فصل: من مات بها من العلماء والأمراء ممن له ذكر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **


 من مات بها من العلماء والأمراء ممن له ذكر

مات العمدة الفاضل صدر المدرسين وعمدة المحققين الفقيه الورع الشيخ محمد الخشني الشافعي تخرج على الشيخ عطية الأجهوري وغيره من أشياخ العصر المتقدمين كالحفني والعدوي ومسكنه بخطة السيدة نفيسة ويأتي إلى الأزهر في كل يوم فيقرأ دروسه ثم يعود إلى داره متقللًا في معيشته منعزلًا عن مخالطة غالب الناس وهو آخر الطبقة وتمرض شهورًا بمنزله الذي بالمشهد النفيسي وكان دائمًا يسأل عن الشيخ سليمان البجيرمي وكان يقول لا أموت حتى يموت البجيرمي لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال له أنت آخر أقرانك موتًا ولم يكن من أقرانه سوى البجيرمي فلذلك كان يسأل عنه ثم مات البجيرمي بقرية تسمى مصطيه ومات هو بعده بنحو ثلاثة أشهر وكانت وفاته في يوم الاثنين خامس عشرين ذي الحجة ولم يحضروا بجنازته إلى الأزهر بل صلي عليه بالمشهد النفيسي ودفن هناك رحمة الله تعالى عليه‏.‏

ومات الشيخ الفقيه المحدث خاتمة المحققين وعمدة المدققين بقية السلف وعمدة الخلف الشيخ سليمان بن محمد بن عمر البجيرمي الشافعي الأزهري المنتهي نسبه إلى الشيخ جمعة الزبدي المدفون ببجيرم نسبة إلى زيدة بالقرب من منية بن خصيم وينتهي نسب الشيخ جمعة المذكور إلى سيدي محمدي بن الحنفية ولد ببجيرم قرية من الغربية إحدى وثلاثين ومائة وألف وحضر إلى مصر صغيرًا دون البلوغ ورباه قريبه الشيخ موسى البجيرمي وحفظ القرآن ولازم الشيخ المذكور حتى تأهل لطلب العلوم وحضر على الشيخ الشماوي في الصحيحين وأبي داود الترمذي والشفاء والمواهب وشرح المنهج لشيخ الإسلام وشحي المنهاج لكل من الرملي وابن حجر وحضر دروس الشيخ الحفني وأجازه الملوي والجوهري والمدابغي وأخذ عن الديربي وغيره وحضر أيضًا دروس الشيخ علي الصعيدي والسيد البليدي وشارك كثيرًا من الأشياخ كالشيخ عطية الأجهوري وغيره وكان إنسانًا حسنًا حميد الأخلاق منجمعًا عن مخالطة الناس مقبلًا على شأنه وقد انتفع به أناس كثيرون وكف بصره سنينًا وعمر وتجاوز المائة سنة ومن تأليفه بأيدي الطلبة حاشية على المنهج وأخرى على الخطيب وغير ذلك وقبل وفاته سافر إلى مصطيه بالقرب من بجيرم فتوفي بها ليلة الاثنين وقت السحر ثالث عشر رمضان من السن المذكورة ودفن هناك رحمة الله تعالى عليه‏.‏

ومات الأجل العلامة والفاضل الفهامة فريد عصره علمًا وعملًا ووحيد دهره تفصيلًا وجملًا الشيخ مصطفى العقباوي المالكي نسبة لمنية عقبة بالجيزة حضر إلى الأزهر صغيرًا ولازم السيد حسنًا البقلي ثم الشيخ محمد العقاد المالكي ثم الشيخ محمد عبادة العدوي ملازمة كلية حتى تمهر في مذهبه في المنقولات وفي المعقولات وحضر دروس أشياخ العصر كالشيخ الدردير والشيخ محمد البيلي والشيخ الأمير وغيرهم وتصدر لإلقاء الدروس وانتفع به الطلبة واشتهر فضله وكان إنسانًا حسن الأخلاق مقبلًا على الإفادة والاستفادة لا يتداخل فيما لا يعنيه ويأتيه من بلدته ما يكفيه قانعًا متورعًا متواضعًا ومن مناقبه أنه كان يحب إفادة العوام حتى أنه كان إذا ركب مع المكاري يعلمه عقائد التوحيد وفرائض الصلاة إلى أن توفي يوم الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة ولم يخلف بعده مثله رحمه الله تعالى وعفا عنا وعنه‏.‏

ومات الأجل المعظم المبجل المحقق المدقق المفضل العالم العامل الفاضل الكامل الشيخ علي النجاري المعروف بالقباني الشافعي مذهبًا المكي مولدًا المدني أصلًا بن العالم الفاضل الشيخ أحمد تقي الدين بن السيد تقي الدين المنتهي نسبه إلى أبي سعيد الخدري وهو سعد بن مالك بن دينار بن تيم الله بن ثعلبة النجاري أحد بطون الخزرج وينتهي نسب أخواله إلى السيد أحمد الناسك بن عبد الله إدريس بن عبد الله بن الحسن الأنور ابن سيدنا الحسن السبط رضي الله تعالى عنه ولد المترجم بمكة سنة أربع وثلاثين ومائة وقدم إلى مصر مع أبيه وأخيه السيد حسن سنة إحدى وسبعين مائة قليلة وصولهم مرض أخوه المذكور وتوفي صبح ثالث يوم فجزع والده لذلك جزعًا شديدًا وتشاءم به وعزم على السفر إلى مكة ثانيًا ولم يتيسر له ذلك إلا أواخر شوال من السنة المذكورة وبقي المترجم واشتغل بتحصيل العلوم وشراء الكتب النافعة واستكتابها ومشاركة أشياخ العصر في الإفادة والاستفادة مع مباشرة شغل تجارتهم من بيع الإرساليات التي ترد إليه من أولاد أخيه من جدة ومكة وشراء ما يشترى وإرساله لهم إلى أن تمرض وانقطع ببيته الذي بخطة عابدين قريبًا من الأستاذ الحنفي سنة تسع ومائتين وكان عالمًا ماهرًا وأديبًا شاعرًا تخرج على والده وعلى غيره بمكة وعلى كثير من أشياخ العصر المتقدمين كالشيخ العشماوي والشيخ الحفني والشيخ العدوي وغيرهم وتخرج في الأدب على والده وعلى الشيخ علي بن تاج الدين المكي وعلى الشيخ عبد الله الأنكاوي وغيرهم وله مؤلفات منها نفح الأكمام على منظومته في علم الكلام ومنها تقريره على الرملي وهو مجلد ضخم ومنها شرح بديعيته التي سماها مراقي الفرج في مدح عالي الدرج وله ديوان شع صغير غالبه جيد وكان في مدة انقطاعه لا يشتغل بغير المطالعة وتحصيل الكتب الغريبة وقيد ولده السيد سلامة بأشغال تجارتهم وولده السيد أحمد بملازمته وإسماعه فيما يريد مطالعته وكانت داره في غالب الأوقات لا تخلو من المترددين إلى أن توفي ليلة السابع والعشرين من رجب من السنة المذكورة وعمره سبع وثمانون سنة وصلي عليه بالأزهر ودفن بمقبرة أخيه بباب الوزير وخلف ولديه المذكورين وكان وجيهًا لطيفًا محبوبًا للنفوس ورعًا رحمة الله تعالى عليه‏.‏

ومات صاحبنا الأجل المعظم والوجيه المكرم الأمير ذو الفقار البكري نسبة ونسابة وهو مملوك السيد محمد بن علي أفندي البكري الصديقي اشتراه سيده المذكور عام إحدى وسبعين ومائة وألف ورباه وأدبه وأعتقه وزوجه ابنته ونشأ في عز ورفاهية وسيادة وعفة وطيب خيم وعلو همة ولما توفي سيده اتحد بولده السيد محمد أفندي وهو أخو زوجته اتحادًا كليًا بحيث صارا كالأخوين لا يصبر أحدهما عن الآخر ساعة واحدة وسكنهما واحد في بيتهم الكبير بالأزبكية ولما توفي السيد محمد أفندي اشتغل المترجم بالسكنى في الدار إلى أن حضر الفرنساوية فخرج مع من خرج من مصر إلى ناحية الشام ونهبت كتبه وداره ثم رجع بأمان في أيام الفرنساوية فوجد الدار قد سكنها القرنساوية فاشترى دارًا غيرها بخطة عابدين وجدد بها نظامه ولما حصلت حادثة عسكر الأروام العثمانية مع الأمراء المصريين التي خرج فيها إبراهيم بك والبرديسي وأمراؤهم نهبت داره المذكورة أيضًا فيما نهب فانتقل إلى ناحية الأزهر ثم سكن بحارة السبع قاعات بالأجرة واقتنى كتبًا شراء واستكتابًا وجمع عدة أجزاء متفرقة من تاريخ مرآة الزمان لابن الجوزي وخطط المقريزي وغيرها إلى أن احترمته المنية ومات فجأة يوم الثلاثاء في ثاني عشرين رجب من السنة قبيل الغروب وصلي عليه في صبحها بالأزهر في مشهد حافل ودفن بتربة البكرية ظاهر قبة الإمام الشافعي وكان إنسانًا حسنًا محبوبًا لجميع الناس وجيه الذات مليح الصفات حسن الفاكهة والمعاشرة متوقد الفطنة صادق الفراسة ساكن الجأش وقورًا أدوبًا محتشمًا وخلف من بعده السيد محمد المعروف بالغزاوي المرزوق له من ابنة سيده المذكور ولكونه ولد بغزة حين كانوا بالشام أنشأه الله إنشاء صالحًا وبارك فيه‏.‏

ومات الأمير الكبير والضرغام الشهير محمد بك الألفي المرادي جلبه بعض التجار إلى مصر في سنة تسع وثمانين ومائة وألف فاشتراه أحمد جاويش المعروف بالمجنون فأقام ببيته أيامًا فلم تعجبه أوضاعه لكونه كان مماجنًا سفيهًا ممازجًا فطلب منه بيع نفسه فباعه لسليم آغا الغزاوي المعروف بتمرلنك فأقام عنده شهورًا ثم أهداه إلى مراد بك فأعطاه نظيره ألف أردب من الغلال فلذلك سمي بالألفي وكان جميل الصورة فأحبه مراد بك وجعله جوخداره ثم أعتقه وجعله كاشفًا بالشرقية وعمر دارًا بناحية الخطة المعروفة بالشيخ ضلام وأنشأ هناك حمامًا بتلك الخطة عرفت به وكان صعب المراس قوي الشكيمة وكان بجواره علي آغا المعروف بالتوكلي فدخل عليه وتشفع عنده في أمر فقيل رجاءه ثم نكث فحنق منه واحتد ودخل عليه في داره يغادره ويعاتبه فرد عليه بغلظة فأمر الخدم بضربه فبطحوه وضربوه بالعصي المعروفة بالنبابيت فتألم لذلك ومات بعد يومين فشكوه إلى أستاذه مراد بك فنفاه إلى بحري فعسف بالبلاد مثل فوة ومطوبس وبارنبال ورشيد وأخذ منهم أرزًا وأمولًا فتشكوا منه إلى أستاذه وكان يعجبه ذلك وفي أثناء ذلك وقع خلاف بمصر بين الأمراء ونفوا سليمان بك الآغا وأخاه إبراهيم بك ومصطفى بك كما ذكر ذلك في محله وأرسل إليه مراد بك وأمره أن يتعين على مصطفى بك ويذهب به إلى سكندرية منفيًا ثم يعود هو إلى مصر ففعل ورجع المترجم إلى مصر فعند ذلك قلدوه الصنجقية وذلك في سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف واشتهر بالفجور فخافته الناس وتحاموا شدته وسكن أيضًا بدار بناحية قيصون وذلك عندما اتسعت دائرته وهدم داره القديمة أيضًا ووسعها وأنشأها إنشاء جديدًا واشترى المماليك الكثيرة وأمر منهم أمراء وكشافًا فنشؤا على طبيعة أستاذهم في التعدي والعسف والفجور ويخافون من تجبره عليهم والتزم بإقطاع فرشوط وغيرها من البلاد القبلية ومن البلاد البحرية محلة دمنة ومليج وزوبر وغيرها وتقلد كشوفية شرقية بلبيس ونزل إليها وكان يغير على ما بتلك الناحية من إقطاعات وغيرها وأخاف جميع عربان تلك الجهة وجميع قبائل الناحية ومنعهم من التعدي والجور على الفلاحين بتلك النواحي حتى خافه الكثير من العربان والقبائل وكانوا يخشونه وصادهم بإشراك منهم وقبض على الكثير من كبرائهم وسحبهم في الجنازير وصادروهم في أموالهم ومواشيهم وفرض عليهم المغارم والجمال ولم يزل على حالته وسطوته إلى أن حضر حسن باشا الجزايرلي إلى مصر فخرج المترجم مع عشيرته إلى ناحية قبلي ثم رجع معهم في أواخر سنة خمس ومائتين بعد الألف بعد الطاعون الذي مات فيه إسماعيل بك وذلك بعد إقامتهم بالصعيد زيادة عن أربع سنوات ففي تلك المدة ترزع عقله وانهضمت نفسه وتعلق قلبه بمطالعة الكتب والنظر في جزئيات العلوم والفلكيات والهندسيات وأشكال الرمل والزايرجات والأحكام النجومية والتقاويم ومنازل القمر وأنوائها ويسأل عمن له إلمام بذلك فيطلبه ليستفيد منه واقتنى كتبًا في أنواع العلوم والتواريخ واعتكف بداره القديمة ورغب في الانفراد وترك الحالة التي كان عليها قبل ذلك واقتصر على مماليكه والإقطاعات التي بيده واستمر على ذلك مدة من الزمان فثقل هذا الأمر على أهل دائرته وبدأ يصغر في أعين خشداشينه ويضعف جانبه وطفقوا يباكتونه وتجاسروا عليه وطمعوا فيما لديه وتطلع أدونهم للترفع عليه فلم يسهل به ذلك واستعمل الأمر الأوسط وسكن بدار أحمد جاويش المجنون يدرب سعادة وعمر القصر الكبير بمصر القديمة بشاطئ النيل تجاه المقياس وأنشأ أيضًا قصرًا فيما بين باب النصر والدمرداش وجعل غالب إقامته فيهما وأكثر من شراء المماليك وصار يدفع فيهم الأموال الكثيرة للجلابين ويدفع لهم أموالًا مقدمًا يشترونها بها وكذلك الجواري حتى اجتمع عنده نحو الألف مملوك خلاف الذي عند كشافه وهم نحو الأربعين كاشفًا الواحد منهم دائرته قدر دائرة صنجق من الأمراء السابقين وكل مدة قليلة يزوج من يختاره من مماليكه لمن تصلح له من الجواري ويجهزهم بالجهاز الفاخر ويسكنهم الدور الواسعة ويعطيهم الفائظ والمناصب وقلد كشوفية الشرقية لبعض مماليكه ترفعًا لنفسه عن ذلك وينزل هو إليهم أيضًا على سبيل التروح وبنى له قصرًا خارجر بلبيس وآخر بالدمامين وأخمد شوكة عربان الشرق وجبي منهم الأموال والجمال وأخمد ناموسهم الذي كان يغشى أبدان الفلاحين وأرواحهم وأشعف شوكتهم وأخفى صولتهم وكان يقيم بناحية الشرق شهورًا صلاصة أو أربعة ثم يعود إلى مصر واصطنع قصرًا من خشب مفصلًا قطعًا ويركب بشناكل وأغربة متينة قوية يحمل على عدة جمال فإذا أراد النزول في محطة تقدم الفراشون وركبوه خارج الصيوان فيصير مجلسًا لطيفًا يصعد إليه بثلاث درج مفروش بالطنافس والوسائد يسع ثمانية أشخاص وهو مسقوف وله شبابيك من الأربع جهات تفتح وتغلق بحسب الاختيار وحوله الأسرة من كل جانب وكل ذلك من داخل دهليز الصيوان وكان له داران بالأزبكية أحداهما كانت لرضوان بك بلغيا والأخرى للسيد أحمد بن عبد السلام فبدا له في سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف أن ينشئ دارًا عظيمة خلاف ذلك بالأزبكية فاشترى قصر ابن السيد سعودي الذي بخطة الساكن فيما بينه وبين قنطرة الدكة من أحمد آغا شويكار وهدمه وأوقف في شيادته على العمارة كتخدا ذا الفقار أرسله قبل مجيئه من ناحية الشرقية ورسم له صورة وضعه في كاغد كبير فأقام جدرانه وحيطانه وحضر هو في أثناء ذلك فوجده قد أخطأ الرسم فاغتاظ وهدم غالب ذلك وهندسه على مقتضى عقله واجتهد في بنائه وأوقف أربعة من كبار أمرائه على تلك العمارة كل أمير في جهة من جهاته الأربع يحثون الصناع ومعهم أكثر أتباعهم ومماليكهم وعملوا عدة قمن لحرق الأحجار وعمل النورة وكذلك ركب طواحين الجبس لطحنه وكل ذلك بجانب العمارة وقطعوا الأحجار الكبار ونقلوها في المراكب من طرا إلى جانب العمارة بالأزبكية ثم نشروها بالمناشير ألواحًا كبارًا لتبليط الأرض وعمل الدرج والفسحات وأحضروا لها الأخشاب المتنوعة من بولاق وإسكندرية ورشيد ودمياط واشترى بيت حسن كتخدا الشعراوي المطل على بركة الرطلي من عتقائه وهدمه ونقل أخشابه وأنقاضه إلى العمارة وكذن نقلوا إليه أنواع الرخام والأعمدة ولم يزل الاجتهاد في العمل تم على المنوال الذي أراده ولم يجعل له خرجات ولا حرمدانات بارزة عن أصل البناء ولا رواشن بل جعله ساذجًا حرضًا على المتانة وطول البقاء ثم ركبوا على فرجاته المطلة على البركة والبستان والرجبة الشبابيك الخرط المصنعة وركبوا عليها شرائح الزجاج ووضع به النجف والأشياء والتحف العظيمة التي أهداها إليه الإفرنج وعملوا بقاعة الجلوس السفلى فسقية عظيمة بسلسبيل من الرخام قطعة واحدة ونوفرة كبيرة حولها نوفرات من الصفر يخرج الماء من أفواهها وجعل بها حمامين علويًا وسفليًا وبنوا بدائر حوشه عدة كبيرة من الطباق السكني المماليك وجعله دورًا واحدًا ولما تم البناء والبياض والدهان فرشه بأنواع الفرش والوسائد والمساند والستائر المقصبات وجعل خلفه بستانًا عظيمًا وأنشأ به جملونًا مستطيلًا متسعًا به دكك وأعمدة وهو من الجهة البحرية ينتهي آخره إلى الدور المتصلة بقنطرة الدكة وأهدى إليه أيضًا الإفرنج فسقية رخام في غاية العظم فيها صورة أسماك مصورة يخرج من أفواهها الماء وجعلها بالبستان ونجز البناء والعمل وسكن بها هو وعياله وحريمه في آخر شهر شعبان من سنة اثنتي عشرة واستهل شهر رمضان فأوقدوا فيها الوقدات والأحمال الممتلئة بالقناديل بدائر الحوش والرحبة الخارجة وكذلك بقاعة الجلوس أحمال النجف والشموع والصحب والفنيارات الزجاج وازدحمت خيول الأمراء ببابه فأقام على ذلك إلى منتصف شهر رمضان وبداله السفر إلى الشرقية فأبطلوا الوقدة وأطفؤا السرج والشموع فكان ذلك فالًا فكانت مدة سكناه ستة عشر يومًا بلياليها وإنما أطنبنا في ذكر ذلك ليعتبر أولو الألباب ولا يجتهد العاقل في تعمير الخراب وفي أثناء غيبته بالشرقية وصلت الفرنساوية إلى الإسكندرية ثم إلى مصر وجرى ما جرى مما سبق ذكره وذهب مع عشيرته إلى قبلي وعند وصول الفرنساوية إلى بر أنبابة بالبر الغربي وتحاربوا مع المصريين أبلى المترجم وجنده في تلك الواقعة ويعمل معهم مكايد ويصطاد منهم بالمصايد ولما وصل عرضي الوزير إلى وعدة أسرى وأسد عظيم اصطاده في سروحه فشكره الوزير وخلع عليه الخلع السنية وأقام بعرضيه أيامًا ثم رجع إلى ناحية مصر وذهب إلى الصعيد ثم رجع إلى الشام والفرنساوية يأخذون خبره ويرصدونه في الطرق ناحية الشام ذهب إليه وقابله وأنعم عليه وكان معه رؤساء من الفرنساوية فيزوغ منهم ويكبسهم في غفلاتهم وينال منهم ولما وصل الوزير وحصل انتقاض الصلح وانحصر المصريون والعثمانيون بداخل المدينة وقع له مع الفرنساوية الوقائع الهائلة فكان يكر ويفر هو وحسن بك الجداوي ويعمل الحيل والمكايد وقتل من كشافه في تلك الحروب رجال معدودة منهم إسماعيل كاشف المعروف بأبي قطية احترق هو وجنده ببيت أحمد آغا شويكار الذي كان أنشأه برصيف الخشاب وكانت الفرنساوية قد عملوا تحته لغم بارود في أسفل جدرانه ولم يعلم به أحد فلما تترس فيه إسماعيل كاشف ومن معه أرسلوا من ألهمه النار فالتهب على من فيه واحترقوا بأجمعهم وتطايروا في الهواء ولما اصطلح مراد بك مع الفرنساوية لم يوافقه على ذلك واعتزله ولما اشتد الأمر بين الفريقين وشاطت طبخة العثمانيين ومن تبعهم طفق يسعى بين الفريقين في الصلح ويمشي مع رسل الفرنساوية في دخولهم بين العسكر وخروجهم ليمنع من يتعدى عليهم من أوباش العسكر خوفًا من ازدياد الشر إلى أن تم الصلح وخرج المترجم بلاء حسنًا وقتل من كشافه ومماليكه عدة وافرة ولم يزل مدة إقامة الفرنساوية بمصر ينتقل في الجهات القبلية والبحرية والشرقية والغربية مع العثمانية إلى نواحي الشام ثم رجع إلى جهة الشرقية فيحارب من يصادقه من الفرنسيس ويقتل منهم فإذا جمعوا جيشهم وأتوا لحربه لم يجدوه ويمر من خلف الجبل ويمر بالحاجز إلى الصعيد فلا يعلم أين ذهب ثم يظهر بالبر الغربي أو يسير مشرقًا ويعود إلى الشام وهكذا كان دأبه بطول السنة التي تخللت بين الصلحين إلى نظم العثمانية أمرهم وتأونوا بالإنكليز ورجع الوزير على طريق البر وقبطان باشا بصحبة الإنكليز من البحر فحضر المترجم وباقي الأمراء واستقر الجميع بداخل مصر والإنكليز ببر الجيزة وارتحلت الفرنساوية وخلت منهم مصر فعند ذلك قلق المترجم وداخله وسواس وفكر لأنه كان صحيح النظر في عواقب الأمور فكان لا يستقر له قرار ولم يدخل إلى الحريم ولم يبت بداره إلا ليلتين على سجادة ومخدة في القاعة السفلى ولم يكن بها حريم‏.‏

يقول الفقير ذهبت إليه مرة في ظرف اليومين فوجدته جالسًا على السجادة فجلست معه ساعة فدخل عليه بعض أمرائه يستأذنه في زواج إحدى زوجات من مات من خشداشينه فنتر فيه وشتمه وطرده وقال لي انظر إلى عقول هؤلاء المغفلين يطنون أنهم استقروا بمصر ويتزوجوا ويتأهلوا مع أن جميع ما تقدم من حوادث الفرنسيس وغيرها أهون من الورطة التي نحن فيها الآن ولما أطلق الوزير لإبراهيم بك الكبير التصرف وألبسه خلعة وجعله شيخ البلد كعادته وأن أوراق التصرفات في الإقطاعات والأطيان وغيرها تكون بختمه وعلامته اغتر هو وباقي الأمراء بذلك وازدحم الديوان ببيت إبراهيم بك المرادي وعثمان بك حسن والبرديسي وتناقلوا في الحديث فذكروا ملاطفة الوزير ومحبته لهم وإقامته لناموسهم فقال المترجم لا تغتروا بذلك فإنما هي حيل ومكايد وكأنها تروج عليكم فانظروا في أمركم وتفطنوا لما عساه يحصل فإن سوء الظن الحزم فقالوا له وما الذي يكون قال إن هؤلاء العثمانيين لهم السنين العديدة والأزمان المديدة يتمنون نفوذ أحكامهم وتملكهم لهذا الإقليم ومضت الأحقاب وأمراء مصر قاهرون لهم وغالبون عليهم ليس لهم معهم إلا مجرد الطاعة الظاهرة وخصوصًا دولتنا الأخيرة وما كنا نفعله معهم من إليهانة ومنع الخزينة وعدم الامتثال لأوامرهم وكل ذلك مكمون في نفوسهم زيادة على ما جبلوا عليه من الطمع والخيانة والشره وقد ولجوا البلاد الآن وملكوها على هذه الصورة وتأمروا علينا فلا يهون بهم أن يتركوها لنا كما كانت بأيدينا ويرجعوا إلى بلادهم بعدما ذاقوا حلاوتها فدبروا رأيكم وتيقظوا من غفلتكم فلما سمعوا منه ذلك صادق عليه بعضهم وقال بعضهم هذا من وساوسك وقال آخر هذا لا يكون بعد ما كنا نقاتل معهم ثلاث سنوات وأشهرًا بأموالنا وأنفسنا وهم لا يعرفون طرائق البلاد ولا سياستها فلا غنى لهم عنا وقال آخر غير ذلك ثم قالوا له ما رأيك الذي تراه فقال الرأي عندي إن قبلتموه أن نعدي بأجمعنا إلى بر الجيزة وننصب خيامنا هناك ونجعل الإنكليز واسطة بيننا وبين الوزير والقبطان ونتمم الشروط التي نرتاح نحن وهم عليها بكفالة الإنكليز ولا نرجع إلى البر الشرقي ولا ندخل مصر حتى يخرجوا منها ويرجعوا إلى بلادهم ويبقى منهم من يبقى مثل من يقلدونه الولاية والدفتردارية ونحو ذلك وكان ذلك هو الرأي ووافق عليه البعض ولم يوافق البعض الآخر وقال كيف ننابذهم ولم يظهر لنا منهم خيانة ونذهب إلى الإنكليز وهم أعداء الدين فيحكم العلماء بردتنا وخيانتنا لدولة الإسلام على أنهم إن قصدوا بنا شيئًا قمنا بأجمعنا عليهم وفينا ولله الحمد الكفاية وعند ذلك تتوسط بيننا وبينهم الإنكليز فنكون لنا المندوحة والعذر فقال المترجم أما الاستنكاف من الالتجاء للإنكليز فإن القوم لم يستنكفوا من ذلك واستعانوا بهم ولولا مساعدتهم لما أدركوا هذا المحصول ولا قدروا على إخراج الفرنساوية من البلاد وقد شاهدنا ما حصل في العام الماضي لما حضروا بدون الإنكليز على أن هذا قياس مع الفارق فإن تلك مساعدة حرب وأما هذه فهي وساطة مصلحة لا غير وأما انتظار حصول المنابذة فقد لا يمكن التدارك بعد الوقوع لأمور والرأي لكم فسكتوا وتفرقوا على كتمان ما دار بينهم ولما لم يوافقوا المترجم على ما أشار به عليهم أخذ يدبر في خلاص نفسه فانضم إلى محمود أفندي رئيس الكتاب لقربه من الوزير وقبوله عنده وأوهمه النصيحة للوزير بتحصيل مقادير عظيمة من الأموال من جهة الصعيد إن قلده الوزير إمارة الصعيد فإنه يجمع له أموالًا جمة من تركات الأغنياء الذين ماتوا بالطاعون في العام الماضي وخلافه ولم يكن لهم ورثة وغير ذلك من الجهات التي لا يحيط بها خلافه والمال والغلال الميرية فلما عرف الرئيس الوزير بذلك لم يكن بأسرع من إجابته لوجهين الأول طمعًا في تحصيل المال والثاني لتفريق جمعهم فإنهم كانوا يحسبون حسابه دون باقي الجماعة لكثرة جيشه وشدة احترازه فإنه كان إذا ذهب عند الوزير لا يذهب في الغالب إلا وحوله جميع جنوده ومماليكه وعندما أجاب الوزير إلى سفره كتب له فرمانًا بإمارة الجهة القبلية وأطلق له الإذن ورخص له في جميع ما يؤدي إليه اجتهاده من غير معارض وتمم الرئيس القصد وفي الوقت حضر المترجم فأخذ المرسوم ولبس الخلعة بنفسه وودع الوزير والرئيس وركب في الوقت والساعة وخرج مسافرًا وجعل رئيس أفندي وكيلًا عنه وسفيرًا بينه وبين الوزير بعدما أسكنه في داره ولم يشعر بذلك أحد ولم ير للوزير وجهًا بعد ذلك وعندما أشيع ذلك حضر إلى الوزير اعتراض عليه في هذه الغفلة وأشار عليه بنقض ذلك فأرسل يستدعيه لأمر تذكره على ظن تأخره فلم يدركوه إلا وقد قطع مسافة بعيدة ورجعوا على غير طائل وذهب هو إلى أسيوط وشرع في جبي الأموال وأرسل للوزير دفعة من المال وأغنامًا وعبيدًا طواشية وغلالًا ثم لم يمض على ذلك إلا نحو ثلاثة شهور وسافر طائفة من الإنكليز إلى سكندرية وكذلك حسين باشا القبطان ونصبوا للمصريين الفخاخ وأرسل القبطان يطلب طائفة منهم فأوقع بهم ما أوقع وقبض الوزير على من بمصر من الأمراء وحبسهم وجرى ما هو مسطور في محله وعينوا على المترجم طاهر باشا بعساكر وحصلت المفاقمة وقتل من قتل والتجأ من بقي إلى الإنكليز ولم يندمل الجرح بعد تقريحه وذهب الجميع إلى الناحية القبلية وأرسلوا لهم التجاريد وتصدى المترجم لحروبهم ثم حضر إلى ناحية بحري ونزل بظاهر الجيزة وسار إلى ناحية البحيرة بعد حروب ووقائع فاجتهد محمد باشا خسروا في إخراج تجريدة عظيمة وساري عسكرها كتخدا وهو يوسف كتخدا بك وهي التجريدة التس سماهاه العوام تجريدة الحمير لأنهم جمعوا من جملة ذلك حمير الحمارة والتراسين وحمير اللكاف والسقائين وعملوا على أهل بولاق بألف حمار وكذلك مصر ومصر القديمة وطفقوا يخطفون حمير الناس ويكبسون البيوت ويأخذون ما يجدونه وكان يأتي بعض معاكيس العسكر عند الدور ويضع أحدهم فمه عند الباب ويقول زر فينهق الحمار فيأخذونه فلما تم مرادهم من جمع الحمير اللازمة لهم سافروا إلى ناحية البحيرة فكانت بينهم واقعة عظيمة بمرأى من الإنكليز وكانت الغلبة له على العسكر وأخذ منهم جملة أسرى وانهزم الباقون شر هزيمة وحضروا إلى مصر في أسوأ حال وهذه الكسرة كانت سببًا لحصول الوحشة بين الباشا والعسكر فإنه غضب عليهم وأمرهم بالخروج من مصر فطلبوا علائفهم فقال بأي شيء تستحقون العلائف ولم يخرج من أيديكم شيء فامتنعوا من الخروج وكان المشار إليه فيهم محمد علي سرششمه فأراد الباشا اصطياده فلم يتمكن منه لشدة احتراسه فحاربه فوقع له ما ذكر في محله وخرج الباشا هاربًا إلى دمياط ومن ذلك الوقت ظهر اسم محمد علي ولم يزل ينمو ذكره بعد ذلك وأما المترجم فإنه بعد كسرته للعسكر ذهب ناحية دمنهور وذهبت كشافه وأمراؤه إلى المنوفية والغربية والدقهلية وطلبوا منهم المال والكلف ثم رجعوا إلى البحيرة ثم بعد هذه الوقائع سافر المترجم مع الإنكليز إلى بلادهم واختار من مماليكه خمسة عشر شخصًا أخذهم صحبته وأقام عوضه أحد مماليكه المسمى بشتك بك وسمي الألفي الصغير وأمره على مماليكه وأمرائه وأمرهم بطاعته وأوصاه وصايا وسافر وغاب سنة وشهرًا وبعض أيام لأنه سافر في منتصف شهر شوال سنة سبع عشرة وحضر في أول شهر القعدة سنة ثمان عشرة وجرى في مدة غيابه من الحوادث التي تقدم من ذكرها ما يغني عن إعادتها من خروج محمد باشا خسروا وتولية طاهر باشا ثم قتله ودخول الأمراء المصريين وتحكمهم بمصر سنة ثمان عشرة وتأمير صناجق من أتباع المترجم وما جرى بها من الوقائع بتقدير الله تعالى البارز بتدبير محمد علي ونفاقه وحيله فإنه سعى أولًا في نقض دوله من مخدومه محمد باشا خسروا بتواطئه مع طاهر باشا وخازنداره محمد باشا المحافظ للقلعة ثم الإغراء على طاهر باشا حتى قتل ثم معاوتنه للأمراء المصريين ودخولهم وتملكهم وإظهار المساعدة الكلية لهم ومصادقتهم وخدمتهم ومعاونتهم والرمح في غفلتهم وخصوصًا عثمان بك البرديسي فإنه كان ممخرقًا غشومًا يحب الترؤس فأظهر له الصداقة والمؤاخاة والمصافاة حتى قضى منهم أغراضه من قتل الدفتردار والكتخدا وعلي باشا الطرابلسي ومحاربة محمد باشا وأخذه أسيرًا من دمياط وأخيه السيد علي القبطان برشيد ونسبة جميع هذه الأفعال والقبائح إليهم فلما انقضى ذلك كله لم يبق إلا الألفي وجماعته والبرديسي الذي هو خشداشه يحقد عليه ويغار منه ويعلم أنه إذا حضر لا يبقى له معه ذكر وتخمد أنفاسه فيتناجيا ويتسارا في أمر المترجم ويتذاكرا تعاظم وكيله وخشداشينه ونقضهم عليه ما يبرمونه مع غياب أستاذهم فكيف بهم إذا حضر ويوهمه المساعدة والمعاضدة ويكون خادمًا له وعساكره جنده إلى أن حضر المترجم فأوقعا به ما تقدم ذكره ونجا بنفسه واختفى عند عشيبة البدوي بالوادي فلما خلا الجو من الألفي وجماعته فأوقع محمد علي عند ذلك بالبرديسي وعشيرته ما أوقع وظهر بعد ذلك المترجم من اختفائه وذهب إلى ناحية قبلي هو ومملوكه صالح بك واجتمعت عليه أمراؤه وأجناده واستفحل أمره واصطلح مع عشيرته والبرديسي على ما في نفوسهما وما زال منجمعًا عن مخالطتهم وجرى ما جرى من مجيئهم حوالي مصر وحروبهم مع العساكر في أيام خورشيد أحمد باشا وانفصالهم عنها بدون طائل لتفاشلهم واختلاف آرائهم وفساد تدبيرهم ورجعوا إلى ناحية قبلي ثم عادوا إلى ناحية بحري بعد حروب ووقائع مع حسن باشا ومحمد علي وعساكرهم ثم لما حصلت المفاقمة بينهما وبين خورشيد أحمد باشا وانتصر محمد علي بالسيد عمر مكرم النقيب والمشايخ والقاضي وأهل البلدة والرعايا وهاجت الحروب بين الباشا وأهل البلدة كما هو مذكور كانت الأمراء المصريون بناحية التبين والمترجم منعزل عنهم بناحية الطرانة والسيد عمر يراسله ويعده ويذكر له بأن هذا القيام من أجلك وإخراج هذه الأوباش ويعود الأمر إليكم كما كان وأنت المعني بذلك لظننا فيك الخير والصلاح والعدل فيصدق هذا القول ويساعده بإرسال المال ليصرفه في مصالح المقاتلين والمحاربين ومحمد علي يداهن السيد عمر سرًا ويتملق إليه ويأتيه ويراسله ويأتي إليه في أواخر الليل وفي أوساطه مترددًا عليه في غالب أوقاته حتى تم له الأمر بعد المعاهدة والمعاقدة والأيمان الكاذبة على سيره بالعدل وإقامة الأحكام والشرائع والإقلاع عن المظالم ولا يفعل أمرًا إلا بمشورته شورة العلماء وأنه متى خالف الشروط عزلوه وأخرجوه وهم قادرون على ذلك كما يفعلون الآن فيتورط المخاطب بذلك القول ويظن صحته وأن كل الوقائع زلابية وكل ذلك سرًا لم يشعر به خلافهم إلى أن عقد السيد عمر مجلسًا عند محمد علي وأحضر المشايخ والأعيان وذكر لهم أن هذا الأمر وهذه الحروب ما دامت على هذه الحالة لا تزداد إلا فشلًا ولا بد من تعيين شخص من جنس القوم للولاية فانظروا من تجدونه وتختارونه لهذا الأمر ليكون قائم مقام حتى يتعين من طرف الدولة من يتعين فقال الجميع الرأي ما تراه فأشار إلى محمد علي فأظهر التمنع وقال أنا لا أصلح لذلك ولست من الوزراء ولا من الأمراء ولا من أكابر الدولة فقالوا جميعًا قد اخترناك لذلك برأي الجميع والكافة والعبرة ورضا أهل البلاد وفي الحال أحضروا فروة ألبسوها له وباركوا له وهنؤه وجهروا بخلع خورشيد أحمد باشا من الولاية وإقامة المذكور في النيابة حتى يأتي المتولي أو يأتي له تقرير بالولاية ونودي في المدينة بعزل الباشا وإقامة محمد علي في النيابة إلى أن كان ما هو مسطور قبل ذلك في محله فلما بلغ المترجم ذلك وكان ببر الجيزة ويراسل السيد عمر مكرم والمشايخ فانقبض خاطره ورجع إلى البحيرة وأراد دمنهور فامتنع عليه أهلها وحاربوه وحاربهم ولم ينل منهم غرضًا والسيد عمر يقويهم ويمدهم ويرسل إليهم البارود وغيره من الاحتياجات وظهر للمترجم تلاعب السيد عمر مكرم معه وكأنه كان يقويه على نفسه فقبض على السفير الذي كان بينهما وحبسه وضربه وأراد قتله ثم أطلقه ثم عاد إلى بر الجيزة وسكنت الفتنة واستقر الأمر لمحمد علي باشا وحضر قبطان باشا إلى ساحل أبي قير ووصل سلحداره إلى مصر وأنزل أحمد باشا المخلوع عن الولاية من القلعة إلى بولاق ليسافر ومنع محمد علي من الذهاب والمجيء إلى المصريين وأوقف أشخاصًا برًا وبحرًا يرصدون من يأتي من قبلهم أو يذهب إليهم بشيء من متاع وملبوس وسلاح وغير ذلك ومن عثروا عليه بشيء قبضوا عليه وأخذوا ما معه وعاقبوه فامتنع الباعة والمتسببون وغيرهم من الذهاب إليهم بشيء مطلقًا فضاق خناق المترجم بأن أرسل محمد كتخداه يطلب الصلح مع الباشا فانسر لذلك وفرح واعتقد صحة ذلك وأنعم على الكتخدا وعبي هدية جليلة لمخدومه من ملابس وفراوى وأسلحة وخيام ونقود وغير ذلك وعندها قضى الكتخدا أشغاله من مطلوبات مخدومه واحتياجاته له ولأتباعه وأمرائه ووسق مراكب وذهب بها جهارًا من غير أن يتعرض له أحد وذهب صحبته السلحدار وموسى البارودي ثم عاد الكتخدا ثانيًا وصحبته السلحدار وموسى البارودي وذكروا أنه يطلب كشوفية الفيوم وبني سويف والجيزة والبحيرة ومائتي بلد من الغربية والمنوفية والدقهلية يستغل فائظها ويجعل إقامته بالجيزة ويكوت تحت الطاعة فلم يرض الباشا بذلك وقال أننا صالحنا باقي الأمراء وأعطيناهم من حدود جرجا بالشروط التي شرطناها عليهم وهو داخل في ضمنهم فرجع محمد كتخدا له بالجواب بعد أن قضى أشغاله واحتياجاته ولوازمه من أمتعة وخيام وسروج وغير ذلك وتمت حيلته وقضى أغراضه وذهب إلى الفيوم وتحارب جنده مع جند ياسين بك وانخدل فيها ياسين بك ثم عاد شاهين بك الألفي بجند كثير بعد شهور إلى بر الجيزة وخرج محمد علي باشا لمحاربته بنفسه فكانت له الغلبة وقتل في هذه الوقعة على كاشف الذي كان تزوج بزوجة حسن بك الجداوي وهي بنت حسن بك شنن رآه الأخصام منجملًا فظنوه الباشا فأحاطوا به وأخذوه أسيرًا ثم قتلوه ورجع الباشا إلى بر مصر واجتهد في تشهيل تجريدة أخرى وكل ذلك مع طول المدى‏.‏

وفي أثناء ذلك مات بشنك بك المعروف بالألفي الصغير مبطونًا بناحية قبلي ثم أن المترجم خرج من الفيوم في أوائل المحرم من السنة المذكورة وكان حسن باشا طاهر بناحية جزيرة الهواء بمن معه من العساكر فكانت بينهما واقعة عظيمة انهزم فيها حسن باشا إلى الرقق وأدركه أخوه عابدين بك فأقام معه الرفق كما تقدم وحضر الألفي إلى بر الجيزة وأنبابة وخرجت إليهم العساكر فكانت بينهم واقعة بسوق الغنم ظهر عليهم فيها أيضًا ثم سار مبحرًا وعدى من عسكره وجنده جملة إلى السبكية فأخذوا منهاما أخذوه وعادوا إلى أستاذهم بالطرانة ثم أنه انتقل راحلًا إلى البحيرة وحرب دمنهور ومحاصرتها وكانوا قد حصنوها غاية التحصين فلم يقدر عليها فعاد إلى ناحية وردان ثم رجع إلى حوش ابن عيسى لأنه بلغه وصول مراكب وبها أمين بك تابعه وعدة عساكر من النظام الجديد وأشخاص من الإنكليز لأنه كان مع ما هو فيه من التنقلات والحروب يراسل الدولة والإنكليز وأرسل بالخصوص أمين بك إلى الإنكليز فسعوا مع الدولة بمساعدته وحضروا إليه بمطلوبه فعمل لهم بحوش بن عيسى شنكًا وأرسلهم مع أمين بك إلى الأمراء القبليين فلما بلغ محمد علي باشا ذلك راسل الأمراء القبليين وداهنهم وأرسل لهم الهدايا فراجت أموره عليهم مع ما في صدورهم من الغل المترجم‏.‏

وفي أثر ذلك حضر قبطان باشا إلى الإسكندرية ووردت السعاة بخبر وروده وأن بعده واصل باشا واليًا على مصر بالعفو عن المصريين وكان من خبر هذه القضية والسبب في حركة القبطان إرساليات الألفي للإنكليز ومخاطبة الإنكليز الدولة ووزيرها المسمى محمد باشا السلحدار وأصله مملوك السلطان مصطفى ولا يخفى الميل إلى الجنسية فاتفق أنه اختلى بسليمان آغا تابع صالح بك الوكيل الذي كان يوسف باشا الوزير قلده سلحدارًا وأرسله إلى إسلامبول وسأله عن المصريين هل بقي منهم غير الألفي فقال له جميع الرؤساء موجودن وعددهم له وهم ومماليكهم يبلغون ألفين وزيادة فقال إني أرى تمليكهم ورجوعهم على شروط نشترطها عليهم أولى من تمادي العداوة بينهم وبين هذا الذي ظهر من العسكر وهو رجل جاهل متحيل وهم لا يسهل بهم إجلاؤهم عن أوطانهم وأولادهم وسيادتهم التي ورثوها عن أسلافهم فيتمادى الحال والحروب بينهم وبينه واحتياج الفريقين إلى جمع العساكر وكثرة النفقات والعلائف والمصاريف فيجمعونها من أي وجه كان ويؤدي ذلك إلى خراب الإقليم فالأولى والمناسب صرف هذا المتغلب وإخراجه وتولية خلافه فما رأيك في ذلك فقال له سليمان لا رأي عندي في ذلك وخاف أن يكون كلامه له باطنًا خلاف الظاهر وأدرك منه ذلك فحلف له عند ذلك الوزير أن كلامه وخطابه له على ظاهره وحقيقته لكن لا بد من مصلحة للخزينة العامرة فقال له سليمان آغا إذا كان كذلك ابعثوا إلى الألفي بإحضار كتخداه محمد آغا لأنه رجل يصلح للمخاطبة لمثل ذلك ففعل وحضر المذكور في أقرب وقت وتمموا الأمر على مصلحة ألف وخمسمائة كيس كفلها محمد كتخدا المذكور يدفعها لقبطان باشا عند وصوله بيد سليمان آغا المذكور وكفالته أيضًا لمحمد كتخدا بعد إتمام الشروط التي قررها له مخدومه ومن جملتها إطلاق بيع المماليك وشرائهم وجلب الجلابين لهم إلى مصر كعادتهم فإنهم كانوا منعوا ذلك من نحو ثلاث سنوات وغير ذلك وسافر كل من سليمان آغا الوكيل ومحمد كتخدا بصحبته قبودان باشا حتى طلعوا على ثغر سكندرية فركب صحبة سلحدار القبودان فتلاقوا مع المترجم بالبحيرة وأعلموه بما حصل فامتلأ فرحًا وسرورًا وقال لسليمان آغا اذهب إلى إخواننا بقبلي واعرض عليهم الأمر ولا يخفى أننا الآن ثلاثة فرق كبيرنا إبراهيم بك وجماعته والمرادية وكبيرهم هناك عثمان بك البرديسي وأنا وأتباعي فيكون ما يخص كل طائفة خمسمائة كيس فإذا استلمت منهم الألف كيس ورجعت إلى سلتك الخمسمائة كيس فركب المذكور وذهب إليهم واجتمع بهم وأخبرهم بصورة الواقع وطلب منهم ذلك القدر فقال البرديسي حيث أن الألفي بلغ من قدره أنه يخاطب الدول والقرانات ويراسلهم ويتمم أغراضه منهم ويولي الوزراء ويعزلهم بمراده ويتعين قبودان باشا في حاجته فهو يقوم بدفع المبلغ بتمامه لأنه صار الآن هو الكبير ونحن الجميع أتباع له وطوائف خفه بما فيه والدنا وكبيرنا إبراهيم بك وعثمان بك حسن وخلافه فقال سليمان آغا هو على كل حال واحد منكم وأخوكم ثم أنه اختلى مع إبراهيم بك الكبير وتكلم معه فقال إبراهيم بك أنا أرضى بدخولي أي بيت كان وأعيش ما بقي من عمري مع عيالي وأولادي تحت إمارة أي من كان من عشيرتنا أولى من هذا الشتات الذي نحن فيه ولكن كيف أفعل في الرفيق المخالف وهذا الذي حصل لنا كله بسوء تدبيره ونحسه وعشت أنا ومراد بك المدة الطويلة بعد موت أستاذنا وأنا أتغاضى عن أفعاله وأفعال أتباعه وأسامحهم في زلاتهم كل ذلك حذرًا وخوفًا من وقوع الشر والقتل والعداوة إلى أن مات وخلف هؤلاء الجماعة المجانين وترأس البرديسي عليهم مع غياب أخيه الألفي وداخله الغرور وركن إلى أبناء جنسه وصادفهم واغتربهم وقطع رحمه وفعل بالألفي الذي هو خشداشه وأخوه ما فعل ولا يستمع لنصح ناصح أولًا وآخرًا وما زال سليمان آغا يتفاوض معهم في ذلك أيامًا إلى أن اتفق مع إبراهيم بك على دفع نصف المصلحة ويقوم المترجم بالنصف الثاني فقال سلموني القدر أذهب به وأخبره بما حصل فقالوا حتى ترجع إليه وتعلمه وتطيب خاطره على ذلك لئلا يقبضه ثم يطالبنا بغيره فلما رجع إليه وأخبره بما داره بينهم قال أما قولهم أني أكون أميرًا عليهم فهذا لا يتصور ولا يصح أني أتعاظم على مثل والدي إبراهيم وعثمان بك حسن ولا على من هو في طبقتي من خشداشيني على أن هذا لا يعيبهم ولا ينقص مقدارهم بأن يكون المتآمر عليهم واحدًا منهم ومن جنسهم ولك أمر لم يخطر لي ببال وأرضى بأدنى من ذلك ويأخذوا علي عهدًا بما أشترطه على نفسي أننا إذا عدنا إلى أوطاننا أن لا أداخلهم في شيء ولا أقارشهم في أمر وأن يكون كبيرنا والدنا إبراهيم بك على عادته ويسمحوا لي بإقامتي بالجيزة ولا أعارضهم في شيء وأقنع بإيرادي الذي كان بيدي سابقًا فإنه يكفيني وإن اعتقدوا غدري لهم في المستقبل بسبب ما فعلوه معي من قتلهم حسين بك تابعي وتعصبهم وحرصهم على قتلي وإعدامي أنا وأتباعي فبعض ما نحن فيه الآن أنساني ذلك كله فإن حسين بك المذكور مملوكي وليس هو أبي ولا ابني من صلبي وإنما هو مملوكي اشتريته بالدراهم وأشتري غيره ومملوكي مملوكهم وقد قتل لي عدة أمراء ومماليك في الحروب فأفرضه من جملتهم ولا يصيبني ويصيبهم إلا ما قدره الله علينا وعلى أن الذي فعلوه بي لم يكن لسابق ذنب ولا جرم حصل مني في حقهم بل كنا جميعًا إخوانًا وتذكروا إشارتي عليهم السابقة في الالتجاء إلى الإنكليز وندموا على مخالفتي بعد الذي وقع لهم ورجعوا إلي ثم أجمع رأيهم على سفري إلى بلاد الإنكليز فامتثلت ذلك وتجشمت المشاق وخاطرت بنفسي وسافرت إلى بلاد الإنكلترة وقاسيت أهوال البحار سنة وأشهرًا كل ذلك لأجل راحتي وراحتهم وحصل ما حصل في غيابي ودخلوا مصر من غير قياس وبنوا قصورهم على غير أساس واطمأنوا إلى عدوهم وتعاونوا بع على هلاك صديقهم وبعد أن قضى غرضه منهم غدرهم وأحاط بهم وأخرجهم من البلدة وأهانهم وشردهم واحتال عليهم ثانيًا يوم قطع الخليج فراجت حيلته عليهم أيضًا وأرسلت إليهم فنصحتهم فاستغشوني وخالفوني ودهل الكثير منهم البلد وانحصروا في أزقتها وجرى عليهم ما جرى من القتل الشنيع والأمر الفظيع ولم ينج إلا من تخلف منهم أو ذهب من غير الطريق ثم أنه الآن أيضًا يرسلهم ويدهنهم ويهاديهم ويصالحهم ويثبطهم عما فيه النجاح لهم وما أظن أن الغفلة استحكمت فيهم إلى هذا الحد فارجع إليهم وذكرهم بما سبق لهم من الوقائع فلعلهم ينتبهون من سكراتهم ويرسلون معك الثلثين أو النصف الذي سمح به والدنا إبراهيم بك وهذا القدر ليس فيه كبير مشقة فإنهم إذا وزعوا على كل أمير عشرة أكياس وعلى كل كاشف خمسة أكياس وكل جندي أو مملوك كيسًا واحدًا اجتمع المبلغ وزيادة وأنا أفعل مثل ذلك مع قومي والحمد لله ليسوا هم ولا نحن مفاليس وثمرة المال قضاء مصالح الدنيا وما نحن فيه الآن من أهم المصالح وقل لهم البذار قبل فوات الفرصة والخصم ليس بغافل ولا مهمل والعثمانيون عبيد الدرهم والدينار فلما فرغ من كلامه ودعه سليمان آغا ورجع إلى قبلي فوجد الجماعة أصروا على عدم دفع شيء ورجع إبراهيم بك أيضًا إلى قولهم ورأيهم ولما ألقى لهم سليمان آغا العبارات التي قالها صاحبهم وأنه يكون تحت أمرهم ونهيهم ويرضى بأدنى المعاش معهم ويسكن الجيزة إلى آخر ما قال قالوا هذا والله كله كلام لا أصل له ولا ينسى ثأره وما فعلناه في حقه وحق أتباعه ولو انعزل عنا وسكن قلعة الجبل فهو الألفي الذي شاع ذكره في الآفاق ولا تخاطب الدولة فيره وقد كنا في غيبته لا نطيق عفريتًا من عفاريته فكيف يكون هو وعفاريته الجميع ومن ينشئه خلافهم وداخلهم الحقد وزاد في وساوسهم الشيطان فقال لهم سليمان آغا اقضوا شغلكم في هذا الحين حتى تنجلي عنكم الأعداء الأغراب ثم اقتلوه بعد ذلك وتستريحوا منه فقالوا هيهات بعد أن يظهر علينا فإنه يقتلنا واحدًا بعد واحد ويخرجنا إلى البلاد ثم يرسل يقتلنا وهو بعيد الفكر فلانًا من إليه مطلقًا وغرهم الخصم بتمويهاته وأرسل إليهم هدايا وخيولًا وسروجًا وأقمشة هذا ورسل القبودان تذهب وتأتي بالمخاطبات والعرضحالات حتى تمموا الأمر كما تقدم‏.‏