فصل: شهر ذي الحجة الحرام سنة 1220

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **


 شهر ذي الحجة الحرام سنة 1220

استهل بيوم الخميس فيه حضر مصطفى آغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي من الجهة القبلية وقد تقدم أنهما ذهبا وعادا ثم رجعا ثانيًا على الهجن لتقرير الصلح ثم رجعا ولم يظهر أثر لذلك الصلح وحكى الناس عنهما أن المذكورين لما ذهبا إلى أسيوط وجدا إبراهيم بك قد انتقل إلى ناحية طحطا واجتمعا بعثمان بك حسن والبرديسي فلم يرضيا بالتوجيه الذي وجه به إليهم وهو من حدود جرجا وقالا لا يكفينا إلا من حدود المنية فأن الفرنساوية كانوا أعطوا حكم البلاد القبلية من حدود المنية لمراد بك بمفرده فكيف أنه يكفينا نحن الجميع من جرجا وشرطوا أيضًا أنه إن استقر الصلح على مطلوبهم لا بد من إخلاء الإقليم من هذه العساكر الذين لا يتحصل منهم إلا الضرر والخراب والدمار والفساد ولا يبقى الباشا منهم إلا مقدار ألأفي عسكري وقالوا أنه أيضًا إذا لم يعطنا مطلوبنا فهو لا يستغني عن أناس من العسكر يقيمون بالبلاد التي يبخل علينا بها فنحن أولى له وأحسن منهم ونقوم بما على البلاد من المال والغلال وعند ذلك يحصل الأمن وتسير المسافرون في المراكب وترد المتاجر والغلال ويحصل لنا وله راحة وأما إذا استمر الحال على هذا المنوال فإنه لم يزل متعبًا من كثرة العسكر ونفقاتهم وكذلك سائر البلاد على أنه إن لم يرض بذلك فها هي البلاد بأيدينا والأمر مستمر معنا ومعهم على التعب والنصب‏.‏

وفي رابعه ورد الخبر بأن جماعة من كبار العسكر وفيهم سليمان آغا الأرنؤدي الذي تولى كسوفية منفلوط ومعهم عدة وافرة من العسكر عدوا من المنية إلى البر الشرقي بالمطاهرة بسبب ما عندهم من القحط وعدم الأقوات لإحاطة المصريين بهم فلما دخلوا إلى بلدة المطاهرة وملكوها وصل إليهم بعض الأمراء والأجناد المصرية وأحاطوا بهم وحاربوهم أيامًا حتى ظهروا عليهم وقتلوا منهم وهرب من هرب وهو القليل وأسروا الباقي وفيهم سليمان آغا المذكور فالتجأ إلى بعض الأجناد فحماه من القتل وقابل به كبار الأمراء فأنعموا عليه بكسوة ودراهم وسلاح وأقام معهم أيامًا ثم استأذنهم للعود وحضر إلى مصر وجلس بداره‏.‏

وفيه ورد الخبر أيضًا بموت الأمير بشتك بك المعروف بالألفي الصغير مبطونًا‏.‏

وفيه أيضًا حضر حجاج الخضري الرميلاتي إلى مصر وقد كان خرج من مصر بعد حادثة خورشيد باشا خوفًا من العسكر وذهب إلى بلده بالمنوات ثم ذهب عند الألأفي وأقام في معسكره إلى هذا الوقت ثم أن الألأفي طرده لنكتة حصلت منه فرجع إلى بلده وأرسل إلى السيد عمر فكتب له أمانًا من الباشا فحضر بذلك الأمان وقابل الباشا وخلع عليه ونادوا له في خطته بأنه على ما هو عليه في حرفته وصناعته ووجاهته بين أقرانه فصار يمشي في المدينة وصحبته عسكري ملازم له‏.‏

وفي يوم الجمعة تاسعه كان يوم الوقوف بعرفة وفي ذلك اليوم ركب محمد علي بالأبهة الكاملة وصلى الجمعة بالمشهد الحسيني ولم يركب من وقت ولايته بالهيئة إلا في هذا اليوم وفي عصر تلك ضربوا عدة مدافع من القلعة إعلامًا بالعيد وكذلك في صبحها وفي كل وقت من الأوقات الخمسة مدة أيام التشريق‏.‏

وفي رابع عشره حضر جاهين بك الألأفي ومعه طوائف من العربان إلى إقليم الجيزة وأخذوا الكلف وأغنامًا من البلاد ودراهم وأشيع بذلك وأمروا بخروج العساكر إليهم وركب محمد علي باشا في يوم الخميس وخرج إلى ناحية بولاق وأنزلوا من القلعة جبخانه ومدافع وطفقوا يخطفون الحمير من الأسواق إن وجدوها وعدى طائفة من العساكر الخيالة إلى بر الجيزة وعدى طاهر باشا إلى بر أنبابة وصحبته عساكر كثيرة وأزعجوا أهل القرية وخرجوهم من دورهم وسكنوا بها وأطلقوا دوابهم وخيولهم على المزارع فأكلوها بأجمعها ولم يبقوا منها ولا عودًا أخضر في أيام قليلة‏.‏

وفيه اختفى حجاج الخضري أيضًا بسبب ما داخله من الوهم والخوف من العسكر‏.‏

وفي عشرينه شرع عساكر حسن باشا في التعدية من ناحية معادي الخبيري إلى البر الآخر‏.‏

وفي يوم الأحد خامس عشرينه عدى حسن باشا أيضًا‏.‏

وفي يوم الاثنين نودي في الأسواق على العساكر الذين لم يكونونا في قوائم العسكر الذين يقال لهم السير بالسفر والخروج إلى بلادهم ومن وجد منهم بعد ثلاثة أيام قتل وكذلك كتبوا فرمانات وأرسلوها إلى البلاد بمعنى ذلك ومن كان من أهل البلد أو المغاربة أو الأتراك بصورة العسكر ومتزييًا بزيهم فلينزع ذلك وليرجع إلى زيه الأول‏.‏

وفيه أيضًا نودي على المعاملة الناقصة لا تقبض إلا بنقص ميزانها لأن المعاملة فحش نقصها جدًا وخصوصًا الذهب البندقي الذي كان أحسن أصناف العملة في الوزن والعيار والجودة فأن العسكر تسلطوا عليه بالقص فيقصون من المشخص الواحد مقدار الربع أو أكثر أو أقل ويدفعونه في المشتروات ولا يقذر المتسبب على رده أو طلب إرش نقصه وكذلك الصيرفي لا يقدر على رده أو وزنه وقتل بذلك قتلى كثيرة وأغلق الصيارف حوانيتهم وامتنعوا من الوزن خوفًا من شرهم وكذلك نودي على التعامل في بيع البن بالريال المعاملة وهو تسعون نصفًا وقد كان الاصطلاح في بيع البن بالفرانسة فقط وبلغ صرف الفرانسة مائة وثمانين نصفًا ضعف الأول وعز وجوده لرغبة الناس فيه لسلامته من الغش والنقص لأن جميع معاملة الكفار قوله السير هكذا في نسخ وفي بعض النسخ القبسير ولم نقف بعد المراجعة عليها بهامش النسخة المطبوعة سالمة من الغش والنقص بخلاف معاملات المسلمين فأن الغالب على جميعها الزيف والخلط والغش والنقص فلما انطبعوا على ذلك ونظروا إلى معاملات الكفار وسلامتها تسلطوا عليها بالقطع والتنقيص والتقصيص تتميمًا للغش والخسران والانحراف عن جميع الأديان وقال صلى الله عليه وسلم الدين المعاملة ومن غشنا فليس منا فيأخذون الريالات الفرانسة إلى دار الضرب ويسبكونها ويزيدون عليها ثلاثة أرباعها نحاسًا ويضربونها قروشًا يتعاملون بها ثم ينكشف حالها في مدة يسيرة وتصير نحاسًا أحمر من أقبح المعاملات شكلًا ووضعًا لا فرق بينها وبين الفلوس النحاس التي كانت تصرف بالأرطال في الدول المصرية السابقة في الكم والكيف بل تلك أجمل من هذه في الشكل وقد شاهدنا كثيرًا منها وعليها أسماء الملوك المتقدمين ووزن الواحد منها نصف أوقية وكان الدرهم المتعامل به إذ ذاك من الفضة الخالصة على وزن الدرهم الشرعي ستة عشر قيراطًا ويصرف بثلاثة أرطال من الفلوس النحاس فيكون رف الدرهم الواحد اثنين وسبعين فلسًا تستعمل في جميع المشتروات والمرتبات والمعاليم واللوازم للبيوت والجزئيات والمحقرات فلما زالت الدولة القلوونية وظهرت دولة الجراكسة واستقر الملك المؤيد شيخ في سلطنة مصر وبدا الاختلال اختصر الدرهم المتعامل به وجعله نصف درهم وهو ثمانية قراريط وسمي نصف مؤيدي ولم تزل تتناقص حتى صارت في آخر الدولة الجركسية أقل من ربع الدرهم واختل أمر الفلوس النحاس والمرتبات والوظائف بالأوقاف المشروط فيها صرف المعاليم بالفلوس ولم يزل الحال يختل ويضعف بسبب الجور والطمع والغش وغباوة الأمر وعمي بصائرهم عن المصالح العامة التي بها قوام النظام حتى تلاشى أمر الدراهم جدًا في الوزن والعيار وصار الدرهم المعبر عنه بالنصف أقل من العشر للدرهم وفيه من الفضة الخالصة نحو الربع فيكون في النصف الذي هو الآن بدل الدرهم الأصلي من الفضة الخالصة أقل من ربع العشر فيكون في النصف الواحد من معاملتنا الآن الذي وزنه خمس قمحات فقيراط وربع ثلث قيراط من الفضة وذلك بدل عن ستة عشر قيراطًا وهو الدرهم الأصلي الخالص فانظروا إلى هذا الخسران الخفي الذي انمحقت به البركة في كل شيء فإن الدرهم الفضة الآن صار بمنزلة الفلس النحاس القديم فتأمل واحسب تجد الأمر كذلك فإذا فرضنا أن إنسانًا اكتسب ألف درهم من دراهمنا هذه فكأنه اكتسب خمسة وعشرين لا غير وهو ربع عشرها على أنه إذا حسبنا قيمة الخمسة وعشرين في وقتنا هذا عن كل درهم ثلاثون نصفًا فإنها تبلغ سبعمائة وخمسين ويذهب الباقي وهو مائتان وخمسون هدرًا وأما الذهب فإن الدينار كان وزنه في الزمن الأول مثقالًا من الذهب الخالص ثم صار في الدولة الفاطمية وما بعدها عشرين قيراطًا وكان يصرف بثلاثين درهمًا من الفضة فلما نقص الدرهم زاد صرف الدينار إلى أن استقر وزن الدينار في أوائل القرن الماضي ثلاثة عشر قيراطًا ونصفًا ويصرف بتسعين نصفًا وهو المعبر عنه بالأشرفي والطرلي المعروف بالفندقلي يصرف بمائة وكانا جيدين في العيار وكذلك الأنصاف العددية كانت إذ ذاك جيدة العيار والوزن وكان الريال يصرف بخمسين نصفًا والريال الكلب باثنين وأربعين نصفًا ثم صار الدينار وهو المحبوب الجنزرلي بمائة وخمسين والفندقلي بمائة وعشرين والفرانسة بستين ثم حدث المحبوب الزر في أيام السلطان أحمد بدلًا عن الجنزرلي وغلا صرف الجنزرلي وكان في وزن المشخص وعياره ووزن الزر ثلاثة عشر قيراطًا ونصف إلى أن زاد الاختلال في أيام علي بك والمعلم رزق واستيلائه على دار الضرب والقروش واستعمل ضرب القروش واستكثر منها وزاد في غشها لكثرة المصاريف على العساكر والتجاريد والنفقات واستقر الأشرفي المعروف بالزر بمائة وعشرة والطرلي بمائة وستة وأربعين والمشخص بمائتين والريال الفرانسة بخمسة وثمانين مدة من أيام علي بك وفحش وجود القروش المفردة وضعفها وأجزاؤها حتى لم يبق بأيدي الناس من التعامل إلا هي وعز باقي الأصناف المذكورة وطلبت للسبك والادخار وصياغة الحلي فترقت في الصارفة والإبدال فلما زالت دولة علي بك وتملك محمد بك أبو الذهب نادى بإبطال تلك القروش بأنواعها رأسًا فخسر الناس خسارة عظيمة من أموالهم وباعوها بالأرطال للسبك واقتصروا على شرب الأنصاف العددية والمحبوب الزر والنصفيات لا غير ونقصوا من وزنها وعيارها ونقصت قيمتها وغلت في الصارفة وزاد الحال بتوالي الحوادث والمحن والغلاء والغرامات وضيق المعاش وكساد البضائع وتساهلوا في زيادة المصارفة وخصوصًا في ثمن السلع والمبايعات وخلاص الحقوق من المماطلين واقترن بذلك تغافل الحكام وعدم التفاتهم لمصالح الرعية وطمعهم وتركهم النظر في العواقب إلى أن تجاوزت في وقتنا هذا الحدود وبلغت في المصارفة أكثر من الضعف وصار صرف المحبوب مائتين وخمسة بل وعشرة والريال الفرانسة بمائة وخمسة وسبعين بل وثمانين والمشخص البندقي بأربعمائة وأكثر والمجر بثلاثمائة وستين والفندقلي بثلاثمائة وعشرين وهو الجديد ويزيد القديم لجودة عياره عن الجديد وتتفاوت المثلية في المحبوب بجودة العيار فإذا أبدل السلمي الموجود الآن بالمحمودي زيد في مصارفته أربعون نصفًا وأكثر بحسب الرغبة والاحتياج ويتفاوت أيضًا المحمودي بمثله فيزيد أبو وردة عن الراغب ويزيد الراغب عن الذي فيه حرف العين ويكون المحبوبان في تحويل المعاملة بدلًا عن المشخص الواحد مع أن وزنهما سبعة وعشرون قيراطًا ووزن المشخص ثمانية عشر قيراطًا فالتفاوت بينهما تسعة قراريط وهي ما فيه من الخلط وغير ذلك مما يطول شرحه ويعسر تحقيقه وضبطه ولم يزل أمر المعاملة وزيادة صرفها وإتلاف نقودها واضطرابها مستمر أو كل قليل ينادون عليها مناداة بحسب أغراضهم لا نسمع ولا تقبل ولا يلتفت إليها لأن أصل الكدر منبعث عنهم ومنحدر عن مجراة خبائثهم وفسادهم‏.‏

وفي آخره أذن الباشا لولده الكبير بالذهاب لزيارة سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه بطندتا وعين صحبته أتباعًا وعسكرًا وهجنًا وقرر له دراهم على البلاد ألف ريال فما دونها خلاف الكلف وكذلك سافر حريمات ورئيسهن حريم مصطفى آغا الوكيل في هيئة لم يسبق مثلها في تختروانات وعربات ومواهي وأحمال وجمال وعسكر وخدم وفراسين وفرضوا لهن أيضًا مقررات على البلاد وكلفًا ونحو ذلك وأظن أن هذه المحدثات من أهوال القيامة‏.‏

ومات فيها الإمام العلامة والبحر الفهامة صدر المدرسين وعمدة المحققين مفتي الحنفية بالديار لمصرية الشيخ محمد عبد المعطي ابن الشيخ أحمد الحريري الحنفي ولد سنة ثلاث وأربعين ومائة وألف ونشأ في عفة وصلاح وحفظ القرآن وجوده وحفظ المتون وحضر أشياخ العصر وجود الخطوكان ينسخ بالأجرة وكتب كتبًا كثيرة وخطه في غاية الصحة والجودة وغلبها في الأدبيات كالريحانة وخبايا الزوايا وخزانة الأدب والتي بخطه من ذلك في غاية الحسن والقبول وكان شافعي المذهب ثم تحنف وحضر على أشياخ المذهب مثل الشيخ محمد الدلجي والشيخ محمد العدوي ولازم الشيخ حسن المقدسي ملازمة كلية وانتسب إليه وعرف به وحضر عليه وتلقى عنه غالب الكتب المشهورة في المذهب وحضر باقي العلوم على الشيخ الملوي والحنفي والشيخ علي العدوي وغيرهم وكان يكتب الأجوبة على الفتاوى عن لسانه ولما توفي شيخه المذكور تقرر مكانه في وظيفة الخطابة والإمامة بجامع عثمان كتخدا بالأزبكية وسكن بالدار المشروطة له بها السكنى برحاب الجامع المذكور وكانت خطبه في غاية الخفة والاختصار ولوعظه وقع في النفوس لخلوه عن التصنع ولما مات الشيخ أحمد الدمنهوري في سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف وحصل ما حصل للشيخ عبد الرحمن العريشي كما تقدم تعين المترجم لمشيخة الحنفية والفتوى عوضًا عن المذكور قبل وفاته بأيام قليلة وكان أهلًا لذلك وكفاله وسار فيها حسنًا بحشمة واشتهر ذكره وقصدته الناس للفتوى والإفادة وأقبلت عليه الدنيا وسكن دارًا مشرفة على الأزبكية جارية في وقف عثمان كتخدا واشترى أيضًا دارًا نفيسة بالجودرية وأسكنها لغيره بالأجرة وانحصرت فيه وظائف مشيخة الحنفية كالتدريس في مدرسة المحمودية والصرغتشمية والمحمدية وغيرها فكان يباشر الإقراء بنفسه في بعضها والبعض ولده العلامة الشيخ إبراهيم ولم يزل يقرئ ويملي ويفيد حتى في حال انقطاعه وذلك أنه لما مات أحمد آغا غانم وحصل بين عتقائه منازعة ثم اتفقوا على تحكيم المترجم بينهم والتمسوا منه أن يذهب صحبتهم إلى فوة ليصلح بينهم فلما ذهب إلى بولاق وأراد النزول في السفينة اعتمد على بعض الواقفين فعثرت رجله فقبض ذلك الرجل على معصمه فانكسر عظمه لنحافة جسمه فعادوا به إلى داره وأحضروا له من عالجه حتى بريء بعد شهور وفرحوا بعافيته ودعاه بعض أحبابه بناحية قناطر السباع فركب وذهب إليه وكانت أول ركباته بعد برئه فلما طلع إلى المجلس وأراد الصعود إلى مرتبة الجلوس زلقت رجله فانكسر عظم ساقه وتكدر الحاضرون وحملوه وذهبوا به إلى داره وأحضروا له المعالج فلم يحسن المعالجة وتألم تألمًا كثيرًا واستمر ملازمًا للفراش نحو سبع سنوات ثم توفي يوم الأربعاء سابع عشر رجب من السنة عن سبع وسبعين سنة ودفن بتربة الأزبكية وتعين بعده في المشيخة والإفتاء ولده المحقق العلامة المستعد الشيخ إبراهيم أدام الله النفع بحياته وحفظ عليه أولاده‏.‏

ومات الأجل الأمثل المفوه المنشئ النبيه الفصيح المتكلم عثمان أفندي ابن سعد العباسي الأنصاري من ولد آخر الخلفاء العباسية بمصر المتوكل على الله ووالده يعرف بالأنصاري من جهة النساء من بيت السيادة والخلافة ولد بمصر وبها نشأ واشتغل بالعلم على فضلاء الوقت ومهر في الفنون بذكائه وعانى الحساب والنجوم فأخذ منها حظًا ونزل كاتب سر في ديوان بعض الأمراء ولامه بعض محبيه في ذلك فاعتذر أنه إنما قدم عليه صيانه لبعض بلاده وضياعه التي استولت عليها أيدي الظلمة فلا محيد له عن عشرتهم واجتمع بشيخنا الشيخ محمود الكردي وأراد السلوك في طريق الخلوتية وترك شرب الدخان ولازمه كثيرًا وتلقن الاسم الأول والأوراد وأقلع عما كان عليه حتى لاحت عليه أنوار ملازمته واعتقده جدًا وبعد وفاة الأستاذ رجع إلى حالته وشرب الدخان ثم ولي خليفة على غلال الحرمين فباشرها بشهامة ثم ولي روزنامة مصر بصرامة وقوة مراس وشدة ومخادعة وراج أمره واتسع حاله وزادت حشمته وذلك بعد عزل أحمد أفندي الكماخي الروزنامجي وثقل أمره على باقي الكتبة والناس فأوغروا عليه وعزلوه فضاق صدره وزاد قلقه وحدث فيه رعونة وتردد لمشاهد الأولياء في الليل والنهار يبتهل ويدعو ويفرق خبزًا ودراهم ويأوي إليه المجاذيب والذين يدعون الصلاح والولاية فيكرمهم برهة ويرون له مرائي ومنامات وإخباريات فيزداد هوسه ثم لما يطول الحال ينقطع عنهم ويبدلهم بآخرين وهكذا وكان نام مع بعضهم في لحريم ويترجم بعضهم بمكاشفات وشطحيات ويقول فلان يطلع على خطرات القلوب وفلان يصعد إلى السماء ومن كرامات فلان كذا ثم يرجع عن ذلك ولما مات السيد محمد عيد في كتابة الروزنامه أيضًا واستمر بها ثمانية عشر شهر وكانت إعادته في سنة ثمان بعد المائتين ثم انحرف عليه إبراهيم بك الكبير وعزله وكان يظن أن الأمر يؤول إليه فلم يتم له ذلك وأحضر إبراهيم بك السيد إبراهيم ابن أخي المتوفي وقلده ذلك فعندها أيس المترجم منها واختلفت الأمور بحدوث الفتن وتقلب الدول والأحوال ولازم شأنه وبيته بعد رجوعه من هجرته إلى الشام في حادثة الفرنسيس واعترته الأمراض واجتمعت لديه كتب كثيرة في سائر العلوم وبيعت بأسرها في تركته توفي يوم الأربعاء خامس عشرين شوال من السنة‏.‏

ومات العمدة الإمام الصالح الناسك العلامة والبحر الفهامة الشيخ محمد ابن سيرين بن محمد بن محمود ابن جيش الشافعي المقدسي ولد في حدود الستين وقدم به والده إلى مصر فقرأ القرآن واشتغل بالعلم وحضر دروس الشيخ عيسى البراوي فتفقه عليه وحلت عليه أنظاره وحصل طرفًا جيدًا من العلوم على الشيخ عطية الأجهوري ولازمه ملازمة كلية وبعد وفاة شيخه اشتغل بالحديث فسمع صحيح مسلم علي الشيخ أحمد الراشدي واتصل بشيخنا الشيخ محمود الكردي فلقنه الذكر ولازمه وحصلت له منه الأنوار وانجمع عن الناس ولاحت عليه لوائح النجابة وألبسه التاج وجعله من جملة خلفاء الخلوتية وأمره بالتوجه إلى بيت المقدس فقدمه وسكن بالحرم وصار يذاكر الطلبة بالعلوم ويعقد حلقة الذكر وله فهم جيد مع حدة الذهن وأقبلت عليه الناس بالمحبة ونشر له القبول عند الأمراء والوزراء وقبلت شفاعته مع الانجماع عنهم وعدم قبول هداياهم وأخبرني بعض من صحبه أنه يفهم من كلام الشيخ ابن العربي ويقرره تقريرًا جيدًا ويميل إلى سماعه وحج من بيت المقدس وأصيب في العقبة بجراحة في عضده وسلب ما عليه وتحمل تلك المشقات ورجع إلى مصر فزار شيخه الشيخ محمود أو جلس مدة ثم أذن له بالرجوع إلى بلده وسمع أشياء كثيرة في مبادي عمره واقتبس من الأشياخ فوائد جمة حتى قبل اشتغاله بالعلم وفي سنة 1182 كتب إلى شيخنا السيد مرتضى يستجيزه فكتب له أسانيده العالية في كراسة وسماها قلنسوة التاج وقد تقدم ذكرها في ترجمة السيد مرتضي ولم يزل يملي ويفيد ويدرس ويعيد واشتهر ذكره في الآفاق وانعقد على اعتقاده وانفراده الاتفاق وسطعت أنواره وعمت أسراره وانتشرت في الكون أخباره وازدحمت على سدته زواره إلى أن أجاب الداعي ونعته النواعي وذلك سابع عشرين شهر شعبان من السنة ولم يخلف بعده مثله وبه ختمت دائرة المسلكين من الخلوتية ورجال السادة الصوفية وحسن به ختم هذا الجزء الثالث من كتاب عجائب الآثار في التراجم والأخبار لغاية سنة عشرين ومائتين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وسنقيد إن شاء الله تعالى ما يتجدد بعدها من الحوادث من ابتداء سنة إحدى وعشرين التي نحن بها الآن إن امتد الأجل وأسعف الأمل ونرجو من الكريم المتعال صلاح الأحوال وانقشاع الهموم وصلاح العموم إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير والله أعلم‏.‏

سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف استهل شهر المحرم بيوم الخميس حسابًا ويوم السبت هلال ووافق ذلك انتقال الشمس لبرج الحمل فاتحدت السنة القمرية والشمسية وهو يوم النوروز السلطاني وأول سنة الفرس وهو التاريخ الجلالي اليزدجردي وتاريخهم في هذه السنة ألف ومائة وستة وسبعون وكان طالع التحويل الواقع في يوم الجمعة في خامس ساعة ونصف من النهار سبع درجات ونصفًا من برج السرطان وصاحبه في حين العاشر منصرف عن تربيع المشتري ومقارنة عطارد والمشتري في السابع والمريخ مع الزهرة في العاشر وهي رجعة وكيوان في الرابع وهو دليل على ثبات دولة القائم وتعب الرعية والحكم لله العلي الكبير‏.‏

وفي ثالثه في ليلة الثلاثاء وصل إلى بولاق قابجي وعلى يده تقرير لمحمد علي باشا بولايته بمصر وصحبة التقرير خلعة وهي فروة سمور فلما أصبح النهار عمل محمد علي باشا ديوانًا بمنزله بالأزبكية وحضر السيد عمر النقيب والمشايخ والأعيان وحضر ذلك الآغا من بولاق في موكب ودخل من باب النصر وشق من وسط المدينة وأمامه الآغا والوالي والمحتسب والأغوات والجاويشية وخلفه النوبة التركية فلما وصلوا إلى بات الخرق عطفوا على جهة الأزبكية فلما قرئ التقليد ضربوا مدافع كثيرة من الأزبكية والقلعة وعملوا تلك الليلة شنكًا وحراقات ونفوطًا وسواريخ كثيرة وطبولًا وزمورًا بالأزبكية‏.‏

وفي سابعه وصلت الأخبار بوقوع حروب بين العساكر والعربان والأمراء المصرية بناحية جزيرة الهواء وقتل شخص من كبار العسكر يسمى كور يوسف وغيره ووصل إلى مصر عدة جرحى وهرب من العسكر طائفة وانضموا إلى الأمراء المصريين وأرسل حسن باشا يستنجد الباشا بإرسال عساكر إليه وفي ذلك اليوم نادوا في الأسواق بعدم المشي في الأسواق من أذان العشاء وخرج كتخدا بك إلى بولاق في آخر النهار ونصب وطاقه ببر أنبابة وخرج سليمان آغا بجملة من العسكر وذهب إلى ناحية طرا‏.‏

وفي ثامنه عدى كتخدا بك إلى البر الغربي وانتقل طاهر باشا إلى الجيزة وأقام بها محافظًا‏.‏

وفيه أمر الباشا بجمع الأجناد المصرية والوجاقلية وأمرهم بالتعدية إلى البر الغربي وكان تخوف وفي هذه الأيام كان مولد سيدي أحمد البدوي والجمع بطندتا المعروف بمولد الشرنباباية وهرع غالب البلد بالذهاب إليه وأكثروا الجمال والحمير بأغلى الأجرة لأن ذلك صار عند أهل الإقليم موسمًا وعيدًا لا يتخلفون عنه إما للزيادة أو للتجارة أو للنزاهة أو للفسوق ويجتمع به العالم الأكبر وأهالي الإقليم البحري والقبلي وخرج أكثر أهالي البلد بحمولهم فكان الواقفون على الأبواب يفتشون الأحمال فوجدوا مع بعضهم أشياء من أسباب الأجناد المصرية وملابسهم ونحو ذلك فوقع بسبب ذلك إيذاء لمن وجدوا معه شيئًا من ذلك ولباقي الناس ضرر بنبش متاعهم فكان من الناس من يأخذ معه أشخاصًا من العسكر من طرف الآغا يسلكونهم للخروج من غير تفتيش ويمنعون المتقيدين بالأبواب عن التعرض لهم ونبش متاعهم وأحمالهم‏.‏

وفي تاسعه وصل الخبر بأن عابدين بك لما بلغه خروج الألفي من الفيوم ذهب إليها صحبة الدلاة فلم يجد بها أحد فدخلها وأرسل المبشرين إلى مصر بأنه ملك الفيوم فضربوا مدافع لذلك وانبث المبشرون يطوفون على بيوت الأعيان يبشرونهم بذلك ويأخذون على ذلك الدراهم والبقاشيش ثم لما بلغ عابدين بك ما حصل لأخيه حسن باشا من الهزيمة رجع إليه وأقام معه ناحية الرقق‏.‏

وفي عاشره وصل الألفي إلى ناحية كرداسة وانتشرت عساكره وعربانه بإقليم الجيزة فلم يخرج وفيه أرسل الألفي مكتوبًا خطابًا إلى السيد عمر أفندي مكرم النقيب والمشايخ مضمونه نخبركم أن سبب حضورنا إلى هذه الجهة إنما هو لطلب القوت والمعاش فإن الجهة التي كنا بها لم يبق فيها شيء يكفينا ويكفي من معنا من الجيش والأجناد ونرجو من مراحم أفندينا بشفاعتكم أن ينعم علينا بما نتعيش به كم رجونا منه في السابق فلما كان في صبحها يوم الاثنين حادي عشره ركب السيد عمر إلى الباشا وأخبره بذلك وأطلعه على المراسلة فقال ومن أتى به قال له تابع مصطفى كاشف المورلي وقد ترك متبوعه بالبر الآخر فقال له اكتب له بالحضور حتى نتروى معه مشافهة وفي ذلك الوقت حضر إلى الباشا من أخبره بأن طائفة من المصريين وجيوشهم وصلوا إلى بر أنبابة فخرج إليهم طائفة من العسكر المرابطين هناك وتحاربوا معهم بسوق الغنم ووقع بينهم بعض قتلى وجرحى فركب من فوره وذهب إلى بولاق فنزل بالساحل وجلس هناك ساعة ثم ركب عائدًا إلى داره بعد أن منع من تعدية المراكب إلى بر أنبابة ثم أمرهم بالتعدية لربما احتاجوها وكان كذلك فإنهم رجعوا مهزومين فلو لم يجدوا المعادي لحصل لهم هول كبير‏.‏

وفي يوم الثلاثاء حضر مصطفى كاشف المورلي المرسل من طرف الألفي وصحبته علي جربجي بن موسى الجيزاوي إلى بيت السيد عمر فركب صحبته إلى الباشا وكتبوا له جوابًا ورجع من ليلته ثم حضر في يوم الخميس رابع عشره بجواب آخر ومضمونه أننا أرسلنا لكم نرجو منكم أن تسعوا بيننا بما فيه الراحة لنا ولكم وللفقراء والمساكين وأهالي القرى فأجبتمونا بأننا نتعدى على القرى ونطلب منهم المغارم ونرعى زرعهم وننهب مواشيهم والحال أنه والله العظيم ونبيه الكريم أن هذا الأمر لم يكن على قصدنا ومرادنا مطلقًا وإنما الموجب لحضورنا إلى هذا الطرف ضيق الحال والمقتضي للجمعية التي نصحبها من العربان وغيرهم إرسال التجاريد والعساكر علينا فلازم لنا أن نجمع إلينا من يساعدنا في المدافعة عن أنفسنا فهم يجمعون أصناف العساكر من الأقطار الرومية والمصرية لمحاربتنا وقتالنا وهم كذلك ينهبون البلاد والعباد للإنفاق عليهم ونحن كذلك نجمع إلينا من يساعدنا في المنع ونفعل كفعلهم لننفق على من حولنا من المساعدين لنا وكل ذلك يؤدي إلى الخراب والدمار وظلم الفقراء والقصد منكم بل والواجب عليكم السعي في راحة الفريقين وهو أن يكفوا الحرب ويفرزوا لنا جهة نرتاح فيها فإن أرض الله واسعة تسعنا وتسعهم ويعطونا عهدًا بكفالة بعض من نعتمد عليه من عندنا وعندهم ويكتب بذلك محضر لصاحب الدولة وننتظر رجوع الجواب وعند وصوله يكون العمل بمقتضاه فعند ذلك اقتضى الرأي أن يقطعوه إقليم الجيزة وكتبوا له جوابًا بذلك م غير عقد ولا عهد ولا كفالة كما أشار وسلموا الجواب لمصطفى كاشف ورجع به وفي أثناء ذلك طلب أجناد الألأفي كلفًا من بلد برطيس وأم دينار ومنية عقبة فامتنعوا عليهم فضربوهم وحاربوهم ونهبوهم وسبب ذلك أن العساكر الأتراك أغروهم وأرسلوا يقولون لهم إذا طلبوا منكم كلفة أو دراهم لا تدفعوا لهم واطردوهم وحاربوهم ونهبوهم وإذا سمعنا حربكم معهم أتيناكم وساعدناكم فاغتروا بذلك وصدقوهم فلما حصل لهم ما حصل لم يسعفوهم ولم يخرجوا من أوكارهم حتى جرى عليهم المقدور‏.‏

وفي يوم السبت ثالث عشرينه كتب الباشا مراسيم أرسلها إلى كشاف الأقاليم والكائنين بالبلاد من الأجناد المصرية بأن يجتمعوا بأسرهم ويذهبوا إلى ساحل السبكية للمحافظة عليها من وصول الأخصام إليها ولمنعهم من تعدية البحر إليها لأنهم إذا حصلوا بها تعدى شرهم إلى بلاد المنوفية بأسرها وأشيع عزم الباشا على الركوب بنفسه وذهابه إلى تلك الجهة ويكون سيره على طريق القليوبية ويلحق بهم وكتخدا بك وطاهر باشا يسيران على الساحل الغربي تجاههم ثم بطل ذلك وأرسل إلى حسن باشا سرششمه بأن يحضر بمن معه من العسكر من عند حسن باشا طاهر من ناحية بني سويف وكذلك عساكر كور يوسف الذي قتل في المعركة كما ذكر‏.‏

وفي ذلك اليوم وصل رسول أيضًا من عند الألأفي بمكاتبات واجتمع بالسيد عمر النقيب والمكاتبات خطاب له ولبقية المشايخ وللباشا ولسعيد آغا دار السعادة وصالح بك القابجي بمعنى ما تقدم صحبة أحمد أبي ذهب العطار فكتبوا له جوابًا بالمعنى الأول وأعادوا الرسول وأصحبوه ببعض المتعممين وهو السيد أحمد الشتيوي ناظر جامع الباسطية وكل لك أمور صورية وملاعبات من الطرفين لا حقيقة لها‏.‏

وفي يوم الثلاثاء وصل الجماعة المذكورون الذين استدعاهم الباشا بعساكرهم وخلع الباشا على أحد كبارهم عوضًا عن كور يوسف المقتول‏.‏

وفيه وصل الخبر بأن طائفة من الأجناد المصرية ومن يصحبهم من العربان عدوا إلى بر السبكية ولم يمنعهم المحافظون بل هربوا من وجوههم فأمر الباشا بسفر العساكر وطلب دراهم سلفة من الأعيان لأجل نفقة العساكر وفرضوا على البلاد ثلاثة آلاف كيس ويكون على العال منها مائة ألف فضة وفيها الأوسط والدون‏.‏

وفي يوم الخميس نودي في الأسواق بخروج العساكر‏.‏

وفي يوم السبت سافر طاهر باشا إلى منوف على جرائد الخيل وسافر بعده كتخدا بالحملة واحتاجوا إلى جمال فأخذوا جمال السقائين والشواغرية‏.‏

وفيه حضر عمر بك الأرنؤدي من ناحية بني سويف وأخبر الواردون من الناحية أن رجب آغا وطائفة من العسكر خامروا عليه وانضموا الأمراء القبليين وهم نحو الستمائة فعند ذلك حضر عمر بك المذكور في تطريدة ليبرئ نفسه من ذلك وحضر أيضًا محو كبير العسكر المحاصرين