وهو مختف يتنقـل فـي اختفائـه مـن مكـان إلـى مكـان وقـد أرهقـه الطلـب حتـى تدلـى فـي بئـر‏.‏ فتدلـى فغمس في مائها وحتى سقط ابنه من جبل فتقطع ودل عليه رباح بالمداد فركب في طلبه فاختفـى عنـه ولـم يـره‏.‏ ولمـا اشتـد عليه الطلب أجمع الخروج وأغراه أصحابه بذلك‏.‏ وجاء الخبر إلـى ربـاح بأنـه الليلـة خـارج فأحضـر العبـاس بن عبد الله بن الحارث بن العباس ومحمد بن عمران بـن إبراهيـم بـن محمـد قاضـي المدينـة وغيرهما وقال لهم‏:‏ أمير المؤمنين يطلب محمداً شرق الأرض وغربهـا وهـو بيـن أظهركـم‏.‏ واللـه لئن خرج ليقتلنكم أجمعين‏.‏ وأمر القاضي بإحضار عشيرة بني زهرة فجاؤوا في جمع كثير وأجلسهم بالباب‏.‏ ثـم أحضـر نفـراً مـن العلوييـن فيهـم جعفـر بـن محمـد بـن الحسين وحسين بن علي بن حسين بن علي ورجال من قريش فيهم إسماعيل بن أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة وابنه خالد وبينما هم عنده إذ سمعوا التكبير وقيل قد خرج محمد فقال له ابن مسلم بن عقبة‏:‏ اعطني اضرب أعناق هؤلاء فأبى وأقبل من المداد في مائة وخمسين رجلاً وقصد السجن فأخرج محمد بن خالد بن عبد الله القسري وابن أخيه النذير بن يزيد ومن كان معهم وجعل علـى الرجالة خوات بن جبير وأتى دار الإمارة وهو ينادي بالكف عن القتل‏.‏ فدخلوا من باب المقصـورة وقبضـوا علـى ربـاح وأخيه عباس وابن مسلم بن عقبة فحبسهم ثم خرج إلى المسجد وخطب الناس وذكر المنصور بما نقمه عليـه ووعـد النـاس واستنصـر بهـم‏.‏ واستعمـل علـى المدينة عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير وعلى قضائها عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المخزومي وعلى بيت السلاح عبد العزيز الدراوردي وعلى الشرط أبـا الغلمـش عثمـان بـن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة‏.‏ وأرسل إلى محمد بن عبد العزيز يلومه على القعود عنه فوعده بالبصرة وسار إلى مكة ولم يتخلـف عـن محمـد مـن وجوه الناس إلا نفر قليل‏:‏ منهم الضحاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بـن حـرام وعبـد اللـه بـن المنـذر بـن المغيـرة بـن عبـد الله بن خالد وأبو سلمة بن عبيد الله بن عبد اللـه بـن عمـر وحبيـب بـن ثابـت بـن عبـد الله بن الزبير واستفتى أهل المدينة مالكاً في الخروج مع محمـد وقالوا‏:‏ في أعناقنا بيعة المنصور‏.‏ فقال‏:‏ إنما بايعتم مكرهين‏.‏ فتشارع الناس إلى محمد ولـزم مالـك بيتـه وأرسـل محمـد إلـى إسماعيـل بن عبد الله بن جعفر يدعوه إلى بيعته وكان شيخاً كبيراً فقال‏:‏ أنت والله وابن أخي مقتول فكيف أبايعك فرجع الناس عنه قليلاً وأسرع‏:‏ بنو معاويـة بـن عبـد اللـه بـن جعفـر إلـى محمـد فجاءت جمادة أختهم إلى عمها إسماعيل وقالت‏:‏ يا عم إن مقالتـك ثبطـت النـاس عـن محمـد وأخوتـي معـه فأخشى أن يقتلوا فردها‏.‏ فيقال إنها عدت عليه فقتلتـه ثـم حبـس محمـد بـن خالـد القسـري بعـد أن أطلقه واتهمه بالكتاب إلى المنصور فلم يزل في حبسه‏.‏ ولما استوى أمر محمد ركب رجل من آل أويس بن أبي سرح اسمه الحسين بن صخر وجاء إلـى المنصـور فـي تسـع فخبـره الخبـر فقـال أنـت رأيتـه قـال نعـم وكلمتـه علـى منبـر رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم ثـم تتابـع الخبـر وأشفـق المنصـور مـن أمـره واستشـار أهـل بيته ودولته‏.‏ وبعث إلى عمه عبـد اللـه وهو محبوس يستشيره فأشار عليه بأن يقصد الكوفة فإنهم شيعة لأهل البيت فيملك عليهم أمرهم ويحفها بالمسالح حتى يعرف الداخل والخارج ويستدعي سالم بن قتيبة من الري فيتحشد معه كافة أهل الشام ويبعثه وأن يبعث العطاء في الناس‏.‏ فخـرج المنصـور إلـى الكوفـة ومعـه عبـد اللـه بـن الربيـع بـن عبـد اللـه بـن عبـد المـدان‏.‏ ولمـا قدم الكوفة أرسل إلى يزيد بن يحيـى وكـان السفـاح يشـاوره فأشـار عليـه بـأن يشحـن الأهـواز بالجنـود وأشار عليه جعفر بن حنظلة الحراني بأن يبعث الجند إلى البصرة‏.‏ فلما ظهر إبراهيم بتلك الناحية تبين وجه إشارتهما‏.‏ وقال المنصور لجعفر‏:‏ كيف خفت البصرة قال‏:‏ لأن أهل المدينة ليسوا أهل حرب حبسهم أنفسهم وأهل الكوفة تحت قدمك وأهل الشام أعداء الطالبيين ولم ثم إن المنصور كتب إلى محمد المهدي كتاب أمان فأجابـه عنـه بالـرد والتعريـض بأمـور فـي الأنساب والأحوال فأجابه المنصور عن كتابه بمثل ذلك وانتصف كل واحد منهما لنفسه بما ينبغي الإعراض عنه مع أنهما صحيحان مرويان نقلهما الطبري فـي كتـاب الكامـل فمـن أراد الوقـوف فليلتمسهـا فـي أماكنهـا‏.‏ ثـم إن محمـد المهـدي استعمـل علـى مكـة محمـد بـن الحسن بن معاوية بـن عبـد اللـه بـن جعفـر وعلـى اليمـن القاسـم بن إسحاق وعلى الشام موسى بن عبد الله‏.‏ فسار محمد بن الحسن إلى مكة والقاسم معه ولقيهما السري بن عبد الله عامل مكة ببطن أذاخر فانهزم وملك محمد مكة حتى استنفره المهدي لقتال عيسى بن موسى فنفر هو والقاسم بن عبيد الله‏.‏ وبلغهما قتل محمد بنواحي قديد فلحق محمد بإبراهيم فكان معه بالبصرة واختفـى القاسـم بالمدينـة حتـى أخـذت لـه الأمـان امـرأة عيسـى وهـي بنت عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بـن جعفـر‏.‏ وأمـا موسـى بـن عبـد اللـه فسار إلى الشام فلم يقبلوا منه فرجع إلى المدينة‏.‏ ثم لحق بالبصرة مختفياً وعثر عليه محمد بن سليمان بن علي وعلى ابنه عبد الله وبعث بهما إلى المنصـور فضربهمـا وحبسهمـا‏.‏ ثـم بعـث المنصـور عيسى بن موسى إلى المدينة لقتال محمد فسار في الجنـود ومعـه محمـد بـن أبـي العبـاس بـن السفـاح وكثيـر بـن حصيـن العبـدي وحميـد بـن قحطبـة وهـو ازمرد وغيرهم فقال له‏:‏ إن ظفرت فأغمد سيفك وابذل الأمان وإن تغيب فخذ أهل المدينة فإنهم يعرفون مذاهبه ومن لقيك من آل أبي طالب فعرفني به ومن لم يلقك فاقبض ماله‏.‏ وكـان جعفر الصادق فيمن تغيب فقبض ماله‏.‏ ويقال إنه طلبه من المنصور لما قدم بالمدينة بعد ذلـك فقـال قبضـه مهديكـم‏.‏ ولمـا وصـل عيسـى إلـى فئتـه كتـب إلـى نفـر من أهل المدينة ليستدعيهم منهم‏:‏ عبد العزيز بن المطلب المخزومي وعبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحي وعبـد اللـه بـن محمـد بـن عمـر بـن علي بن أبي طالب‏.‏ فخرج إليه عبد الله هو وأخوه عمر وأبو عقيـل محمـد بـن عبـد اللـه بـن محمـد بـن عقيل واستشار المهدي أصحابه في القيام بالمدينة ثم في الخندق عليها فأمر بذلك اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وحفر الخندق الذي حفره رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم للأحـزاب‏.‏ ونـزل عيسـى الأعـرض وكـان محمد قد منع الناس من الخروج فخيرهم فخرج كثير منهم بأهلهم إلى الجبال وبقي في شرذمة يسيرة‏.‏ ثم تدارك رأيه وأمر أبا الغلمش بردهم فأعجزوه ونزل عيسى على أربعة أميال من المدينة وبعث عسكراً إلى طريق مكة يعترضون محمداً إن انهزم إلى مكة وأرسل إلى المهدي بالأمان والدعـاء إلـى الكتـاب والسنـة ويحـذره عاقبـة البغـي‏.‏ فقـال‏:‏ إنما أنا رجل فررت من القتل‏.‏ ثم نزل عيسـى بالحـرف لاثنتـي عشـرة مـن رمضان سنة خمس وأربعين فقام يومين ثم وقف على مسلم ونادى بالأمان لأهل المدينة وأن يخلوا بينه وبين صاحبه فشتموه فانصرف وعاد من الغد وقد فـرق القـواد مـن سائـر جهـات المدينـة وبـرز محمـد في أصحابه ورأيته مع عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير وشعارهم أحد أحد‏.‏ وطلب أبو الغلمش من أصحابه البراز فبرز إليه أخو أسد فقتله ثم آخر فقتلوا وقال أنا ابن الفـاروق‏.‏ وأبلـى محمد المهدي يومئذ بلاءً عظيماً وقتل بيده سبعين رجلاً‏.‏ ثم أمر عيسى بن موسى حميد بن قحطبة فتقدم في مائة من الرجال إلى حائط دون الخندق فهدمه وأجازوا الخندق وقاتلوا من وراءه وصابرهم أصاب محمد إلى العصر‏.‏ ثم أمر عيسى أصحابه فرموا الخنـدق بالحقائـب ونصبـوا عليهـا الأبـواب وجـازت الخيـل واقتتلوا وانصرف محمد فاغتسل وتحنـط‏.‏ ثـم رجـع فقـال‏:‏ اتـرك أهـل المدينـة واللـه لا أفعـل أو اقتـل وأنـت مني في سعة فمشى قليلاً معـه‏.‏ ثـم رجـع وافتـرق عنـه جـل أصحابـه وبقـي فـي ثلثمائـة أو نحوهـا‏.‏ فقـال لـه بعض أصحابه نحن اليوم في عدة أهل بدر وطفق عيسى بن حصين من أصحابه يناشده في اللحاق بالبصرة أو غيرها فيقول والله لا تبتلون بي مرتين‏.‏ ثـم جمـع بيـن الظهـر والعصـر ومضـى فأحـرق الديـوان الـذي فيـه أسمـاء من بايعهم‏.‏ وجاء إلى السجن وقتل رياح بن عثمان وأخاه عباساً وابن مسلم بن عقبة وتوثق محمد بن القسري بالأبواب فلم يصلـوا إليـه‏.‏ ورجـع ابـن حصيـن إلـى محمـد فقاتـل معـه وتقـدم محمد إلى بطن سلع ومعه بنو شجاع من الخمس‏.‏ فعرقبوا دوابهم وكسروا جفون سيوفهم واستماتوا وهزموا أصحاب عيسى مرتين أو ثلاثـة‏.‏ وصعـد نفـر مـن أصحـاب عيسـى الجبـل وانحـدروا منـه إلـى المدينـة‏.‏ ورفـع بعـض نسوة إلى العبـاس خمـاراً لهـا أسـود على منارة المسجد‏.‏ فلما رآه أصحاب محمد وهم يقاتلون هربوا وفتح بنو غفار طريقاً لأصحاب عيسى فجاؤوا من وراء أصحاب محمد‏.‏ ونادى حميد بن قحطبة للبراز فأبى ونادى ابن حصين بالأمان فلـم يصـغ إليـه وكثـرت فيـه الجـراح‏.‏ ثـم قتـل وقاتـل محمـد علـى شلوه فهد الناس عنه هداً حتى ضرب سقط لركبته وطعنه ابـن قحطبـة فـي صـدره‏.‏ ثـم أخـذ رأسـه وأتـى بـه عيسـى فبعثه إلى المنصور مع محمد بن الكرام عبد الله بن علي بن عبد الله بن جعفر وبالبشارة مع القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن وأرسل معه رؤوس بني شجاع وكان قتل محمد منتصف رمضان‏.‏ وأرسل عيسـى الألويـة فنصبت بالمدينة للأمان وصلب محمد وأصحابه ما بين ثنية الوداع والمدينة واستأذنت زينب أخته في دفنه بالبقيع وقطع المنصور الميرة في البحر عن المدينة حتى أذن فيها المهدي بعده وكان مع المهدي سيف علي ذو الفقار فأعطاه يومئذ رجلاً من التجار في دين كان له عليه‏.‏ فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة أخذه منه وأعطاه من دينه‏.‏ ثم أخذه منه المهدي وكان الرشيـد يتقلـده وكـان فيه ثمان عشرة فقرة وكان معه من مشاهير بني هاشم أخو موسى وحمزة بـن عبـد اللـه بـن محمـد بـن علـي بـن الحسيـن وحسيـن وعلـي ابنـا زيد بن علي‏.‏ وكان المنصور يقول عجبـاً خرجـا علـي ونحـن أخذنـا بثـأر أبيهمـا‏.‏ وكـان معـه علـي وزيـد ابنا الحسن بن زيد بن الحسن وأبوهمـا الحسـن مـع المنصـور والحسـن ويزيـد وصالح بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر والقاسم بن إسحـاق بـن عبـد اللـه بـن جعفـر والمرجـى علـي بـن جعفـر بـن إسحـاق بـن علـي بـن عبـد اللـه بـن جعفـر وأبـوه علي مع المنصور من غير بني هاشم محمد بن عبد الله بن‏.‏ عمر بن سعيد بن العاص ومحمـد بـن عجلـان وعبـد اللـه بـن عمـر بـن حفـص بـن عاصـم وأبـو بكـر بـن عبـد اللـه بـن محمـد بـن أبي سبرة أخذ أسيراً فضرب وحبس في سجن المدينة فلم يزل محبوساً إلى أن نازل السودان بالمدينة على عبد الله بن الربيع الحارثي وفر عنها إلى بطن نخل وملكوا المدينة ونهبوا طعام المنصور‏.‏ فخرج ابن أبي سبرة مقيداً وأتى المسجد وبعث إلى محمد بن عمران ومحمد بن عبد العزيز وغيرهما وبعثوا إلى السودان وردوهم عما كانوا فيه فرجعوا ولم يصل الناس يومئذ جمعة‏.‏ ووقـف الأصبـغ بـن أبـي سفيـان بـن عاصـم بـن عبـد العزيز لصلاة العشاء ونادى أصلي بالناس على طاعـة أميـر المؤمنين وصلى‏.‏ ثم أصبح ابن أبي سبرة ورد من العبيد ما نهبوه ورجع ابن الربيع وكـان مـع محمـد بـن عبـد اللـه أيضاً عبد الواحد بن أبي عون مولى الأزد وعبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة وعبد العزيز بن محمد الدراوردي وعبد الحميد بن جعفر وعبد الله بن عطاء بن يعقوب مولى بني سباع وبنوه تسعة وعيسى وعثمان ابنا خضير‏.‏ وعثمـان بـن محمـد بـن خالـد بـن الزبيـر قتلـه المنصـور مـن بعـد ذلك لما أخذ بالبصرة وعبد العزيز بن إبراهيـم بـن عبـد اللـه بـن مطيـع وعلي بن المطلب بن عبد الله بن حنطب وإبراهيم بن جعفر بن مصعب بن الزبير وهشام بن عميرة بن الوليد بن بن عبد الجبار وعبد الله بن يزيد بن هرمز وغيرهم‏.‏

  شأن إبراهيم بن عبد الله وظهوره ومقتله

كان إبراهيم بن عبد الله أخو المهدي محمد قد اشتد الطلب عليه وعلى أخيه منذ خمس سنيـن وكان إبراهيم يتنقل في النواحي بفارس وبكرمان والجبل والحجاز واليمن والشام وحضر مـرة مائـدة المنصور بالموصل وجاء أخرى إلى بغداد حين خطها المنصور مع النظار على قنطرة الفـرات حيـن شدهـا وطلبـه فغـاص في الناس فلم يوجد ووضع عليه الرصد بكل مكان‏.‏ ودخل بيت سفيان بن حيان العمى وكان معروفاً بصحبته فتحيل على خلاصه بأن أتى المنصور وقـال‏:‏ أنا آتيك بإبراهيم فاحملني وغلامي على البريد وابعث معي الجند ففعل‏.‏ وجاء بالجند إلـى البيت وأركب معه إبراهيم في زي غلامه وذهب بالجند إلى البصرة ولم يزل يفرقهم على البيوت ويدخلها موهماً أنه يفتشه حتى بقي وحده فاختفى‏.‏ وطلبه أمير البصرة سفيان بن معاوية فأعجزه وكان قدم قبل ذلك الأهواز فطلبه محمد بن حصيـن واختفـى منه عند الحسن بن حبيب ولقي من ذلك غياً‏.‏ ثم قدم إبراهيم البصرة سنة خمـس وأربعيـن بعـد ظهـور أخيـه محمد بالمدينة يحيى بن زياد بن حيان النبطي وأنزله بداره في بني ليث‏.‏ فدعا الناس إلى بيعة أخيه وكان أول من بايعه نميلة بن مرة العبسي وعبد الله بن سفيان وعبد الواحد بن زيـاد وعمـر بـن سلمـة الهجيمـي وعبـد اللـه بـن حـي بـن حصيـن الرقاشي وبثوا دعوته في الناس واجتمع لهم كثير من الفقهاء‏.‏ وأهل العلم‏.‏ وأحصى ديوانه أربعة آلاف واشتهر أمره‏.‏ ثم حولوه إلى وسط البصرة‏.‏ ونـزل دار أبـي مـروان مولـى بنـي سليـم فـي مقبـرة بنـي يشكـر وليقـرب مـن النـاس وولـاه سفيـان أميـر البصـرة علـى أمـره‏.‏ وكتـب إليـه أخـوه محمـد يأمـره بالظهور وكان المنصـور بظاهـر وأرسل من القواد مدد السفيان على إبراهيم أن ظهر‏.‏ ثم إن إبراهيم خرج أول رمضان من سنة خمس وأربعين وصلى الصبح فـي الجامـع وجـاء دار الإمـارة بابـن سفيـان وحبسـه وحبـس القـواد معـه وجـاء جعفـر ومحمـد ابنـا سليمـان بن علي في ستمائة رجل‏.‏ وأرسل إبراهيم إليهـا المعيـن بـن القاسـم الحـدروري فـي خمسيـن رجـلاً فهزمهمـا إلـى بـاب زينـب بنـت سليمـان بـن علـي وإليها ينسب الزينبيون من بني العباس‏.‏ فنادى بالأمان وأخذ من بيت المال ألفي ألف درهم وفرض لكل رجل من أصحابه خمسين‏.‏ ثـم أرسـل المغيـرة علـى الأهواز في مائة رجل فغلب عليها محمد بن الحصين وهو أربعه آلاف‏.‏ وأرسـل عمـر بـن شـداد إلـى فـارس وبهـا إسماعيل وعبد الصمد ابنا علي فتحصنا في دار بجرد وملك عمر نواحيها فأرسل هارون بن شمس العجلي في سبعة عشر ألفاً إلى واسط فغلب عليها هارون بن حميد الإيادي وملكها‏.‏ وأرسل المنصور لحربه عامر بن إسماعيل في خمسة آلـاف وقيـل في عشرين‏.‏ فاقتتلوا أياماً ثم تهادنوا حتى يروا مآل الأميرين المنصور وإبراهيم‏.‏ ثم جاء نعي محمد إلى أخيه إبراهيم قبل الفطر فصلى يوم العيد وأخبرهم فازدادوا حنقاً على المنصور‏.‏ ونفر في حره وعسكر من الغد واستخلف على البصرة غيلة وابنه حسنًـا معـه وأشار عليه أصحابه من أهل البصرة بالمقام وإرسال الجنود وإمدادهم واحداً بعد واحد‏.‏ وأشار أهل الكوفة باللحوق إليها لأن الناس في انتظارك ولو رأوك ما توانوا عنك فسار‏.‏ وكتـب المنصـور إلـى عيسـى بـن موسـى بإسـراع العـود وإلـى مسلـم بـن قتيبـة بالـري وإلـى سالم بقصد إبراهيـم وضم إليه غيرها من القواد‏.‏ وكتب إلى المهدي بإنفاذ خزيمة بن خازم الأهواز وفارس والمدائـن وواسـط والسـواد وإلـى جانبـه أهـل الكوفـة فـي مائة ألف يتربصون به‏.‏ ثم رمى كل ناحية بحجرها وأقام خمسين يوماً على مصلاه ويجلس ولم ينزع عنه جبته ولا قميصه وقد توسخا ويلبـس السـواد إذا ظهـر للنـاس وينزعه إذا دخل بيته‏.‏ وأهديت له من المدينة امرأتان فاطمة بنت محمـد بـن عيسـى بـن طلحـة بـن عبيـد اللـه وأمـة الكريـم بنـت عبـد الله من ولد خالد بن أسيد فلم يحفل بهما‏.‏ وقال‏:‏ ليست هذه أيام نساء حتى أنظر رأس إبراهيم إلي أو رأسي له‏.‏ وقـدم عليـه عيسـى بـن موسـى فبعثـه لحـرب إبراهيـم فـي خمسـة عشر ألفاً وعلى مقدمته حميد بن قحطبـة فـي ثلاثـة آلـاف وسـار إبراهيـم مـن البصرة ومائة ألف حتى نزلا بإزاء عيسى بن موسى على ستة عشر فرسخاً من الكوفة‏.‏ وأرسل إليه مسلم بن قتيبة بأن يخندق على نفسه أو يخالـف عيسـى إلـى المنصـور فهـو فـي حـف مـن الجنون ويكون أسهل عليك‏.‏ فعرض ذلك إبراهيم علـى أصحابـه فقالـوا‏:‏ نحـن هـارون وأبـو جعفـر فـي أيدينـا فأسمـع ذلـك رسـول سالـم فرجـع ثـم تصافـوا للقتال‏.‏ وأشار عليه بعض أصحابه أن يجعلهم كراديس ليكون أثبت والصف إذا انهزم بعضه تداعى سائره فأبى إبراهيم إلا الصف صف أهل الإسلام ووافقه بقية أصحابه‏.‏ ثم اقتتلـوا وانهـزم حميـد بـن قحطبـة وانهـزم معـه النـاس وعـرض لهـم عيسـى يناشدهـم اللـه والطاعـة‏.‏ فقـال لهـم حميـد لا طاعـة فـي الهزيمـة‏.‏ ولـم يبـق مـع عيسـى إلا فـل قليـل فثبـت واستمـات‏.‏ وبينما هو كذلك إذ قدم جعفر ومحمد بن سليمان بن علي وجاء من وراء إبراهيم وأصحابه فانعطفوا لقتالهم واتبعهم أصحاب عيسى‏.‏ ورجع المنهزمون من أصحابه بأجمعهم اعترضهـم أمامهـم فـلا يطيقـون مخافـة ولا وثوبـة فانهـزم أصحـاب إبراهيـم وثبت هو في ستمائة أو أربعمائة من أصحابـه وحميـد يقاتلـه‏.‏ ثـم أصابـه سهـم بنحره فأنزلوه واجتمعوا عليه‏.‏ وقال حميد‏:‏ شدوا على تلـك الجماعـة فأحصروهـم عن إبراهيم وقطعوا رأسه وجاؤوا به إلى عيسى فسجد وبعثه إلى المنصـور وذلـك لخمـس بقيـن مـن ذي القعـدة الحـرام سنـة خمـس وأربعيـن‏.‏ ولما وضع رأسه بين يدي المنصـور بكـى وقـال‏:‏ واللـه إنـي كنـت لهـذا كارهـاً ولكنـي ابتليـت بك وابتليت بي ثم جلس للعامة فأذن للناس فدخلوا ومنهم من يثلب إبراهيم مرضاة للمنصور حتى دخل جعفر بن حنظلة الهرانـي فسلـم ثـم قـال‏:‏ عظـم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرط فيه من حقك فتهلل وجه المنصور وأقبل عليه وكناه بأبي خالد واستدناه‏.‏

  بناء مدينة بغداد وابتدأ المنصور

سنة ست وأربعين في بناء مدينة بغداد وسبب ذلك ثورة الراوندية عليه بالهاشمية ولأنه كان يكره أهل الكوفة ولا يأمن على نفسه منهم‏.‏ فتجافى عن جوارهم وسار إلـى مكـان بغـداد اليـوم وجمع من كان هنالك من البطارقة فسألهم عن أحوال مواضعهم في الحر والبـرد والمطـر والوحـل والهـوام واستشارهـم فأشاروا عليه بمكانها‏.‏ وقالوا تجيئك الميرة في السفن مـن الشام والرقة ومصر والمغرب إلى المصرات‏.‏ ومن الصين والهند والبصرة وواسط وديار بكر والـروم والموصل في دجلة ومن أرمينية وما اتصل بها في تامر حتى يتصل بالزاب‏.‏ وأنت بين أنهار كالخنادق لا تعبر إلا على القناطر والجسور‏.‏ وإذا قطعتها لم يكن لعـدوك مطمـع وأنـت متوسط بين البصرة والكوفة وواسط والموصل قريب من البر والبحر والجبل‏.‏ فشرع المنصور في عمارتها‏.‏ وكتب إلى الشام والجبل والكوفة وواسط والبصرة في الصناع والفعلة واختار من ذوي الفضل والعدالة والعفة والأمانة والمعرفة بالهندسة فأحضرهم لذلك‏.‏ منهم الحجاج بن أرطاة وأبو حنيفـة الفقيـه‏.‏ وأمـر بخطهـا بالرمـاد فشكلـت أبوابهـا وفضلانهـا وطاقاتها ونواحيها وجعل على الرماد حب القطن‏.‏ فأضرم ناراً ثم نظر إليها وهـي تشتعـل فعرف رسمها وأمر أن تحفر الأسس على ذلك الرسم‏.‏ ووكل بها أربعة من القواد يتولى كل واحـد منهـم ناحيـة‏.‏ ووكـل أبـا حنيفـة بعد الآجر واللبن‏.‏ وكان أراده على القضاء والمظالم فأبى‏.‏ فحلف أن لا يقلع عنه حتى يعمل له عملاً فكان هذا‏.‏ وأمر المنصور أن يكون عرض أساس القصر من أسفله خمسين ذراعاً ومن أعلاه عشرين وجعل في البناء القصب والخشب ووضع بيده أول لبنة وقال‏:‏ بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين‏.‏ ثم قال ابنوا على بركة الله فلما بلغ مقدار قامة جاء الخبر بظهور محمد المهدي فقطع البناء وسار إلى الكوفة حتى فرغ من حرب محمد وأخيه ورجع من مدينة ابن هبيرة إلى بغداد واستمـر فـي بنائهـا واستشـار خالـد بـن برمـك فـي نقـض المدائن والإيوان‏.‏ فقال لا أرى ذلك لأنه من آثار الإسلام وفتوح العرب وفيه مصلى علي بن أبي طالب فاتهمه بمحبة العجم وأمر بنقض القصـر الأبيض فإذا الذي ينفق في نقضه أكثر من ثمن الجديد فأقصر عنه‏.‏ فقال خالد‏:‏ لا أرى إقصـارك عنـه لئـلا يقـال عجـزوا عـن هـدم مـا بنـاه غيرهـم فأعـرض عنه ونقل الأبواب إلى بغداد من واسط ومن الشام ومن الكوفة وجعل المدينة مدورة وجعل قصره وسطها ليكون الناس منه على حد سواء‏.‏ وجعل المسجد الجامع بجانب القصر وعمل لها سورين والداخل أعلـى مـن الخـارج‏.‏ ووضـع الحجاج بن أرطاة قبلة المسجد وكان وزن اللبنة التي يبني بها مائة رطل وسبعة عشر رطلاً وطولها ذراع في ذراع وكانت بيوت جماعة من الكتاب والقواد تشرع أبوابها إلى رحبة الجامع وكانت الأسواق داخل المدينة فأخرجهم إلى ناحية الكرخ لما كان الغرباء يطرقونها ويبيتون فيها وجعل الطرق أربعين ذراعاً وكان مقدار النفقة عليها في المسجد والقصر والأسواق والفصلان والخنـادق والأبـواب أربعـة آلـاف ألـف وثمانمائـة ألـف وثلاثة وثلاثين ألف درهم‏.‏ وكان الأستاذ من البنائين يعمل يومه بقيراط والروز كاري بحبتين وحاسب القواد عند الفراغ منها فألزم كلاً بما بقي عنده وأخذه حتى أخذ من خالد بن الصلت منهم خمسة عشر درهماً بعد أن حبسه عليها‏.‏

  العهد للمهدي وخلع عيسى بن موسى

كـان السفـاح قـد عهـد إلـى عيسى بن موسى بن علي وولاه على الكوفة فلم يزل عليها فلما كبر المهـدي أراد المنصـور أبـوه أن يقدمـه فـي العهد على عيسى وكان يكرمه في جلوسه فيجلس عن يمينه والمهدي عن يساره فكلمه في التأخر عن المهدي في العهد فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين كيف بالإيمـان التـي علـي وعلـى المسلميـن وأبـى ذلـك فتغيـر لـه المنصـور وباعـده بعـض الشـيء‏.‏ وصـار يـأذن للمهدي قبله ولعمه عيسى بن علي وعبد الصمد‏.‏ ثم يدخل عيسى فيجلس تحت المهدي واستمر المنصور على التنكر له وعزله عن الكوفة لثلاث عشرة سنةً من ولايته وولى مكانه محمد بن سليمان بن علي ثم راجع عيسى نفسه فبايع المنصور للمهدي بالعهد وجعل عيسى مـن بعـده‏.‏ ويقـال‏:‏ إنـه أعطـاه أحـد عشـر ألـف ألـف درهم ووضع الجند في الطرقات لأذاه وإشهاد خالد بن برمك عليه جماعة من الشيعة بالخلع تركت جميعها لأنها لا تليق بالمنصور وعدالته المقطوع بها فلا يصح من تلك الأخبار شيء‏.‏

  خروج أستادسيس

كان رجل ادعى النبوة في جهات خراسان فاجتمع إليه نحو ثلثمائة ألف مقاتل من أهل هراة وباذغيس وسجستان وسار إليه الأخثم عامل مرو الروذ في العساكر فقاتل لأخثم وعامـة أصحابـه وتتابـع القـواد فـي لقائـه فهزمهـم‏.‏ وبعـث المنصـور وهـو بالبـرداق خـازم بـن خزيمة إلى المهدي فـي اثنـي عشـر ألفـاً فولـاه المهـدي حربـه فزحـف إليـه فـي عشريـن ألفـاً‏.‏ وجعـل علـى ميمنتـه الهيثم بن شعبة بن ظهير وعلى ميسرته نهار بن حصن السعدي وفي مقدمته بكار بن مسلم العقيلي ودفع لواءه للزبرقان‏.‏ ثم راوغهم في المزاحفة وجاء إلى موضع فخندق عليه وجعل له أربعة أبواب وأتى أصحاب أستادسيس بالفؤوس والمواعيل ليطموا الخندق فبدؤوا بالباب الذي يلي بكـار بـن مسلـم فقاتلهـم بكـار وأصحابـه حتـى ردوهـم عن بابهم‏.‏ فأقبلوا على باب خازم وتقدم منهم الحريش من أهل سجستان فأمر خازم الهيثم بن شعبة أن يخرج من باب بكار ويأتي العدو من خلفهم كانوا متوقعين قدوم أبي عون وعمر بن مسلم بن قتيبة وخرج خازم على الحريش واشتد قتاله معهم‏.‏ وبدت أعلام الهيثم من ورائهم فكبر أهل العسكر وحملوا عليهم فكشفوهم ولقيهم أصحاب الهيثم فاستمر فيهم القتال فقتل سبعون ألفاً وأسر أربعة عشر وتحصـن أستادسيـس علـى حكم أبي عون فحكم بأن يوثق هو وبنوه ويعتق الباقون وكتب إلى المهدي بذلك فكتب المهدي إلى المنصور‏.‏ ويقال‏:‏ إن أستادسيس أبو مراجل أم المأمون وابنه غالب خال المأمون الذي قتل الفضل بن سهل‏.‏

  ولاية هشام بن عمرو التغلبي علي السند

كان على السند أيام المنصور عمر بن حفص بن عثمان بن قبيصة بـن أبـي صفـرة ويلقـب هزارمـرد - يعنـي ألـف رجـل - ولمـا كـان مـن أمـر المهـدي مـا قدمنـاه بعـث ابنه عبد الله الأشتر إلى البصـرة ليدعـو له فسار من هنالك إلى عمر بن حفص وكان يتشيع فأهدى له خيلاً يتمكن بها من لقائه‏.‏ ثم دعاه فأجاب وبايع له وأنزله عنده متخفياً ودعا القواد وأهل البلد فأجابوا فمزق الأعلام وهيأ لبسة من البياض يخطب فيها وهو في ذلك إذ فجأه الخبر بقتل المهدي فدخل علـى ابنـه أشتـر وعـزاه‏.‏ فقـال لـه اللـه في دمي فأشار عليه باللحاق بملك من ملوك السند عظيم المملكة كان يعظم جهة النبي صلى الله عليه وسلم وكان معروفاً بالوفاء فأرسل إليه بعد أن عاهد عليه واستقر عند ذلك الملك‏.‏ وتسلل إليه جماعة من الزيدية نحوًا من أربعمائة وبلغ ذلك المصور فغاظه وكتب إلى عمر بن حفـص بعزلـه وأقـام يفكـر فيمـن يوليـه السنـد وعـرض لـه يومًـا هشـام بن عمرو التغلبي وهو راكب ثم اتبعـه إلـى بيتـه وعـرض عليـه أختـه فقـال للربيع‏:‏ لو كانت لي حاجة في النكاح لقبلت فجزاك الله خيراً وقد وليتك السند فتجهز لها وأمره أن يحارب ملك السند ويسلـم إليـه الأشتـر ففعـل وأقام المنصور يستحثه‏.‏ ثم خرجت خارجة بالسند فبعث هشام أخاه سفيحاً لحسم الداء عنها فمر بنواحي ذلك الملك فوجد الأشتر يتنزه في شاطىء همذان في عشرة من الفرسان فجاء ليأخذه فقاتلهم حتى قتل وقتل أصحابه جميعاً‏.‏ وكتب هشام بذلك إلـى المنصـور‏.‏ فشكـره وأمـر بمحاربـة ذلـك الملـك فظفـر به وغلب على مملكته‏.‏ وبعث بسراري عبد الله الأشتر ومعـه ولـد منـه اسمـه عبـد اللـه بعـث بهـم المنصـور إلـى المدينـة وأسلمـه إلـى أهلـه‏.‏ ولمـا ولـى هشام بن عمـر علـى السنـد وعـزل عمـر بـن حفـص عنهـا‏.‏ ثـم حـدث فتـق بإفريقيـة بعثه إلى سده كما سيأتي في أخبارها‏.‏ ولما رجع المهدي من خراسـان قـدم عليـه أهـل بيتـه مـن الشـام والكوفـة والبصـرة فأجازهـم وكساهم وجملهم وكذلك المنصور‏.‏ ثم شعب عليهم الجند فأشار عليهم قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس بأن يفرق بينهم ويستكفيه في ذلك وأمر بعض غلمانه أن يعترضه بدار الخلافة ويسأله بحق الله ورسله والعباس وأمير المؤمنين أبي الحسين من أشرف اليمن أم مضر فقـال‏:‏ مضـر كـان منهـا رسـول اللـه صلـى اللـه عليه وسلم وفيها كتاب الله وعندها بيت الله ومنها خليفـة اللـه فغضـب اليمـن إذ لـم يذكر لها فضلاً ثم كبح بعضهم بغلة قثم فامتنعت مضر وقطعوا الذي كبحها فتشاجر الحيان وتعصبت لليمن ربيعة والخراسانية وللدولة وأصبحوا أربع فرق وقـال قثـم للمنصـور اضـرب كـل واحـدة بالأخـرى وسيـر لابنـك المهـدي فلل أثير له بجنده فيتناظرون في أهل مدينتك فقبل رأيه وأمر صالحاً صاحب المصلى ببناء الرصافة للمهدي‏.‏ مقتل معن بن زائدة كـان المنصـور قـد ولـى علـى سجستـان معـن بـن زائـدة الشيبانـي وأرسـل إلـى رتبيـل فـي الضريبـة التـي عليـه فبعـث بهـا عروضـاً زائـدة الثمـن فغضب معن وسار إلى الرخج على مقدمته يزيد ابن أخيه يزيد ففتحها وسبى أهلها وقتلهم ومضى رتبيل إلى عزمه وانصرف معن إلى بست فشتى بهـا‏.‏ ونكـر قـوم مـن الخـوارج سيرتـه فهجموا عليه وفتكوا به في بيته‏.‏ وقام يزيد بأمر سجستان وقتـل قاتليـه واشتـدت علـى أهـل البلـاد وطأتـه فتحيل بعضهم بأن كتب المنصور على لسانه كتاباً يتضجـر مـن كتب المهدي إليه ويسأله أن يعفى من معاملته‏.‏ فأغضب ذلك المنصور وأقرأ المهدي كتابـه وعزلـه وحبسـه ثـم شفـع فيـه شخـص إلـى مدينـة السلـام فلـم يـزل مجفـواً حتى بعث إلى يوسف البرم بخراسان كما يذكر بعد‏.‏ العمال على النواحي أيام السفاح والمنصور كـان السفـاح قـد ولى عند بيعته على الكوفة عمه داود بن علي وجعل على حجابته عبد الله بن بن بسام وعلى شرطته موسى بن كعب وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك وبعث عمه عبـد اللـه قتـال مـروان مـع أبـي عـون بـن يزيـد بـن قحطبـة تقدمة‏.‏ وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن العباس إلى المدائن وكان أحمد بن قحطبة تقدمة وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن عمار بـن ياسـر إلـى الأهـواز مـددًا لبسـام بـن إبراهيـم‏.‏ ودفـع ولايـة خراسـان إلـى أبـي مسلـم فولـى أبـو مسلم عليهـا إيـاداً وخالـد بن إبراهيم وبعث عمه عبد الله في مقدمته لحرب مروان أخاه صالحًا ومعه أبو عون بن يزيد فلما ظفر وانصرف ترك أبا عون يزيد بمصر واستقل عبد الله بولاية الشام‏.‏ وولـى السفـاح أخـاه أبـا جعفر على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان فولى على أرمينية يزيد بن أسد وعلـى أذربيجـان محمـد بـن صـول ونـزل الجزيـرة‏.‏ وكـان أبـو مسلـم ولـى علـى فـارس محمـد بـن الأشعث حيـن قتـل أبـا مسلمـة الخلـال فبعـث السفـاح عليهـا عيسـى فمنعـه محمد بن الأشعث واستخلفه على الولايـة فبعـث عليهـا عمـه إسماعيـل‏.‏ وولـى علـى الكوفـة ابن أخته موسى وعلى البصرة سفيان بن معاويـة المهلبـي وعلـى السنـد منصـور بـن جمهـور ونقـل عمـه داود إلى ولاية الحجاز واليمن واليمامة‏.‏ ثم ولى على البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان‏.‏ وتوفي داود بن علي سنة ثلاث وثلاثيـن فولى مكانه على اليمن محمد بن يزيد بن عبد الله بن عبد المدان وعلى مكة والمدينة والطائف واليمامة خاله زياد بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي وهو عم محمد بن يزيد‏.‏ وفيها بعث محمـد بـن الأشعـث إلـى إفريقيـة ففتحهـا‏.‏

  وفي سنة أربـع وثلاثيـن

بعـث صاحـب الشرطـة موسى بن كعب لقتال منصور بن جمهور وولاه مكانه على السنـد فاستخلـف مكانـه علـى الشرطـة المسيـب بـن زهيـر‏.‏ وتوفـي عامـل اليمـن محمـد بـن يزيـد فولـى مكانـه علـي بـن الربيـع بـن عبيد اللـه الحارثـي‏.‏ ولمـا استخلـف المنصـور وانتقـض عبـد اللـه بـن علـي وأبـو مسلـم ولـى علـى خراسـان أبـا داود خالد بن إبراهيم وعلى مصر صالح بن علي وعلى الشام عبد الله بن علي‏.‏ ثـم هلـك خالـد بـن إبراهيـم سنـة أربعيـن فولـى مكانـه عبـد الجبـار بـن عبـد الرحمـن فانتقض لسنة من ولايته فبعث المنصور ابنه المهدي على خراسان وفي مقدمته خازم بن خزيمة فظفر بعبد الجبـار‏.‏ وتوفـي سليمـان عامـل البصـرة سنـة أربعيـن فولـى مكانـه سفيـان بـن معاويـة ومـات موسى بن كعب بالسند وولى مكانه ابنه عيينة فانتقض فبعث المنصور مكانه عمر بن حفص بن أبي صفـرة‏.‏ وولـى علـى مصـر فـي هـذه السنة حميد بن قحطبة وولى على الجزيرة والثغور والعواصم أخاه العباس بن محمد وكان بها يزيد بن أسيد وعزل عمه إسماعيل عن الموصل وولى مكانه مالك بن الهيثم الخزاعي‏.‏

  وفي سنة سـت وأربعيـن

عـزل الهيثـم بـن معاويـة وولى على مكة والطائف مكانه السري بن عبد اللـه بـن الحـارث بـن العبـاس نقلـه إليهـا مـن اليمامـة وولـى مكانـه من اليمن قثم بن العباس بن عبد الله بـن العبـاس وعـزل حميـد بـن قحطبـة عـن مصـر وولى مكانه نوفل بن الفرات‏.‏ ثم عزله وولى مكانه يزيـد بـن حاتـم بـن قبيصـة بـن المهلـب بـن أبـي صفـرة وولـى على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسري ثم اتهمه في أمر ابن أبي الحسن فعزله وولى مكانه رباح بن عثمان المزني‏.‏ ولما قتله أصحاب محمد المهدي ولى مكانه عبد الله بن الربيع الحارثي‏.‏ ولما قتل إبراهيم أخو المهدي سنة خمس وأربعين ولى المنصور على البصرة سالم بن قتيبة الباهلـي وولـى علـى الموصل ابنه جعفراً مكان مالك بن الهيثم وبعث معه بن عبد الله من أكابر قـواده ثـم عـزل سالـم بـن قتيبـة عـن البصـرة سنـة سـت وأربعيـن وولـى مكانـه محمـد بـن سليمان وعزل عبـد اللـه بـن الربيـع عـن المدينـة وولـى مكانـه جعفـر بـن سليمان وعزل السري بن عبد الله عن مكة وولـى مكانـه عمـه عبـد الصمـد بـن علي وولى سنة سبع وأربعين على الكوفة محمد بن سليمان مكـان عيسـى بـن موسـى لمـا سخطـه لـه بسبب العهد وولى مكان محمد بن سليمان على البصرة محمد بن السفاح فاستعفاه ورجع إلى بغداد فمات واستخلف بها عقبة بن سالم فأقره وولى على المدينة جعفر بن سليمان وولى سنة ثمان وأربعين على الموصل خالد بن برمك لإفساد الأكـراد فـي نواحيها وعزل سنة تسع وأربعين عمه عبد الصمد عن مكة وولى مكانه محمد بن إبراهيم‏.‏

  وفي سنة خمسيـن

عـزل جعفـر بـن سليمـان عـن المدينـة وولـى مكانـه الحسـن بـن زيـد بـن الحسـن‏.‏

  وفي سنة إحـدى وخمسيـن

عـزل عمـر بـن حفـص عـن السنـد وولى مكانه هشام بن عمرو التغلبي وولى عمـر بـن حفـص علـى أفريقيـة‏.‏ ثـم بعـث يزيـد بن حاتم من مصر مدداً له وولى مكانه بمصر محمد بـن سعيـد‏.‏ وفي هذه السنة قتل معن بن زائدة بسجستان كما تقدم فقام بأمره يزيد ابن أخيه يزيـد فأقـره المنصـور ثـم عزلـه‏.‏ وفـي هـذه السنـة سـار عقبـة بـن سالـم مـن البصـرة واستخلـف نافـع بن عقبة فغزا البحرين وقتل ابن حكيم العدوي واستقصره المنصور بإطلاق أسراهم فعزله وولى جابـر بـن مومـة الكلابـي ثـم عزلـه وولـى مكانـه عبد الملك بن ظبيان النميري ثم عزله وولى الهيثم بن معاوية العكي‏.‏ وفيها ولى على مكة والطائف محمد بن إبراهيم الإمام ثم عزله وولى مكانه إبراهيم ابن أخيه يحيى بن محمد وولى على الموصل إسماعيل بن خالد بن عبد الله القسري‏.‏ ومات أسيد بن عبد الله أمير خراسان فولى مكانه حميـد بـن قحطبـة‏.‏

  وفي سنة ثلـاث وخمسيـن

توفـي عبيـد اللـه ابـن بنـت أبـي ليلـى قاضـي الكوفة فاستقضى شريك بن عبد الله النخعي وكان على اليمن يزيد بن منصور‏.‏

  وفي سنة خمـس وأربعيـن

بـل أربـع وخمسيـن عـزل عـن الجزيـرة أخـاه العبـاس وأغرمـه مـالاً وولى مكانه موسى بن كعب الخثعمي وكان سبب عزله شكاية يزيد بن أسيد منه ولم يزل ساخطاً على العباس حتى غضب على عمه إسماعيل فشفع فيه أخوته عمومة المنصور‏.‏ فقال عيسى بن عيسـى‏:‏ يـا أميـر المؤمنيـن شفعـوا فـي أخيهـم وأنـت ساخـط علـى أخيـك العبـاس منـذ كـذا ولـم يكلمـك فيه أحد منهم فرضي عنه‏.‏

  وفي سنة خمـس وخمسيـن

عـزل محمـد بـن سليمـان عن الكوفة وولى مكانه عمر بن زهير الضبي أخا المسيب صاحب الشرطة وكان من أسباب عزله أنه حبس عبد الكريم بن أبي العوجاء خال معن بن زائدة على الزندقة وكتب إليه أن يتبين أمره فقتله قبل وصول الكتاب‏.‏ فغضب عليـه المنصور وقال‏:‏ لقد هممت أن أقيده به وعزل عمه عيسى في أمره لأنه الذي كان أشار بولايتـه‏.‏ وفيهـا عـزل الحسـن بـن زيـد عـن المدينـة وولـى مكانـه عمـه عبـد الصمد بن علي وكان على الأهواز وفارس عمارة بن حمزة‏.‏

  وفي سنة سبـع وخمسيـن

ولـى علـى البحريـن سعيـد بـن دعلـج صاحـب الشرطـة بالبصرة فأنفذ إليها ابنـه تميمـاً ومـات سـوار بـن عبـد الله قاضي البصرة فولى مكانه عبيد الله بن الحسن بن الحصين العنبـري‏.‏ وعزل محمد بن الكاتب عن مصر وولى مكانه مولاه مطراً وعزل هشام بن عمرو عن السنـد وولـى مكانـه معبـد بـن الخليـل‏.‏

  وفي سنة ثمـان وخمسين

عزل موسى بن كعب عن الموصل لشيء بلغه عنه فأمر ابنه المهدي أن يسير إلى الرقة مورياً بزيارة القدس ويكفل طريقه على الموصل فقبض عليه وكان المنصور قد ألزم خالد بن برمك ثلاثة آلاف ألف درهم وأجله في إحضارهـا ثلاثـاً وإلا قتله فبعث ابنه يحيى إلى عمارة بن حمزة ومبارك التركي وصالح صاحب المصلـى وغيرهـم مـن القـواد ليستقـرض منهـم قـال يحيـى‏:‏ فكلهـم بعث إلا أن منهم من منعني الدخول ومنهـم مـن يجيبنـي بالـرد إلا عمـارة بـن حمـزة فإنـه أذن لـي ووجهـه إلـى الحائـط ولم يقبل علي وسلمت فرد خفيفاً وسأل كيف خالد فعرفته واستقرضته فقال‏:‏ إن أمكنني شيء يأتيك فانصرفت عنه ثم أنفذ المال فجمعناه في يومين وتعذرت ثلثمائة ألف‏.‏ وورد على المنصور انتقاض الموصل والجزيـرة وانتشار الأكراد بها وسخط موسى بن كعب فأشار عليه المسيب بن زهير بخالد بن برمـك فقـال‏:‏ كيـف يصلـح بعدمـا فعلنا‏.‏ فقال أنا ضامنه فصفح له عما بقي عليه وعقد له على الموصل ولابنه يحيى على أذربيجان‏.‏ وسارا مع المهدي فعزل موسى بن كعب وولاهما‏.‏ قـال يحيـى‏:‏ وبعثنـي خالـد إلـى عمـارة بقرضـه وكـان مائـة ألـف فقـال لـي أكنـت لأبيـك صديقـاً قـم عنـي لا قمـت ولـم يـزل خالـد علـى الموصـل إلـى وفـاة المنصـور‏.‏ وفـي هـذه السنـة عـزل المنصـور المسيـب بن زهيـر عـن شرطتـه وحبسـه مقيـداً لأنـه ضـرب أبـان بـن بشيـر الكاتـب بالسياط حتى قتله وكان مع أخيـه عمـر بـن زهيـر بالكوفـة‏.‏ وولـى المنصـور علـى فـارس نصر بن حرب بن عبد الله‏.‏ ثم على الشرطة ببغداد عمر بن عبد الرحمن أخا عبد الجبار وعلى قضائها عبد الله بن محمد بن صفوان‏.‏ ثم شفع المهدي في المسيب وأعاده إلى شرطته‏.‏

  الصوائف

كان أمر الصوائف قد انقطع منذ سنة ثلاثين بما وقع من الفتن فلما كانت سنة ثلاث وثلاثين أقبل قسطنطين ملك الروم إلى ملطية ونواحيها فنـازل حصـن بلـخ واستنجـدوا أهـل ملطيـة فأمدوهم بثمانمائة مقاتل فهزمهم الروم وحاصروا ملطية والجزيرة مفتوحـة وعاملهـا موسـى بـن كعـب بخراسـان فسلمـوا البلـد علـى الأمـان لقسطنطيـن‏.‏ ودخلوا إلى الجزيرة وخرب الروم ملطية ثم ساروا إلى قاليقـلا ففتحوهـا‏.‏ وفـي هـذه السنـة سـار أبـو داود وخالـد بـن إبراهيـم إلـى الجتـن فدخلهـا فلم تمتنع عليه وتحصن منه السبيل ملكهم وحاصره مدة ثم فرض الحصن ولحق بفرغانة‏.‏ ثـم دخلـوا بلـاد التـرك وانتهـوا إلـى بلـد الصيـن وفيهـا بعـث صالـح بـن علـي بـن فلسطيـن سعيـد بـن عبد الله لغزو الصائفة وراء الدروب‏.‏

  وفي سنة خمس وثلاثين

غزا عبد الرحمن بن حبيب عامل أفريقية جزيـرة صقليـة فغنـم وسبـى وظفـر بمـا لـم يظفـر بـه أحـد قبلـه‏.‏ ثـم سفـل ولـاة إفريقيـة بفتـن البربـر فأمن أهل صقلية وعمر الحصون والمعاقل وجعلوا الأساطيل تطوف بصقليـة للحراسـة وربمـا صادفـوا تجـار المسلميـن فـي البحـر فأخذوهـم‏.‏

  وفي سنة ثمـان وثلاثيـن

خـرج قسطنطين ملك الروم فأخذ ملطية عنوةً وهدم سورها وعفا عن أهلها‏.‏ فغزا العباس بن محمد الصائفة ومعه عماه صالح وعيسى وبنى ما خربه الروم من سور ملطية أثناء ثورة الروم ورد إليها أهلها وأنزل بها الجند ودخل دار الحرب من درب الحرث وتوغل في أرضهم ودخل جعفر بن حنظلة البهراني من درب ملطية‏.‏

  وفي سنة تسع وثلاثين

كـان الفـداء بيـن المسلميـن والـروم فـي أسـرى قاليقـلا وغيرهـم‏.‏ ثـم غـزا بالصائفـة سنـة أربعيـن عبـد الوهـاب بـن إبراهيـم الإمـام ومعـه الحسـن بـن قحطبـة وسار إليهم قسطنطين ملك الروم في مائة ألف فبلغ جيحان وسمع كثرة المسلمين فأحجم عنهم ورجع ولم تكن بعدها صائفة إلى سنـة سـت وأربعيـن لاشتغـال المنصـور بفتنـة بنـي حسـن‏.‏

  وفي سنة سـت وأربعيـن

خـرج الترك والحدر من باب الأبواب وانتهوا إلى أرمينية وقتلوا من أهلها جماعة ورجعوا‏.‏

  وفي سنة سبـع وأربعيـن

أغـار أسترخـان الخوارزمـي فـي جمـع مـن التـرك علـى أرمينية فغنم وسبى ودخل تفليس فعاث فيها‏.‏ وكان حرب بن عبد الله مقيماً بالموصل في ألفين من الجند لمكان الخوارزمي بالجزيرة فأمره المنصور بالمسير لحرب الترك مع جبريل بن يحيى فانهزموا وقتل حرب فـي كثيـر مـن المسلميـن‏.‏ وفيهـا غـزا بالصائفـة مالـك بـن عبـد اللـه الخثعمي من أهل فلسطين ويقال له ملـك الصوائـف فغنـم غنائـم كثيرة وقسمها بدرب الحرث‏.‏

  وفي سنة تسع وأربعين

غزا بالصائفة العباس بن محمد ومعه الحسن بـن قحطبـة ومحمـد بـن الأشعـث فدخلـوا أرض الـروم وعاثـوا ورجعوا‏.‏ ومات محمد بن الأشعث في طريقه في سنة إحدى وخمسين وقتل أخوه محمد ولم يدر‏.‏ ثـم غـزا بالصائفـة سنـة أربـع وخمسيـن زفـر بـن عاصـم الهلالـي‏.‏

  وفي سنة خمـس

بعدهـا طلـب ملك الروم الصلح على أن يؤدي الجزية وغزا بالصائفة يزيد بن أسيد السلمي وغزا بها سنة ست وخمسين وغزا بالصائفة معيوب بن يحيى من درب الحرث ولقي العدو فاقتتلوا ثم تحاجزوا‏.‏

  وفي سنة ثمـان وخمسيـن

توفـي المنصـور منصرفـاً مـن الحج ببئر ميمون لست خلت من ذي الحجة وكان قد أوصى المهدي عند وداعه فقال‏:‏ لم أدع شيئاً إلا تقدمـت إليـك فيـه وسأوصيـك بخصـال ومـا أظنـك تفعـل واحـدة منهـا وله سفط فيه دفاتر علمه وعليه قفل لا يفتحه غيره‏.‏ فقال المهدي‏:‏ انظر إلى هذا السفط فاحتفظ به فإن فيه علم آبائك ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الكبير فإن أصبت فيـه مـا تريـد وإلا ففـي الثانـي والثالث حتى تبلغ سبعة‏.‏ فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة فإنك واجد ما تريد فيها وما أظنك تفعل‏.‏ فانظر هذه المدينة وإياك أن تستبدل بها غيرها وقد جمعت فيها من الأموال ما أنكر عليك الخـراج عشـر سنيـن كفـاك لـأرزاق الجند والنفقات والذرية ومصلحة البيوت‏.‏ فاحتفظ بها فإنك لا تزال عزيزاً ما دام بيت مالك عامراً وما أظنك تفعل‏.‏ وأوصيك بأهل بيتك وأن تظهر كرامتهم وتحسن إليهم وتقدمهم وتوطىء الناس أعقابهم وتوليهم المنابر فإن عزك عزهم وذكرهم لك وما أظنك تفعل‏.‏ وأوصيـك بأهـل خراسـان خيـراً فإنهـم أنصـارك وشيعتـك الذيـن بذلـوا أموالهـم ودماءهم في دولتك وأن لا تخرج محبتك من قلوبهم وأن تحسن إليهـم وتتجـاوز عـن مسيئهـم وتكافئهـم عمـا كـان منهـم وتخلـف مـن مات منهم في أهله وولده وما أظنك تفعل‏.‏ وإياك أن تبني مدينة الشرقيـة فإنـك لا تتـم بناءهـا وأظنـك ستفعـل‏.‏ وإيـاك أن تستعيـن برجـل مـن بنـي سليـم وأظنـك ستفعل‏.‏ وإياك أن تدخل النساء في أمرك وأظنك ستفعل‏.‏ وقيل قال له إني ولدت في ذي الحجـة ووليـت فـي ذي الحجـة وقـد يحـس فـي نفسـي أن أمـوت فـي ذي الحجـة فـي هـذه السنـة وإنمـا حـد لـي الحـج علـى ذلـك‏.‏ فاتـق اللـه فيمـا أعهـد إليـك مـن أمـور المسلمين بعـدي يجعـل لـك فيما كربك وحزنك فرجاً ومخرجاً ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسـب‏.‏ يـا بنـي احفـظ محمـداً صلـى اللـه عليـه وسلم في أمته يحفظك الله ويحفظ عليك أمورك وإيـاك والـدم الحـرام فإنـه حـوب عنـد الله عظيم وعار في الدنيا لازم مقيم والزم الحدود فإن فيها صلاحـك فـي الأجـل وصلاحـك فـي العاجـل ولا تعتـد فيها فتبور فإن الله تعالى لو علم أن شيئاً أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمر به في كتابه‏.‏ واعلـم أن مـن شـدة غضـب اللـه لسلطانـه أمـر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى فـي الـأرض فسـاداً مـع مـا ادخـر لـه مـن العـذاب الأليـم فقـال‏:‏ ‏"‏ إنمـا جـزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعـون فـي الـأرض فسـاداً ‏"‏ الآيـة‏.‏ فالسلطـان يـا بنـي حبل الله المتين وعروته الوثقى ودينه المقيم فاحفظه وحصنه وذب عنه وأوقع بالملحدين واقمع المارقين منه وقابل الخارجين عنه بالعقاب ولا تجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن‏.‏ واحكم بالعدل ولا تشطط فإن ذلك أقطع للشعب وأحسم للعدو وأنجع في الدواء واعف عن الفيء فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك‏.‏ وافتتح بصلة الرحم وبر القرابة وإياك والأثرة والتبديد لأموال الرعية واشحن الثغور واضبط الأطراف وأمن السبيل وسكن العامة وأدخل المرافق عليهم وارفع المكاره عنهم وأعد الأموال واخزنها وإياك والتبديد فإن النوائب غير مأمونة وهي من شيم الزمان‏.‏ وأعد الأكراع والرجال والجند ما استطعت‏.‏ وإياك وتأخير عمل اليوم لغد فتتداول الأمور وتضيع وخذ في أحكام الأمور النازلـات فـي أوقاتهـا أولاً أولاً واجتهـد وشمـر فيهـا وأعـد رجـالاً بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار ورجالاً بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل‏.‏ وباشر الأمور بنفسك ولا تضجر ولا تكسل واستعمل حسن الظن وأسىء الظن بعملك وكتابك وخذ نفسك بالتيقظ وتفقد من يبيت على بابك وسهل إذنـك للنـاس وانظـر فـي أمـر النـزاع إليـك وكـل بهـم عيناً غير نائمة ونفساً غير ساهية‏.‏ ولا تنم فإن أبـاك لـم ينـم منـد ولـي الخلافـة ولا دخـل عينيـه الغمـض إلا وقلبـه مستيقـظ‏.‏ هـذه وصيتي إليك والله خليفتي عليك‏.‏ ثم ودعه وسار إلى الكوفة فأحرم منها قارناً وساق الهدي وأشعره وقلده لأيام خلت من ذي القعدة‏.‏ ولما سار منازل عرض له وجعه الذي مات به‏.‏ ثم اشتد فجعل يقول للربيع - وكان عديلـه - بـادر بـي إلـى حـرم ربـي هاربـاً مـن ذنوبـي فلمـا وصـل بئر ميمون مات سحر السادس من ذي الحجـة لـم يحضـر إلا خدمـه والربيـع مولـاه‏.‏ فكتموا الأمر ثم غدا أهل بيته على عادتهم فدعا عيسى بن علي العم ثم عيسى بن موسى بن محمد ولي العهد ثم الأكابر وذوي الأنساب ثم عامتهـم‏.‏ فبايعهـم الربيع للمهدي ثم بايع القواد وعامة الناس‏.‏ وسار العباس بن محمد ومحمد بن سليمـان إلـى مكـة فبايعـا النـاس للمهـدي بيـن الركـن والمقـام وجهزوه إلى قبره وصلى عليه عيسى بن موسى وقيل إبراهيم بن يحيى‏.‏ ودفن في مقبرة المعلاة وذلك لاثنتين وعشرين سنة من خلافته‏.‏ وذكـر علـي بـن محمـد النوفلي عن أبيه وهو من أهل البصرة وكان يختلف إلى المنصور تلك الأيام قال‏:‏ جئت من مكة صبيحة موته إلى العسكر فإذا موسى بن المهدي عند عمود السرادق والقاسم بن المنصور في ناحية فعلمت أنه قد مات‏.‏ ثـم أقبـل الحسـن بـن زيـد العلوي والناس حتى ملؤوا السردق وسمعنا همس البكاء‏.‏ ثم خرج أبو العنبـر الخـادم مشقـوق الأقبيـة وعلـى رأسـه التـراب وهـو يستغيـث وقام القاسم فشق ثيابه ثم خرج الربيع وفي يده قرطاس فقرأه على الناس وفيه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏من عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلى من خلف من بني هاشم وشيعة من أهل خراسان وعامـة المسلميـن ثـم بكـى وبكى الناس ثم قال‏:‏ البكاء إمامكم فانصتوا رحمكم الله ثم قرأ‏:‏ أما بعـد فإنـي كتبـت كتابـي هذا وأنا حي في آخر يوم من أيام الدنيا أقرأ عليكم السلام وأسأل الله أن لا يفتنكم بعدي ولا يلبسكم شيعاً ولا يذيق بعضكم بأس بعض‏.‏ ثم أخذ في وصيتهم للمهدي وحثهم على الوفاء بعهده‏.‏ ثم تناول الحسن بن زيد وقال‏:‏ قم فبايع‏:‏ فبايع موسى بن المهدي لأبيه ثم بايع الناس الأول فالأول‏.‏ ثم دخل بنو هاشم وهو في أكفانه مكشوف الرأس لمكان الإحرام فحملوه على ثلاثة أميال من مكة فدفنوه‏.‏ وكان عيسى بن موسى لما بايع الناس أبى من الشيعة فقال له علي بن عيسى بن ماهان‏:‏ والله لتبايعن وإلا ضربنا عنقك‏.‏ ثم بعث موسى بن المهدي والربيع بالخبر والبردة والقضيب وخاتم الخلافة إلى المهدي وخرجوا من مكة‏.‏ ولما وصل الخبر إلى المهدي منتصف ذي الحجة اجتمع إليه أهل بغداد وبايعوه وكان أول ما فعلـه المهـدي حيـن بويـع أنـه أطلـق مـن كـان فـي حبـس المنصـور إلا مـن كـان فـي دم أو مـال أو ممـن يسعـى بالفساد وكان فيمن أطلق يعقوب بن داود وكان محبوسًا مع الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسن‏.‏ فلما أطلق ساء ظن إبراهيم وبعث إلى من يثق به بحفر سرب يفضي إلى محبسه وبلغ ذلك يعقـوب بـن داود فجـاء إلـى ابـن علاثـة القاضـي وأوصلـه إلـى أبـي عبيـد اللـه الوزيـر ليوصلـه إلـى المهـدي فأوصله واستخلاه فلم يحدثه حتى قام الوزير والقاضي وأخبره بتحقيق الحال فأمره بتحويل الحسـن ثـم هـرب بعـد ذلـك ولـم يظفـر بـه‏.‏ وشـاور يعقـوب بـن داود فـي أمـره فقـال‏:‏ اعطه الأمان وأنا أحضره وأحضره‏.‏ ثم طلب من المهدي أن يجعل له السبيل في رفع أمور الناس وراء بابه إليه فأذن له وكان يدخل كلما أراد ويرفع إليه النصائح في أمر الثغور وبناء الحصون وتقوية الغزاة وترويح العذاب وفكاك الأسرى والمحبوسين والقضاء على الغارميـن والصدقـة علـى المتعففيـن فحظـي بذلـك وتقدمـت منزلته وسقطت منزلة أبي عبد الله ووصله المهدي بمائة ألف وكتب له التوقيع بالإخاء في الله‏.‏ ظهور المقنع ومهلكه كان هذا المقنع من أهل مرو ويسمى حكيماً وهاشمياً وكان يقول بالتناسخ وأن الله خلق آدم فتحول في صورتـه ثـم فـي صـورة نـوح ثـم إلـى أبـي مسلـم ثـم إلـى هاشـم وهـو المقنـع‏.‏ فظهـر بخراسـان وادعـى الإلهيـة واتخـذ وجهـاً مـن ذهب فجعله على وجهه فسمي المقنع وأنكر قتل يحيى بن زيد وزعـم أنـه يأخـذ بثـأره وتبعـه خلق عظيم من الناس وكانوا يسجدون له‏.‏ وتحصن بقلعة بسام من رساتيق كش وكان قد ظهر ببخارى والصغد جماعة من المبيضة فاجتمعوا معه على الخلاف وأعانهـم كفـار الأتـراك وأغـاروا على المسلمين من ناحيتهم وحاربهم أبو النعمان والجنيد وليث بن نصر بن سيار فقتلوا أخاه محمد بن نصر وحسان ابن أخيه تميم‏.‏ وأنفذ المهدي إليهم جبريل بن يحيى وأخاه يزيد لقتال المبيضة فقاتلوهم أربعة أشهر في بعض حصـون بخـارى وملكـوه عنـوةً فقتـل منهـم سبعمائـة ولحـق فلهـم بالمقنـع وجبريـل في اتباعهم‏.‏ ثم بعث المهـدي أبـا عـون لمحاربـة المقنـع فلـم يبالـغ فـي قتالـه فبعـث معـاذ بـن مسلم في جماعة القواد والعساكر وعلـى مقدمتـه سعيـد الحريشـي وأتـاه عقبـة بـن مسلـم مـن ذم فاجتمعـوا بالطواويـس وأوقعـوا بأصحـاب المقنـع فهزموهـم ولحـق فلهـم بالمقنـع فـي بسـام فتحصنوا بها‏.‏ وجاء معاذ فنازلهم وفسد ما بينه وبين الحريشي فكتب الحريشي إلى المهدي بالسعاية في معاذ ويضمن الكفاية إن أفرد بالحـرب فأجابـه المهـدي إلـى ذلـك وانفـرد بحـرب المقنع وأمده معاذ بابنه وجاؤوا بآلات الحرب حتى طلـب أصحاب المقنع الأمان سراً فأمنهم وخرج إليه ثلاثون ألفاً وبقي معه زهاء ألفين وضايقوه بالحصار فأيقن بالهلاك وجمع نساءه وأهله‏.‏ فيقال سقاهم السم ويقال بل أحرقهم وأحرق نفسه بالنار ودخلوا القلعة وبعث الحريشي برأس المقنع إلى المهدي فوصـل إليـه بحلـب سنـة ثلـاث وتسعين‏.‏ وعزل المهدي سنة تسع وخمسين عمه إسماعيل عن الكوفة وولى عليها إسحق بن الصفاح الكنـدي ثـم الأشعـي وقتـل عيسـى بـن لقمـان بـن محمـد بـن صاحـب الجمحـي وعـزل سعيد بن دعلج عن أحداث البصرة وعبيد الله بن الحسن عن الصلاة وولى مكانهما عبد الملك بن أيوب بن ظبيان النميـري‏.‏ ثـم جعـل الأحـداث إلـى عمـارة بـن حمـزة فولاهـا للسـود بـن عبـد اللـه الباهلـي‏.‏ وعـزل قثم بن العباس عن اليمامة وولى مكانه الفضل بن صالح وعزل مطراً مولى المنصور عن مصر وولى مكانه أبا ضمرة محمد بن سليمان‏.‏ وعزل عبد الصمد بن علي عن المدينة وولى مكانه محمـد بـن عبـد اللـه الكثيـري ثـم عزلـه وولـى عبـد اللـه بـن محمـد بـن عبـد الرحمن بن صفوان ثم عزله وولى مكانه زفر بن عاصم الهلالي‏.‏ وتوفـي معبـد بـن الخليـل عامـل السنـد فولـى مكانـه روح بـن حاتـم بإشـارة وزيـره أبـي عبـد الله وتوفي حميـد بـن قحطبـة بخراسـان فولـى عليهـا مكانـه أبـا عـون عبـد الملـك بـن يزيـد ثم سخطه سنة ستين فعزلـه وولـى معـاذ بـن مسلـم‏.‏ وولـى علـى سجستـان حمـزة بـن يحيـى وعلـى سمرقنـد جبريل بن يحيى فبنـى سورهـا وحصنهـا‏.‏ وكـان علـى اليمـن رجـاء بـن روح وولـى علـى قضـاء الكوفـة شريـك‏.‏ وولى علـى فـارس والأهـواز ودجلـة قاضـي البصرة عبيد الله بن الحسن ثم عزله وولى مكانه محمد بن سليمان‏.‏ وولى على السند بسطام بن عمر وولى على اليمامة بشر بن المنذر‏.‏

  وفي سنة إحـدى وتسعيـن

ولـى علـى السنـد محمـد بـن الأشعث واستقضى عافية القاضي مع ابن علاثة بالرصافة وعزل الفضل بن صالح عن الجزيرة وولى مكانه عبد الصمد بن علي وولى عيسـى بـن لقمـان علـى مصـر ويزيـد بـن منصـور علـى سـواد الكوفة وحسان السروري على الموصل وبسطام بن عمرو التغلبي على أذربيجان وعزله عن السند‏.‏ وتوفي نصر بن مالك بن صالح صاحب الشرطة فولى مكانه حمزة بن مالك وكان الأبان بن صدقة كاتباً للرشيد فصرفه وجعله مع الهادي وجعل هو مع هارون يحيى بن خالد وعزل محمـد بـن سليمـان أبـا ضمـرة عن مصر وولى مكانه سليمان بن رجاء‏.‏ وكان على سواد الكوفة يزيد بن منصور وعلى أحداثها إسحاق بن منصور‏.‏

  وفي سنة ست وستين

عزل علي بن سليمان عن اليمن وولى مكانه عبد الله بن سليمان وعزل مسلمة بن رجاء عن مصر وولى مكانه عيسى بن لقمان ثم عزله لأشهر وولى مكانه مولا واضحاً ثم عزله وولى مكانه يحيى الحريشي وكان على طبرستان عمر بن العلاء‏.‏ وسعيد بن دعلج وعلى جرجان مهليل بن صفوان ووضع ديوان الأرمة وولى عليها عمر بن بزيع مولاه‏.‏

  العهد للهادي وخلع عيسى

كان جماعة من بني هاشم وشيعة المهدي خاضوا في خلع عيسى بن موسى من ولاية العهد والبيعـة لموسـى الهـادي بـن المهـدي ونمـي ذلـك إلى المهدي فسر به واستقدم عيسى بن موسى من منزلـه بالرحبـة مـن أعمال الكوفة فامتنع من القدوم‏.‏ فاستعمل المهدي على الكوفة روح بن حاتم وأوصاه بالأضرار فلم يجد سبيلاً إلى ذلك‏.‏ وكان عيسى لا يدخل الكوفة إلا يوم جمعة أو عيد‏.‏ وبعث إليه المهدي يتهدده فلم يجب ثم بعث عمه العباس يستقدمه فلم يحضر‏.‏ فبعث قائدين من الشيعة فاستحضراه إليه وقدم على عسكر المهدي وأقام أياماً يختلف إليه ولا يكلم بشيء‏.‏ حضر الدار يوماً وقد اجتمع رؤساء الشيعة لخلعه فثاروا به وأغلق الباب الذي كان خلفه فكسروه وأظهر المهدي النكير عليهم فلم يرجعوا إلا أن كاشفه أكابر أهل بيته وأشدهم محمد بن سليمان واعتذر بالأيمان التي عليه‏.‏ فأحضر المهدي القضاة والفقهاء وفيهم محمد بن علاثة ومسلم بن خالد الزنجي فأفتوه بمخارج الأيمان وخلع نفسه وأعطاه المهدي عشرة آلاف درهم وضياعاً بالزاب وكسكر وبايع لابنه موسى الهادي بالعهد‏.‏ ثم جلس المهدي من الغد وأحضر أهل بيته وأخذ بيعتهم وخرج إلى الجامع وعيسى معه فخطب وأعلم الناس ببيعة الهادي ودعاهم إليها فبادروا وأشهد عيسى بالخلع‏.‏ وبعث المهدي سنة تسع وخمسين عبد الملك بن شهاب المسمعي في جمع كثير من الجند والمقطوعـة إلـى بلاد الهند فركبوا البحر من فارس ونزلوا بأرض الهند وفتحوا باربد فافتتحوها عنوةً ولجأ أهلها إلى البد فأحرقوه عليهم فاحترق بعض وقتل الباقون واستشهد من المسلمين بضعـة وعشـرون وأقامـوا بعـض أيـام إلـى أن يطيب الريح فوقع فيهم موتان فهلك ألف فيهم إبراهيم بـن صبيـح‏.‏ ثـم ركبـوا البحـر إلـى فـارس فلمـا انتهـوا إلـى ساحـل حـران عصفت بهم الريح فانكسرت عامة مراكبهم وغرق الكثير منهم‏.‏ حج المهدي

  وفي سنة ستين

حج المهدي واستخلف على بغداد ابنـه الهـادي وخالـه يزيـد بـن منصـور واستصحـب ابنـه هـارون وجماعـة مـن أهل بيته وكان معه الوزير يعقوب بن داود فجاء في مكة بالحسـن بـن إبراهيـم الـذي ضمنـه علـى الأمان فوصله بالمهدي وأقطعه‏.‏ ولما وصل إلى مكة اهتم بكسـوة الكعبة فكساها بأفخر الكسوة بعد أن نزع ما كان عليها‏.‏ وكانت فيها كسوة هشام بن عبـد الملـك مـن الديبـاج الثخيـن وقسـم مـالاً عظيمـاً هنالـك فـي مصـارف الخيـر فكـان منـه مما جاء به من العراق ثلاثون ألف درهم ووصل إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار ومن اليمن مائة ألف دينـار ففـرق ذلك كله‏.‏ وفرق مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب ووسع المسجد ونقل خمسمائة من الأنصار إلى العراق جعلهم في حرسه وأقطع لهم وأجرى الأرزاق‏.‏ ولما رجع أمر ببناء القصـور بطريـق مكة أوسع من قصور المنصور من القادسية إلى زبالة‏.‏ وأمر باتخاذ المصانع في كـل منهـا منهـل وبتحديـد الأميـال وحفـر الآبـار وولـى علـى ذلك بقطير بن موسى‏.‏ وأمر بالزيادة في مسجـد البصـرة وتصغيـر المنابـر إلـى مقـدار منبـر النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم‏.‏ وأمر في سنة سبع وستيـن بالزيـادة فـي الحرميـن علـى يـد بقطيـر فدخلت فيه دول كثيرة ولم يزل البناء فيهما إلى وفاة المهدي‏.‏

  نكبة الوزير أبي عبد الله

كـان أبـو عبد الله الأشعري قد اتصل بالمهدي أيام أبيه المنصور فلطفت عنده منزلته واستوزره وسار معه إلى خراسان وعظمت به بطانة المهدي فأكثروا فيه السعاية وكان الربيع يدرأ عنه ويعـرض كتبـه علـى المنصـور ويحسـن القـول فيـه‏.‏ فكتـب المنصـور إلـى المهدي بالوصاة به وأن لا يقبل فيـه السعايـة‏.‏ ولمـا مـات المنصـور وقـام الربيـع ببيعة المهدي وقدموا إلى بغداد جاء الربيع إلى باب أبي عبد الله وقبل المهدي وقبل أهله فعذله ابنه الفضل على ذلك فقال هو صاحب الرجل وينبغي أن نعامله بغير ما كنا نعامله وإياك أن تذكر ما كنا نصنع في حقه أوتمنن بذلك في نفسـك‏.‏ فلمـا وقـف ببابـه أمهلـه طويـلاً مـن المغـرب إلـى العشـاء‏.‏ ثـم أذن لـه فدخـل عليـه وهـو متكـىء فلم يجلس ولا أقبل عليه‏.‏ وشـرع الربيـع يذكـر أمر البيعة فكفه وقال‏:‏ قد بلغنا أمركم‏:‏ فلما خرج استطال عليه ابنه الفضل بالعذل فيما فعل بأن لم يكن الصواب‏.‏ فقال له‏:‏ ليس الصواب إلا ما عملته ولكن والله لأنفقن مالي وجاهي في مكروهه وجد في السعاية فيه فلم يجد طريقاً إليها لاحتياطه في أمر دينه وأعمالـه‏.‏ فأتـاه مـن قبـل ابنـه محمـد ودس إلـى المهـدي بعرضـه لحرمـه وأنـه زنديق حتى إذا استحكمت التهمـة فيـه أحضـره المهـدي فـي غيبـة مـن أبيـه ثـم قـال لـه‏:‏ اقـرأ فلـم يحسـن فقـال لأبيـه‏:‏ ألـم تقـل إن ابنك يقرأ القرآن فقال فارقني منذ سنين وقد نسي فأمر به المهدي فقتل‏.‏ واستوحش من أبي عبد الله وساءت منزلته إلى أن كان من أمره ما نذكره وعزله عن ديوان الرسائل ورده إلـى الربيـع وارتفعـت منزلـة يعقـوب بـن داود عنـد المهـدي وعظم شأنه وأنفذ عهده إلى جميع الآفاق بوضع الأمناء ليعقوب وكان لا ينفذ كتاب المهدي حتى يكتب يعقوب إلى يمينه بإنفاذ ذلك‏.‏ ظهور دعوة العباسية بالأندلس وانقطاعها