فصل: الخبر عن القبط وأولية ملكهم ودولهم وتصاريف أحوالهم والإلمام بنسبهم هذه الأمة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الخبر عن القبط وأولية ملكهم ودولهم وتصاريف أحوالهم والإلمام بنسبهم هذه الأمة

أقدم أمم العالم وأطولهم أمدا في الملك واختصوا بملك مصر وما إليها ملوكها من لدن الخليقة إلى أن صبحهم الإسلام بها فانتزعها المسلمون من أيديهم‏.‏ ولعدههم كان الفتح وربما غلب عليهم جميع ما عاصرهم من الأمم حين يستفحل أمرهم مثل العمالقة والفرس والروم واليونان فيستولون على مصر من أيديهم‏.‏ ثم يتقلص ظلهم فراجع القبط ملكهم هكذا إلى أن انقرضوا في مملكة الإسلام‏.‏ وكانوا يسمون الفراعنة سمة لملوك مصر في اللغة القديمة‏.‏ ثم تغيرت اللغة وبقي هذا الاسم مجهول المعنى كما تغيرت الحميرية إلى المضرية والسريانية إلى الرومية‏.‏ ونسبهم في المشهور إلى حام بن نوح‏.‏ وعند المسعودي إلى بنصر بن حام‏.‏ وليس في التوراة ذكر لبنصر بن حام وإنما ذكر مصرايم وكوش وكنعان وقوط‏.‏ وقال السهيلي‏:‏ إنهم من ولد كنعان بن حام لأنه لما نسب مصر قال فيه‏:‏ مصر بن النبيط أو ابن قبط بن النبيط من ولد كوش بن كنعان‏.‏ وقال أهروشيوش‏:‏ أن القبط من ولد قبط بن لايق بن مصر‏.‏ وعند الإسرائليين أنهم من قوط ابن حام وعند بعضهم أنهم من كفتوريم قبطقايين ومعناه القبط‏.‏ وقال المسعودي‏:‏ اختص بنصر بن حام أيام النمروذ ابن أخيه كنعان بولاية أرض مصر واستبد بها وأوصى بالملك لابنه مصر فاستفحل ملكه ما بين أسوان واليمن والعريش وأيلية وفرسية فسميت كلها أرض مصر نسبة إليه وفي قبليها النوبة وفي شرقيها الشام وفي شمالها بحر الزقاق وفي غربها برقة والنيل من دونها‏.‏ وطال عمر مصر وكبر ولده وأوصى بالملك لأكبرهم وهو قبط بن مصر أبو الأقباط فطال أمد ملكه وكان له بنون أربع‏:‏ قبط بن مصر وأن مصر هو الذي قسم الأرض وعهد إلى أكبرهم بالملك وهو قبط فغلب عليهم فأضيفوا إليه لمكان الملك والسن‏.‏ وملك بعد قبط بن مصر أشمون بن مصر ثم من بعده صاثم أخوهما أتريب‏.‏ ثم عد ملوكا بأسماء أعجمية بعيدة عن الضبط لعجمتها وفساد الأصول التي بين أيدينا من كتبته‏.‏ ثم لما ذكر ستة منهم بعد أتريب قال‏:‏ فكثر ولد بنصر بن حام وتشاغبوا وملك عليهم النساء فسار إليهم ملك الشام من العمالقة الوليد بن دومع فملكهم وانقادوا إليه‏.‏ وأما ابن سعيد فيما نقل من كتب المشارقة فقال‏:‏ ملك مصر ابنه قبط ثم من بعده أخوه أتريب‏.‏ قال‏:‏ وفي أيام قبط زحف شداد بن مداد بن شداد بن عاد إلى مصر وغلب على أسافلها ومات قبط في حروبه‏.‏ ثم جمع أتريب قومه واستظهر بالبربر والسودان على العرب حتى أخرجهم إلى الشام واستبد أتريب بملك مصر وبنى المدينة المنسوبة إليه ومدينة عين شمس وملك بعده ابن أخيه البودشير بن قبط وهو الذي بعث هرمساً المصري إلى جبل القمر حتى ركب جرية النيل من هنالك‏.‏ وعدل البطيحة الكبرى التي تنصب إليها عيون النيل‏.‏ وعمر بلاد الواحات وحول إليها جمعا من أهل بيته‏.‏ ثم ملك من بعده عديم بن البودشير ثم ابنه شدات بن عديم ثم ابنه منذوش بن شدات وجدد مدينة عين شمس وكان لهم في السحر آثار عجيبة‏.‏ ثم ملك بعده ابنه مقناوش بن مقناوش وعبد البقر وصورها من الذهب‏.‏ ثم هلك وخلف ابنه مرقيش فغلب عليه عمه أشمون بن قبط وبنى مدينة الأشمون‏.‏ وملك بعد ابنه أشاد بن أشمون ثم من بعده عمه صا بن قبط وبنى مدينة باسمه‏.‏ وملك بعده ابنه ندراس وكان حكيماً وهو الذي بنى هيكل الزهرة الذي هدمه بختنصر‏.‏ وملك بعده ابنه ماليق بن ندراس فرفض الصابئة ودان بالتوحيد ودوخ بلاد البربر والأندلس وحارب الإفرنج‏.‏ وملك بعده ابنه حربيا بن ماليق فرجع عن التوحيد إلى الصابئة وغزا بلاد الهند والسودان والشام‏.‏ وملك بعده ابنه كلكي بن حربيا وهو الذي تسميه القبط حكيم الملوك واتخذ هيكل زحل وعهد إلى أخيه ماليا بن حربيا واشتغل باللهو فقتله ابنه خرطيش وكان سفاكا للدماء‏.‏ والقبط تزعم أنه فرعون الخليل عليه السلام وأنه أول الفراعنة‏.‏ ولما تعدى بالقتل إلى أقاربه سمته ابنته حوريا وملكت القبط من بعده فنازعها أبراحس من ولد عمها أتريب وحاربته فكان لها الغلب‏.‏ وانهزم أبراحس إلى الشام فاستظهر بالكنعانين وبعث ملكهم قائده جيرون فلما قرب مصر استقبلته حوريا وأطمعته في زواجها على أن يقتل أبراحس ويبني مدينة الإسكندرية ففعل ثم قتلته آخرا مسموما‏.‏ واستقام لها الأمر وبنت منارة الإسكندرية وعهده بأمرها لدليقية ابنة عمها باقوم فخرج عليها أيمن من نسل أتريب طالبا بثأر قريبه أبراحس ولحق بملك العمالقة يومئذ وهو الوليد بن دومع الذي ذكرناه عند ذكر العمالقة فاستنصر به وجاء معه وملك ديار مصر‏.‏ واستبد بالقبط نقراوس فاشتغل باللذات واستكفى من بنيه أطفير وهو العزيز فكفاه وقام بأمره ودبر ليوسف الفيوم بالوحي والهندسة وكانت أرضها مغايض للماء فأخرجه وعمر القرى مكانه على عدد أيام السنة فجعله على خزائنه‏.‏ وملك بعده دارم بن الريان وسمته القبط ويموص‏.‏ وكان يوسف مدبر أمره بوصية أبيه‏.‏ ومات لعهده فأساء السيرة وهلك غريقا في النيل‏.‏ وملك بعده ابنه معدانوس بن دارم فترهب واستخلف ابنه كاشم فاستعبد بني إسرائيل للقبط وقتله حاجبه ونصب بعده ابنه لاطش فاشتغل باللهو فخلعه ونصب آخر من نسل ندراس اسمه لهوب فتجبر وتذكر القبط أنه فرعون موسى عليه السلام‏.‏ وأهل الأثر يقولون‏:‏ إنه الوليد بن مصعب وأنه كان نجارا تقلب حاله إلى عرافة الحرس ثم تطور إلى الوزارة ثم إلى الاستبداد‏.‏ وهذا بعيد لما قدمناه في الكتاب الأول‏.‏ وقال المسعودي‏:‏ بل كان فرعون موسى من الأقباط‏.‏ ثم هلك فرعون موسى وخشي القبط من ملوك الشام فملكوا عليهم دلوكة من بيت الملك وهي التي بنت الحائط على أرض مصر ويعرف بحائط العجوز لأنها طال عمرها حتى كبرت واتخذت البرابي ومقاييس النيل‏.‏ ثم سمى المسعودي من بعد دلوكة ثمانية من ملوكهم على ذلك النحو من عجمة الأسماء‏.‏ وقال في الثامن أنه فرعون الأعرج الذي اعتصم به بنو إسرائيل من بختنصر فدخل عليه مصر وقتله وهدم هياكل الصابئة ووضع بيوت النيران له ولولده‏.‏ وذكر في تواريخهم قال‏:‏ قال ابن عبد الحكيم‏:‏ وهذه العجوز دلوكة هي التي جددت البرابي بمصر أرسلت إلى امرأة ساحرة كانت لعهدها اسمها ترورة وكانت السحرة تعظمها فعملت بربى من حجارة وسط مدينة منف وصورت فيها صور الحيوانات من ناطق وأعجم فلا يقع شيء بتلك الصورة إلا وقع بمثالها في الخارج‏.‏ وكانت لهم بذلك امتناع ممن يقصدهم من الأمم لأنهم كانوا أعلم الناس بالسحر وأقامت عليهم عشرين سنة حتى بلغ صبي من أبنائهم اسمه دركون بطلوس فملكوه وأقامت معه على ذلك أربعمائة سنة ثم مات فولوا ابنه يرديس بن دركون ومن بعده أخاه يقاس بن نقراس ومن بعده مرينا بن مرينوس ثم ابنه استمارس بن مرينا فطغى عليهم وخلعوه وقتلوه‏.‏ وولوا عليهم من أشرافهم بلوطيس بن مناكيل أربعين سنة ثم استخلف مالوس بن بلوطيس ومات فاستخلف أخاه مناكيل بن بلوطيس ثم توفي فاستخلف ابنه بركة بن مناكيل فملكهم مائة وعشرين سنة‏.‏ وهو فرعون الأعرج الذي سبى أهل بيت المقدس‏.‏ ويقال أنه خلع‏.‏ وقال ابن عبد الحكم‏:‏ وولي من بعده ابنه مرينوس بن بركة فاستخلف ابنه فرقون بن مرينوس فملكهم ستين سنة ثم هلك واستخلف أخاه نقاس بن مرينوس‏.‏ وكانت البراري كلها إذا فسد منها شيء لا يصلحه إلا رجل من ذرية تلك العجوز الساحرة التي وضعتها‏.‏ ثم انقطعت ذريتها ففسدت البرابي أيام نقاس هذا وتجاسر الناس على طلب الملك الذي في أيديهم وهلك نقاس واستخلف ابنه قومس بن نقاس فملكهم دهرا ثم ملك بختنصر بيت المقدس واستلحم بني إسرائيل وفرقهم وقتل وخرب ولحقوا بمصر فأجارهم قومس ملكها وبعث فيهم بختنصر فمنعهم وزحف إليه وغلب عليه فقتله وخرب مدينة منف‏.‏ وبقيت مصر أربعين سنة خرابا‏.‏ وسكنها أرميا مدة ثم بعث إليه بختنصر فلحق به ثم رد أهل مصر إلى موضعهم‏.‏ وأقاموا كذلك ما شاء الله إلى أن غلب الفرس والروم على الأمم وقاتل أهل مصر إلى أن وضعوا عليهم الجزى ثم تقاسمها فارس والروم‏.‏ ثم تداولوا ملكها فتوالت عليها نواب الفرس ثم ملكها الإسكندر اليوناني وجدد الإسكندرية والآثار التي خارجها مثل عمود السواري ورواق الحكمة‏.‏ ثم غلب الروم على مصر والشام وأبقوا القبط في ملكها وصرفوهم في الولاية بمصر إلى أن جاء الله بالإسلام وصاحب القبط بمصر والإسكندرين المقوقس واسمه جريج بن مينا فيما نقله السهيلي فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب ابن أبي بلتعة وجبر مولى أبي رهم الغفاري فقارب الإسلام وأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هديته المعروفة ذكرها أهل السير كان فيها البغلة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركبها وتسمى دلدل والحمار الذي يسمى يعفور ومارية القبطية أم ولده إبراهيم وأمها وأختها سيرين وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمن وقدح من قوارير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب فيه وعسل استظرفه له من بنها إحدى قرى مصر معروفة بالعسل الطيب‏.‏ ويقال‏:‏ إن هرقل لما بلغه شأن هذه الهدية اتهمه بالميل إلى الإسلام فعزله عن رياسة القبط‏.‏ وخرّج مسلم في صحيحه من رواية أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إذا افتتحتم مصر أو إنكم مستفتحون مصر فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورجما أو صهرا‏.‏ ورواه ابن إسحق عن الزهرقي وقال‏:‏ قلت للزهري ما الرحم التي ذكر قال كانت هاجر أم إسماعيل منهم‏.‏ ولبعض رواة الحديث في تفسير الصهر أن مارية أم إبراهيم منهم أهداها له المقوقس وكانت من كورة حفن من عمل أنصناء‏.‏ وقال الطبري‏:‏ إن عمرو بن العاص لما ملك مصر أخبرهم بوصية النبي صلى الله عليه وسلم بهم فقال هذا نسب لا يحفظ حقه إلا نبي لأنه نسب بعيد‏.‏ وذكروا له أن هاجر كانت امرأة لملك من ملوكنا ووقعت بيننا وبين أهل عين شمس حروب كانت لهم في بعضها دولة فقتلوا الملك وسبوها‏.‏ ومن هنالك تسيرت إلى أبيكم إبراهيم ولما كمل فتح مصر والإسكندرية وارتحل الروم إلى القسطنطينية أقام المقوقس والقبط على الصلح الذي عقده لهم عمرو بن العاص وعلى الجزى وأبقوه على رياسة قومه وكانوا يشاورونه فيما ينزل من المهمات إلى أن هلك‏.‏ وكان ينزل الإسكندرية وفي بعض الأوقات ينزل منف من أعمال مصر‏.‏ واختط عمرو بن العاص الفسطاط بموضع خيامة التي كان يحاصر منها مصر‏.‏ فنزل بها المسلمون وهجروا المدينة التي كان بها المقوقس إلى أن خربت‏.‏ وكان في خرابها ومهلك المقوقس انقراض أمرهم‏.‏ وبقي أعقابهم إلى هذا الزمان يستعملهم أهل الدول الإسلامية في حسابات الخراج وجبايات الأموال لقيامهم عليها وغنائهم فيها وكفايتهم في ضبطها وتنميتها‏.‏ وقد يهاجر بعضهم إلى الإسلام فترتفع رتبتهم عند السلطان في الوظائف المالية التي أعلاها في الديار المصرية رتبة الوزارة فيقلدونهم إياها ليحصل لهم بذلك قرب من السلطان وحظ عظيم في الدولة وبسطة يد في الجاه تعددت منهم في ذلك رجال وتعينت لهم بيوت قصر السلطان نظره على الاختيار منها لهذا العهد‏.‏ وعامتهم يقيم على دين النصرانية الذين كانوا عليها لهذا العهد وأكثرهم بنواحي الصعيد وسائر الأعمال متحرفون بالفلح والله غالب على أمره‏.‏ وأما إقليم مصر فكان في أيام القبط والفراعنة جسورا كله بتقدير وتدبير يحبسونه ويرسلونه كيف شاؤوا والجنات حفاف النيل من أعلاه إلى أسفله ما بين أسوان ورشيد‏.‏ وكانت مدينة منف وعين شمس يجري الماء تحت منازلها وأفنيتها بتقدير معلوم‏.‏ ذكر ذلك كله عبد الرحمن بن شماسة وهو من خيار التابعين يرويه عن أشياخ مصر‏.‏ قالوا‏:‏ ومدينة عين شمس كانت هيكل الشمس وكان فيها من الأبنية والأعمدة والملاعب ما ليس في بلد‏.‏ قلت‏:‏ وفي مكانها لهذا العهد ضيعة متصلة بالقاهرة يسكنها نصارى من القبط وتسمى المطرية‏.‏ قالوا‏:‏ ومدينة منف مدينة الملوك قبل الفراعنة وبعدهم إلى أن خربها بختنصر كما تقدم في دولة قومس بن نقاس‏.‏ وكان فرعون ينزل مدينة منف وكان لها سبعون بابا وبنى حيطانها بالحديد والصفر‏.‏ وكانت أربعة أنهار تجري تحت سريره‏.‏ زكره أبو القاسم بن خرداذبه في كتاب المسالك والممالك‏.‏ قال‏:‏ وكان طولها اثني عشر جميلا وكانت جباية مصر تسعين ألف ألف دينار مكرره مرتين بالدينار الفرعوني وهو ثلاثة مثاقيل‏.‏ وإنما سميت مصر بمصر بن بيصر بن حام‏.‏ ويقال إنه كان مع نوح في السفينة فدعا له فأسكنه الله هذه الأرض الطيبة وجعل البركة في ولده‏.‏ وحدها طولا من برقة إلى أيلة وعرضا من أسوان إلى رشيد وكان أهلها صابئة‏.‏ ثم حملهم الروم لما ملكوها بعد قسطنطين على النصرانية عندما حملوا على الأمم المجاورة لهم من الجلالقة والصقالبة وبرجان والروس والقبط والحبشة والنوبة‏.‏ فدانوا كلهم بذلك ورجعوا عن دين الصابئة في تعظيم الهياكل وعبادة الأوثان‏.‏ والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين‏.‏

  الخبر عن بني إسرائيل وما كان لهم من النبوة والملك وتغلبهم علي الأرض المقدسة بالشام

وكيف تجددت دولتهم بعد الانقراض وما اكتنف ذلك من الأحوال قد ذكرنا عند ذكر إبراهيم وبنيه صلوات الله وسلامه عليهم ما كان من شأن يعقوب بن إسحق واستقراره بمصر مع بنيه الأسباط وفي التوراة أن الله سماه إسرائيل‏.‏ وإيل عندهم كلمة مرادفة لعبد وما قبلها من أسماء الله عز وجل وصفاته والمضاف أبدا متأخر في لسان العجم‏.‏ فلذلك كان إيل هو آخر الكلمة وهو المضاف‏.‏ ثم قبض الله نبيه يعقوب بمصر لمائة وسبع وثمانين سنة من عمره وأوصى أن يدفن عند أبيه فطلب يوسف من فرعون أن يطلقه لذلك فأذن له وأمر أهل دولته بالانطلاق معه فانطلقوا وحملوه إلى فلسطين فدفنوه بمقبرة آبائه وهي التي اشتراها إبراهيم من الكنعانيين‏.‏ ورجع يوسف إلى مصر وأقام بها إلى أن توفي لمائة وعشرين سنة من عمره ودفن بمصر وأوصى أن يحملوا شلوه معهم إذا خرجوا إلى أرض الميعاد وهي الأرض المقدسة‏.‏ وأقام الأسباط بمصر وتناسلوا وكثروا حتى ارتاب القبط بكثرتهم واستعبدوهم‏.‏ وفي التوراة أن ملكا من الفراعنة جاء بعد يوسف لم يعرف شأنه ولا مقامه في دولة آبائه فاسترق بني إسرائيل واستعبدهم‏.‏ ثم تحدث الكهان من أهل دولتهم بأن نبوة تظهر في بني إسرائيل وأن ملكك كائن لهم مع ما كان معلوما من بشارة آبائهم لهم بالملك‏.‏ فعمد الفراعنة إلى قطع نسلهم بذبح الذكور من ذريتهم‏.‏ فلم يزالوا على ذلك مدة من الزمان حتى ولد موسى‏.‏ وهو موسى بن عمران بن قاهث بن لاوى بن يعقوب وأمه يوحانذ بنت لاوى عمة عمران‏.‏ وكان قاهث بن لاوى من القادمين إلى مصر مع يعقوب عليه السلام وولد عمران بمصر وولد هارون لثلاث وسبعين من عمره وموسى لثمانين فجعلته أمه في تابوت وألقته في ضحضاح اليم وأرصدت أخته على بعد لتنظر من يلتقطه فتعرفه‏.‏ فجاءت ابنة فرعون إلى البحر مع جواريها فرأته واستخرجته من التابوت فرحمته‏.‏ وقالت هذا من العبرانيين فمن لنا بظئر ترضعه فقالت لها أخته أنا آتيكم بها‏!‏ وجاءت بأمه فاسترضعتها له ابنة فرعون إلى أن فصل فأتت به إلى ابنة فرعون وسمته موسى وأسلمته لها‏.‏ ونشأ عندها ثم شب وخرج يوما يمشي في الناس وله صولة بما كان له في بيت فرعون من المربي والرضاع فهم لذلك أخواله‏.‏ فرأى عبرانيا يضربه مصري فقتل المصري الذي ضربه ودفنه‏.‏ وخرج يوما آخر فإذا هو برجلين من بني إسرائيل وقد سطا أحدهما على الآخر فزجره فقال له‏:‏ ومن جعل لك هذا أتريد أن تقتلني كما قتلت الآخر بالأمس ونمي الخبر إلى فرعون فطلبه وهرب موسى إلى أرض مدين عند عقبة أيلة وبنو مدين أمة عظيمة من بني إبراهيم عليه السلام كانوا ساكنين هناك‏.‏ وكان ذلك لأربعين سنة من عمره فلقي عند مائهم بنتين لعظيم من عظمائهم فسقى لهما وجاءتا به فزوجه بإحداهما كما نوفل بن عيقا بن مدين وهو النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الطبري‏:‏ الذي استأجر موسى وزوجه بنته رعويل وهو بيتر حبر مدين أي عالمهم وأن رعويل هو الذي زوجه البنت وأن اسمه يبتر‏.‏ وعن الحسن البصري أنه شعيب رئيس بني مدين‏.‏ وقيل إنه ابن أخي شعيب وقيل ابن عمه‏.‏ فأقام عند شعيب صهره مقبلا على عبادة ربه إلى أن جاءه الوحي وهو ابن ثمانين سنة‏.‏ وأوحى إلى أخيه هارون وهو ابن ثلاث وثمانين سنة‏.‏ فأوحى الله إليهما بأن يأتيا فرعون ليبعث معهما بني إسرائيل فيستنقذانهم من مملكة القبط وجور الفراعنة ويخرجون إلى الأرض المقدسة التي وعدهم الله بملكها على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب‏.‏ فخرجا إليه وبلغا بني إسرائيل الرسالة فآمنوا به واشبعوه‏.‏ ثم حضرا إلى فرعون وبلغاه أمر الله له بأن يبعث معهما بني إسرائيل وأراه موسى عليه السلام معجزة العصا فكان من تكذيبه وامتناعه وإحضار السحرة لما رأى من موسى في معجزته ثم إسلامهم ما نصه القرآن العظيم‏.‏ ثم تمادى فرعون في تكذيبه ومناصبته واشتد جوره على بني إسرائيل واستعبادهم واتخاذهم سخرياً في مهنة الأعمال‏.‏ فأصابت فرعون وقومه الجوائح العشرة واحدة بعد أخرى يسالمهم عند وقوعها ويتضرع إلى موسى في الدعاء بانجلائها إلى أن أوحى الله إلى موسى بخروج بني ففي التوراة أنهم أمروا عند خروجهم أن يذبح أهل كل بيت حملا من الغنم إن كان كفايتهم أو يشتركون مع جيرانهم إن كان أكثر وأن ينضحوا دمه على أبوابهم لتكون علامة وأن يأكلوه سواء برأسه وأطرافه ومعناه لا يكسرون له عظما ولا يدعون شيئا خارج البيوت وليكن خبزهم فطيرا ذلك اليوم وسبعة أيام بعده‏.‏ وذلك في اليوم الرابع عشر من فصل الربيع وليأكلوا بسرعة وأوساطهم مشدودة وخفافهم في أرجلهم وعصيهم في أيديهم ويخرجوا ليلا وما فضل من عشائهم ذلك يحرقوه بالنار‏.‏ وشرع هذا عيدا لهم ولأعقابهم ويسمى عيد الفصح‏.‏ وفي التوراة أيضاً أنه قتل في تلك الليلة أبكار النساء من القبط ودوابهم ومواشيهم ليكون لهم بذلك ثقل عن بني إسرائيل‏.‏ وأنهم أمروا أن يستعير منهم حليا كثيرا يخرجون به فاستعاروه وخرجوا في تلك الليلة بما معهم من الدواب والأنعام وكانوا ستمائة ألف أو يزيدون وشغل القبط عنهم بالمآتم التي كانوا فيها على موتاهم‏.‏ وأخرجوا معهم تابوت يوسف عليه السلام استخرجه موسى صلوات الله عليه من المدفن الذي كان به بإلهام من الله تعالى‏.‏ وساروا لوجههم حتى انتهوا إلى ساحل البحر بجانب الطور‏.‏ وأدركهم فرعون وجنوده وأمر موسى بأن يضرب البحر بعصاه ويقتحمه فضربه فانفلق طرقا‏.‏ وسار فيه بنو إسرائيل وفرعون وجنوده في اتباعه ونزل بنو إسرائيل بجانب الطور وسبحوا مع موسى بالتسبيح المنقول عندهم وهو‏:‏ نسبح الرب البهي الذي قهر الجنود ونبذ فرسانها في البحر المنيع المحمود إلى آخره‏.‏ وقالوا‏:‏ وكانت مريم أخت موسى وهارون صلوات الله عليهما تأخذ الدف بيدها ونساء بني إسرائيل في أثرها بالدفوف والطبول وهي ترتل لهن التسبيح سبحان الرب القهار الذي قهر الخيول وركبانها ألقاها في البحر وهو المعنى الأول‏.‏ ثم كانت المناجاة على جبل الطور وكلام الله لموسى والمعجزات المتتالية ونزول الألواح‏.‏ ويزعم بنو إسرائيل أنها كانت لوحين فيها الكلمات العشر وهي‏:‏ كلمة التوحيد والمحافظة على السبت بترك الأعمال فيه وبر الوالدين ليطول العمر والنهي عن القتل والزنا والسرقة وشهادة الزور ولا تمتد عين إلى بيت صاحبه أو امرأته أو لشيء من متاعه‏.‏ هذه الكلمات العشرة التي تضمنتها الألواح‏.‏ وكان سبب نزول الألواح أن بنى إسرائيل لما نجوا ونزلوا حول طور سيناء صعد موسى إلى الجبل فكلمه ربه وأمره أن يذكر بني إسرائيل بالنعمة عليهم في نجاتهم من فرعون وأن يتطهروا ويغسلوا ثيابهم ثلاثة أيام ويجتمعوا في اليوم الثالث حول الجبل من بعد ففعلوا‏.‏ وظلت الجبل غمامة عظيمة ذات بروق ورعود ففزعوا وقاموا في سفح الجبل دهشين‏.‏ ثم غشى الجبل دخان في وسطه عمود نور تزلزل له الجبل زلزلة عظيمة شديدة واشتد صوت الرعد الذي كانوا يسمعونه‏.‏ وأمر موسى صلوات الله عليه بأن يقرب بني إسرائيل لسماع الوصايا والتكاليف قال فلم يطيقوا فأمر بحضور هارون وتكون العلماء غير بعيدة ففعل وجاءهم بالألواح‏.‏ ثم سار بعد ذلك إلى ميعاد الله بعد أربعين ليلة‏.‏ فكلمه ربه وسأله الرؤية فمنعها فكان الصعق وساخ الجبل وتلقى كثيرا من أحكام التوراة في المواعظ والتحليل والتحريم‏.‏ وكان حين سار إلى الميعاد استخلف أخاه هارون على بني إسرائيل واستبطأوا موسى وكان هارون قد أخبرهم بأن الحلي الذي أخذوه للقبط محرم عليهم‏.‏ فأرادوا حرقه وأوقدوا عليه النار‏.‏ وجاء السامري في شيعة له من بني إسرائيل وألقى عليه شيئا كان عنده من أثر الرسول فصار عجلا وقيل عجلا حيوانا‏.‏ وعبده بنو إسرائيل وسكت عنهم هارون خوفا من افتراقهم‏.‏ وجاء موسى صلوات الله عليه من المناجاة وقد أخبر بذلك في مناجاته‏.‏ فلما رآهم على ذلك ألقى الألواح ويقال كسرها وأبدل غيرها من الحجارة‏.‏ وعند بني إسرائيل أنهما اثنان‏.‏ وظاهر القرآن أنها أكثر مع أنه لا يبعد استعمال الجمع في الاثنين‏.‏ ثم أخذ برأس أخيه ووبخه واعتذر له بما اعتذر ثم حرق العجل وقيل برده بالمبرد وألقاه في البحر‏.‏ وكان موسى صلوات الله عليه لما نجا ببني إسرائيل إلى الطور بلغ خبره إلى بيثر صهره من بني مدين فجاء ومعه بنته صفورا زوجة موسى عليه السلام التي زوجها بها أبوها رعويل كما تقدم‏.‏ ومعها ابناها من موسى وهما جرشون وعازر‏.‏ فتلقاها موسى صلوات الله عليه بالبر والكرامة وعظمه بنو إسرائيل ورأى كثرة الخصومات على موسى فأشار عليه بأن يتخذ النقباء على كل مائة أوخمسين أو عشرة فيفصلوا بين الناس وتفصل أنت فيما أهم وأشكل ففعل ذلك‏.‏ ثم أمر الله ببناء قبة للعبادة والوحي من خشب الشمشاد ويقال هو السنط وجلود الأنعام وشعر الأغنام‏.‏ وأمر بتزيينها بالحرير والمصبغ والذهب والفضة على أركانها‏.‏ صور منها صور الملائكة الكروبيين على كيفيات مفصلة في التوراة في ذلك كله ولها عشر سرادقات مقدرة الطول والعرض وأربعة أبواب وأطناب من حرير منقوش مصبغ وفيها دفوف وصفائح من ذهب وفضة‏.‏ وفي كل زاوية بابان وأبواب وستور من حرير وغير ذلك مما هو مشروح في التوراة‏.‏ وبعمل تابوت من خشب الشمشاد طول ذراعين ونصف في عرض ذراعين في ارتفاع ذراع ونصف مصفحا بالذهب الخالص من داخل وخارج‏.‏ وله أربع حلق في أربع زوايا وعلى حافته كروبيان من ذهب يعنون مثالي ملكين بأجنحة ويكونان متقابلين‏.‏ وأن يصنع ذلك كله فلان شخص معروف في بني إسرائيل‏.‏ وأن يعمل مائدة من خشب الشمشاد طول ذراعين في عرض ذراع ونصف بطناب ذهب وإكليل ذهب بحافة مرتفعة بإكليل ذهب وأربع حلق ذهب في أربع نواحيها مغروزة في مثل الرمانة من خشب ملبس ذهبا وصحافا ومصافي وقصاعا على المائدة كلها من ذهب‏.‏ وأن يعمل منارة من ذهب بست قصبات من كل جانب ثلاث‏.‏ وعلى كل قصبة ثلاث سرج وليكن في المنارة أربعة قناديل ولتكن هي وجميع آلاتها من قنطار من ذهب وأن يعمل مذبحا للقربان‏.‏ ووصف ذلك كله في التوراة بأتم وصف ونصبت هذه القبلة أول يوم من فصل الربيع ونصب فيها تابوت الشهادة وتضمن هذا الفصل في التوراة من الأحكام والشرائع في القربان والنحور وأحوال هذه القبة كثيرا‏.‏ وفيها أن قبة القربان كانت موجودة قبل عبادة أهل العجل وأنها كانت كالكعبة يصلون إليها وفيها ويتقربون عندها وأن أحوال القربان كانت كلها راجعة إلى هارون عليه السلام بعهد الله إلى موسى بذلك وأن موسى صلوات الله عليه كان إذا دخلها يقفون حولها وينزل عمود الغمام على بابها فيخرون عند ذلك سجدا لله عز وجل‏.‏ ويكلم الله موسى عليه السلام من ذلك العمود الغمام الذي هو نور ويخاطبه ويناجيه وينهاه وهو واقف عند التابوت صامد لما بين ذينك الكروبيين‏.‏ فإذا فصل الخطاب يخبر بني إسرائيل بما أوحاه إليه من الأوامر والنواهي‏.‏ وإذا تحاكموا إليه في شيء ليس عنده من الله فيه بشيء يجيء إلى قبة القربان ويقف عند التابوت ويصمد لما بين ذينك الكروبيين فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك ولما نجا بنو إسرائيل ودخلوا البرية عند سينا أول المصيف لثلاثة أشهر من خروجهم من مصر وواجهوا جبال الشام وبلاد بيت المقدس التي وعدوا بها أن تكون ملكا لهم على لسان إبراهيم وإسحق ويعقوب صلوات الله عليهم بمسيرهم إليها وأتوه بإحصاء بني إسرائيل من يطيق حمل السلاح منهم من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون وضرب عليهم الغزو ورتب المصاف والميمنة والميسرة وعين مكان كل سبط في التعبية وجعل فيه التابوت والمذبح في القلب وعين لخدمتها بني لاوى من أسباطهم وأسقط عنهم القتال لخدمة القبة وسار على التعبية سالكا على برية فاران وبعثوا منهم اثني عشر نقيبا من جميع الأسباط فأتوهم بالخبر عن الجبارين‏.‏ كان منهم كالب بن يوفنا بن حصرون بن بارص بن يهوذا بن يعقوب ويوشع بن نون بن أليشامع بن عميهون بن بارص بن لعدان بن تاحن بن تالح بن أراشف بن رافح بن بريعا بن أفرايم بن يوسف بن يعقوب‏.‏ فاستطابوا البلاد واستعظموا العدو من الكنعانيين والعمالقة ورجعوا إلى قومهم يخبرونهم الخبر وخذلوهم إلا يوشع وكالب فقالا لهم ما قالا‏:‏ وهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما‏.‏ وخامر بنو إسرائيل عن اللقا وأبوا من السير إلى عدوهم والأرض التي ملكهم الله إلى أن يهلك الله عدوهم على غير أيديهم‏.‏ فسخط الله ذلك منهم وعاقبهم بأن لا يدخل الأرض فأقاموا كذلك أربعين سنة في برية سينا وفاران يترددون حوالي جبال السراة وأرض ساعير وأرض بلاد الكرك والشوبك‏.‏ وموسى صلوات الله عليه بين ظهرانيهم يسأل الله لطفه بهم ومغفرته ويدفع عنهم مهالك سخطه وشكوا الجوع‏.‏ فبعث الله لهم المن حبات بيض منتشرة على الأرض مثل ذرير الكزبرة فكانوا يطحنونه ويتخذون منه الخبز كلهم‏.‏ ثم قرموا إلى اللحم فبعث لهم السلوى طيرا يخرج من البحر وهو طير السماني فيأكلون منه ويدخرون‏.‏ ثم طلبوا الماء فأمر أن يضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا‏.‏ وأقاموا على ذلك ثم ارتاب واحد منهم اسمه فودح بن إيصهر بن قاهث وهو ابن عم موسى بن عمران بن قاهث‏.‏ فارتاب هو وجماعة منهم من بني إسرائيل بشأن موسى واعتمدوا مناصبته فأصابتهم قارعة وخسفت بهم وبه الأرض وأصبحو عبرة للمعتبرين‏.‏ واعتزم بنو إسرائيل على الاستقالة مما فعلوه والزحف إلى العدو ونهاهم موسى عن ذلك فلم ينتهوا وصعدوا جبل العمالقة فحاربهم أهل ذلك الجبل فهزموهم وقاتلوهم في كل وجه‏.‏ فأمسكوا وأقام موسى على الاستغفار لهم فأرسل إلى ملك أدوم يطلب الجواز عليه إلى الأرض المقدسة فمنعهم وحال دون ذلك‏.‏ ثم قبض هارون صلوات الله عليه لمائة وثلاثة وعشرين سنة من عمره ولأربعين سنة من يوم خروجهم من مصر وحزن له بنو إسرائيل لأنه كان شديد الشفقة عليهم وقام بأمره الذي كان يقوم به ابنه العيزار‏.‏

ثم زحف بنو إسرائيل إلى بعض ملوك كنعان فهزموهم وقتلوهم وغنموا ما أصابوا منهم وبعثوا إلى سيحون ملك العموريين من كنعان في الجواز في أرضه إلى الأرض المقدسة فمنعهم وجمع قومه وغزا بني إسرائيل في البرية فحاربوه وهزموه وملكوا بلاده إلى حد بني عمون ونزلوا مدينته وكانت لبني مؤاب‏.‏ وتغلب عليها سيحون‏.‏ ثم قاتلوا عوجا وقومه من كنعان وهو المشهور بعوج بن عوق وكان شديد البأس فهزموه وقاتلوه وبنيه وأثخنوا في أرضه‏.‏ وورثوا أرضهم إلى الأردن بناحية أريحا وخشي ملك بني مؤاب من بني إسرائيل واستجاش بمن يجاوره من بني مدين وجمعهم ثم أرسل إلى بلعام بن باعورا وكان ينزل في التخم بين بلاد بني عمون وبني مؤاب‏.‏ وكان مجاب الدعوة معبرا للأحلام‏.‏ واستدعاه ليستعين بدعائه وأتاه الوحي بالنهي عن الدعاء وألح عليه ذلك الملك وأصعده إلى الأماكن الشاهقة وأراه معسكر بني إسرائيل منها فدعا لهم وأنطقه الله بظهورهم وأنهم يملكون إلى الموصل‏.‏ ثم تخرج أمة من أرض الروم فيغلبون عليهم فغضب الملك وانصرف بلعام إلى بلاده‏.‏ وفشا في بني إسرائيل الزنا ببنات مؤاب ومدين فأصابهم الموتان فهلك منهم أربعة وعشرون ألفا‏.‏ ودخل فنحاص بن لعزرا على رجل من بني إسرائيل في خيمته ومعه امرأة من بني مدين قد أدخلها للزنا بمرأى من بني إسرائيل فطعنها برمحه وانتظمها وارتفع الموتان عن بني إسرائيل‏.‏ ثم أمر الله موسى والعازر بن هارون بإحصاء بني إسرائيل بعد فناء الجيل الذي أحصاهم موسى وهارون ببرية سينا وانقضاء الأربعين سنة التي حرم الله عليهم فيها دخول تلك الأرض‏.‏ وأن يبعث بعثا من بني إسرائيل إلى مدين الذي أعانوا بني مؤاب‏.‏ فبعث اثني عشر ألفا من بني إسرائيل وعليهم فنحاص بن ألعيزز بن العزر بن هارون‏.‏ فحاربوا بني مدين وقتلوا ملوكهم وسبوا نساءهم وملكوا أموالهم وقسم ذلك في بني إسرائيل بعد أن أخذ منه لله وكان فيمن قتل بلعام بن باعورا‏.‏ ثم قسم الأرض التي ملك من بني مدين والعموريين وبني عمون وبني مؤاب‏.‏ ثم ارتحل بنو إسرائيل ونزلوا شاطىء الأردن‏.‏ وقال الله قد ملكتكم ما بين الأردن والفرات كما وعدت آباءكم ونهوا عن قتال عيصو الساكنين ساعير وبني عمون وعن أرضهم‏.‏ وأكمل الله الشريعة والأحكام والوصايا لموسى عليه السلام وقبضه إليه لمائة وعشرين سنة من عمره بعد أن عهد إلى فتاه يوشع أن يدخل ببني إسرائيل إلى الأرض المقدسة ليسكنوها ويعملوا بالشريعة التي فرضت عليهم فيها ودفن بالوادي في أرض مؤاب ولم يعرف قبره لهذا العهد‏.‏ وقال الطبري مدة عمر موسى صلوات الله عليه مائة وعشرون سنة منها في أيام أفريدون عشرون ومنها في أيام منوجهر مائة‏.‏ قال‏:‏ ثم سار يوشع من بعد موسى إلى أريحا فهزم الجبارين ودخلها عليهم‏.‏ وقال السدي‏:‏ إن يوشع تنبأ بعد موسى وسار إلى أريحا فهزم الجبارين ودخلها عليهم وأن بلعام بن باعور كان مع الجبارين يدعو على يوشع فلم يستجب له‏.‏ وصرف دعاؤه على الجبارين‏.‏ وكان بلعام من قرى البلقاء وكان عنده الأسم الأعظم‏.‏ فطلبه الكنعانيون في الدعاء على بني إسرائيل فامتنع وألحوا عليه فأجاب ودعا فصرف دعاؤه وكان قيامه للدعاء على جبل حسان مطلا على عسكر بني إسرائيل‏.‏ هذا خبر السدي في أن دعاء بلعام كان لعهد يوشع والذي في التوراة أنه كان لعهد موسى وأن بلعام قتل لعهد موسى كما مر في خبر الطبري‏.‏ وقال السدي‏:‏ إن يوشع بعد وفاة موسى صلوات الله عليه أمر أن يعبر فسار ومعه التابوت تابوت الميثاق حتى عبر الأردن وقاتل الكنعانيين فهزمهم وأن الشمس جنحت للغروب يوم قتالهم ودعا الله يوشع فوقفت الشمس حتى تمت عليهم الهزيمة‏.‏ ثم نازل أريحا ستة أشهر وفي السابع نفخوا في القرون وضج الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة فاستباحوها وأحرقوها وكمل الفتح واقتسموا بلاد الكنعانيين كما أمرهم الله‏.‏ هذا مساق الخبر عن سيرة موسى صلوات الله عليه وبني إسرائيل أيام حياته وبعد مماته حتى ملكوا أريحا‏.‏ وفي كتب الإخباريين‏:‏ أن العمالقة الذين كانوا بالشام قاتلهم يوشع فهزمهم وقتل آخر ملوكهم وهو السميدع بن هوبر بن مالك وكان لقاؤهم إياه مع بني مدين في أرضهم وفي ذلك يقول عوف بن سعد الجرهمي‏:‏ ألم تر أن العلقمي بن هوبر بأيلة أمسى لحمه قد تمزعا ترامت عليه من يهود جحافل ثمانون ألفا حاسرين ودرعا ذكره المسعودي وقد تقدم لنا خلاف النسابة في هؤلاء العمالقة وأنهم لعمليق بن لاوذ أو لعمالق بن أليفاز بن عيصو الثاني لنسابة بني إسرائيل سار إليه علماء العرب‏.‏ أما الأمم الذين كانوا بالشام لذلك العهد فأكثرهم لبني كنعان وقد تقدمت شعوبهم وبنو أروم أبناء عمون وبنو مؤاب أبناء لوط وثلاثتهم أهل يسعير وجبال الشراة وهي بلاد الكرك والشوبك والبلقا ثم بنو فلسطين من بني حام‏.‏ ويسمى ملكهم جالوت وهو من الكنعانيين منهم‏.‏ ثم بنو مدين ثم العمالقة‏.‏ ولم يؤذن لبني إسرائيل في غير بلاد الكنعانيين فهي التي اقتسموها وملكوها وصارت لهم تراثا‏.‏ وأما غيرهم فلم يكن لهم فيها إلا الطاعة والمغارم الشرعية من صدقة وغيرها‏.‏ وفي كتب الإخباريين أن بني إسرائيل بعد ملكهم الشام بعثوا بعوثهم إلى الحجاز وهنالك يومئذ أمة من العمالقة يسمون جاسم وكان اسم ملكهم الإرم بن الأرقم وكان أوصاهم أن لا يستبقوا منهم من بلغ الحلم‏.‏ فلما ظهروا على العمالقة وقتلوا الأرقم استبقوا ابنه وضنوا به عن القتل لوضاءته‏.‏ ولما رجعوا من بعد الفتح وبخهم إخوانهم ومنعوهم دخول الشام وأرجعوهم إلى الحجاز وما تملكوا من أرض يثرب فنزلوها واستتم لهم فتح في نواحيها‏.‏ ومن بقاياهم يهود خيبر وقريظة والنضير‏.‏ قال ابن إسحق‏:‏ قريظة والنضير والتحام وعمرو هو هزل من الخزرج‏.‏ وقال ابن الصريح بن التومان بن السبط بن إليسع بن سعد بن لاوى بن النمام بن يتحوم بن عازر بن عزر بن هارون عليه السلام‏.‏ واليهود لا يعرفون هذه القصة وبعضهم يقول كان ذلك لعهد طالوت والله أعلم‏.‏

  الخبر عن حكام بني إسرائيل بعد يوشع إلى أن صار أمرهم إلى الملك وملك عليهم طالوت

ولما قبض يوشع صلوات الله عليه بعد استكمال الفتح وتمهيد الأمر ضيع بنو إسرائيل الشريعة وما أوصاهم به وحذرهم من خلافه فاستطالت عليهم الأمم الذين كانوا بالشام وطمعوا فيهم من كل ناحية‏.‏ وكان أمرهم شورى فيختارون للحكم في عامتهم من شاؤوا ويدفعون للحرب من يقوم بها من أسباطهم ولهم الخيار مع ذلك على من يلي شيئاً من أمرهم‏.‏ وتارة يكون نبيا يدبرهم بالوحي‏.‏ وأقاموا على ذلك نحوا من ثلثمائة سنة لم يكن لهم فيها ملك مستفحل والملوك تناوشهم من كل جهة إلى أن طلبوا من نبيهم شمويل أن يبعث عليهم ملكا فكان طالوت ومن بعده داود فاستفحل ملكهم يومئذ وقهروا أعداءهم على ما يأتي ذكره بعد‏.‏ وتسمى هذه المدة بين يوشع وطالوت مدة الحكام ومدة الشيوخ‏.‏ وأنا الآن أذكر من كان فيها من الحكام على التتابع معتمدا على الصحيح منه على ما وقع في كتاب الطبري والمسعودي ومقابلا به ما نقله صاحب حماة من بني أيوب في تاريخه عن سفر الحكام والملوك من الإسرائيليات وما نقله أيضاً هروشيوش مؤرخ الروم في كتابه الذي ترجمه للحكم المستنصر من بني أمية قاضي النصارى وترجمانهم بقرطبة وقاسم بن أصبغ‏.‏ قالوا كلهم‏:‏ لما فتح يوشع مدينة أريحا سار إلى نابلس فملكها ودفن هنالك شلو يوسف عليه السلام وكانوا حملوه معهم عند خروجهم من مصر‏.‏ وقد ذكرنا أنه كان أوصى بذلك عند موته‏.‏ وقال الطبري‏:‏ أنه بعد فتح أريحا نهض إلى بلد عاي من ملوك كنعان فقتل الملك وأحرق المدينة وتلقاه خيقون ملك عمان وبارق ملك أورشليم بالجزى واستذموا بأمانه فأمنهم وزحف إلى خيقون ملك الأرمانيين من نواحي دمشق فاستنجد بيوشع فهزم يوشع ملك الأرمن إلى حوران واستلحمهم وصلب ملوكهم وتتبع سائر الملوك بالشام فاستباح منهم واحدا وثلاثين ملكا وملك قيسارية وقسم الأرض التي ملكها بين بني إسرائيل‏.‏ وأعطى جبل المقدس لكالب بن يوفنا فسكن مدينة أورشليم وأقام مع بني يهودا ووضع القبة التي فيها تابوت العهد والمذبح والمائدة والمنارة على الصخرة التي في بيت المقدس‏.‏ وأما بنو أفرايم فكانوا يأخذون الجزية من الكنعانيين‏.‏ ثم قبض يوشع في سفر الحكام أنه قبض لثمان وعشرين سنة من ملكه وهو ابن مائة وعشرين سنة‏.‏ وقال الطبري‏:‏ ابن مائة وستة وعشرين سنة‏.‏ والأول أصح‏.‏ قال‏:‏ وكان تدبير يوشع لبني إسرائيل في زمن منوشهر عشرين سنة وفي زمن أفراسياب سبع سنين‏.‏ وقال أيضاً أن ملك اليمن شمر بن الأملوك من حمير كان لعهد موسى وبني ظفار وأخرج منها العمالقة‏.‏ ويقال أيضاً كان من عمال الفرس على المين‏.‏ وزعم هشام بن محمد الكلبي أن الفل من الكنعانيين بعد يوشع احتملهم أفريقش بن قيس بن صيفي من سواحل الشام في غزاته إلى المغرب التي قتل فيها جرجيس الملك وأنه أنزلهم بأفريقية فمنهم البربر وترك معهم صنهاجة وكتامة من قبائل حمير انتهى‏.‏ وقام بأمر بني إسرائيل بعد يوشع كالب بن يوفنا بن حصرون بن بارص بن يهودا وقد مر نسبه وكان فنحاص بن ألعيزر بن هارون كوهنا يتولى أمر صلاتهم وقربانهم‏.‏ ثم تنبئأ وتنبأ أبوه ألعيزر وكان كالب مضعفا فأقاما كذلك سبع عشرة سنة‏.‏ وقال الطبري كان مع كالب في تدبيرهم حزقيل بن يودي ويقال له ولد العجوز لأنه ولد وحدث عن وهب بن منبه‏:‏ أن جرقيل هذا دبرهم بعد كالب ولم يقع لهذا ذكر في سفر الحكام ثم بعد يوشع اجتمع بنو يهودا وبنو شمعون لحرب الكنعانيين فغلبوهم وقتلوهم وفتحوا أورشليم وقتلوا ملكها ثم فتحوا غزة وعسقلان وملكوا الجبل كله ولم يقتلوا الغور‏.‏ وأما سبط بنيامين فكان في قسمهم بلد اليونانيين في أرضهم وأخذوا منهم الخراج واختلطوا بهم وعبدوا آلهتهم‏.‏ فسقط الله عليهم ملك الجزيرة واسمه كوشان شقنائم ومعناه أظلم الظالمين‏.‏ ويقال إنه ملك الأرمن في الجزيرة ودمشق وملك حوران وصيدا وحران ويقال والبحرين ويقال أنه من أروم‏.‏ وقال الطبري‏:‏ من نسل لوط فاستعبد بني إسرائيل ثمان سنين بعد وفاة كالب بن يوفنا ثم ولي الحكم فيهم غثينئال ابن أخيه قناز بن يوفنا فحاربهم كوشان هذا وأزال ملكته عن بني إسرائيل ثم حاربه فقتله‏.‏ وكان له بعد ذلك حروب سائر أيامه مع بني مؤاب وبني عمون أسباط لوط ومع العماليق إلى أن هلك لأربعين سنة من دولته‏.‏ ثم عبد بنو إسرائيل الأوثان من بعده فسلط الله عليهم ملك بني مؤاب واسمه عفلون بعين مهملة ومعجمة ساكنة ولام مضمومة تجلب واوا ساكنة ونون بعدها فاستعبدهم ثماني عشرة سنة‏.‏ ثم قام بتدبيرهم أيهوذ بن كارا من سبط أفرايم‏.‏ وقال ابن حزم‏:‏ من بنيامين‏.‏ وضبطه بهمزة ممالة تجلب ياء ثم هاء مضمومة تجلب واوا ثم ذال معجمة فتنقذهم من يد بني مؤاب وقتل ملكهم عفلون بحيلة تمت لهم في ذلك‏.‏ وهو أنه جاء رسولا عن بني إسرائيل متنكرا بهدايا وتحف منهم حتى إذا خلا به طعنه فأنفذه ولحق بمكانه من جبل أفرايم‏.‏ ثم اجتمعوا ونزلوا فقتلوا من الحرس نحوا من عشرة آلاف وغلب ببني إسرإئيل بني مؤاب واستلحمهم وهلك لثمانين سنة من دولته‏.‏ وقام بتدبيرهم بعده شمكار بن عناث من سبط كاد وضبطه بفتح الشين المثلثة بعدها ميم ساكنة وكاف تقرب من مخرج الجيم ويجلب فتحها ألفا وبعدها راء مهملة‏.‏ ومات لسنة من ولايته‏.‏ وبنو إسرائيل على حيالهم من المخالفة فسلط الله عليهم ملك كنعان واسمه يافين بفاء شفوية تقرب من الباء فسرح إليهم قائده سميرا فملك عليهم أمرهم واستعبدهم عشرين سنة‏.‏ وكانت فيهم كوهنة إمرأة متنبئة سامها دافورا بفاء هوائية تقرب من الباء وهي من سبط نفطالي وقيل من سبط أفرايم وقيل كان زوجها بارق ابن أبي نوعم من سبط نفطالي واسمه البيدوق‏.‏ فدعته إلى حرب سميرا فأبى إلا أن تكون معه فخرجت ببني إسرائيل وهزموا الكنعانيين وقتل قائدهم سميراً وقامت بتدبيرهم أربعين سنة يرادفها زوجها بارق ابن أبي نوعم‏.‏ قال هروشيوش‏:‏ وعلى عهدها كان أول ملوك الروم اللطينيين بأنطاكية بنقش بن شطونش وهو أبو القياصرة ثم توفيت دافورا وبقي بنو إسرائيل فوضى وعادوا إلى كفرهم فسلط الله قال الطبري‏:‏ وبنو لوط الذين بتخوم الحجاز قهروهم سبع سنين ثم تنبأ فيهم من سبط منشى بن يوسف كدعون بن يواش وضبطه بفتح الكاف القريبة من الجيم وسكون الدال المهملة بعدها وعين مهملة مضمومة تجلب واوا وبعدها نون فقام بتدبيرهم‏.‏ وقد كان لمدين ملكان أحدهما اسمه رابح والآخر صلمناع‏.‏ فبعث إلى بني إسرائيل عساكره مع قائدين عوديف وزديف وأهم بني إسرائيل شأنهم فخرج بهم كدعون فهزموا بني مدين وغنموا منهم أموالاً جمة ومكثوا أيام كدعون هذا على استقامة في دينهم وغلب لأعدائهم أربعين سنة‏.‏ وكان له من الولد سبعون ولدا وعلى عهده بنيت مدينة طرسوس‏.‏ وقال جرجيس بن العميد‏:‏ وملطية أيضاً‏.‏ ولما هلك قام بتدبيرهم ولده أبو مليخ وكانت أمه من بني سخام بن منشى بن يوسف من أهل نابلس فأنجدوه بالمال وقتل بني أبيب كلهم ثم نازعوه بنو سخام أخواله الأمر وطالت حروبه معهم وهلك محاصرا لبعض حصونهم بحجر طرحته عليه امرأة من السور فشدخه‏.‏ فقال لصاحب سلاحه أجهز علي لئلا يقال قتلته إمرأة‏.‏ وذلك لثلاث سنين من ولايته‏.‏ ثم دبر أمرهم بعده طولاع بن فوا بن داود من سبط يساخر وضبه بطاء قريبة من التاء تجلب ضمتها واو ثم لام ألف ثم عين‏.‏ وقال الطبري‏:‏ هو ابن خال أبي مليخ وابن عمه‏.‏ قلت‏:‏ والظاهر أنه ابن خاله لأن سبط هذا غير سبط ذاك‏.‏ وقال ابن العميد هو من سبط يسايخر إلا أنه كان نازلاً في سائر من جبل أفراييم فمن هنا والله أعلم وقع اللبس في نسبه ودبرهم ثلاثاً وعشرين سنة‏.‏ قال هروشيوش‏:‏ وعلى عهده كان بمدينة طرونية من ملوك الروم اللطينيين برمامش بن بنقش‏.‏ وملك ثلاثين سنة وقد مضى ذكره‏.‏ ولما هلك طولاع قام بتدبيرهم بعده يائير بن كلعاد من سبط منشى بن يوسف وضبطه بياء مثناة تحتية مفتوحة وألف ثم همزة مكسورة بعدها ياء أخرى ثم راء مهملة وقام في تدبيرهم اثنتين وعشرين سنة‏.‏ ونصب أولاده كلهم حكاما في بني إسرائيل‏.‏ وكانوا نحوا من ثلاثين‏.‏ فلما هلك طغوا وعبدوا الأصنام فسلط الله عليهم بني فلسطين وبني عمون فقهرهم ثماني عشرة سنة وقام بتدبيرهم يفتاح من سبط منشى وضبطه بياء مثناة تحتانية وفاء ساكنة وتاء مثناة من فوق بفتحة تجلب الفاء ثم حاء مهملة‏.‏ فلما قام بأمرهم طلب ضريبة النحل من بني عمون فامتنعوا من إعطائها وكانوا ملوكاً منذ ثلثمائة سنة فقاتلهم وغلبهم عليها وعلى اثنتين وعشرين قرية معها‏.‏ ثم حارب سبط أفراييم وكانوا مستبدين وحدهم عن بني إسرائيل‏.‏ فأرادهم على اتفاق الكلمة والدخول في الجماعة حتى استقاموا على ذلك وأقام في تدبيرهم ست سنين‏.‏ وعلى عهده أصابت بلاد اليونان المجاعة العظيمة التي هلك فيها أكثرهم‏.‏ ولما هلك قام بتدبيرهم أبصان من سبط يهودا من بيت لحم وضبطه بهمزة مفتوحة وباء موحدة ساكنة وصاد مهملة بفتحة نجلب ألفاً بعدها نون‏.‏ ويقال أنه جد داود عليه السلام يوعز بن سلمون بن نخشون بن عمينا ذاب بن رم بن حصرون بن بارص بن يهودا‏.‏ وحصرون هذا هو جد كالب بن يوفنا الذي دبرهم بعد يوشع‏.‏ ونحشون كان سيد بني يهودا لعهد خروجهم من مصر مع موسى عليه السلام وهلك في التيه‏.‏ ودخل ابنه سلمون أريحا مع يوشع ونزل بيت لحم على أربعة أميال من بيت المقدس‏.‏ قال هروشيوش في أيام أبصان هذا كان انقراض ملك السريانيين وخروج القوط وحروبهم مع النبط وأقام أبصان في تدبير بني إسرائيل سبع سنين ثم هلك فقام بتدبيرهم إيلون من سبط زبولون وضبطه بهمزة مكسورة تجلب ياء ثم لام مضمومة تجلب واوا ثم نون فدبرهم عشر سنين ثم هلك فدبرهم عبدون بن هلال من سبط أفراييم ثمان سنين‏.‏ وقال ابن العميد اسمه عكرون بن هليان وكان له أربعون ابناً وثلاثون حافداً‏.‏ قال هروشيوش‏:‏ وفي أيامه خربت مدينة طرونة قاعدة الروم اللطينيين خربها الروم الغريقيون في فتنة بينهم‏.‏ ولما هلك عبدون دفن بأرض أفراييم في جبال العمالقة‏.‏ واختلف بنو إسرائيل بعده وعبدوا الأصنام وسلط الله عليهم بني فلسطين فقهروهم أربعين سنة‏.‏ ثم تخلصهم من أيديهم شمشون بن مانوح من سبط دان ويعرف بشمشون القوي لفضل قوة كانت في يده ويعرف أيضاً بالجبار وكان عظيم سبطه‏.‏ ودبر بني إسرائيل عشر سنين بل عشرين سنة وكثرت حروبه مع بني فلسطين وأثخن فيهم وأتيح لهم عليه في بعض الأيام فأسروه ثم حملوه وحبسوه واستدعاه ملكهم في بعض الأيام إلى بيت آلهتهم ليكلمه فأمسك عمود البيت وهزه بيده فسقط البيت على من فيه وماتوا جميعا‏.‏ ولما هلك اضطربت بنو إسرائيل وافترقت كلمتهم وانفرد كل سبط بحاكم يولونه منهم والكهنونية فيهم جميعا في عقب ألعيزار بن هارون من لدن وفاة هارون عليه السلام بتوليته موسى صلوات الله عليه بالوحي ومعنى الكهنونية إقامة القرابين من الذبح والبخور على شروطها وأحكامها الشرعية عندهم‏.‏ وقال ابن العميد‏:‏ إنه ولي تدبيرهم بعد شمشون حاكم آخر اسمه ميخائيل بن راعيل دبرهم ثمان سنين ولم تكن طاعته فيهم مستحكمة وأن الفتنة وقعت بين بني إسرائيل ففني فيها سبط بنيامين عن آخرهم‏.‏ ثم سكنت الفتنة وكان الكوهن فيهم لذلك العهد عالي بن بيطانت بن حاصاب بن إليان بن فنحاص بن ألعيزار بن هارون‏.‏ وقيل من ولد إيتامار بن هارون وضبطه بعين مهملة مفتوحة تجلب ألفا ثم لام مكسورة تجلب ياء تحتانية‏.‏ فلما سكنت الفتنة كانوا يرجعون إليه في أحكامهم وحروبهم‏.‏ وكان له ابنان عاصيان فدفعهما إلى ذلك وكثر لعهده قتال بني فلسطين وفشا المنكر من ولديه وأمر بدفعهم عن ذلك فلم يزدادوا إلا عتوا وطغيانا وأنذر الأنبياء بذهاب الأمر عنه وعن ولده ثم هزمهم بنو فلسطين في بعض أيامهم وأصابوا منهم فتذامر بنو إسرائيل واحتشدوا وحملوا معهم تابوت العهد ولقيهم بنو فلسطين‏.‏ فانهزم بنو إسرائيل أمامهم وقتلوا أبناء عالي كوهن كما أنذر به أبوهما وشمويل‏.‏ وبلغ أباهما الكوهن خبر مقتلهما فمات أسفا لأربعين سنة من دولته‏.‏ وغنم بنو فلسطين التابوت فيما غنموه واحتملوه إلى بلادهم بعسقلان وغزة وضربوا الجزية على بني إسرائيل‏.‏ ولما مضى القوم بالتابوت فيما حكى الطبري وضعوه عند آلهتهم فقلاها مرارا فأخرجوه إلى ناحية من القرية فأصيبوا فتبادروا بإخراجه وحملوه على بقرتين لهما تبيعان ووضعتاه عند أرض بني إسرائيل ورجعتا إلى ولديهما‏.‏ وأقبل إليه بنو إسرائيل فكان لا يدنو منه أحد إلا مات حتى أذن شمويل لرجلين منهم حملاه إلى بيت أمهما وهي أرملة فكان هنالك حتى ملك طالوت‏.‏ وكان ردهم التابوت لسبعة أشهر من يوم حملوه وكان عالي الكوهن قد كفل ابن عمه شمويل بن الكنا بن يوام بن إلياهد بن ياوبن سوف وسوف هو أخو حاصاب بن البلى بن يحاص‏.‏ وقيل إن شمويل من عقب فورح وهو قارون بن يصهار بن قاهاث بن لاوي‏.‏ ونسبه إليه شمويل بن القنا بن يروحام بن أليهوذ بن يوحا بن صوب بن إلقانا بن يويل بن عزير بن ضيعينا بن تاحث بن أسر بن ألقانا بن النشاسات بن قاوون‏.‏ وكانت أمه نذرت أن تجعله خادما في المسجد وألقته هنالك فكفله عالي وأوصى له بالكهنونية‏.‏ ثم أكرمه الله بالنبوة وولاه بنو إسرائيل أحكامهم فدبرهم عشر سنين‏.‏ وقال جرجيس بن العميد عشرين سنة ونهاهم عن عبادة الأوثان فانتهوا وحاربوا أهل فلسطين واستردوا ما كانوا أخذوا لهم من القرى والبلاد واستقام أمرهم ثم دفع الأمر إلى ابنيه يؤال وأبيا‏.‏ وكانت سيرتهما سيئة‏.‏ فاجتمع بنو إسرائيل إلى شمويل وطلبوه أن يسأل الله في ولاية ملك عليهم فجاء الوحي بولاية طالوت فولاه وصار أمر بني إسرائيل ملكا بعد أن كان مشيخة والله معقب الأمر بحكمته لارب غيره‏.‏

  الخبر عن ملوك بني إسرائيل بع الحكام ثم افتراق أمرهم

والخبر عن دولة بني سليمان بن داود على السبطين يهوغا وبنيامين بالقدس إلى انقراضها‏.‏ لما نقم بنو إسرائيل على يوال وأبيا ابني شمويل مما نقموا من أمورهم واجتمعوا إلى شمويل وسألوه من الله أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه أعداءهم ويجمع نشرهم ويدفع الذل عنهم فجاء الوحي بأن يولي الله طالوت ميدهنه بدهن القدس فأبوا بعد أن أمر شمويل بأن يستهموا عليه فاستهموا على بني آبائهم فخرج السهم على طالوت وكان أعظمهم جسما فولوه‏.‏ واسمه عند بني إسرائيل شاول بن قيس بن أفيل بالفاء الهوائية القريبة من الباء ابن صار وابن نحورت بن أفياح‏.‏ فقام بملكهم واستوزر أفنين ابن عمه نير بن أفيل‏.‏ وكان لطالوت من الولد يهوناتان وملكيشوع وتشبهات وأنبياداف‏.‏ وقام طالوت بملك بني إسرائيل وحارب أعداءهم من بني فلسطين وعمون ومؤاب والعمالقة ومدين فغلب جميعهم‏.‏ ونصر بنو إسرائيل نصرا لا كفاء له‏.‏ وأول من زحف إليهم ملك بني عمون ونازل قرية بلقاء فهجم عليهم طالوت وهو في ثلثمائة ألف من بني إسرائيل فهزمهم واستلحمهم‏.‏ ثم أغزى ابنه في عساكر بني إسرائيل إلى فلسطين فنال منهم واجتمعوا لحرب بني إسرائيل فزحف إليهم طالوت وشمويل فانهزموا واستلحمهم بنو إسرائيل وأمر شمويل أن يسير إلى العمالقة وأن يقتلهم ودوابهم ففعل واستبقى ملكهم أعاع مع بعض الأنام فجاء الوحي إلى شمويل بأن الله قد سخطه وسلبه الملك فخبره بذلك وهره شمويل فلم يره بعد‏.‏ وأمر شمويل أن يقدس داود وبعث له بعلامته فسار إلى بني يهوذا في بيت لحم وجاء به أبوه إيشا فمسحه شمويل وسلب طالوت روح الجسد وحزن لذل ثم قبض شمويل وزحف جالوت وبنو فلسطين إلى بني إسرائيل فبرز إليهم طالوت في العساكر وفيهم داود بن إيشا من سبط يهوذا وكان صغيرا يرعى الغنم لأبيه‏.‏ وكان يقذف بالحجارة في مخلاته فلا تكاد تخطىء‏.‏ قال الطبري‏:‏ وكان شمويل قد أخبر طالوت بقتل جالوت وأعطاه علامة قاتله فاعترض بني إسرائيل حتى رأى العلامة فيه فسلحه وأقام في المصاف وقد احتمل الحجارة في مخلاته فلما عاين جالوت قذفه بحجارة فصكه في رأسه ومات‏.‏ وانهزم بنو فلسطين وحصل النصر فاستخلص طالوت حينئذ داود وزوجه ابنته وجعله صاحب سلاحه‏.‏ ثم ولاه على الحروب فاستكفى به وكان عمره حينئذ فيما قال الطبري ثلاثين سنة‏.‏ وأحبه بنو إسرائيل واشتملوا عليه‏.‏ وابتلي طالوت وبنوه بالغيرة منه وهم بقتله ونفذ لذلك مرارا ثم حمل ابنه يهونتان على قتله فلم يفعل لخلة ومصافاة كانت بينهما ودس إلى داود بدخيلة أبيه فيه‏.‏ فلحق بفلسطين وأقام فيها أياما ثم إلى بني مؤاب كذلك ثم رجع إلى سبطة يهوذا بنواحي بيت المقدس فأقام فيهم يقاتل معهم بني فلسطين في سائر حروبهم حتى إذا شعر به طالوت طلب بني يهوذا بإسلامه إليه فأبوا فزحف إليهم فأخرجوه عنهم ولحق ببني فلسطين وقاتلهم طالوت في بعض الأيام فهزموه واتبعوه وأولاده يقاتلون دونه حتى قتل يهونتان ومشوى وملكيشوع وبنو فلسطين في اتباعه حتى إذا أيقن بالهلكة قتل نفسه بنفسه‏.‏ وذلك فيما قال الطبري لأربعين سنة من ملكه‏.‏ ثم جاء داود إلى بني يهوذا فملكوه عليهم وهو داود بن إيشا بن عوفذ‏.‏ بالفاء الهوائية بن بوغر واسمه أفصان بالفاء الهوائية والصاد المشمة‏.‏ وقد قدمنا ذكره في حكام بني إسرائيل بن سلمون الذي نزل بيت لحم لأول الفتح ابن نحشون سيد بني يهوذا عند الخروج من مصر ابن عميناذاب نسبه في كتاب اليهود والنصارى وأنكره ابن حزم قال‏:‏ لأن نحشون مات بالتيه وإنما دخل القدس ابنه سلمون‏.‏ وبين خروج بني إسرائيل من مصر وملك داود ستمائة سنة باتفاق منهم‏.‏ والذي بين داود ونخشون أربعة آباء فإذا قسمت الستمائة عليهم يكون كل واحد منهم إنما ولد له بعد المائة والثلاثين سنة وهو بعيد‏.‏ ولما ملك داود على بني يهوذا نزل مدينتهم حفرون بالفاء الهوائية وهي قرية الخليل عليه السلام لهذا العهد واجتمع الأسباط كلهم إلى يشوشات بن طالوت فملكه في أورشليم وقام بأمره وزير أبيه أفيند وقد مر نسبه‏.‏ وفي كتاب أسفار الملوك من الإسرائيليات‏:‏ أن رجلا جاء لداود بعد وفاة طالوت فأخبره بمهلكه ومهلك أولاده في هزيمتهم أمام بني فلسطين وأمر هذا الرجل أن يقتله لما أدركوه فقتله وجاء بتاجه ودملجه إلى داود وانتسب إلى العمالقة فقتله داود بقتله‏.‏ وبكى على طالوت وذهب إلى سبط يهوذا بأرض حفرون بالفاء القريبة من الباء وهي قرية الخليل لهذا العهد‏.‏ وأقام شيوشيات بن طالوت في أورشليم الأسباط كلهم مجتمعون عليه وأقامت الحرب بينهم وبين داود أكثر من سنتين‏.‏ ثم وقع الصلح بينهم والمهادنة وأذعن الأسباط إلى داود وتركوه‏.‏ ثم اغتاله بعض قواده وجاء برأسه إلى داود فقتله به وأظهر عليه الحزن والأسف وكفل إخواته وبنيه أحسن كفالة‏.‏ واستبد داود بملك بني إسرائيل لثلاثين سنة من عمره وقاتل بني كنعان وغلبهم ثم طالت حروبه مع بني فلسطين واستولى على كثير من بلادهم ورتب عليهم الخراج‏.‏ ثم حارب أهل مؤاب وعمون وأهل أدوم وظفر بهم وضرب عليهم الجزية‏.‏ ثم خرب بلادهم بعد ذلك وضرب الجزية على الأرمن بدمشق وحلب وبعث العمال لقبضها‏.‏ وصانعه ملك أنطاكية بالهدايا والتحف واختط مدينة صهيون وسكنها واعتزم على بناء مسجد في مكان القبة التي كانوا يضعون بها تابوت العهد ويصلون إليها‏.‏ فأوحى الله إلى دانيال نبي على عهده أن داود لا يبني وإنما يبنيه ابنه ويدوم ملكه فسر داود بذلك‏.‏ ثم انتقض عليه ابنه أبشلوم وقتل أخاه أمون غيرة منه على شقيقه بامان وهرب‏.‏ ثم استماله داود ورده وأهدر دم أخيه وصير له الحكم بين الناس‏.‏ ثم رجع ثانيا لأربع سنين بعدها وخرج معه سائر الأسباط ولحق داود بأطراف الشام وقيل لحق بخيبر وما إليها من بلاد الحجاز ثم تراجع للحرب فهزمه داود وأدركه مؤاب وزير داود وقد تعلق بشجرة فقتله‏.‏ وقتل في الهزيمة عشرون ألفا من بني إسرائيل‏.‏ وسيق رأس قشلوط لولي أبيه داود فبكى عليه وحزن طويلا واستألف الأسباط ورضي عنهم ورضوا عنه‏.‏ ثم أحصى بني إسرائيل فكانوا ألف ألف ومائة ألف وسبط يهوذا أزيد من أربعمائة ألف‏.‏ وعوتب في الوحي لأنه أحصاهم بغير إذن وأخبره وأقام داود صلوات الله عليه في ملكه والوحي يتتابع عليه وسور الزبور تنزل‏.‏ وكان يسبح بالأوتار والمزامير‏.‏ وأكثر المزامير المنسوبة إليه في ذكر التسبيح وشأنه‏.‏ وفرض على الكهنونية من سبط لاوى التسبيح بالمزامير قدام تابوت العهد اثني عشر كوهناً لكل ساعة‏.‏ ثم عهد تمام أربعين سنة من دولته لابنه سليمان صلوات الله عليهما ومسحه مابان النبي وصادوق الحبر مسحة التقديس وأوصى ببناء بيت المقدس‏.‏ ثم قبض صلوات الله عليه ودفن في بيت لحم وكان لعهده من الأنبياء نامان وكاد وآصاف‏.‏ وكان الكهنون الأعظم أفيثار بن أحيلج من عقب عالي الكوهن الذي ذكرناه في الحكام‏.‏ وكان من بعده صادوق‏.‏ ثم قام بالملك من بعده في بني إسرائيل ابنه سليمان صلوات الله عليه وهو ابن اثنتين وعشرين سنة‏.‏ فاستفحل ملكه وغالب الأمم وضرب الجزية على جميع ملوك الشام‏.‏ مثل فلسطين وعمون وكنعان ومؤاب وأدوم والأرمن‏.‏ وأصهر إليه الملوك من كل ناحية ببناتهم وكان ممن تزوج بنت فرعون بصر وكان وزيره يؤاب بن نيثر وهو ابن أخت داود اسمها صوريا‏.‏ وكان وزيرا لداود‏.‏ فلما ولي سليمان استوزره فقام بدولته ثم قتله بعد ذلك واستوزر يشوع بن شيداح‏.‏ ولأربع سنين من ملكه شرع في بيت المقدس بعهد أبيه إليه بذلك فلم يزل إلى آخر دولته بعد أن هدم مدينة أنطاكية وبنى مدينة تدمر في البرية وبعث إلى ملك صور ليعينه في قطع الخشب من لبنان‏.‏ وأجرى على الفعلة فيه كل عام عشرين ألف كر من الطعام ومثلها من الزيت ومثلها من الخمر‏.‏ وكان الفعلة في لبنان سبعين ألفا ولنحت الحجارة ثمانين ألفا وخدمة المناولة سبعون ألفا‏.‏ وكان الوكلاء والعرفاء على ذلك العمل ثلاثة آلاف وثلثمائة رجل‏.‏ ثم بنى الهيكل وجعل ارتفاعه مائة ذراع في طول ستين وعرض عشرين‏.‏ وجعل بدائره كله أروقة وفوقها مناظر وجعل بدائر البيت أبريدا من خارج ونمقه وجعل الظهر مقورا ليودع فيه تابوت العهد‏.‏ وصفح البيت من داخله وسقفه بالذهب وصنع في البيت كروبيين من الخشب مصفحتين بالذهب وهما تمثالان للملائكة الكروبيين‏.‏ وجعل للبيت أبوابا من خشب الصنوبر ونقش عليها تماثيل من الكروبيين والنرجس والنخل والسوسن وغشاها كلها بالذهب‏.‏ وأتم بناء الهيكل في سبع سنين وجعل لها بابا من ذهب ثم بنى بيتا لسلاحه أقامه على أربعة صفوف من العمد من خشب الصنوبر في كل صف خمسة عشر عمودا ووضع فيه مائتي ترس من الذهب في كل ترس ستمائة من حجر الجوهر والزمرد وثلثمائة درقة من الذهب في كل درقة ثلثمائة من حجر الياقوت‏.‏ وسمى هذا البيت غيضة لبنان‏.‏ وصنع منبرا لجلوسه تحت رواق وكراسي كثيرة كلها من العاج ملبسة من الذهب‏.‏ لسائر ما يحتاج إليه في البيت واسترضى الصناع لذلك من مدينة صور‏.‏ وعمل مذبح القربان بالبيت من الذهب ومائدة الخبز الوجوه من الذهب وخمس منابر عن يمين الهيكل وخمسا عن يساره بجميع آلاتها من الذهب ومجامر من الذهب‏.‏ وأحضر موروث أبيه من الذهب والفضة والأوعية الحسنة فأدخلها إلى البيت وبعث إلى تابوت العهد من صهيون قرية داود إلى البيت الذي بناه له فحمله رؤساء الأسباط والكهنونية بالمسجد‏.‏ وكان في التابوت اللوحان من الحجارة اللذان صنعهما موسى عليه السلام بدل الألواح المنكسرة وحملوا مع تابوت العهد قبة القربان وأوعيتها إلى المسجد‏.‏ وأقام سليمان أمام المذبح يدعو في يوم مشهود اتخذ فيه وليمة لذلك ذبح فيها اثنين وعشرين ألفا من البقر‏.‏ ثم كان يقرب ثلاث مرات في قرابين وذبائح كاملة ويبخر البخور وجميع الأوعية لذلك كلها ذهب‏.‏ وكانت جبايته في كل سنة ستمائة قنطار وستة وستين قنطارا من الذهب غير الهدايا والقربان إلى بيت المقدس‏.‏ وكانت له سفن بحر الهند تجلب الذهب والفضة والبضائع والفيلة والقرود والطواويس وكانت له خيل مرتبة كثيرة تجلب من مصر وغيرها تبلغ ألفا وستمائة فرس معدة كلها للحرب‏.‏ وكانت له ألف امرأة لفراشه ما بين حرة وسرية منها ثلثمائة سرية‏.‏ وفي الأخبار للمؤرخين أنه تجهز للحج فوافى الحرم وأقام فيه ما شاء الله‏.‏ وكان يقرب كل يوم خمسة آلاف بدنة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة‏.‏ ثم سما إلى ملك اليمن وسار إليه فوافى صنعاء من يومه‏.‏ وطلب الهدهد لالتماس الوضوء وكان قناقه أي ملتمس الوضوء له في الأرض فافتقده ورجع إليه بخبر بلقيس كما قصه القرآن‏.‏ ودافعته بالهدية فلم يقبلها فلاذت بطاعته ودخلت في دينه وطاعته‏.‏ وملكته أمرها ووافته بملك اليمن‏.‏ وأمرها بأن تتزوج فنكرت ذلك لمكان الملك فقال‏:‏ لا بد في الدين من ذلك‏.‏ فقالت زوجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه وملكه على اليمن واستعملها فيه ورجع إلى الشام‏.‏ وقيل تزوجها وأمر الجن فبنوا لها سليمين وغمدان‏.‏ وكان يزورها في الشهر مرة يقيم عندها ثلاثا‏.‏ وعلماء بني إسرائيل ينكرون وصوله إلى الحجاز واليمن‏.‏ وإنما ملك اليمن عندهم بمراسلة ملكة سبأ وأنها وفدت عليه في يروشالم وأهدت إليه مائة وعشرين قنطاراً من الذهب ولؤلؤاً وجوهراً وأصنافاً من الطيب والمسك والعنبر فأجازها وأحسن إليها وانصرفت‏.‏ هكذا في كتاب الأنساب من كتبهم‏.‏ ثم انتقض على سليمان آخر أيامه هدرور ملك الأرمن بدمشق وهداد ملك أدوم وكان قد ولى على ضواحي بيت المقدس وجميع أعماله يربعان بن نباط من سبط أفرايم واستكفى به في ذلك وكان جبارا فعوتب بالوحي على لسان أخيا النبي في توليته فأراد قتله وشعر بذلك يربعان فهرب إلى مصر فأنكحه فرعون ابنته وولدت له ابنه ناباط وأقام بمصر‏.‏ وقبض سليمان صلوات الله عليه لأربعين سنة من ملكه وقيل لاثنتين وخمسين ودفن عند أبيه داود صلوات الله عليهما‏.‏ وافترق ملك بني إسرائيل من بعده كما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏