فصل: مسير أسد الدين ثانياً إلى مصر وملكه الإسكندرية ثم صلحه عليها وعوده

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


 مسير أسد الدين ثانياً إلى مصر وملكه الإسكندرية ثم صلحه عليها وعوده

ولما رجع أسد الدين إلى الشام لم يزل في نفسه ما كان من غدر شاور وبقي يشحن لغزوهم إلى سنة اثنتين وستين فجمع العساكر وبعث معه نور الدين جماعة من الأمراء وأكثف له العسكر خوفاً على حامية الإسلام وسار أسد الدين إلى مصر وانتهى إلى اطفيح وعبر منها إلى العدوة الغربية ونزل الجيزة وأقام نحواً من خمسين يوماً‏.‏ وبعث شاور إلى الإفرنج يستمدهم على العادة وعلى ما لهم من التخوف من استفحال ملك نور الدين وشيركوه فسارعوا إلى مصر وعبروا مع عساكرها إلى الجيزة وقد ارتحل عنها أسد الدين إلى الصعيد وانتهى منها إلى واتبعوه وأدركوه بها منتصف اثنتين وستين‏.‏ ولما رأى كثرة عددهم واستعدادهم مع تخاذل أصحابه فاستشارهم‏.‏ فأشار بعضهم بعبور النيل إلى العدوة الشرقية والعود إلى الشام وأبى زعماؤهم إلا الاستماتة سيما مع خشية العتب من نور الدين وتقدم صلاح الدين بذلك وأدركهم القوم على تعبية وجعل صلاح الدين في القلب وأوصاه أن يندفع أمامهم ووقف هو في الميمنة مع من وثق باستماتته‏.‏ وحمل القوم على صلاح الدين فسار بين أيديهم على تعبيته وخالفهم أسد الدين إلى مخلفهم فوضع السيف فيهم وأثخن قتلاً وأسراً‏.‏ ورجعوا عن صلاح الدين يظنون أنهم ساروا منهزمين فوجدوا أسد الدين قد استولى على مخلفهم واستباحه فانهزموا إلى مصر‏.‏ وسار أسد الدين إلى الإسكندرية فتلقاه أهلها بالطاعة واستخلف بها صلاح الدين ابن أخيه‏.‏ وعاد إلى الصعيد فاستولى عليه وفرق العمال على جباية أمواله‏.‏ ووصلت عساكر مصر والإفرنج إلى القاهرة وأزاحوا عللهم وساروا إلى الإسكندرية فحاصروا بها صلاح الدين وجهده الحصار‏.‏ وسار أسد الدين من الصعيد لإمداده وقد انتقض عليه طائفة من التركمان من عسكره‏.‏ وبينما هو في ذلك جاءته رسل القوم في الصلح على أن يرد عليهم الإسكندرية ويعطوه خمسين ألف دينار سوى ما جباه من أموال الصعيد فأجابهم إلى ذلك على أن يرجع الإفرنج إلى بلادهم ولا يملكوا من البلاد قرية فانعقد ذلك بينهم منتصف شوال‏.‏ وعاد أسد الدين وأصحابه إلى الشام منتصف ذي القعدة‏.‏ ثم شرط الإفرنج على أن ينزلوا بالقاهرة شحنة وتكون أبوابها بأيديهم ليتمكنوا من مدافعة نور الدين فضربوا عليه مائة ألف دينار في كل سنة جزية فقبل ذلك وعاد الإفرنج إلى بلادهم بسواحل الشام وتركوا بمصر جماعة من زعمائهم‏.‏ وبعث الكامل أبا شجاع شاور إلى نور الدين بطاعته وأن يبث بمصر دعوته‏.‏ وقرر على نفسه مالاً يحمل كل سنة إلى نور الدين فأجابه إلى ذلك وبقي شيعة له بمصر والله تعالى أعلم‏.‏

  استيلاء أسد الدين على مصر ومقتل شاور

ولما ضرب الإفرنج الجزية على القاهرة ومصر وأنزلوا بها الشحنة وملكوا أبوابها تمكنوا من البلاد وأقاموا فيها جماعة من زعمائهم فتحكموا واطلعوا على عورات الدولة فطمعوا فيما وراء ذلك من الاستيلاء وراسلوا بذلك ملكهم بالشام واسمه مرى ولم يكن ظهر بالشام من الإفرنج مثله فاستدعوه لذلك وأغروه فلم يجبهم واستحثه أصحابه لملكها‏.‏ وما زالوا يفتلون له في الذروة والغارب ويوهمونه القوة بتملكها على نور الدين ويريهم هو أن ذلك يؤول إلى خروج أصحابها عنها لنور الدين فبقي بها إلى أن غلبوا عليه‏.‏ فرجع إلى رأيهم‏.‏ وتجهز وبلغ الخبر نور الدين فجمع عساكره واستنفر من في ثغوره‏.‏ وسار الإفرنج إلى مصر مفتتح أربع وستين فملكوا بلبيس عنوة في صفر واستباحوها وكاتبهم جماعة من أعداء شاور فأنسوا مكاتبتهم وساروا إلى مصر ونازلوا القاهرة‏.‏ وأمر شاور بإحراق مدينة مصر لينتقل أهلها إلى القاهرة فيضبط الحمار فانتقلوا وأخذهم الحريق وامتدت الأيدي وانتهبت أموالهم واتصل الحريق فيها شهرين‏.‏ وبعث العاضد إلى نور الدين يستغيث به فأجاب وأخذ في تجهيز العساكر فاشتد الحصار على القاهرة وضاق الأمر بشاور فبعث إلى ملك الإفرنج يذكره بقديمه وأن هواه معه دون العاضد ونور الدين ويسأل في الصلح على المال لنفور المسلمين مما سوى ذلك فأجابه ملك الإفرنج على ألف ألف دينار لما رأى من امتناع القاهرة وبعث إليهم شاور بمائة ألف منها وسألهم في الإفراج فارتحلوا‏.‏ وشرع في جمع المال فعجز الناس عنه ورسل العاضد خلال ذلك تردد إلى نور الدين في أن يكون أسد الدين وعساكره حامية عنده وعطاؤهم عليه وثلث الجباية خالصة لنور الدين فاستدعى نور الدين أسد الدين من حمص وأعطاه مائتي ألف دينار وجهزه بما يحتاجه من الثياب والدواب والأسلحة وحكمه في العساكر والخزائن ونقل العسكر عشرين ديناراً لكل فارس وبعث معه من أمرائه مولاه عز الدين خردك وعز الدين قليج وشرف الدين مرعش وعز الدولة الباروقي وقطب الدين نيال بن حسان المنبجي وأمد صلاح الدين يوسف بن أيوب مع عمه أسد الدين فتعلل عليه واعتزم عليه فأجاب‏.‏ وسار أسد الدين منتصف ربيع‏.‏ فلما قارب مصر رجع الإفرنج إلى بلادهم فسر بذلك نور الدين وأقام عليه البشائر في الشام‏.‏ ووصل أسد الدين القاهرة ودخلها منتصف جمادى الأخيرة ونزل بظاهرها ولقي العاضد وخلع عليه وأجرى عليه وعلى عساكره الجرايات والأتاوات‏.‏ وأقام أسد الدين ينتظر شرطهم وشاور يماطله ويعلله بالمواعيد‏.‏ ثم فاوض أصحابه في القبض على أسد الدين واستخدام جنده فمنعه ابنه الكامل من ذلك فأقصر‏.‏ ثم أشرف أصحاب أسد الدين على اليأس من شاور وتفاوض أمراؤه في ذلك فاتفق صلاح الدين ابن أخيه وعز الدين خردك على قتل شاور وأسد الدين ينهاهم‏.‏ وغدا شاور يوماً على أسد الدين في خيامه فألفاه قد ركب لزيارة تربة الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فتلقاه صلاح الدين وخردك وركبوا معه لقصد أسد الدين فقبضوا عليه في طريقهم وطيروا بالخبر إلى أسد الدين‏.‏ وبعث العاضد لوقته يحرضهم على قتله فبعثوا إليه برأسه وأمر العاضد بنهب دوره فنهبها العامة‏.‏ وجاء أسد الدين لقصر العاضد فخلع عليه الوزارة ولقبه الملك المنصور أمير الجيوش‏.‏ وخرج له من القصر منشور من إنشاء القاضي الفاضل البيساني وعليه مكتوب بخط الخليفة ما نصه هذا عهد لا عهد لوزير بمثله فتقلد ما رآك الله وأمير المؤمنين أهلا لحمله وعليك الحجة من الله فيما أوضح لك من مراشد سبله فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة واسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتك إلى بنوة النبوة واتخذ أمير المؤمنين للفوز سبيلاً ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً‏.‏ ثم ركب أسد الدين إلى دار الوزارة التي كان فيها شاور وجلس مجلس الأمر والنهي وولى على الأعمال وأقطع البلاد للعساكر وأمن أهل مصر بالرجوع إلى بلادهم ورمها وعمارتها‏.‏ وكاتب نور الدين بالواقع مفصلاً وانتصب للأمور‏.‏ ثم دخل للعاضد وخطب الأستاذ جوهر الخصي عنه وهو يومئذ أكبر الأساتيذ فقال يقول لك مولانا نؤثر مقامك عندنا من أول قدومك وأنت تعلم الواقع من ذلك وقد تيقنا أن الله عز وجل ادخرك لنا نصرة على أعدائنا فحلف له أسد الدين على النصيحة وإظهار الدولة‏.‏ فقال الأستاذ عن العاضد الأمر بيدك هذا وأكثر‏.‏ ثم جددت الخلع واستخلص أسد الدين الجليس عبد القوي‏.‏ وكان قاضي القضاة وداعي الدعاة واستحسنه واختصه‏.‏ وأما الكامل بن شاور فدخل القصر مع أخوته معتصمين به وكان آخر العهد به وأسف أسد الدين عليه لما كان منه في رد أبيه وذهب كل بما كسب والله تعالى أعلم‏.‏

 وفاة أسد الدين وولاية ابن أخيه صلاح الدين

ثم توفي أسد الدين شيركوه آخر جمادى الأخيرة من سنة أربع وسنتين لشهرين من وزارته‏.‏ ولما احتضر أوصى أحد حواشيه بهاء الدين قراقوش فقال له الحمد لله الذي بلغنا من هذه الديار ما أردنا وصار أهلها راضين عنا فلا تفارقوا سور القاهرة ولا تفرطوا في الأسطول ولما توفي تشوف الأمراء الذين معه إلى رتبة الوزارة مكانه مثل عز الدولة الباروقي وشرف الدين المشطوب الهكاري وقطب الدين نيال بن حسان المنبجي وشهاب الدين الحارمي وهو خال صلاح الدين وجمع كل لمغالبة صاحبه‏.‏ وكان أهل القصر وخواص الدولة قد تشاوروا فأشار جوهر بإخلاء رتبة الوزارة واصطفاء ثلاثة آلاف من عسكر الغز يقودهم قراقوش ويعطي لهم الشرقية إقطاعاً ينزلون بها حشداً دون الإفرنج من يستبد على الخليفة بل يقيم واسطه بينه وبين الناس على العادة‏.‏ وأشار آخرون بإقامة صلاح الدين مقام عمه والناس تبع له ومال القاضي لذلك حياء من صلاح الدين وجنوحاً إلى صغر سنه وأنه لا يتوهم فيه من الاستبداد ما يتوهم في غيره من أصحابه وأنهم في سعة من رأيهم مع ولايته فاستدعاه وخلع عليه ولقبه الملك الناصر‏.‏ واختلف عليه أصحابه فلم يطيعوه وكان عيسى الهكاري شيعة له واستمالهم إليه إلا الباروقي فإنه امتنع وعاد إلى نور الدين بالشام وثبتت قدم صلاح الدين في مصر وكان نائباً عن نور الدين ونور الدين يكاتبه بالأمير الاسفهسار ويجمعه في الخطاب مع كافة الأمراء بالديار المصرية‏.‏ وما زال صلاح الدين يحسن المباشرة ويستميل الناس ويفيض العطاء حتى غلب على أفئدة الناس وضعف أمر العاضد‏.‏ ثم أرسل يطلب أخوته وأهله من نور الدين فبعث بهم إليه من الشام‏.‏ واستقامت أموره واطردت سعادته والله تعالى ولي التوفيق‏.‏

 واقعة السودان بمصر

كان بقصر العاضد خصي حاكم على أهل القصر يدعى مؤتمن الخلافة فلما غص أهل الدولة بوزارة صلاح الدين داخل جماعة منهم وكاتب الإفرنج يستدعيهم ليبرز صلاح الدين لمدافعتهم فيثوروا بمخلفه‏.‏ ثم يتبعونه وقد ناشب الإفرنج فيأتون عليه‏.‏ وبعثوا الكتاب مع ذي طمرين حمله في نعاله فاعترضه بعض التركمان واستلبه ورأوا النعال جديدة فاسترابوا بها فجاؤوا به إلى صلاح الدين فقرأ الكتاب ودخل على كاتبه فأخبره بحقيقة الأمر فطوى ذلك‏.‏ وانتظر مؤتمن الخلافة حتى خرج إلى بعض قراه متنزهاً وبعث من جاء برأسه ومنع الخصيان بالقصر عن ولاية أموره وقدم عليهم بهاء الدين قراقوش خصياً أبيض من خدمه وجعل إليه جميع الأمور بالقصر وامتعض السودان بمصر لمؤتمن الخلافة‏.‏ واجتمعوا لحرب صلاح الدين‏.‏ وبلغوا خمسة آلاف وناجزوا عسكره من القصر في ذي القعدة من السنة‏.‏ وبعث إلى محلتهم بالمنصورة من أحرقها على أهليهم وأولادهم‏.‏ فلما سمعوا بذلك انهزموا وأخذهم السيف في السكك فاستأمنوا وعبروا إلى الجيزة فسار إليهم شمس الدولة أخو صلاح الدين في طائفة من العسكر فاستلحمهم وأبادهم والله أعلم‏.‏ منازلة الإفرنج دمياط وفتح إيلة ولما استولى صلاح الدين على دولة مصر وقد كان الإفرنج أسفوا على ما فاتهم من صده وصد عمه عن مصر وتوقعوا الهلاك من استطالة نور الدين عليهم بملك مصر فبعثوا الرهبان والأقسة إلى بلاد القرآنية يدعونهم إلى المدافعة عن بيت المقدس وكاتبوا الإفرنج بصقلية والأندلس يستنجدونهم فنفروا واستعدوا لامدادهم‏.‏ واجتمع الذين بسواحل الشام في فاتح خمس وستين وثلاثمائة وركبوا في ألف من الأساطيل وأرسلوا لدمياط ليملكوها ويقربوا من مصر‏.‏ وكان صلاح الدين قد ولاها شمس الخواص منكبرس فبعث إليه بالخبر فجهز إليها بهاء الدين قراقوش وأمراء الغز في البر متتابعين وواصل المراكب بالأسلحة والإتاوات وخاطب نور الدين يستمده لدمياط لأنه لا يقدر على المسير إليها خشية من أهل الدولة بمصر فبعث نور الدين إليها العساكر أرسالاً‏.‏ ثم سار بنفسه وخالف الإفرنج إلى بلادهم بسواحل الشام فاستباحها وخربها‏.‏ وبلغهم الخبر بذلك على دمياط وقد امتنعت عليهم ووقع فيهم الموتان فأقلعوا عنها لخمسين يوماً من حصارها‏.‏ ورجع أهل سواحل الشام لبلادهم فوجدوها خراباً‏.‏ وكان جملة ما بعثه نور الدين في المدد لصلاح الدين في شأن دمياط هذه ألف ألف دينار سوى الثياب والأسلحة وغيرها‏.‏ ثم أرسل صلاح الدين إلى نور الدين في منتصف السنة يستدعي منه أباه نجم الدين أيوب فجهزه إليه مع عسكر واجتمع معهم من التجار جماعة‏.‏ وخشي عليهم نور الدين في طريقهم من الإفرنج الذين بالكرك فسار إلى الكرك وحاصرهم بها‏.‏ وجمع الإفرنج الآخرون فصمد للقائهم فخاموا عنه وسار في وسط بلادهم وسار إلى عشيرا ووصل نجم الدين أيوب إلى مصر وركب العاضد لتلقيه‏.‏ ثم سار صلاح الدين سنة ست وستين لغزو بلاد الإفرنج وأغار على أعمال عسقلان والرملة‏.‏ ونهب نزول غزة ولقي ملك الإفرنج فهزمه وعاد إلى مصر‏.‏ ثم أنشأ مراكب وحملها مفضلة على الجمال إلى أيلة فألفها وألقاها في البحر وحاصر أيلة براً وبحراً وفتحها عنوة في شهر ربيع من السنة واستباحها وعاد إلى مصر فعزل قضاة الشيعة وأقام قاضياً شافعياً فيها‏.‏ وولى في جميع البلاد كذلك‏.‏ ثم بعث أخاه شمس الدولة توران شاه إلى الصعيد فأغار على العرب وكانوا قد عاثوا وأفسدوا فكفهم عن ذلك والله تعالى أعلم‏.‏

 الخطبة العباسية بمصر

إقامة الخطبة العباسية بمصر ثم كتب نور الدين بإقامة الخطبة للمستضيئ العباسي وترك الخطبة للعاضد بمصر فاعتذر عن ذلك بميل أهل مصر للعلويين وفي باطن الأمر خشي من نور الدين فلم يقبل نور الدين عذره في ذلك ولم تسعه مخالفته وأحجم عن القيام بذلك‏.‏ ورد على صلاح الدين شخص من علماء الأعاجم يعرف بالخبشاني ويلقب بالأمير العالم فلما رآهم ومحجمين عن ذلك صعد المنبر يوم الجمعة قبل الخطيب ودعا للمستضيئ فلما كانت الجمعة القابلة أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد والخطبة للمستضيئ فتراسلوا بذلك ثاني جمعة من المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة‏.‏ وكان المستضيئ قد ولي الخلافة بعد أبيه المستنجد في ربيع من السنة قبلها‏.‏ ولما خطب له بمصر كان العاضد مريضاً فلم يشعروه بذلك‏.‏ وتوفي يوم عاشوراء من السنة‏.‏ ولما خطب له على منابر مصر جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصره ووكل به بهاء الدين قراقوش وكان ذلك من الذخائر ما يعز وجوده‏.‏ مثل حبل الياقوت الذي وزن كل حصاة منه سبعة عشر مثقالاً ومصاف الزمرد الذي طوله أربعة أصابع طولاً في عرض ومثل طبل القولنج الذي يضربه ضاربه فيعافى بذلك من داء القولنج وكسروه لما وجدوا ذلك منه فلما ذكرت لهم منفعته ندموا عليه ووجدوا من الكتب النفيسة ما لا يعد‏.‏ ونقل أهل العاضد إلى بعض حجر القصر ووكل بهم وأخرج الإماء والعبيد وقسمهم بين البيع والهبة والعتق‏.‏ وكان العاضد لما اشتد مرضه استدعاه فلم يجب داعيه وظنها خديعة فلما توفي ندم وكان يصفه بالكرم ولين الجانب وغلبة الخير على طبعه والانقياد‏.‏ ولما وصل الخبر إلى بغداد أياماً للمستضيئ ضربت البشائر وزينت بغداد أياماً وبعثت الخلع لنور الدين وصلاح الدين مع صندل الخادم من خواص المقتفي فوصل إلى نور الدين وبعث بخلعة صلاح الدين وخلع الخطباء بمصر والأعلام السود والله تعالى أعلم‏.‏ الوحشة بين صلاح الدين ونور الدين قد كان تقدم لنا ذكر هذه الوحشة في أخبار نور الدين مستوفاة وأن صلاح الدين غزا بلاد الإفرنج سنة سبع وستين وحاصر حصن الشوبك على مرحلة من الكرك حتى استأمنوا إليه فبلغ ذلك نور الدين فاعتزم على قصد بلاد الإفرنج من ناحية أخرى فارتاب صلاح الدين في أمره وفي لقاء نور الدين وإظهار طاعته وما ينشأ عن ذلك من تحكمه فيه فأسرع العود إلى مصر واعتذر لنور الدين بشيء بلغه عن شيعة العلويين ليعتز له نور الدين وأخذ في الاستعداد لعزله‏.‏ وبلغ ذلك صلاح الدين وأصحابه فتفاوضوا في مدافعته ونهاهم أبوه نجم الدين أيوب وأشار بمكاتبته والتلطف له مخافة أن يبلغه غير ذلك فيقوى عزمه على العمل به ففعل ذلك صلاح الدين فسالمه نور الدين‏.‏ وعادت المخالطة بينهما كما كانت واتفقا على اجتماعهما لحصار الكرك فسار صلاح الدين لذلك سنة ثمان وستين وخرج نور الدين من دمشق بعد تجهز‏.‏ فلما انتهى إلى الرقيم على مرحلتين من الكرك وبلغ صلاح الدين خبره ارتابه ثانياً وجاءه الخبر بمرض نجم الدين أبيه بمصر فكر راجعاً وأرسل إلى نور الدين الفقيه عيسى الهكاري بما وقع من حديث المرض بأبيه وأنه رجع من أجله فأظهر نور الدين القبول وعاد إلى دمشق والله تعالى أعلم‏.‏

 وفاة نجم الدين أيوب

كان نجم الدين أيوب بعد انصرف ابنه صلاح الدين إلى مصر أقام بدمشق عند نور الدين ثم بعث عنه ابنه صلاح الدين عندما استوثق له ملك مصر فجهزه نور الدين سنة خمس وستين في عسكره‏.‏ وسار لحصار الكرك ليشغل الإفرنج عن اعتراضه كما مر ذكره‏.‏ ووصل إلى مصر وخرج العاضد لتلقيه وأقام مكرماً‏.‏ ثم سار صلاح الدين إلى الكرك سنة ثمان وستين المرة الثانية في مواعدة نور الدين وأقام نجم الدين بمصر وركب يوماً في مركب وسار ظاهر البلد والفرس في غلواء مراحه وملاعبة ظله فسقط عنه وحمل وقيذاً إلى بيته فهلك لأيام منها آخر ذي الحجة من السنة‏.‏ وكان خيراً جواداً محسناً للعلماء والفقراء ومد تقدم ذكر أوليته والله ولي التوفيق‏.‏

  استيلاء قراقوش على طرابلس الغرب

كان قراقوش من موالي تقي الدين عمر بن شاه بن نجم الدين أيوب وهو ابن أخي صلاح الدين فغضب مولاه في بعض النزعات وذهب مغاضباً إلى المغرب ولحق بجبل نفوسة من ضواحي طرابلس الغرب‏.‏ وأقام هنالك دعوة مواليه وكان في بسائط‏.‏ تلك الجبال مسعود بن زمام المعروف بالبلط في أحيائه من رياح من عرب هلال ابن عامر وكان منحرفاً عن طاعة عبد المؤمن شيخ الموحدين وخليفة المهدي فيهم فانتبذ مسعود بقومه عن المغرب وإفريقية إلى تلك القاصية فدعاه قراقوش إلى إظهار دعوة مواليه بني أيوب فأجابه ونزل معه بإحيائه على طرابلس فحاصرها قراقوش وافتتحها ونزل بأهله وعياله في قصرها‏.‏ ثم استولى على قابس من ورائها وعلى توزر ونفطة وبلاد نفزاوة من إفريقية وجمع أموالاً جمة وجعل ذخيرته بمدينة قابس وخربت تلك البلاد أثناء ذلك باستيلاء العرب عليها‏.‏ ولم يكن لهم قدرة على منعهم‏.‏ ثم طمع في الاستيلاء على جميع إفريقية ووصل يده بيحيى بن غانية اللمتوني الثائر بتلك الناحية بدعوة لمتونة من بقية الأمراء في دولتهم‏.‏ فكانت لهما بتلك الناحية آثار مذكورة في أخبار دولة الموحدين إلى أن غلبه ابن غانية على ما ملك من تلك البلاد وقتله كما هو مذكور في أخبارهم والله أعلم‏.‏

  استيلاء نور الدين توران شاه بن أيوب على بلاد النوبة ثم على بلاد اليمن

كان صلاح الدين وقومه على كثرة ارتيابهم من نور الدين وظنهم به الظنون يحاولون ملك القاصية عن مصر ليمتنعوا بها إن طرقهم منه حادث أو عزم على المسير إليهم في مصر فصرفوا عزمهم في ذلك إلى بلاد النوبة أو بلاد اليمن‏.‏ وتجهز شمس الدولة توران شاه بن أيوب وهو أخو صلاح الدين الأكبر إلى ملك النوبة‏.‏ وسار إليها في العساكر سنة ثمان وستين وحاصر قلعة من ثغورهم ففتحها واختبرها فلم يجد فيها خرجاً ولا في البلاد بأسرها جباية‏.‏ وأقواتهم الذرة وهم في شظف من العيش ومعاناة للفتن‏.‏ فاقتصر على ما فتحه من ثغورهم وعاد في غنيته بالعبيد والجواري‏.‏ فلما وصل إلى مصر أقام بها قليلاً وبعثه صلاح الدين إلى اليمن وقد كان غلب عليه علي بن مهدي الخارجي سنة أربع وخمسين وصار أمره إلى ابنه عبد النبي وكرسي ملكه زبيد منها‏.‏ وفي عدد ياسر بن بلال بقية ملوك بني الربيع‏.‏ وكان عمارة اليمني الشاعر العبيدي وصاحب بني رزيك من أمرائهم وكان أصله من اليمن‏.‏ وكان في خدمة شمس الدولة ويغريه به فسار إليه شمس الدولة بعد أن تجهز وأزاح العلل واستعد للمال والعيال‏.‏ وسار من مصر منتصف سنة تسع وستين ومر بمكة وانتهى إلى زبيد‏.‏ وبها ملك اليمن عبد النبي بن علي بن مهدي فبرز إليه وقاتله فانهزم وانحجر بالبلد‏.‏ وزحفت عساكر شمس الدولة فتسلموا أسوارها وملكوها عنوة واستباحوها وأسروا عبد النبي وزوجته‏.‏ وولى شمس الدولة على زبيد مبارك بن كامل ابن منقذ من أمراء شيزر كان في جملته ودفع إليه عبد النبي ليستخلص منه الأموال فاستخرج من قربته دفائن كانت فيها أموال جليلة‏.‏ ودلتهم زوجته الحرة على ودائع استولوا منها على أموال جمة‏.‏ وأقيمت الخطبة العباسية في زبيد وسار شمس الدولة توران شاه إلى عدن وبها ياسر بن بلال كان أبوه بلال بن جرير مستبداً بها على مواليه بني الزريع وورثها عنه ابنه ياسر فسار ياسر للقائه فهزمه شمس الدولة وسارت عساكره إلى البلد فملكوها وجاؤوا بياسر أسيراً إلى شمس الدولة فدخل عدن وعبد النبي معه في الاعتقال واستولى على نواحيها وعاد إلى زبيد‏.‏ ثم سار إلى حصون الجبال فملك تعز وهي من أحصن القلاع وحصن التعكر والجند وغيرها من المعاقل والحصون‏.‏ وولى على عدن عز الدولة عثمان بن الزنجبيلي واتخذ زبيد سبباً لملكه‏.‏ ثم استوخمها وسار في الجبال ومعه الأطباء يتخير مكاناً صحيح الهواء للسكنى فوقع اختيارهم على تعز فاختط هنالك مدينة واتخذها كرسياً لملكه‏.‏ وبقيت لبنيه ومواليهم بني رسول كما نذكره في أخبارهم والله تعالى ولي التوفيق‏.‏

 واقعة عمارة ومقتله

كان جماعة من شيعة العلويين بمصر منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر وعبد الكاتب والقاضي العويدس وابن كامل وداعي الدعاة وجماعة من الجند وحاشية القصر اتفقوا على استدعاء الإفرنج من صقلية وسواحل الشام وبذلوا لهم الأموال على أن يقصدوا مصر‏.‏ فإن خرج صلاح الدين للقائهم بالعساكر ثار هؤلاء بالقاهرة وأعادوا الدولة العبيدية‏.‏ وإلا فلا بد له إن أقام من بعث عساكره لمدافعة الإفرنج فينفردون به ويقبضون عليه‏.‏ وواطأهم على ذلك جماعة من أمراء صلاح الدين وتحينوا لذلك غيبة أخيه توران شاه باليمن وثقوا بأنفسهم وصدقوا توهماتهم ورتبوا وظائف الدولة وخططها‏.‏ وتنازع في الوزارة بنو رزيك وبنو شاور‏.‏ وكان علي بن نجي الواعظ ممن داخلهم في ذلك فأطلع صلاح الدين هو في الباطن إليهم‏.‏ ونمي الخبر إلى صلاح الدين من عيونه ببلاد الإفرنج فوضع على الرسول عنده عيوناً جاؤوه بجلية خبره فقبض حينئذ عليهم‏.‏ وقيل إن علي بن نجي أنمى خبرهم إلى القاضي فأوصله إلى صلاح الدين‏.‏ ولما قبض عليهم صلاح الدين أمر بصلبهم ومر عمارة ببيت القاضي وطلب لقاءه فلم يسعفه وأنشد البيت المشهور عبد الرحيم قد احتجب إن الخلاص هو العجب ثم صلبوا جميعاً ونودي في شيعة العلويين بالخروج عن ديار مصر إلى الصعيد واحتيط على سلالة العاضد بالقصر وجاء الإفرنج بعد ذلك من صقليه إلى الإسكندرية كما يأتي خبره إن شاء الله تعالى والله أعلم‏.‏ وصول الإفرنج من صقليه إلى الإسكندرية لما وصلت رسل هؤلاء الشيعة إلى الإفرنج بصقلية تجهزوا وبعثوا مراكبهم مائتي أسطول للمقاتلة فيها خمسون ألف رجل وألفان وخمسمائة فارس وثلاثون مركباً للخيول وستة مراكب لآلة المحرب وأربعون للأزواد‏.‏ وتقدم عليهم ابن عم الملك صاحب صقلية ووصلوا إلى ساحل الإسكندرية سنة سبعين‏.‏ وركب أهل البلد الأسوار وقاتلهم الإفرنج ونصبوا الآلات عليها‏.‏ وطار الخبر إلى صلاح الدين بمصر ووصلت الأمراء إلى الإسكندرية من كل جانب من نواحيها‏.‏ وخرجوا في اليوم الثالث فقاتلوا الإفرنج فظفروا عليهم‏.‏ ثم جاءهم البشير آخر النهار بمجيء صلاح الدين فاهتاجوا للحرب وخرجوا عند اختلاط الظلام فكبسوا الإفرنج في خيامهم بالسواحل وتبادروا إلى ركوب البحر فتقسموا بين القتل والغرق ولم ينج إلا القليل واعتصم منهم نحو من ثلاثمائة برأس رابية هنالك إلى أن أصبحوا فقتل بعضهم وأسر الباقون وأقلعوا بأساطيلهم راجعين والله تعالى أعلم‏.‏ واقعة كنز الدولة بالصعيد كان أمير العرب بنواحي أسوان يلقب كنز الدولة وكان شيعة للعلوية بمصر وطالت أيامه واشتهر‏.‏ ولما ملك صلاح الدين قسم الصعيد إقطاعاً بين أمرائه‏.‏ وكان أخو أبي الهيجاء السمين من أمرائه واقطاعه في نواحيهم فعصى كنز الدولة سنة سبعين واجتمع إليه العرب والسودان‏.‏ وهجم على أخي أبي الهيجاء السمين في إقطاعه فقتله‏.‏ وكان أبو الهيجاء من أكبر الأمراء فبعثه صلاح الدين لقتال الكنز وبعث معه جماعة من الأمراء والتف له الجند فساروا إلى أسوان ومروا بالصعيد فحاصروا بها جماعة وظفروا بهم فاستلحموهم‏.‏ ثم ساروا إلى الكنز فقاتلوه

  استيلاء صلاح الدين على قواعد الشام بعد وفاة العادل نور الدين

كان صلاح الدين كما قدمناه قائماً في مصر بطاعه العادل نور الدين محمود بن زنكي‏.‏ ولما توفي سنة تسع وستين ونصب ابنه الصالح إسماعيل في كفالة شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم وبعث إليه صلاح الدين بطاعتيه ونقم عليهم أنهم لم يردوا الأمر إليه‏.‏ وسار غازي صاحب الموصل بن قطب الدين مودود بن زنكي إلى بلاد نور الدين التي بالجزيرة وهي نصيبين والخابور وحران والرها والرقة فملكها‏.‏ ونقم عليه صلاح الدين أنهم لم يخبروه حتى يدافعه عن بلادهم‏.‏ وكان الخادم سعد الدين كمستكين الذي ولاه نور الدين قلعة الموصل وأمر سيف الدين غازي بمطالعته بأموره قد لحق عند وفاة نور الدين بحلب وأقام بها عند شمس الدين علي بن الداية المستبد بها بعد نور الدين فبعثه ابن الداية إلى دمشق في عسكر ليجيء بالملك الصالح إلى حلب لمدافعة سيف الدين غازي فنكروه أولاً وطردوه‏.‏ ثم رجعوا إلى هذا الرأي وبعثوا عنه فسار مع الملك الصالح إلى حلب ولحين دخوله قبض على ابن الداية وعلى مقدمي حلب واستبد بكفالة الصالح وخاف الأمراء بدمشق وبعثوا إلى سيف الدين غازي ليملكوه فظنها مكيدة من ابن عمه‏.‏ وامتنع عليهم وصالح ابن عمه على ما أخذ من البلاد فبعث أمراء دمشق إلى صلاح الدين وتولى كبر ذلك ابن المقدم فبادر إلى الشام وملك بصرى‏.‏ ثم سار إلى دمشق فدخلها في منسلخ ربيع سنة سبعين وخمسمائة‏.‏ ونزل دار أبيه المعروفة بالعفيفي وبعث القاضي كمال الدين ابن الشهرزوري إلى ريحان الخادم بالقلعة أنه على طاعة الملك الصالح وفي خدمته وما جاء إلا لنصرته فسلم إليه القلعة وملكها‏.‏ واستخلف على دمشق أخاه سيف الإسلام طغركين وسار إلى حمص وبها وال من قبل الأمير مسعود الزعفراني‏.‏ وكانت من أعماله فقاتلها وملكها وجمر عسكراً لقتال قلعتها‏.‏ وساو إلى حماة مظهراً لطاعة الملك الصالح وارتجاع ما أخذ من بلاده بالجزيرة‏.‏ وبعث بذلك إلى صاحب قلعتها خرديك واستخلفه‏.‏ وسار إلى الملك الصالح ليجمع الكلمة ويطلق أولاد الداية‏.‏ واستخلف على قلعة حماة أخاه‏.‏ ولما وصل إلى حلب حبسه كمستكين الخادم ووصل الخبر إلى أخيه بقلعة حماة فسلمها لصلاح الدين‏.‏ وسار إلى حلب فحاصرها ثالث جمادى الأخيرة واستمات أهلها في المدافعة عن الصالح‏.‏ وكان بحلب سمند صاحب طرابلس من الإفرنج محبوساً منذ أسره نور الدين على حارم سنة تسع وخمسين فأطلقه كمستكين على مال وأسرى ببلده‏.‏ وتوفي نور الدين أول السنة وخلف ابناً مجذوماً فكفله سمند واستولى على ملكهم‏.‏ فلما حاصر صلاح الدين حلب بعث كمستكين إلى سمند يستنجده فسار إلى حمص ونازلها فسار إليه صلاح الدين وترك حلب‏.‏ وسمع الإفرنج بمسيره فرحلوا عن حمص ووصل هو إليها عاشر رجب فحاصر قلعتها وملكها آخر شعبان من السنة‏.‏ ثم سار إلى بعلبك وبها يمن الخادم من أيام نور الدين فحاصره حتى استأمن إليه وملكها رابع رمضان من السنة وصار بيده من الشام دمشق وحماة وبعلبك‏.‏ ولما استولى صلاح الدين على هذه البلاد من أعمال الملك الصالح كتب الصالح إلى ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده على صلاح الدين فأنجده بعساكره مع أخيه عز الدين مسعود وصاحب جيشه عز الدين زلقندار‏.‏ وسارت معهم عساكر حلب وساروا جميعاً لمحاربة صلاح الدين‏.‏ وبعث صلاح الدين إلى سيف الدين غازي أن يسلم لهم حمص وحماة ويبقى بدمشق نائباً عن الصالح فأبى إلا رد جميعها فسار صلاح الدين إلى العساكر ولقيهم آخر رمضان بنواحي حماة فهزمهم وغنم ما معهم‏.‏ واتبعهم إلى حلب وحاصرها ورحل عن حلب لعشرين من شوال‏.‏ وعاد إلى حماة وكان فخر الدين مسعود بن الزعفراني من الأمراء النورية وكانت ماردين من أعماله مع حمص وحماة وسلمية وتل خالد والرها‏.‏ فلما ملك أقطاعه هذه اتصل به فلم ير نفسه عنده كما ظن ففارقه‏.‏ فلما عاد صلاح الدين من حصار حلب إلى حماة سار إلى بعلبك واستأمن إليه وإليها فملكها وعاد إلى حماة فأقطها خاله شهاب الدين محمود وأقطع حمص ناصر الدولة بن شيركوه وأقطع بعلبك شمس الدين بن المقدم ودمشق إلى عماد والله تعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه‏.‏ واقعة صلاح الدين مع الملك الصالح وصاحب الموصل وما ملك من الشام بعد انهزامهما ثم سار سيف الدين غازي صاحب الموصل في سنة إحدى وسبعين بعد انهزام أخيه وعساكره واستقدم صاحب كيفا وصاحب ماردين وسار في ستة آلاف فارس إلى نصيبين في ربيع من السنة فشتى بها حتى ضجرت العساكر من طول المقام‏.‏ وسار إلى حلب فخرجت إليه عساكر الملك الصالح مع كمستكين الخادم وسار صلاح الدين من دمشق للقائهم فلقيهم قبل السلطان فهزمهم واتبعهم إلى حلب‏.‏ وعبر سيف الدين الفرات منهزماً إلى الموصل وترك أخاه عز الدين بحلب‏.‏ واستولى صلاح الدين على مخلفهم وسار إلى مراغة فملكها وولي عليها‏.‏ ثم إلى منبج وبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي وكان حنقاً عليه لقبح آثاره في عداوته فلحق بالموصل وولاه غازي مدينة الرقة‏.‏ ثم سار صلاح الدين إلى قلعة أعزاز فحاصرها أوائل ذي القعدة من السنة أربعين يوماً وشد حصارها فاستأمنوا إليه فملكها ثاني الأضحى من السنة‏.‏ وثب عليه في بعض أيام حصارها باطني من الفداوية فضربه وكان مسلحاً فأمسك يد الفداوية حتى قتل وقتل جماعة كانوا معه لذلك ورحل صلاح الدين بعد الاستيلاء على قلعة إعزاز إلى حلب فحاصرها وبها الملك الصالح‏.‏ واعصوصب عليه أهل البلد واستماتوا في المدافعة عنه‏.‏ ثم ترددت الرسل في الصلح بينهما وبين صاحب الموصل وكيفا وصاحب ماردين فانعقد‏.‏ بينهم في محرم سنة اثنتين وتسعين وعاد صلاح الدين إلى دمشق بعد أن رد قلعة إعزاز إلى الملك الصالح بوسيلة أخته الصغيرة خرجت إلى صلاح الدين ثائرة فاستوهبته قلعة إعزاز فوهبها لها والله تعالى أعلم‏.‏