فصل: 1815- باب وَمِنْ سُوَرةِ التّوْبَة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي للمباركفوري ***


1815- باب وَمِنْ سُوَرةِ التّوْبَة

هي مدنية بإجماعهم قال ابن الجوزي‏:‏ سوى آيتين في آخرها‏:‏ ‏"‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم‏"‏ فإنهما نزلتا بمكة وهي مائة وتسع وعشرون آية وقيل مائة وثلاثون آية

بسم الله الرحمن الرحيم 3185- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ أخبرنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ وَمُحمّدُ بنُ جَعْفَرٍ وَابنُ أبي عَدِيّ وَسَهْلُ بنُ يُوسُفَ، قالوا‏:‏ أخبرنا عَوْفُ بنُ أبي جَمِيلَةَ، حدثني يَزِيدُ الْفَارِسِيّ، حدثني ابنُ عَبّاسٍ قال‏:‏ ‏"‏قلْتُ لِعُثْمانَ بنِ عَفّانَ‏:‏ مَا حَمَلَكُمْ أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الاْنْفَالِ وَهِيَ مِنَ المَثَانِي، وَإِلَى بَرَاءَةَ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ الله الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، وَوَضَعْتُمُوهَا في السّبْعِ الطّوَلِ، مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ‏؟‏ فَقَالَ عُثْمانُ‏:‏ كَانَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِمّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزّمَانُ وَهُوَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ السّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ، فيقولُ‏:‏ ضَعُوا هَؤُلاءِ الاَيَاتِ في السّورَةِ التِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الاَيةُ فيقولُ‏:‏ ضَعُوا هَذِهِ الاَيةَ في السّورَةِ الّتِي يُذكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَتْ الأنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا أنَزِلَتْ بالمَدِينَةِ، وَكاَنَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ، وَكَانَتْ قِصّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصّتِهَا، فَظَنَنْتُ أَنّهَا مِنْهَا، فَقُبِضَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَلمْ يُبَيّنْ لَنَا أَنّهَا مِنْهَا، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بينهما وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ الله الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، فَوَضَعْتُهَا في السّبْعِ الطّوَلِ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ من حديثِ عَوفٍ عن يَزِيدَ الْفَارِسيّ عن ابنِ عَبّاسٍ‏.‏ وَيَزِيدُ الْفَارِسيّ قد روى عن ابن عباس غير حديثُ يَزِيدُ بنُ أبان الرّقَاشِيّ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إِنّمَا يَرْوِي عن أَنسِ بنِ مَالِكٍ‏.‏

3186- حدثنا الْحَسَنُ بنُ عَلِيّ الْخَلاّلُ، أخبرنا حُسَيْنُ بنُ عَلِيّ الْجُعْفِيّ عن زَائِدَةَ عن شَبِيبِ بن غَرْقَدَةَ عن سُلَيْمانُ بنِ عَمْرِو بن الأحْوَصِ قال‏:‏ حدثني أبي أَنّهُ شَهِدَ حَجّةَ الْوَدَاعِ مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَرَ وَوَعَظَ ثُمّ قال‏:‏ ‏"‏أَيّ يَوْمٍ أَحْرَمُ، أَيّ يَوْمٍ أَحْرَمُ، أَيّ يَوْمٍ أَحْرَمُ‏"‏‏؟‏ قالَ فقالَ النّاسُ‏:‏ يَوْمُ الْحَجّ الأكْبَرِ يَا رَسُولَ الله‏.‏ قال‏:‏ فَإِنّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا، في شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلاَ لاَ يَجْنِي جَانٍ إِلاّ عَلَى نَفْسِهِ، ولا يَجْنِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ، ولا وَلَدٌ عَلَى وَالِدِهِ، أَلاَ إِنّ المُسْلِمَ أَخُو المُسْلِمِ، فَلَيْسَ يَحِلّ لِمُسْلِمٍ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ إِلاّ مَا أَحَلّ مِنْ نَفْسِهِ، أَلاَ وَإِنّ كُلّ رِباً في الْجَاهِلِيّةِ مَوْضُوعٌ، لَكُمْ رؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ غَيْرِ رِبَا الْعَبّاسِ بنِ عَبْدِ المُطّلِبِ فَإِنّهُ مَوضُوعٌ كُلّهُ، أَلاَ وَإِنّ كُلّ دَمٍ كَانَ في الْجَاهِلَيّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوّلُ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دَمِ الْجَاهِليّةِ دَم الْحَارِثِ بنِ عَبْدِ المُطّلِبِ، كَانَ مُسْتَرْضَعاً في بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، أَلاَ وَاسْتَوْصُوا بالنّسَاءِ خَيْراً، فإِنّمَا هُنّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهِنّ شَيْئاً غَيْرَ ذَلِكَ إِلاّ أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنّ في المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ ضَرْبَاً غَيْرَ مُبَرّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنّ سَبِيلاً‏.‏ أَلاَ وَإِنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّا، فأَمّا حَقّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلاَ يُوْطِئْنَ فُرُشَكُمْ من تَكْرَهُونَ، وَلا يَأْذَنّ في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ‏.‏ أَلاَ وَإِنّ حَقّهُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهنّ في كِسْوَتِهِنّ وَطَعَامِهِنّ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ وَقد رَوَاهُ أبو الأحْوَصِ عن شَبِيبِ بنِ غَرْقَدَةَ‏.‏

3187- حدثنا عَبْدُ الْوَارِثِ بنُ عَبْدِ الصّمَدِ بنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، أخبرنا أبي عن أبِيهِ عن مُحمّدِ بنِ إسْحَاقَ عن أبي إسْحَاقَ عن الْحَارِثِ عن عَلِيّ قال‏:‏ سَأَلْتُ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ يَوْمِ الْحَجّ الأكْبَرِ فقالَ‏:‏ ‏"‏يَوْمُ النّحْرِ‏"‏‏.‏

3188- حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ عن أبي إسْحَاقَ عن الْحَارِثِ عن عَلِيّ قال‏:‏ ‏"‏يَوْمُ الْحَجّ الأكْبَرِ يَوْمُ النّحْرِ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا الحديث أَصَحّ من حديثِ مُحمّد بنِ إسْحَاقَ، لأَنّهُ رَوَى من غيرِ وَجْهٍ هذا الحديث عن أبي إسْحَاقَ عن الحارِثِ عن عَلِيّ موقوفاً، ولا نَعْلَمُ أَحَداً رَفَعَهُ إِلاّ مَا رُوِيَ عن مُحمّدِ بنِ إسْحَاقَ‏.‏ وقد روى شعبة هذا الحديث عن أبي إسحاق عن عبد الله بنِ مُرّةَ عنِ الحارثِ عن عليّ موقوفاً‏.‏

3189- حدثنا محمد بن بشّار بُنْدَارٌ، أخبرنا عَفّانُ بنُ مُسْلِمٍ وَعَبْدُ الصّمَدِ بن عبد الوارث قالا أخبرنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن سِمَاكِ بن حَرْبٍ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قال‏:‏ ‏"‏بَعَثَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بِبراءَةَ مَعَ أبي بَكْرٍ، ثمّ دَعَاهُ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏لا يَنْبَغِي لأحَدٍ أَنْ يُبَلّغَ هَذَا إِلاّ رجُلٌ مِنْ أهْلِي، فَدَعَا عَلِيّا فَأَعْطَاهُ إِيّاهَا‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من حديث أنَسٍ بن مالك‏.‏

3190- حدثنا مُحمّدُ بنُ إسماعِيلَ، أخبرنا سَعِيدُ بنُ سُلَيْمانَ، أخبرنا عَبّادُ بنُ الْعَوّامِ، أخبرنا سُفْيَانُ بنُ حُسَيْنِ عن الْحَكَمِ بنِ عُتْيْبَةَ عن مِقْسَمٍ عن ابنِ عَبّاسٍ قال‏:‏ ‏"‏بَعَثَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أبَا بَكْر وَأَمَرَهُ أَنْ يُنادِي بهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ، ثُمّ أَتْبَعَهُ عَلِيّا‏.‏ فَبَيْنَا أَبُو بَكْرٍ في بَعْضِ الطّرِيقِ إِذْ سَمِعَ رُغاءَ نَاقَةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الْقَصْوَى فَخَرَجَ أَبُو بَكْر فَزِعَاً، فَظَنّ أَنّهُ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هو عَلِيّ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ كِتَابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ عَلِيّا أَنْ يُنَادِيَ بهَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ، فَانْطَلَقَا، فَحَجّا، فَقَامَ عَلِيّ أَيّامَ التّشْرِيقِ فَنَادَى‏:‏ ذِمّةُ الله وَرَسُولِهِ بَرِيئَةٌ مِنْ كُلّ مُشْرِكٍ، فَسِيحُوا في الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ، ولا يَحُجّنّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، ولا يَطُوفَنّ بالْبَيْتِ عُرْيَانُ، ولا يَدْخُلُ الْجَنّةَ إِلاّ مُؤْمِن‏.‏ وكَانَ عَلِيّ يُنَادِي، فَإِذَا عَيِيَ قامَ أبو بَكْرٍ فَنَادَى بها‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ وهذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الْوَجْهِ من حديثِ ابن عَبّاسٍ‏.‏

3191- حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ عن أبي إسْحَاقَ عن زَيْدِ بنِ يُثَيّعٍ قال‏:‏ ‏"‏سَأَلْنَا عَلِيّا بِأَيّ شَيْء بُعِثْتَ في الْحَجّةِ‏؟‏ قال‏:‏ بُعِثْتُ بِأَرْبَعِ‏:‏ لا يَطُوفَنّ بالْبَيْتِ عُرْيَانُ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ فَهُوَ إِلَى مُدّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَلا يَدْخُلُ الْجَنّةَ إِلاّ نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، ولا يَجْتَمِعُ المُشْرِكُونَ وَالمُسْلِمُونَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وَهُوَ حديثُ سفيان بن عُيَيْنَةَ عن أبي إسْحَاقَ وَرَوَاهُ سُفْيَانُ الثّوْرِيّ، عن أبي إسْحَاقَ، عن بَعْضِ أصْحَابِهِ، عن عَلِيّ، وفي الباب عن أبي هُرَيْرَةَ‏.‏

3192- حدثنا نَصْرُ بنُ عَلِيّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قالوا أخبرنا سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن أبي إِسْحَاقَ عن زَيْدِ بنِ يُثَيّعٍ عن علِيّ نحْوَهُ‏.‏

3193- حدثنا علِيّ بنُ خَشْرَمٍ، أخبرنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن أَبي إِسْحَاقَ عن زَيْدِ بنِ أُثَيْعٍ عن علِيّ نحْوَهُ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ وقد رُوِيَ عن عُيَيْنَةَ كِلْتَا الرّوَايَتَيْنِ عن ابنِ أُثَيْعٍ وعن ابنِ يُثَيّعٍ‏.‏ وَالصّحِيحُ هو زَيْدُ بنُ يُثَيّعِ‏.‏ وقد رَوَى شُعْبَةُ عن أبي إِسْحَاقَ عن زَيد غيرَ هذا الحديثِ فَوَهِمَ فيه، وقال زَيْدُ بنُ أُثَيْلٍ، ولا يُتَابَعُ عليه وفي الباب عن أَبي هريرة‏.‏

3194- حدثنا أَبُو كُرَيْبٍ أخبرنا رِشْدينُ بنُ سَعْدٍ عن عَمْرِو بن الحارِثِ، عن دَرّاجٍ عن أبي الهَيْثَمِ، عن أبي سَعِيدٍ قال‏:‏ قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إِذَا رَأَيْتُمْ الرّجُلَ يَعْتَادُ المَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بالإيْمَانِ، قال الله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الاَخِرِ‏}‏‏"‏‏.‏

3195- حدثنا ابن أبي عُمَرَ، أخبرنا عَبْدُ الله بنُ وَهْبٍ عن عَمْرِو بن الْحَارِثِ، عن دَرّاجٍ عن أبي الْهَيْثَمِ، عن أبي سَعِيدٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نحْوَهُ إِلاّ أَنّهُ قال‏:‏ ‏"‏يَتَعَاهَدُ المَسْجِدَ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ‏.‏ وأبو الهَيْثَمِ اسْمُهُ سُلَيْمانُ بنُ عَمْرِو بنِ عَبْدِ الْعُتْوَارِيّ، وَكَانَ يَتِيماً في حِجْرِ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ‏.‏

3196- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى، عن إِسْرَائِيلَ عن مَنْصُورٍ عن سَالِمِ بن أبي الْجَعْدِ عن ثَوْبَانَ قال‏:‏ ‏"‏لَمّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ‏}‏ قال‏:‏ كُنّا مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فقال بَعْضُ أَصْحَابِهِ‏:‏ أُنْزِلَ في الذّهَبِ وَالْفِضّةِ ما أنزل لَوْ عَلِمْنَا أَيّ الْمَالِ خَيْرٌ فَنَتّخِذَهُ‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏أَفْضَلُهُ لِسَانُ ذَاكِرٌ وَقَلْبٌ شَاكِرٌ وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُعِينُهُ عَلَى إِيْمانِهِ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ‏.‏ سأَلْتُ مُحمّدَ بنَ إِسماعِيلَ فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ سَالِمُ بنُ أبي الْجَعْدِ سَمِعَ مِنْ ثَوْبَانَ‏؟‏ فقال‏:‏ لاَ، فقلت لَهُ‏:‏ مِمّنْ سَمِعَ مِنْ أصْحَابِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ سَمِعَ مِنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله وَأَنَسِ بنِ مَالِكٍ، وَذَكَرَ غيرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

3197- حدثنا الحُسَيْنُ بنُ يَزِيدَ الْكُوفِيّ، أخبرنا عَبْدُ السّلاَمِ بنُ حَرْبٍ عن غُطَيْفِ بنِ أَعيَنَ عن مُصْعَبِ بنِ سَعْدٍ عن عَدِيّ بنِ حَاتِمٍ قال‏:‏ ‏"‏أَتَيْتُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وَفي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فقال‏:‏ يَا عَدِيّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ في سُورَةِ بَرَاءَةَ‏:‏ ‏{‏اتّخَذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله‏}‏، قال‏:‏ أمَا إِنّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلّوا لَهُمْ شَيْئاً اسْتَحَلّوهُ، وَإِذَا حَرّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئاً حَرّمُوهُ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِن حديثِ عبدِ السّلاَمِ بنِ حَرْبٍ‏.‏ وَغُطَيْفُ بنُ أَعْيَنَ لَيْس بمَعْرُوفٍ في الحديثِ‏.‏

3198- حدثنا زِيَادُ بنُ أَيّوبَ الْبَغْدَاديّ، أخبرنا عَفّانُ بنُ مُسْلِمٍ، أخبرنا هَمّامٌ، أخبرنا ثابتٌ عن أَنَسٍ، أَنّ أبَا بَكْرٍ حَدّثَهُ قال‏:‏ ‏"‏قُلْتُ للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ونحْنُ في الْغَارِ‏:‏ لَوْ أَنّ أَحَدَهُمْ يَنْظُرُ إِلَى قَدَمَيْهِ لأبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ‏.‏ فقالَ‏:‏ ‏"‏يَا أَبا بَكْرٍ مَا ظَنّكَ بِاثْنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا‏؟‏‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، إِنما يُعرفُ من حديثِ هَمّامٍ‏.‏ تفرد به وقد رَوَى هذا الحديثَ حَبّانُ بنُ هَلالٍ وغيرُ وَاحِدٍ عن هَمّامٍ نحْوَ هذا‏.‏

3199- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ قال‏:‏ حدثني يَعْقُوبُ بنُ إِبراهِيمَ بنِ سَعْدٍ عن أبِيهِ عن مُحمّدِ بنِ إِسْحَاقَ عن الزّهْرِيّ عن عُبَيْدِ الله بنِ عبدِ الله بنِ عُتَبَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ قال‏:‏ سَمِعْتُ عُمَرَ بنَ الْخَطّابِ يقولُ‏:‏ ‏"‏لَمّا تُوُفّيَ عبدُ الله بنُ أُبَيّ دُعِيَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِلصّلاةِ عَلَيْهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ، فَلَمّا وَقَفَ عَلَيْهِ يُرِيدُ الصّلاةَ تَحَوّلْتُ حَتّى قُمْتُ في صَدْرِهِ فَقلت‏:‏ يَا رَسُولَ الله، أَعَلَى عَدُوّ الله عَبْدِ الله بنِ أُبَيّ الْقَائِلِ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا- يَعُدّ أَيّامَهُ- قالَ ورَسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَتَبَسّمُ، حَتّى إِذَا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قال‏:‏ ‏"‏أَخّرْ عَنّي يَا عُمَرُ، إِنّي قَدْ خَيّرْتُ فَاخْتَرْتُ، قَدْ قِيلَ لِي ‏{‏اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ‏}‏ لَوْ أَعْلَمُ أَنّي لَوْ زِدْتُ عَلَى السّبْعِينَ غَفَرَ لَهُ لَزِدْتُ‏.‏ قال‏:‏ ثُمّ صَلّى عَلَيْهِ وَمَشَى مَعَهُ، فَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتّى فُرِغَ مِنْهُ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فَعَجَبٌ لِي وَجُرْأَتِي عَلَى رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَالله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَوَالله مَا كَانَ إِلاّ يَسِيراً حَتّى نَزَلَتْ هَاتَانِ الاَيَتَانِ‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَد مِنْهُمْ مَاتَ أبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ‏}‏ إِلَى آخِرِ الاَيةِ‏.‏ قال‏:‏ فما صَلّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُ عَلَى مُنَافِقٍ وَلاَ قَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتّى قَبَضَهُ الله‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ‏.‏

3200- حدثنا محمد بن بشار حدثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، حدثنا عُبَيْدُ الله أخبرنا نَافِعٌ عن ابنِ عُمَرَ قال‏:‏ ‏"‏جاءَ عبدُ الله بنُ عبدِ الله بنِ أُبَيّ إِلَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ مَاتَ أَبُوهُ فقال‏:‏ أَعْطِنِي قَمِيصَكَ فيه أُكَفّنْهُ وَصَلّ عَلَيْهِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُ، فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ وقال‏:‏ ‏"‏إِذَا فَرَغْتُمْ فآذِنُوني‏"‏، فلَمّا أَرَادَ أَنْ يُصَلّيَ جَذَبَهُ عُمَرُ وقال‏:‏ أَلَيْسَ قَدْ نَهَى الله أَنْ تُصَلّي عَلَى المُنَافِقِينَ‏؟‏ فقال‏.‏ أَنَا بَيْنَ خِيرَتَيْنِ ‏{‏اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ‏}‏‏"‏ فَصَلّى عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ الله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ‏}‏، فَتَرَكَ الصّلاَةَ عَلَيْهِمْ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏

3201- حدثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا اللّيْثُ، عن عِمْرَانَ بنِ أبي أَنَسٍ، عن عبدِ الرّحمَنِ بنِ أبي سَعِيدٍ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّهُ قال‏:‏ ‏"‏تَمَارَى رَجُلاَنِ في المَسْجِدِ الّذِي أُسّسَ عَلَى التّقْوَى مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ، فقالَ رَجُلٌ‏:‏ هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وقال الاَخَرُ‏:‏ هُوَ مَسْجِدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏هُوَ مَسْجِدِي هَذَا‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من حديث عمران بن أبي أنس‏.‏ وقد رُوِيَ هذا عن أبي سَعِيدٍ من غيرِ هذا الوَجْهِ، ورَوَاهُ أُنَيْسُ بنُ أبي يَحْيَى عن أبِيهِ عن أبي سَعِيدٍ رضي الله عنه‏.‏

3202- حدثنا محمد بن العلاء أبو كُرَيْبٍ أخبرنا مُعَاوِيَة بنُ هِشَامٍ، أخبرنا يُونُسُ بنُ الْحَارِثِ، عن إبراهِيمَ بنِ أبي مَيْمُونَةَ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏نَزَلَتْ هَذِهِ الاَيةُ في أهْلِ قُبَاء‏:‏ ‏{‏فِيهِ رِجَالٌ يُحِبّونَ أَنْ يَتَطَهّرُوا والله يَحِبّ المُتَطَهّرِينَ‏}‏‏.‏ قال‏:‏ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الاَيةُ فِيهِمْ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الْوَجْهِ‏.‏

قال وفي البابِ عن أبي أَيّوبَ وَأَنَسِ بنِ مَالِكٍ وَمُحمّدِ بنِ عبدِ الله بنِ سَلاَمٍ‏.‏

3203- حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، أخبرنا وَكِيعٌ، أخبرنا سُفْيَانُ عن أبي إسْحَاقَ، عن أبي الْخَلِيلِ كوفيّ، عن عَلِيّ قال‏:‏ ‏"‏سَمِعْتُ رَجُلاً يَسْتَغْفِرُ لأبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ، فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ أَتَسْتَغْفِرُ لأبَوَيْكَ وَهُمَا مُشِركَانِ‏؟‏ فقال‏:‏ أَوَلَيْسَ اسْتَغْفَرَ إبراهِيمُ لأبِيهِ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنّبيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ ذا حديثٌ حسنٌ‏.‏

قال وفي البابِ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ عن أبِيهِ‏.‏

3204- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا عَبْدُ الرّزّاقِ، أخبرنا مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ عن عَبْدِ الرّحْمنِ بنِ كَعْبٍ بنِ مَالِكٍ عن أبِيهِ قال‏:‏ ‏"‏لَمْ أَتَخَلّفْ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في غَزْوَةٍ غَزَاهَا حَتّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكٍ إِلاّ بَدْراً، وَلَمْ يُعَاتِبْ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أَحَداً تَخَلّفَ عَنْ بَدْرٍ، إِنّمَا خَرَجَ يُرِيدُ الْعِيرَ، فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ مُغِيثِينَ لِعِيرِهِمْ، فالْتَقَوْا عَنْ غَيْرِ مَوْعِدٍ كَمَا قَالَ الله عز وجل، وَلَعَمْرِي إِنّ أَشْرَفَ مَشَاهِدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في النّاسِ لَبَدْر، وَمَا أُحِبّ أَنّي كُنْتُ شَهِدْتُهَا مَكَانَ بَيْعَتِي لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حَيْثُ تَوَاثَقْنَا عَلى الاْسْلاَمِ، ثُمّ لَمْ أَتَخَلّفْ بَعْدُ عَنْ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حَتّى كانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكٍ وَهِيَ آخِرُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا، وَآذَنَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم النّاسَ بِالرّحِيلِ، فَذَكَرَ الحديثَ بِطُولِهِ‏.‏ قال‏:‏ فانْطلَقْتُ إِلَى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ في المَسْجِدِ وَحَوْلَهُ المُسْلِمُونَ وَهُوَ يَسْتَنِيرُ كَاسْتِنَارَةِ الْقَمَرِ، وَكَانَ إِذَا سُرّ بِالأمرِ اسْتَنَارَ، فَجِئْتُ فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فقال‏:‏ ‏"‏أَبْشِرْ يَا كَعْبُ بنُ مَالِكٍ بِخَيْرِ يَوْمٍ أَتَى عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمّكَ‏"‏‏.‏ فَقلت‏:‏ يَا نَبيّ الله، أَمِنْ عِنْدِ الله أَمْ مِنْ عِنْدِكَ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏بَلْ مِنْ عِنْدِ الله، تم تَلاَ هَؤلاءِ الاَيَاتِ‏:‏ ‏{‏لَقَدْ تَابَ الله على النّبيّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الّذينَ اتّبَعُوهُ في سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيعُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنّهُ بِهم رَؤوفٌ رَحِيمٌ‏}‏ حتى بلغ أن الله هو التّواب الرحيم قال‏:‏ وَفِينَا أُنْزِلَتْ أَيْضاً‏:‏ ‏{‏اتّقُوا الله وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ‏}‏‏.‏ قال قلت‏:‏ يَا نَبيّ الله، إنّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لاَ أُحَدّثَ إِلاّ صِدْقاً، وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي كُلّهِ صَدَقَةً إِلَى الله وَإِلَى رَسُولِهِ‏.‏ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ‏"‏‏.‏ فَقلت‏:‏ فإِني أُمْسِكُ سَهْمِي الّذِي بِخَيْبَرَ‏.‏ قال‏:‏ فَمَا أَنْعَمَ الله عَليّ نِعْمَةً بَعْدَ الاْسْلاَمِ أَعْظَمَ في نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ صَدَقْتُهُ أَنَا وَصَاحِبَايَ وَلاَ نَكُونُ كَذَبْنَا فَهَلَكْنَا كَمَا هَلَكُوا، وإني لأَرْجُو أَنْ لا يَكُونَ الله أَبْلَى أَحَداً في الصّدْقِ مِثْلَ الذي أَبْلاَنِي مَا تَعَمّدْتُ لِكَذِبَةٍ بَعْدُ، وإني لأرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي الله فِيمَا بَقِيَ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ وقد رُوِيَ عن الزّهْرِيّ هذا الحديثُ بِخِلاَفِ هذا الإسنادِ، وقد قِيلَ عن عبدِ الرّحمَنِ بنِ عبدِ الله بنِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ عن عمه عبيد الله عن كَعْبٍ، وقد قِيلَ غيرُ هذا‏.‏ وَرَوَى يُونُسُ بنُ يَزِيدَ هذا الحديثَ عن الزّهْرِيّ عن عبدِ الرّحمَنِ بنِ عبدِ الله بن كعب بن مالك أَنّ أَبَاهُ حَدّثَهُ عن كَعْبِ بنِ مَالِكٍ‏.‏

3205- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ، أخبرنا عبدُ الرّحمَنِ بنُ مَهْدِيّ، أخبرنا إبراهِيمُ بنُ سَعْدٍ عن الزّهْرِيّ عن عُبَيْدِ بنِ السّبّاقِ، أَنّ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ حَدّثَهُ قال‏:‏ ‏"‏بَعَثَ إِلَيّ أبو بَكْرٍ الصّدّيقُ- مَقْتَلَ أهْلِ الْيَمامَةِ- فَإِذَا عُمَرُ بنُ الْخَطّابِ عِنْدَهُ، فقال‏:‏ إنّ عُمَرَ قَدْ أَتَاني فقال‏:‏ إنّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرّ بِقُرّاءِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وإني لأخْشَى أَنْ يَسْتَحِرّ الْقَتْلُ بالْقُرّاءِ في المَوَاطِنِ كُلّهَا فَيَذْهَبَ قُرآنٌ كَثِيرٌ، وإني أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ‏.‏ قال أبو بَكْرٍ لِعُمَرَ‏:‏ كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئاً لَمْ يَفْعَلْهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال عُمَرُ‏:‏ هُوَ وَالله خَيْرٌ‏.‏ فلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي في ذَلِكَ حَتّى شَرَحَ الله صَدْرِي للّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ عُمَرَ، وَرَأَيْتُ فِيهِ الّذِي رَأَى‏.‏

قال زَيْدٌ‏:‏ قال أبو بكْرٍ‏:‏ إنّكَ شَابّ عاقِلٌ لانَتّهِمُكَ، قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الْوَحْيَ فَتَتَبّعْ الْقُرْآنَ‏.‏ قال‏:‏ فَوَالله لَوْ كَلّفُوني نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ ما كَانَ أَثْقَلَ عَلَيّ مِنْ ذَلِكَ‏.‏ قال قلت‏:‏ كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئاً لَمْ يَفْعَلْهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال أبو بَكْرٍ‏:‏ هُوَ والله خَيْرٌ‏.‏ فلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي في ذَلِكَ أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ حَتّى شَرَحَ الله صَدْرِي لِلّذي شَرَحَ لَهُ صَدْرَهُما‏:‏ صَدْرَ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَتَتَبّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرّقَاعِ وَالْعُسُبِ وَاللّخَافِ- يَعْنِي الْحِجَارَةَ وَالرّقَاقَ وَصُدُورَ الرّجالِ- فَوَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ بَرَاءَةَ مَعَ خُزَيْمَةَ بنِ ثَابِتٍ‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالْمؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلّوْا فَقُلْ حَسْبِي الله لا إِلَه إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَهُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏}‏‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏

3206- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ، أخبرنا عَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ مَهْدِيّ، أخبرنا إِبراهِيمُ بنُ سَعْدٍ عن الزّهْرِيّ عن أَنَسٍ، أَنّ حُذَيْفَةَ قَدِمَ عَلَى عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ، وكَانَ يُغَازِي أهْلَ الشّامِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيّةَ وَأَذَرْبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِراقِ، فَرَأَى حُذَيْفَةُ اخْتِلاَفَهُمْ في الْقُرْآنِ، فقال لِعُثْمانَ بْنِ عَفّانَ‏:‏ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الاْمّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا في الْكِتَابِ كَمَا اخْتَلَفَتِ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى، فَأَرْسَلَ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصّحُفِ نَنْسَخُهَا في المَصَاحِفِ ثمّ نَرُدّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ حَفْصَةُ إِلَى عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ بِالصّحُفِ، فَأَرْسَلَ عُثْمانُ إِلَى زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ وَسَعِيدِ بنِ الْعَاصِ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ الْحَارِثِ بنِ هِشَامٍ وَعَبْدِ الله بنِ الزّبَيْرِ، أَنْ انْسَخُوا الصّحُفَ في المَصَاحِفِ، وقال لِلرّهْطِ الْقُرَشِيّينَ الثّلاَثَةِ‏:‏ ما اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بنُ ثَابِتٍ فاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ حَتّى نَسَخُوا الصّحُفَ في المَصَاحِفِ، بَعَثَ عُثْمانَ إِلى كلّ أُفُقِ بِمُصْحَفٍ مِنْ تِلْكَ المَصَاحِفِ الّتِي نَسَخُوا‏.‏

قال الزّهْرِيّ‏:‏ وحدثني خارِجَةُ بنُ زَيْد بن ثابت أَنّ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ قال‏:‏ فَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الأحْزَابِ كُنْتُ أَسْمَعُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا ‏{‏مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ‏}‏، فَالْتَمَسْتُهَا فَوَجَدْتُهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بنِ ثَابِتٍ أَوْ أبي خُزَيْمَةَ فَأَلْحَقْتُهَا في سُورَتِهَا‏.‏

قال الزّهْرِيّ‏:‏ فَاخْتَلَفُوا يَوْمَئِذٍ في التّابُوتِ وَالتّابُوهِ، فقال الْقُرَشِيّونَ‏:‏ التّابُوتُ، وقال زَيْدٌ‏:‏ التّابُوهُ، فَرُفِعَ اخْتِلاَفُهُمْ إلى عُثْمانَ، فقال‏:‏ اكْتُبُوهُ التّابُوتَ، فإِنّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ‏.‏

قال الزّهْرِيّ‏:‏ فَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ الله بنُ عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ أَنّ عَبْدَ الله بنَ مَسْعُودٍ كَرِهَ لِزَيْدِ بنِ ثَابِتٍ نَسْخَ المَصَاحِفِ، وقال‏:‏ يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ أُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ كِتَابَةِ المصحف وَيَتَوّلاَهَا رَجُلٌ، والله لَقَدْ أَسْلَمْتُ وَإِنّهُ لَفِي صُلْبِ رَجُلٍ كَافِر- يُريدُ زَيْدَ بن ثَابِتٍ، وَلِذَلِكَ قال عَبْدُ الله بنُ مَسْعُودٍ‏:‏ يا أَهْلَ الْعِراقِ اكْتُمُوا المَصَاحِفَ الّتِي عِنْدَكُمْ وَغُلّوهَا، فَإِنّ الله يقولُ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ فَالْقُوا الله بِالمَصَاحِفِ‏.‏

قال الزّهْرِيّ‏:‏ فَبَلَغَنِي أَنّ ذَلِكَ كُرِهَ مِنْ مَقَالَةِ ابنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وَهُوَ حديثُ الزّهْرِيّ، لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِهِ‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏وسهل بن يوسف‏)‏ الأنماطي البصري، ثقة، رمي بالقدر، من كبار التاسعة‏.‏

‏(‏حدثني يزيد الفارسي‏)‏ البصري مقبول من الرابعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما حملكم‏)‏ أي ما الباعث والسبب لكم ‏(‏أن عمدتم‏)‏ بفتح الميم أي على أن قصدتم ‏(‏وهي من المثاني‏)‏‏.‏

قال في المجمع‏:‏ يقال المثاني على كل سورة أقل من المئين، ومنه عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني انتهى‏.‏ وقال في النهاية‏:‏ المثاني السورة التي تقصر عن المئين وتزيد على المفصل كأن المئين جعلت مبادئ والتي تليها مثاني ‏(‏وإلى براءة‏)‏ هي سورة التوبة وهي أشهر أسمائها، ولها أسماء أخرى تزيد على العشرة، قاله الحافظ في الفتح ‏(‏وهي من المئين‏)‏ أي ذوات مائة آية‏.‏

قال في المجمع‏:‏ أول القرآن السبع الطول، ثم ذوات المئين، أي ذوات مائة آية، ثم المثاني، ثم المفصل انتهى‏.‏ والمثين جمع المائة، وأصل المائة مائ كمعنى والهاء عوضاً عن الواو، وإذا جمعت المائة قلت مئون، ولو قلت مئات جاز ‏(‏في السبع الطول‏)‏ بضم ففتح ‏(‏ما حملكم على ذلك‏)‏ تقرير للتأكيد وتوجيه السؤال أن الأنفال ليس من السبع الطول لقصرها عن المئين لأنها سبع وسبعون آية وليست غيرها لعدم الفصل بينها وبين براءة ‏(‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان‏)‏ أي الزمان الطويل ولا ينزل عليه شيء، وربما يأتي عليه الزمان ‏(‏وهو‏)‏ أي النبي صلى الله عليه وسلم والواو للحال ‏(‏ينزل عليه‏)‏ بصيغة المجهول ‏(‏فكان إذا نزل عليه الشيء‏)‏ يعني من القرآن ‏(‏دعا بعض من كان يكتب‏)‏ أي الوحي، كزيد بن ثابت ومعاوية وغيرهما ‏(‏فإذا نزلت عليه الاَية فيقول ضعوا هذه الاَية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا‏)‏ هذا زيادة جواب تبرع به رضي الله تعالى عنه للدلالة على أن ترتيب الاَيات توقيفي وعليه الإجماع والنصوص المرادفة‏.‏ وأما ترتيب السور فمختلف فيه كما في الإتقان ‏(‏وكانت براءة من آخر القرآن‏)‏ أي نزولاً كما في رواية أي فهي مدنية أيضاً، وبينهما النسبة الترتيبية بالأولية والاَخرية، فهذا أحد وجوه الجمع بينهما ‏(‏وكانت قصتها‏)‏ أي الأنفال ‏(‏شبيهة بقصتها‏)‏ أي براءة ويجوز العكس، ووجه كون قصتها شبيهة بقصتها أن في الأنفال ذكر العهود، وفي براءة نبذها فضمت إليها ‏(‏فظننت أنها‏)‏ أي التوبة ‏(‏منها‏)‏ أي الأنفال، وكأن هذا مستند من قال‏:‏ أنهما سورة واحدة، وهو ما أخرجه أبو الشيخ عن دوق وأبو يعلى عن مجاهد ابن أبي حاتم عن سفيان وابن لهيعة، كانوا يقولون‏:‏ إن براءة من الأنفال، ولهذا لم تكتب البسملة بينهما مع اشتباه طرقهما، ورد بتسمية النبي صلى الله عليه وسلم كل منهما باسم مستقل‏.‏

قال القشيري‏.‏ إن الصحيح أن التسمية لم تكن فيها لأن جبريل عليه الصلاة والسلام لم ينزل بها فيها، وعن ابن عباس‏:‏ لم تكتب البسملة في براءة لأنها أمان وبراءة نزلت بالسيف‏.‏ وعن مالك‏:‏ أن أولها لما سقط سقطت معه البسملة، فقد ثبت أنها كانت تعدل البقرة لطولها، وقيل إنها ثابتة أولها في مصحف ابن مسعود ولا يعول على ذلك، كذا في المرقاة ‏(‏ولم يبين لنا أنها منها‏)‏ أي لم يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن التوبة من الأنفال أو ليست منها ‏(‏فمن أجل ذلك‏)‏ أي لما ذكر من عدم تنبيه ووجود ما ظهر لنا من المناسبة بينهما ‏(‏قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمَن الرحيم‏)‏ أي لعدم العلم بأنها سورة مستقلة، لأن البسملة كانت تنزل عليه صلى الله عليه وسلم للفصل ولم تنزل ولم أكتب ووضعتها في السبع الطول‏.‏

قال الطيبي‏:‏ دل هذا الكلام على أنهما نزلتا منزلة سورة واحدة وكمل السبع الطول بها، ثم قيل السبع الطول‏:‏ هي البقرة وبراءة وما بينهما وهو المشهور، لكن روى النسائي والحاكم عن ابن عباس أنها البقرة والأعراف وما بينهما‏.‏

قال الرواي‏:‏ وذكر السابعة فنسيتها، وهو يحتمل أن تكون الفاتحة فإنها من السبع المثاني، أو هي السبع المثاني، ونزلت سبعتها منزلة المثين، ويحتمل أن تكون الأنفال بانفرادها أو بانضمام ما بعدها إليها‏.‏ وصح عن ابن جبير أنها يونس، وجاء مثله عن ابن عباس، ولعل وجهه أن الأنفال وما بعدها مختلف في كونها من المثاني وأن كلا منهما سورة أو هما سورة‏.‏

‏(‏هذا حديث حسن‏)‏ وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم، وقال صحيح ولم يخرجاه‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏عن زائدة‏)‏ هو ابن قدامة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنه شهد‏)‏ أي حضر ‏(‏وذكر‏)‏ من التذكير ‏(‏ثم قال‏)‏ أي النبي صلى الله عليه وسلم للناس ‏"‏أي يوم أحرم‏"‏ أي أعظم حرمة كما في حديث جابر بن عبد الله عند أحمد ‏(‏فقال الناس يوم الحج الأكبر‏)‏ قيل هو يوم عرفة وقيل يوم النحر، ويأتي الكلام فيه في شرح حديث علي رضي الله عنه ‏"‏فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم‏"‏ أي تعرضها ‏"‏عليكم حرام‏"‏ أي محرم ليس لبعضكم أن يتعرض لبعض فيريق دمه أو يسلب ماله، أو ينال من عرضه ‏"‏كحرمة يومكم هذا‏"‏ يعني تعرض بعضكم دماء بعض وأمواله وأعراضه في غير هذه الأيام كحرمة التعرض لها في هذا اليوم ‏"‏في بلدكم هذا‏"‏ أي مكة أو الحرم المحترم ‏"‏في شهركم هذا‏"‏ أي ذي الحجة ‏"‏ألا لا يجني جان إلا على نفسه‏"‏ تقدم شرحه في باب تحريم الدماء والأموال من أبواب الفتن ‏"‏ألا‏"‏ حرف التنبيه ‏"‏إن المسلم أخو المسلم‏"‏ أي في الدين ‏"‏فليس يحل لمسلم‏"‏ أي لا يجوز ولا يباح له ‏"‏إلا ما أحل من نفسه‏"‏ أي ما أباح له أخوه من نفسه ‏"‏وإن كل رباً في الجاهلية موضوع‏"‏ أي كالشيء الموضوع تحت القدم، وهو مجاز عن إبطاله ‏"‏لكم رؤوس‏"‏ أي أصول ‏"‏أموالكم لا تظلمون‏"‏ بزيادة ‏"‏ولا تظلمون‏"‏ بنقص ‏"‏غير ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله‏"‏ كذا وقع عند الترمذي في حديث عمرو بن الأحوص، ولم يظهر لي معنى الاستثناء ووقع عند ابن أبي حاتم من طريق شيبان عن شبيب بن غرقدة، عن سليمان بن الأحوص عن أبيه قال‏:‏ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال ألا إن كل رباً كان في الجاهلية موضوع عنكم كله لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وأول رباً موضوع رباً العباس بن عبد المطلب موضوع كله‏.‏

وفي حديث جابر عند مسلم‏:‏ وربا الجاهلية موضوعة وأول ما أضع رباً ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله‏.‏

قال النووي‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم في الربا إنه موضوع كله، معناه الزائد على رأس المال، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم‏}‏ وهذا الذي ذكرته إيضاح، وإلا فالمقصود مفهوم من نفس لفظ الحديث، لأن الربا هو الزيادة فإذا وضع الربا فمعناه وضع الزيادة، والمراد بالوضع‏:‏ الرد والإبطال انتهى‏.‏ ‏"‏وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع‏"‏ أي متروك لا قصاص ولا دية ولا كفارة ‏"‏وأول دم أضع‏"‏ أي أضعه وأبطله ‏"‏دم الحارث بن عبد المطلب‏"‏ وفي حديث جابر عند مسلم‏:‏ وإن أول دم أضع من دمائنا دم بن ربيعة بن الحارث‏.‏

قال النووي‏:‏ قال المحققون والجمهور اسم هذا الابن إياس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وقيل اسمه حارثة، وقيل آدم‏.‏

قال الدارقطني‏:‏ وهو تصحيف، وقيل اسمه تمام، وممن سماه آدم الزبير بن بكار‏.‏ قال القاضي عياض‏:‏ ورواه بعض رواة مسلم دم ربيعة بن الحارث قال وكذا رواه أبو داود، وقيل وهو وهم، والصواب بن ربيعة لأن ربيعة عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمن عمر بن الخطاب، وتأويله أبو عبيد فقال‏:‏ دم ربيعة لأنه ولي الدم فنسبه إليه، قالوا وكان هذا الابن المقتول طفلاً صغيراً يحبو بين البيوت، فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد وبين ليث بن بكر‏.‏ قاله الزبير بن بكار انتهى ‏(‏كان مسترضعاً‏)‏ على بناء المجهول أي كان له ظئر ترضعه في بني ليث ‏(‏ألا‏)‏ بالتخفيف للتنبيه ‏"‏فاستوصوا بالنساء خيراً‏"‏ الاستيصاء‏:‏ قبول الوصية، أي أوصيكم بهن خيراً فاقبلوا وصيتي فيهن‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ الأظهر أن السين للطلب، أي اطلبوا الوصية من أنفسكم في أنفسهن بخير أو يطلب بعضكم من بعض بالإحسان في حقهن، وقيل الاستيصاء بمعنى الإيصاء ‏"‏فإنما هن عوان عندكم‏"‏ جمع عانية، أي أسراء كالأسراء، شبهن بهن عند الرجال لتحكمهن فيهن‏.‏

قال في النهاية‏:‏ العاني الأسير، وكل من ذل واستكان وخضع، فقد عنا يعنو، أو هو عان والمرأة عانية وجمعها عوان ‏{‏ليس تملكون منهن شيئاً‏}‏ أي شيئاً من الملك أو شيئاً من الهجران والضرب ‏{‏غير ذلك‏}‏ أي غير الاستيصاء بهن الخير ‏(‏إلا أن يأتين بفاحشة مبينة‏)‏ الفاحشة كل ما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي، وكثيراً ما ترد بمعنى الزنا، وكل خصلة قبيحة فهي فاحشة من الأقوال والأفعال ‏{‏فإن فعلن‏}‏ أي أتين بفاحشة ‏{‏فاهجروهن في المضاجع‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو أن يوليها ظهره في الفراش ولا يكلمها، وقيل هو أن يعتزل عنها إلى فراش آخر ‏(‏واضربوهن ضرباً غير مبرح‏)‏ بضم الميم وفتح الموحدة وتشديد الراء المكسورة، قال النووي‏:‏ الضرب المبرح هو الضرب الشديد الشاق، ومعناه اضربوهن ضرباً ليس بشديد ولا شاق، والبرح‏:‏ المشقة ‏{‏فإن أطعنكم‏}‏ أي فيما يراد منهن ‏{‏فلا تبغوا عليهن سبيلاً‏}‏ أي فلا تطلبوا عليهن طريقاً إلى هجرانهن وضربهن ظلماً ‏{‏فلا يوطئن‏}‏ بهمزة أو بإبدالها من باب الأفعال ‏{‏فرشكم‏}‏ بالنصب مفعول أول ‏(‏من تكرهون‏)‏ مفعول ثان أي من تكرهونه رجلاً كان أو امرأة‏.‏ قال النووي‏:‏ المختار أن معناه أن لا يأذن لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم‏.‏ سواء كان المأذون له رجلاً أجنبياً أو امرأة أو أحداً من محارم الزوجة، فالنهي يتناول جميع ذلك ‏{‏ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون‏}‏ هذا كالتفسير لما قبله وهو عام ‏(‏ألا وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن أو طعامهن‏)‏ وفي حديث جابر عند مسلم‏:‏ ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه ابن ماجه من طريق أبي الأحوص، عن شبيب بن غرقدة، وأخرجه الترمذي أيضاً من هذا الطريق في باب تحريم الدماء والأموال‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث‏)‏ بن سعيد بن ذكوان العنبري البصري، صدوق من الحادية عشرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم الحج الأكبر فقال‏:‏ يوم النحر‏)‏ فيه دليل لمن يقول إن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر‏.‏ ولحديث على هذا شاهد من حديث ابن عمر عند أبي داود وابن ماجه، وذكره البخاري تعليقاً‏.‏ وقد وردت في ذلك أحاديث أخرى ذكرها الحافظ ابن كثير وغيره‏.‏

واختاره ابن جرير وهو قول مالك والشافعي والجمهور‏.‏ وقال آخرون منهم عمرو ابن عباس وطاوس‏:‏ إنه يوم غرفة والأول أرجح‏.‏ وحديث علي هذا قد تقدم مرفوعاً وموقوفاً في أواخر أبواب الحج وأخرجه أيضاً ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏وعبد الصمد‏)‏ بن عبد الوارث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بعث النبي صلى الله عليه وسلم ببراءة‏)‏ يجوز فيه التنوين بالرفع على الحكاية وبالجر ويجوز أن يكون علامة الجر فتحة وهو الثابت في الروايات ‏(‏مع أبي بكر‏)‏ وكان بعثه قبل حجة الوداع بسنة، وكانت الحجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة ‏(‏ثم دعاه‏)‏ أي ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ‏{‏فقال لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي فدعا علياً‏}‏ قال العلماء‏:‏ إن الحكمة في إرسال علي بعد أبي بكر أن عادة العرب جرت بأن لا ينقض العهد إلا من عقده، أو من هو منه بسبيل من أِل بيته فأجراهم في ذلك على عادتهم، ولهذا قال‏:‏ لا يبلغ هذا إلا أنا أو رجل من أهلي ‏(‏فأعطاه إياه‏)‏ أي فاعط علياً براءة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن غريب‏)‏ وأخرجه أحمد‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا محمد بن إسماعيل‏)‏ هو الإمام البخاري رحمه الله ‏(‏أخبرنا سعيد بن سليمان‏)‏ الضبي أبو عثمان الواسطي، نزيل بغداد البزاز لقبه سعدويه ثقة حافظ من كبار العاشرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر‏)‏ وروى الطبري عن ابن عباس قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الحج وأمره أن يقيم للناس حجهم، فخرج أبو بكر ‏(‏وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات‏)‏ أي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن ينادي بها‏.‏ وعند أحمد من حديث علي‏:‏ لما نزلت عشر آيات من براءة بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني فقال‏:‏ أدرك أبا بكر فحيثما لقيته فخذ منه الكتاب، فرجع أبو بكر فقال يا رسول الله نزل في شيء فقال‏:‏ لا‏:‏ إلا أنه لن يؤدي أو لكن جبريل قال لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك‏.‏

قال ابن كثير‏:‏ ليس المراد أن أبا بكر رضي الله عنه رجع من فوره بل بعد قضائه للمناسك التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ ولا مانع من حمله على ظاهره لقرب المسافة، وأما قوله عشر آيات‏:‏ فالمراد أولها ‏{‏إنما المشركون نجس‏}‏ ‏(‏ثم أتبعه علياً‏)‏ أي أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أباً بكر علياً رضي الله تعالى عنها ‏(‏إذ سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ بضم الراء وبالمد صوت ذوات الخف، وقد رغا البعير يرغو رغاء بالضم والمد‏:‏ أي ضج ‏(‏القصوى‏)‏ هو لقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي دفع أبو بكر إلى علي كتابه صلى الله عليه وسلم ‏(‏فسيحوا‏)‏ سيروا آمنين أيها المشركون ‏(‏في الأرض أربعة أشهر‏)‏ يأتي الكلام عليه في شرح حديث علي الاَني بعد هذا ‏(‏ولا يحجن بعد العام‏)‏ أي بعد الزمان الذي وقع فيه الإعلام بذلك ‏(‏فإذا عيى‏)‏ بكسر التحتية الأولى‏.‏ يقال عيى يعيى عيا وعياء بأمره وعن أمره‏:‏ عجز عنه ولم يطق أحكامه أو لم يهتد لوجه مراده وعيى يعيى عياً في المنطق‏:‏ حصر‏.‏

تنبيه‏:‏

قال الخازن قد يتوهم متوهم أن في بعث علي بن أبي طالب بقراءة أول براءة عزل أبي بكر عن الإمارة وتفضيله على أبي بكر وذلك جهل من هذا الموهم، ويدل على أن أبا بكر لم يزل أميراً على الموسم في تلك السنة حديث أبي هخريرة عند الشيخين أن أبا بكر بعثه في الحجة التي أمره رسول اصلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس الحديث، وفي لفظ أبي داود والنسائي قال‏:‏ بعثني أبو بكر فيمن يؤذن في يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، فقوله بعثني أبو بكر‏:‏ فيه دليل على أن أبا بكر كان هو الأمير على الناس، وهو الذي أقام للناس حجهم وعلمهم مناسكهم وأجاب العلماء عن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ليؤذن في الناس ببراءة بأن عادة العرب جرت أن لا يتولى تقرير العهد ونقضه إلا سيد القبيلة وكبيرها، أو رجل من أقاربه، وكان علي بن أبي طالب أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر لأنه ابن عمه ومن رهطه، فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم ليؤذن عنه ببراءة إزاحة لهذه العلة لئلا يقولوا هذا على خلاف ما نعرفه عن عادتنا في عقد العهود ونقضها‏.‏ وقيل‏:‏ لما خص أبا بكر لتوليته على الموسم خص علياً بتبليغ هذه الرسالة تطييباً لقلبه ورعاية لجانبه، وقيل إنما بعث علياً في هذه الرسالة حتى يصلي خلف أبي بكر ويكون جارياً مجرى التنبيه على إمامة أبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر أميراً على الحاج وولاه الموسم وبعث علياً خلفه ليقرأ على الناس ببراءة، فكان أبو بكر الإمام وعلى المؤتم، وكان أبو بكر رضي الله عنه الخطيب، وعلى المستمع‏.‏ وكان أبو بكر المتولي أمر الموسم والأمير على الناس ولم يكن ذلك لعلي، فدل ذلك على تقديم أبي بكر علي علي وفضله عليه انتهى‏.‏

قلت‏:‏ ومما يدل على أن أبا بكر لم يزل أميراً على الموسم في تلك السنة حديث جابر عند الطبري وإسحاق في مسنده والنسائي والدارمي وابن خزيمة وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم حين رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج فأقبلنا معه حتى إذا كنا بالعرج ثوب بالصبح فسمع رغوة ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا على عليها، فقال له‏:‏ أمير أو رسول فقال‏:‏ بل أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة أقرؤها على الناس الحديث‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏ومن كان بينه وبين النبي عهد فهو إلى مدنه‏.‏ ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر‏)‏‏.‏

قال الحافظ‏:‏ أستدل بهذا على أن قوله تعالى‏:‏ ‏"‏فسيحوا في الأرض أربعة أشهر‏"‏ يختص بمن لم يكن له عهد مؤقت أو لم يكن له عهد أصلاً، وأما من له عهد مؤقت فهو إلى مدته‏.‏ فروى الطبري من طريق ابن إسحاق قال‏:‏ هم صنفان‏:‏ صنف كن له عهد دون أربعة أشهر فأمهل إلى تمام أربعة أشهر، وصنف كانت له مدة عهده بغير أجل فقصرت على أربعة أشهر‏.‏ وروى أيضاً من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏:‏ أن الأربعة الأشهر أجل من كان له عهد مؤقت بقدرها أو يزيد عليها، وأما من ليس له عهد فانقضاؤه إلى سلخ المحرم لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين‏"‏ ومن طريق عبيدة ابن سلمان‏:‏ سمعت ‏(‏عن‏)‏ الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد ناساً من المشركين من أهل مكة وغيرهم فنزلت براءة فنبذ إلى كل أحد عهده وأجلهم أربعة أشهر، ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء الأشهر الحرم‏.‏ ومن طريق السدي نحوه، ومن طريق معمر عن الزهري قال‏:‏ كان أول الأربعة أشهر عند نزول براءة في شوال، فكان آخرها آخر المحرم، فبذلك يجمع بين ذكر الأربعة أشهر، وبين قوله‏:‏ ‏"‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين‏"‏ واستبعد الطبري ذلك من حيث أن بلوغهم الخبر إنما كان عندما وقع به النداء به في ذي الحجة، فكيف يقال لهم‏:‏ سبحوا أربعة أشهر ولم يبق منها إلا دون الشهرين‏؟‏ ثم أسند عن السدي وغير واحد التصريح بأن تمام الأربعة الأشهر في ربيع الاَخر انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفيه عن أبي هريرة‏)‏ أي وفي الباب عن أبي هريرة، وكذا قال الترمذي في باب كراهية الطواف عرياناً بعد رواية حديث زيد بن يثيع المذكور وتقدم تخريجه هناك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا نصر بن علي وغير واحد الخ‏)‏ هذه العبارة من هنا إلى قوله ولا يتابع عليه، وقد وقعت في بعض النسخ وسقطت في بعضها ‏(‏عن ابن أثيع وعن ابن يثيع‏)‏ هذا بيان لقوله كلتا الروايتين ‏(‏والصحيح زيد بن يثيع‏)‏ أي بالتحتانية‏.‏ قال في تهذيب التهذيب‏:‏ قال الأثرم عن أحمد المحفوظ بالياء ‏(‏وقال زيد بن أثيل‏)‏ أي باللام مكان العين ‏(‏ولا يتابع عليه‏)‏ أي لا يتابع شعبة على لفظ أثيل‏.‏ قال الدورى عن ابن معين قال شعبة عن أبي إسحاق عن زيد بن أثيل قال ابن معين‏:‏ والصواب‏:‏ يثبع وليس أحد يقول أثيل إلا شعبة وحده، كذا في تهذيب التهذيب‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد‏)‏ وفي الرواية الاَتية يتعاهد، قال في المجمع‏:‏ أي يتجافظ، وروى يعتاد وهو أقوى سنداً وأوفق معنى لشموله جميع ما يناط بالمسجد من العمارة واعتياد الصلاة وغيرها، وتقدم هذا الحديث مع شرحه في باب حرمة الصلاة من أبواب الإيمان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرنا عبد الله بن وهب‏)‏ بن مسلم القرشي ‏(‏عن عمرو بن الحارث‏)‏ الأنصاري المصري ‏(‏العتواري‏)‏ بضم العين المهملة وسكون المثناة الفوقية وبراء نسبة إلى عتورة بطن من كنانة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبيد الله بن موسى‏)‏ العبسى الكوفي ‏(‏عن ثوبان‏)‏ الهاشمي مولى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال بعض أصحابه أنزلت في الذهب والفضة‏)‏ أي هذه الاَية، وعرفنا حكمهما ومذمتهما ‏(‏لو علمنا‏)‏ لو للتمني ‏(‏أي المال خير‏)‏ مبتدأ وخبر والجملة سدت مسد المفعولين لعلمنا تعليقاً ‏(‏فتتخذه‏)‏ منصوب بإضمار أن بعد الفاء جواباً للتمني، قيل السؤال، وإن كان من تعيين المال ظاهراً لكنهم أراد، وما ينتفع به عند تراكم الحوائج، فذلك أجاب عنه بما أجاب، ففيه شائبة عن الجواب عن أسلوب الحكيم ‏(‏فقال أفضله‏)‏ أي أفضل المال أو أفضل ما يتخذه الإنسان قنية ‏(‏لسان ذاكر‏)‏ أي بتمجيد الله تعالى وتقديسه وتسبيحه وتهليله والثناء عليه بجميع محامده وتلاوة القرآن ‏(‏وقلب شاكر‏)‏ أي على إنعامه وإحسانه ‏(‏وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه‏)‏ أي على دينه بأن تذكره الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات وتمنعه من الزنا وسائر المحرمات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن‏)‏ وأخرجه أحمد وابن ماجه‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏عن غطيف بن أعين‏)‏ الشيباني الجزري، ويقال بالضاد المعجمة، ضعيف من السابعة كذا في التقريب، وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته‏:‏ روى له الترمذي حديثاً واحداً وقال ليس بمعروف في الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي عنقي صليب‏)‏ هو كل ما كان على شكل خطين متقاطعين‏.‏

وقال في المجمع‏:‏ هو المربع من الخشب للنصاري يدعون أن عيسى عليه السلام صلب على خشبة على تلك الصورة ‏(‏إطرح عنك‏)‏ أي ألق عن عنتك ‏(‏هذا الوثن‏)‏ هو كل ماله جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة، كصورة الاَدمي، والصنم‏:‏ الصورة بلا جثة، وقيل هما سواء، وقد يطلق الوثن على غير الصورة، ومنه حديث عدي قدمت عليه صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال‏:‏ ألق هذا الوثن عنك، قاله في المجمع ‏(‏اتخذوا أخبارهم‏)‏ أي علماء اليهود ‏(‏ورهبانهم‏)‏ أي عباد النصاري ‏(‏أرباباً من دون الله‏)‏ حيث اتبعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله‏.‏ قال أي النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏أما‏)‏ بالتخفيف حرف التنبيه ‏(‏إذا أحلوا لهم شيئاً‏)‏ أي جعلوا لهم حلالاً وهو مما حرمه الله تعالى ‏(‏استحلوه‏)‏ أي اعتقدوه حلالاً ‏(‏وإذا حرموا عليهم شيئاً‏)‏ أي وهو مما أحله الله ‏(‏حرموه‏)‏ أي اعتقدوه حراماً‏.‏

قال في فتح البيان‏:‏ في هذه الاَية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، عن التقليد في دين الله، وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدي بقوله ويستن بسنته من علماء هذه الأمة، مع مخالفته لما جاءت به النصوص وقامت به حجج الله وبراهينه هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أرباباً من دون الله للقطع بأنهم لم يعبدوهم بل أطاعوهم وحرموا ما حرموا وحللوا ما حللوا، وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة، وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة، والتمرة بالتمرة، والماء بالماء‏.‏

فياعباد الله ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانباً وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد الله لهم بهما، وطلبه للعمل منهم بما دلا عليه وأفاداه فعملتم بما جاءوا به من الاَراء التي لم تعمد بعماد الحق، ولم تعضد بعضد الدين ونصوص الكتاب والسنة، تنادي بأبلغ نداء، وتصوت بأعلى صوت بما يخالف ذلك ويباينه، فأعرتموها آذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وأذهاناً كليلة، وخواطر عليلة، وأنشدتم بلسان الحال‏:‏

وما أنا إلا من غزية إن غوتغويت وإن ترشد غزية أرشد‏.‏

انتهى‏.‏

وقال الرازي في تفسيره‏:‏ قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه‏:‏ قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل فكانت مذاهبهم بخلاف تلك الاَيات، فلم يقبلوا تلك الاَيات ولم يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إلى كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الاَيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت إلى خلافها، ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهلي الدنيا انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن غريب‏)‏ وأخرجه وأحمد ابن جرير وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا همام‏)‏ هو ابن يحيى الأزدي العوذي ‏(‏حدثنا ثابت‏)‏ هو البناني‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار‏)‏ وفي رواية للبخاري فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم ‏(‏لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا‏)‏ فيه مجيء لو الشرطية للاستقبال خلافاً للأكثر، واستدل من جوزه بمجيء الفعل المضارع بعدها كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم‏)‏ وعلى هذا فيكون قاله حالة وقوفهم على الغار، وعلى قول الأكثر يكون قاله بعد مضيهم شكراً لله تعالى على صيانتهما منهم، ووقع في مغازي عروة بن الزبير في قصة الهجرة قال‏:‏ وأتى المشركون على الجبل الذي فيه الغار الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى طلعوا فوقه، وسمع أبو بكر أصواتهم فأقبل عليه الهم والخوف، فعند ذلك يقول له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تحزن إن الله معنا، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت عليه السكينة، وفي ذلك يقول عز وجل‏:‏ ‏"‏إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا الاَية‏"‏ وهذا يقوى أنه قال‏:‏ ما في حديث الباب حينئذ، ولذلك أجابه بقوله‏:‏ لا تحزن‏.‏ فقال يا أبا بكر‏:‏ ما ظنك باثنين الله ثالثهما‏.‏

قال الحافظ في رواية موسى‏:‏ فقال اسكت يا أبا بكر اثنان الله ثالثهما، وقوله اثنان خبر مبتدأ محذوف تقديره نحن اثنان، ومعنى ثالثهما‏:‏ ناصرهما ومعينهما وإلا فالله ثالث كل اثنين بعلمه انتهى‏.‏

وقال النووي‏:‏ معناه ثالثهما بالنصر والمعونة والحفظ والتسديد، وهو داخل في قوله تعالى ‏"‏إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‏"‏ وفيه بيان عظيم توكل النبي صلى الله عليه وسلم حتى في هذا المقام، وفيه فضيلة لأبي بكر رضي الله عنه، وهي من أجل مناقبه، والفضيلة من أوجه‏:‏ منها بذلة نفسه ومفارقته أهله وماله ورياسته في طاعة الله ورسوله وملازمة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاداة الناس فيه، ومنها جعله نفسه وقاية عنه وغير ذلك انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح غريب‏)‏ وأخرجه الشيخان‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏لما توفي عبد الله بن أبي‏)‏ بن سلول بفتح المهملة وضم اللام وسكون الواو بعدها لام، هو اسم امرأة وهي والدة عبد الله المذكور وهي خزاعية، وأما هو فمن الخزرج أحد قبيلتي الأنصار، وابن سلول يقرأ بالرفع لأنه صفة عبد الله لا صفة أبيه ‏(‏أعلى عدو الله‏)‏ أي أتصلي على عدو الله ‏(‏القائل يوم كذا وكذا كذا وكذا بعد أيامه‏)‏ يشير بذلك إلى مثل قوله‏:‏ ‏"‏لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا‏"‏ إلى مثل قوله ‏"‏ليخرجن الأعز منها الأذل‏"‏ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم استشكل تبسمه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة مع ما ثبت أن ضحكه صلى الله عليه وسلم كان تبسماً ولم يكن عند شهود الجنائز يستعمل ذلك، وجوابه أنه عبر عن طلاقة وجهه بذلك تأنيساً لعمر وتطييباً لقلبه كالمعتذر عن ترك قبول كلامه ومشورته ‏(‏قال أخر عني‏)‏ أي كلامك ‏(‏قد خيرت‏)‏ أي بين الاستغفار وعدمه ‏(‏استغفر‏)‏ يا محمد لهم ‏(‏أو لا نستغفر لهم‏)‏ تخيير له في الاستغفار وتركه ‏(‏إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم‏)‏ قيل المراد بالسبعين المبالغة في كثرة الاستغفار، وقيل المراد العدد المخصوص لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وسأزيده على السبعين، فبين له حسم المغفرة بآية‏:‏ ‏"‏سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم‏"‏ كما في رواية البخاري ‏(‏فعجب لي وجرأتي‏)‏ بضم الجيم وسكون الراء بعدها همزة، أي إقدامي عليه‏.‏

وفي رواية البخاري‏:‏ فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

تنبيه‏:‏

قوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏قد خيرت فاخترت‏)‏ يدل على أنه صلى الله عليه وسلم فهم من الاَية التخيير‏.‏ واستشكل فهم التخيير منها حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث مع كثرة طرقه واتفاق الشيخين وسائر الذين خرجوا الصحيح على تصحيحه، وذلك ينادي على منكري صحته بعدم معرفة الحديث وقلة الاطلاع على طرقه‏.‏

قال الحافظ‏:‏ والسبب في إنكارهم صحته ما تقرر عندهم مما قدمناه وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه من حمل أو على التسوية لما يقتضيه ساق القصة وحمل السبعين على المبالغة‏.‏

قال ابن المنير‏:‏ ليس عند البيان تردد أن التخصيص بالعدد في هذا السياق غير مراد‏.‏

قال وقد أجاب بعض المتأخرين عن ذلك بأنه إنما قال سأزيد على السبعين استماله لقلوب عشيرته لأنه أراد إن زاد على السبعين يغفر له، ويؤيده تردده في ثاني حديثي الباب حيث قال‏:‏ لو اعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت، لكن قدمنا أن الرواية ثبتت بقوله سأزيد ووعده صادق ولا سيما وقد ثبت قوله‏.‏

وأجاب بعضهم‏:‏ باحتمال أن يكون فعل ذلك استصحاباً للحال لأن جواز المغفرة بالزيادة كان ثابتاً قبل مجيء الاَية فجاز أن يكون باقياً على أصله في الجواز‏.‏ وهذا جواب حسن‏.‏ وحاصله أن العمل بالبقاء على حكم الأصل مع فهم المبالغة لا يتنافيان، فكأنه جوز أن المغفرة تحصل بالزيادة على السبعين لا أنه جازم بذلك ولا يخفي ما فيه‏.‏ قال ووقع في أصل هذه القصة إشكال آخر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أطلق أنه خير بين الاستغفار لهم وعدمه بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏استغفر لهم أو لاستغفر لهم‏"‏ وأخذ بمفهوم العدد من السبعين، فقال‏:‏ سأزيد عليها مع أنه قد سبق قبل ذلك بمدة طويلة نزول قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ما كان للنبي والذي آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى‏"‏ فإن هذه الاَية نزلت في قصة أبي طالب حين قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزلت وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقاً، وقصة عبد الله بن أبي هذه في السنة التاسعة من الهجرة فكيف يجوز مع ذلك الاستغفار للمنافقين مع الحزم بكفرهم في نفس الاَية‏.‏ وقد وقفت على جواب لبعضهم عن هذا حاصله‏:‏ أن المنهي عنه استغفار ترجى إجابته حتى يكون مقصده تحصيل المغفرة لهم كما في قصة أبي طالب، بخلاف الاستغفار لمثل عبد الله بن أبي فإنه استغفار لقصد تطييب قلوب من بقي منهم، وهذا الجواب ليس بمرضى عندي ونحوه قول الزمخشري، فإنه قال‏:‏

فإن قلت‏:‏ كيف خفي على أفصح الخلق وأخيرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته أن المراد بهذا العدد أن الاستغفار ولو كثر لا يجدي، ولا سيما وقد تلاه قوله‏:‏ ‏"‏ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله‏"‏ الاَية فبين الصارف عن المغفرة لهم‏.‏

قلت‏:‏ لم يخف عليه ذلك، ولكنه فعل ما فعل وقال ما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه، وهو كقول إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏"‏ومن عصاني فإنك غفور رحيم‏"‏ وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة المذكورة، لطف بأمته، وباعث على رحمة بعضهم بعضاً انتهى‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ إن النهي عن الاستغفار لمن مات مشركاً لا يستلزم النهي لمن مات مظهراً للإسلام لاحتمال أن يكون معتقده صحيحاً، وهذا جواب جيد‏.‏ وقد قدمت البحث في هذه الاَية في كتاب الجنائز، والترجيح أن نزولها كان متراخياً عن قصة أبي طالب جيداً، وأن الذي نزل في قصته‏:‏ ‏"‏إنك لا تهدي من أحببت‏"‏ وحررت دليل ذلك هنا، إلا أن في بقية هذه الاَية من التصريح بأنهم كفروا بالله ورسوله ما يدل على أن نزول ذلك وقع متراخياً عن القصة، ولعل الذي نزل أولاً وتمسك النبي صلى الله عليه وسلم به قوله تعالى‏:‏ ‏"‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم‏"‏ إلى هنا خاصة، ولذلك اختصر في جواب عمر على التخيير وعلى ذكر السبعين، فلما وقعت القصة المذكورة كشف الله عنهم الغطاء وفضحهم على رؤوس الملأ ونادى عليهم بأنهم كفروا بالله ورسوله، وإذا تأمل المتأمل المنصف وجد الحامل على من رد الحديث أو تعسف في التأويل ظنه بأن قوله‏:‏ ‏"‏ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله‏"‏ نزل مع قوله‏:‏ ‏"‏استغفر لهم‏"‏ أي نزلت الاَية كاملة، لأنه لو فرض نزولها كاملة لاقترن بالنهي العلة، وهي صريحة في أن قليل الاستغفار وكثيره لا يجدي، وإلا فإذا فرض ما حررته أن هذا القدر نزل متراخياً عن صدر الاَية لارتفع الاشكال، وإذا كان الأمر كذلك فحجة المتمسك من القصة بمفهوم العدد صحيح وكون ذلك وقع للنبي صلى الله عليه وسلم متمسكاً بالظاهر على ما هو المشروع في الأحكام إلى أن يقوم الدليل الصارف عن ذلك لا إشكال فيه انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن غريب صحيح‏)‏ وأخرجه البخاري والنسائي‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏جاء عبد الله بن عبد الله بن أبي‏)‏ كان عبد الله بن عبد الله بن أبي هذا من فضلاء الصحابة وشهد بدراً وما بعدها واستشهد في خلافة أبي بكر الصديق، ومن مناقبه أنه بلغه بعض مقالات أبيه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قتله، قال بل أحسن صحبته، أخرجه بن مندة من حديث أبي هريرة بإسناد حسن، وكأنه كان يحمل أمر أبيه على ظاهر الإسلام فلذلك التمس من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر عنده ويصلي عليه، ولا سيما وقد ورد ما يدل على أنه فعل ذلك بعهد من أبيه، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر والطبري من طريق سعيد كلاهما عن قتادة، قال‏:‏ أرسل عبد الله بن أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما دخل عليه قال أهلكك حب يهود فقال يا رسول الله إنما أرسلت إليك لي ولم أرسل إليك لتوبخني، ثم سأله أن يعطيه قميصة يكفن فيه، وهذا مرسل مع ثقة رجاله‏.‏ ويعضده ما أخرجه الطبراني من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ لما مرض عبد الله بن أبي جاءه النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه، فقال‏:‏ قد فهمت ما تقول، فامنن عليّ فكفني في قميصك وصل عليّ ففعل، وكان عبد الله ابن أبي أراد بذلك دفع العار عن ولده وعشيرته بعد موته، فأظهر الرغبة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ووقعت إجابته إلى سؤاله بحسب ما ظهر من حاله، إلى أن كشف الله الغطاء عن ذلك، وهذا من أحسن الأجوبة فيا يتعلق بهذه القصة كذا في الفتح ‏(‏فقال أعطني قميصك أكفنه‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏فأعطاه قميصه‏)‏ هذا مخالف لحديث جابر عند البخاري‏.‏ قال‏:‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعد ما دفن، فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه‏.‏

قال الحافظ‏:‏ قد جمع بينهما بأن معنى قوله في حديث ابن عمر فأعطاه، أي أنعم له بذلك، فأطلق على العدة اسم العطية مجازاً لتحقق وقوعها‏.‏ وكذا قوله في حديث جابر بعد ما دفن عبد الله بن أبي، أي دلى في حفرته‏.‏ وكان أهل عبد الله ابن أبي خشوا على النبي صلى الله عليه وسلم المشقة في حضوره، فبادروا إلى تجهيزه قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصل وجدهم قد دلوه في حفرته، فأمر بإخراجه إنجازاً لوعده في تكفينه في القميص والصلاة عليه‏.‏ ووجه إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لعبد الله بن أبي، مبين في حديث جابر‏.‏

قال‏:‏ لما كان يوم بدر أتى بأساري وأتى بالعباس ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم له قميصاً فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه‏.‏ فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه‏.‏

قال ابن عيينة‏:‏ كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد فأحب أن يكافئه، رواه البخاري ‏(‏فآذنوني‏)‏ من الإيذان أي أعلموني ‏(‏أليس قد نهى الله أن تصلي على المنافقين‏)‏ وفي رواية البخاري‏:‏ فقال يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه‏.‏

قال الحافظ كذا في هذه الرواية‏:‏ إطلاق النهي عن الصلاة‏.‏ وقد استشكل جداً حتى أقدم بعضهم فقال‏:‏ هذا وهم من بعض رواته، وعاكسه غيره فزعم أن عمر اطلع على نهي خاص في ذلك‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ لعل ذلك وقع في خاطر عمر، فيكون من قبيل الإلهام‏.‏ ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله ‏"‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين‏"‏‏.‏

قال الثاني‏:‏ يعني ما قاله القرطبي أقرب من الأول، لأنه لم يتقدم النهي عن الصلاة على المنافقين بدليل أنه قال في آخر هذا الحديث‏:‏ قال فأنزل الله‏:‏ ‏"‏ولا تصل على أحد منهم‏"‏ والذي يظهر أن في رواية الباب تجوزاً بينته الرواية التي في الباب بعده من وجه آخر، عن عبيد الله بن عمر بلفظ‏:‏ فقال تصلي عليه وقد نهاك الله أن تستغفر لهم‏.‏

وروى عبد بن حميد والطبري من طريق الشعبي عن ابن عمر عن عمر قال‏:‏ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي على عبد الله بن أبي، فأخذت بثوبه فقلت‏:‏ والله ما أمرك الله بهذا، لقد قال‏:‏ ‏"‏إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم‏"‏ ووقع عند ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس فقال عمر‏:‏ أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه‏؟‏ قال أين قال‏:‏ وقال‏:‏ استغفر الاَية‏.‏ وهذا مثل رواية الباب، فكأن عمر قد فهم من الاَية المذكورة ما هو الأكثر الأغلب من لسان العرب، من أن أو ليست للتخيير بل للتسوية في علم الوصف المذكور، أي أن الاستغفار لهم وعدم الاستغفار سواء، وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم‏"‏ لكن الثانية أصرح‏.‏ ولهذا ورد أنها نزلت بعد هذا القصة‏.‏ وفهم عمر أيضاً من قوله سبعين مرة أنها للمبالغة، وأن العدد المعين لا مفهوم له، بل المراد نفي المغفرة لهم ولو كثر الاستغفار‏.‏ فيحصل من من ذلك النهي عن الاستغفار فأطلقه‏.‏ وفهم أيضاً أن المقصود الأعظم من الصلاة على الميت طلب المغفرة للميت والشفاعة له، فلذلك استلزم عند النهي عن الاستغفار ترك الصلاة، فلذلك جاء عنه في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة، ولهذه الأمور استنكر إرادة الصلاة على عبد الله بن أبي‏.‏

هذا تقرير ما صدر عن عمر مع ما عرف من شدة صلابته في الدين، وكثرة بغضه للكفار والمنافقين، وهوا لقائل في حق حاطب بن أبي بلتعة مع ما كان له من الفضل كشهوده بدراً وغير ذلك، لكونه كاتب قريش قبل الفتح‏.‏ دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقد نافق، فلذلك أقدم على كلامه للنبي صلى الله عليه وسلم بما قال، ولم يلتفت إلى احتمال إجراء الكلام على ظاهره لما غلب عليه من الصلابة المذكورة‏.‏

قال الزين بن المنير‏:‏ وإنما قال ذلك عمر حرصاً على النبي صلى الله عليه وسلم ومشورة لا إلزاماً، وله عوائد بذلك‏.‏

تنبيه‏:‏

قال الخطابي‏:‏ إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي ما فعل، لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين‏.‏ ولتطييب قلب ولده عبد الله الرجل الصالح، ولتألف قومه من الخزرج لرياسته فيهم، فلو لم يجب سؤال ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح، لكان سبة على ابنه وعاراً على قومه، واستعمل أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نهى فانتهى‏.‏

وقد أخرج الطيري من طريق سعيد عن قتادة في هذه القصة قال‏:‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏"‏ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره‏"‏ قال فذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ وما يغني عنه قميصى من الله، وإني لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه ‏(‏أنا بين خيرتين‏)‏ تثنية خيرة كعنبة، أي أنا مخير بين الاستغفار وتركه ‏(‏فأنزل الله ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره‏)‏ لدفن أو زيارة، أي لا تقف عليه ولا نتول دفنه من قولهم‏:‏ قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره وناب عنه فيه، وتمام الاَية‏:‏ ‏"‏إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون‏"‏ وهذا تعليل لسبب المنع من الصلاة عليه والقيام على قبره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه الشيخان والنسائي وابن ماج‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏عن عمران بن أبي أنس‏)‏ القرشى العامري المدني، نزل الإسكندرية ثقة من الخامسة ‏(‏عن أبي سعيد الخدري أنه قال‏:‏ ثماري رجلان في المسجد الذي أسس‏)‏ على التقوى إلخ تقدم هذا الحديث مع شرحه في باب المسجد الذي أسس على التقوى من أبواب الصلاة‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا يونس بن الحارث‏)‏ الثقفي الطائفي، نزيل الكوفة، ضعيف من السادسة ‏(‏عن إبراهيم بن أبي ميمونة‏)‏ الحجازي ذكره بن حبان في الثقات‏.‏ وقال ابن القطان الفاسى مجهول الحال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نزلت هذه الاَية‏)‏ والمسار إليها فيما بعد، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏وفيه رجال‏"‏ الاَية ‏(‏في أهل قباء‏)‏ أي في ساكنيه، وقباء بضم القاف وخفة الموحدة والممدودة مصروفة، وفيه لغة بالقصر وعدم الصرف، موضع بميلين أو ثلاثة من المدينة‏.‏ قال ابن الأثير‏:‏ هو بمد وصرف على الصحيح ‏(‏يحبون أن يتطهروا‏)‏ أي يحبون الطهارة بالماء في غسل الأدبار ‏(‏قال‏)‏ أي أبو هريرة ‏(‏كانوا‏)‏ أي أهل قباء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث غريب‏)‏ وأخرجه أبو داود وابن ماجه‏.‏

قال الحافظ في التلخيص‏:‏ سنده ضعيف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن أبي أيوب وأنس بن مالك ومحمد بن عبد الله بن سلام‏)‏ أما حديث أبي أيوب وأنس بن مالك‏:‏ فأخرجه ابن ماجه والحاكم من طريق أبي سفيان طلحة بن نافع، قال أخبرني أبو أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وإسناده ضعيف قاله الحافظ‏.‏

وأما حديث محمد بن عبد الله بن سلام، فأخرجه أحمد عنه قال‏:‏ لقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني قباء فقال‏:‏ إن الله عز وجل قد أثنى عليكم في الطهور خيراً أفلا تخبروني يعني قوله‏:‏ ‏"‏فيه رجال يحبون أن يتطهروا‏"‏ فقالوا يا رسول الله‏:‏ إنا نجده مكتوباً علينا في التوراة الاستنجاء بالماء‏.‏ وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة وابن قانع، وفي سنده شهر بن حوشب‏.‏ وحكى أبو نعيم في معرفة الصحابة‏:‏ الخلاف فيه على شهر بن حوشب‏.‏

تنبيه‏:‏

روى البزار في مسنده قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا أحمد ابن محمد بن عبد العزيز‏:‏ وجدت في كتاب أبي عن الزهرى عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت هذه الاَية في أهل قباء‏:‏ ‏"‏رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين‏"‏ فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إنا نتبع الحجارة الماء‏.‏

قال البزار‏:‏ لا نعلم أحداً رواه عن الزهرى إلا محمد بن عبد العزيز، ولا عنه إلا ابنه انتهى‏.‏ ومحمد بن عبد العزيز ضعفه أبو حاتم فقال‏:‏ ليس له ولا لأخويه، عمران وعبد الله حديث مستقيم‏.‏ وعبد الله بن شبيب ضعيف أيضاً‏.‏

وقد روى الحاكم من حديث بجاهد عن ابن عباس أصل هذا الحديث وليس فيه إلا ذكر الاستنجاء بالماء فحسب‏.‏ ولهذا قال النووي في شرح المهذب‏.‏ المعروف في طرق الحديث أنهم كانوا يستنجون بالماء وليس فيها أنهم كانوا يجمعون بين الماء والأحجار، وتبعه بن الرفعة فقال‏:‏ لا يوجد هذا في كتب الحديث، وكذا قال المحب الطبري نحوه، ورواية البزار واردة عليهم وإن كانت ضعيفة، كذا في التلخيص‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي إسحاق‏)‏ هو السبيعي ‏(‏عن أبي الخليل‏)‏ اسمه عبد الله بن الخليل أو ابن أبي الخليل الحضرمي أبو الخليل الكوفي، مقبول من الثانية‏.‏ وفرق البخاري وابن حبان بين الراوي عن علي فقال فيه ابن أبي الخليل، والراوي عن زيد بن أرقم فقال‏:‏ فيه ابن الخليل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهما مشركان‏)‏ جملة حالية ‏(‏أو ليس استغفر إبراهيم لأبيه‏)‏ أي أتقول هذا وليس استغفر الخ ‏(‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين أي لا يصح ولا يجوز لهم أن يستغفروا للمشركين‏)‏، وتمام الاَية مع تفسيرها هكذا ولو كانوا‏:‏ أي المشركون، أولى القربى‏:‏ أي ذوي قرابة، من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم‏:‏ أي النار، بأن ماتوا على الكفر‏.‏ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه‏:‏ بقوله سأستغفرك لك ربي، رجاء أن يسلم فلما تبين له أنه عدو لله بموته على الكفر، تبرأ منه‏:‏ وترك الاستغفار له، إن إبراهيم لأواه‏:‏ كثير التضرع والدعاء‏.‏ حلي‏:‏ صبور على الإذى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن‏)‏ وأخرجه أحمد والنسائي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن سعيد بن المسيب عن أبيه‏)‏ أخرجه أحمد والشيخان عنه‏:‏ أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، أي عم‏:‏ قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب‏:‏ أترغب عن ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزلت ‏"‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم‏"‏‏.‏

قال صاحب فتح البيان‏:‏ وقد روى في سبب نزول الاَية استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب من طرق كثيرة وأصله في الصحيحن، وما فيهما مقدم على ما لم يكن فيهما على فرض أنه صحيح، فكيف وهو ضعيف غالبه، ولا ينافي هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال يوم أحد حين كسر المشركون رباعيته وشحواً وجهه‏:‏ اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، لأنه يمكن أن يكون ذلك قبل أن يبلغه تحريم الاستغفار لهم، وعلى فرض أنه قد كان بلغه كما يفيده سبب النزول، فإنه قبل أحد بمدة طويلة‏.‏ فصدور هذا الاستغفار منه إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدمه من الأنبياء كما في صحيح مسلم عن عبد الله قال‏:‏ كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسمل يحكى نبياً من الأنبياء ضربه قومه ويمسح الدم عن وجهه ويقول‏:‏ ‏"‏رب إغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏"‏ انتهى‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك‏)‏ الأنصاري كنيته أبو الخطاب المدني، ثقة من كبار التابعين، ويقال ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى كانت غزوة تبوك‏)‏ مكان معروف هو نصف طريق المدينة إلى دمشق، ويقال بين المدينة وبينها أربع عشرة مرحلة، والمشهور فيها عدم الصرف للتأنيث والعلمية، ومن صرفها أراد الموضع، وكانت هذه الغزوة في شهر رجب من سنة تسع قبل حجة الوداع بلا خلاف ‏(‏مغيثين لغيرهم‏)‏ أي معينين لغيرهم من الإغاثة بمعنى الإعانة‏.‏ وفي بعض النسخ مغوثين‏.‏

قال في النهاية‏:‏ جاء به على الأصل ولم يعله، كاستحوذ واستنوق، ولو روى مغوثين بالتشديد من غوث بمعنى أغاث لكان وجهاً، والغير بكسر العين‏:‏ الإبل بأجمالها، وقيل هي قافلة الحمير، فكثرت حتى سميت بها كل قافلة ‏(‏كما قال الله تعالى‏)‏ يعني قوله تعالى‏:‏ ‏"‏إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضى الله أمراً كان مفعولاً‏"‏ ‏(‏وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة‏)‏ أي بدل بيعتي ليلة العقبة لأن هذه البيعة كانت أول الإسلام ومنشأة، وليلة العقبة ليلة بايع صلى الله عليه وسلم فيها الأنصار على الإسلام والنصر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على القبائل في كل موسم ليؤمنوا به ويؤووه، فلقي رهطاً من الخزرج فأجابوه فجاء في العام المقبل اثنا عشر إلى الموسم فبايعوه عند العقبة، وهي بيعة العقبة الأولى، فخرج في العام الاَخر سبعون إلى الحج فاجتمعوا عند العقبة وأخرجوا من كل فرقة نقيباً فبايعوه وهي البيعة الثانية ‏(‏حيث تواثقنا على الإسلام‏)‏ بمثلثة وقاف أي أخذ بعضنا على بعض الميثاق لما تبايعنا على الإسلام والجهاد‏.‏ والميثاق العهد وأصله‏:‏ قيد أو حبل يشد به الأسير أو الدابة ‏(‏بعد‏)‏ بضم الدال، أي بعد غزوة بدر ‏(‏غزاها‏)‏ الضمير المرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏وآذن‏)‏ من الإيذان‏:‏ أي أعلم، فذكر الحديث بطوله‏.‏

روى البخاري هذا الحديث بطوله في باب غزوة تبوك ‏(‏أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم أتى عليك منذ ولدتك أمك‏)‏ استشكل هذا الإطلاق بيوم إسلامه، فإنه مر عليه بعد أن ولدته أمه وهو خير أيامه، فقيل هو مستثنى تقديراً وإن لم ينطق به لعدم خفائه، والأحسن في الجواب أن يوم توبته مكمل ليوم إسلامه، فيوم إسلامه بداية سعادته ويوم توبته مكمل لها فهو خير جميع أيامه، وإن كان يوم إسلامه خيرها، فيوم توبته المضاف إلى إسلامه خير من يوم إسلامه المجرد عنها ‏(‏لقد تاب الله‏)‏‏:‏ أي أدام توبته ‏(‏على النبي‏)‏ فيما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الإذن في التخلف أو فيما وقع منه من الاستغفار للمشركين‏.‏ وليس من لازم التوبة أن يسبق الذنب ممن وقعت منه أوله، لأن كل العبادة محتاج إلى التوبة والاستغفار، وقد تكون التوبة منه على النبي من باب أنه ترك ما هو الأولى والأليق كما في قوله‏:‏ ‏"‏عفا الله عنك لم أذنت لهم‏"‏، ويجوز أن يكون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لأجل التعريض للمذنبين بأن يتجنبوا الذنوب ويتوبوا عما قد لابسوه منها‏.‏ قال أهل المعاني هو مفتاح كلام للتبرك وفيه تشريف لهم في ضم توبتهم إلى توبة النبي صلى الله عليه وسلم كما ضم اسم الرسول إلى اسم الله في قوله‏:‏ ‏"‏فإن لله خمسه وللرسول‏"‏ فهو تشريف له ‏(‏و‏)‏ كذلك تاب الله سبحانه على ‏(‏المهاجرين والأنصار‏)‏ فيما قد اقترفوه من الذنوب ومن هذا القبيل ماصح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله‏:‏ إن الله اطلع على أهل بدر فقال أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏.‏

والإنسان لا يخلو من زلات وتبعات في مدة عمره، إما من باب الصغائر وإما من باب ترك الأفضل، ثم وصف سبحانه المهاجرين والأنصار بأنهم ‏(‏الذين اتبعوه‏)‏ أي النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتخلفوا عنه ‏(‏في ساعة العسرة‏)‏ هي غزوة تبوك، فإنهم كانوا فيها في عسرة شديدة وتسمى غزوة العسرة، والجيش الذي سار يسمى جيش العسرة، لأنه كان عليهم عسرة في الزاد والظهر والماء‏.‏

وأخرج ابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس‏:‏ أنه قال لعمر بن الخطاب‏:‏ حدثنا من شأن ساعة العسرة، فقال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بغيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كيده، فقال أبو بكر الصديق‏:‏ يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيراً فادع لنا، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأهطلت ثم سكبت، فملأ وأما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر ‏(‏من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم‏)‏ في كاد ضمير الشأن بيان لتناهي الشدة وبلوغها النهاية ومعنى يزيغ يتلف بالجهد والمشقة والشدة، وقيل معناه‏:‏ يميل عن الحق ويترك المناصرة والممانعة، وقيل معناه يهم بالتخلف عن الغزو لما هم فيه من الشدة العظيمة‏.‏ وفي قراءة ابن مسعود من بعد ما زاغت‏:‏ وهم المتخلفون على هذه القراءة، وفي تكرير التوبة عليهم بقوله ‏(‏ثم تاب عليهم‏)‏ تأكيد ظاهر واعتناء بشأنها، هذا إن كان الضمير راجعاً إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق الثاني، فلا تكرار، وذكر التوبة إو لا قبل ذكر الذنب تفضلاً منه وتطبيباً لقلوبهم، ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى تعظيماً لشأنهم، وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم وعفا عنهم، ثم أتبعه بقوله ‏(‏إنه بهم رؤوف رحيم‏)‏ تأكيداً لذلك، أي رفيق بعباده، لأنه لم يحملهم ما لا يطيقون من العبادات، وبين الرؤف والرحيم فرق لطيف، وإن تقاربا في المعنى‏.‏

قال الخطابي‏:‏ قد تكون الرحمة مع الكراهة ولا تكاد الرأفة تكون معها، وقيل‏:‏ الرأفة عبارة عن السعي في إزالة الضرر، والحرمة عبارة عن السعي في إيصال النفع‏.‏ هذه الاَية هي الأولى من الاَيات التي تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاَية الثانية مع تفسيرها هكذا، وعلى الثلاثة الذين خلفوا‏:‏ أي أخروا ولم تقبل توبتهم في الحال كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم، وهؤلاء الثلاثة هم‏:‏ كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع أو ابن ربيعة العامري، وهلال بن أمية الواقفي، وكلهم من الأنصار، لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم توبتهم حتى نزل القرآن بأن الله قد تاب عليهم، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت‏:‏ كناية عن شدة التحير وعدم الاطمئنان، يعني أنهم أخروا عن قبول التوبة إلى هذه الغاية وهي وقت أن ضاقت عليهم الأرض برحبها لإعراض الناس عنهم، وعدم مكالمتهم من كل أحد‏:‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الناس أن يكالموهم، وضاقت عليهم أنفسهم‏:‏ أي أنها ضاقت صدورهم بما نالهم من الوحشة وبما حصل لهم من الجفوة وشدة الغم والحزن، وظنوا‏:‏ أي علموا وأيقنوا، أن لا ملجأ من الله‏:‏ أي من عذابه أو من سخطه، إلا إليه‏:‏ أي بالتوبة والاستغفار، ثم تاب‏:‏ أي رجع عليهم بالقبول والرحمة، وأنزل في القرآن التوبة عليهم‏:‏ ليستقيموا، أو وفقهم للتوبة فيما يستقبل من الزمان إن فرطت منهم خطيئة، ليتوبوا‏:‏ عنها ويرجعوا فيها إلى الله ويندموا على ما وقع منهم، ويحصلوا التوبة وينشئوها فحصل التغاير وصح التعليل، إن الله هو التواب‏:‏ أي الكثير القبول لتوبة التائبين، الرحيم‏:‏ أي الكثير الرحمة لمن طلبها من عباده‏.‏

‏(‏قال‏)‏ أي كعب بن مالك ‏(‏وفينا‏)‏ أي في الثلاثة الذين خلفوا ‏(‏أنزلت أيضاً‏)‏‏:‏ اتقوا الله وكونوا مع الصادقين‏:‏ يعني مع من صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الغزوات، ولا تكونوا مع المتخلفين من المنافقين الذين قعدوا في البيوت وتركوا الغزو ‏(‏إن من توبتي‏)‏ أي من شكر توبتي ‏(‏أن لا أحدث إلا صدقاً‏)‏ زاد البخاري‏:‏ ما بقيت ‏(‏وأن أنخلع من مالي كله‏:‏‏)‏ أي أخرج من جميع مالي ‏(‏صدقة‏)‏ هو مصدر في موضع الحال أي متصدقاً، أو ضمن الخلع معنى أتصدق وهو مصدر أيضاً ‏(‏أبلى أحداً‏)‏ أي أنعم على أحد‏.‏ وحديث كعب بن مالك هذا أخرجه البخاري في عشرة مواضع مطولاً ومختصراً في الوصايا وفي الجهاد وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم وفي وفود الأنصار، وفي موضعين من المغازي، وفي موضعين من التفسير، وفي الاستئذان، وفي الأحكام‏.‏ وأخرجه مسلم في التوبة، وأخرجه أبو داود والنسائي في الطلاق‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏بعث إلى أبو بكر الصديق‏)‏ أي أرسل إلى رجلاً‏.‏

قال الحافظ‏:‏ لم أقف على اسم الرسول إليه بذلك ‏(‏مقتل أهل اليمامة‏)‏ نصب على الظرفية، أي عقب قتل أهل اليمامة، واليمامة بفتح التحتية وخفة الميم‏:‏ اسم مدينة باليمن، وكان مقتلهم سنة إحدى عشرة من الهجرة، والمراد بأهل اليمامة هنا من قتل بها من الصحابة في الوقعة مع مسيلمة الكذاب، وكان من شأنها أن مسيلمة أدعى النبوة وقوى أمره بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بارتداد كثير من العرب، فجهز إليه أبو بكر الصديق خالد بن الوليد في جمع كثير من الصحابة فحاربوه أشد محاربة، إلى أن خذله الله وقتله، وقتل في غضون ذلك من الصحابة جماعة كثيرة، قيل سبعمائة، وقيل أكثر ‏(‏فإذا عمر‏)‏ كلمة إذا للمفاجأة ‏(‏عنده‏)‏ أي عند أبي بكر رضي الله عنه ‏(‏قد استحر‏)‏ بسين مهملة ساكنة ومثناة مفتوحة بعدها حاء مهملة مفتوحة، ثم راء ثقيلة‏:‏ أي اشتد وكثر وهو استفعل من الحر، لأن المكروه غالباً يضاف إلى الحر، كما أن المحبوب يضاف إلى البرد يقولون‏:‏ أسخن الله عينه، وأقرعينه ‏(‏وإني لأخشى‏)‏ بصيغة المتكلم المؤكدة بلام التأكيد، أي لأخاف ‏(‏أن يستحر‏)‏ بفتح الهمزة ‏(‏في المواطن كلها‏)‏ أي الأماكن التي يقع فيها القتال مع الكفار ‏(‏فيذهب قرآن كثير‏)‏ بالنصب عطف على يستحر‏.‏

قال الحافظ‏:‏ هذا يدل على أن كثيراً ممن قتل في وقعه اليمامة كان قد حفظ القرآن، لكن يمكن أن يكون المراد أن مجموعهم جمعه لا أن كل فرد فرد جمعه ‏(‏كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏

قال الخطابي وغيره‏:‏ يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم إنمالم يجمع القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه ألأ تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته صلى الله عليه وسلم، ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء لوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة المحمدية، زادها الله شرفاً، فكان ابتداء ذلك على يد الصديق رضي الله عنه بمشورة عمر‏.‏

ويؤيده ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف بإسناد حسن عن عبد خير قال‏:‏ سمعت علياً يقول أعظم الناس في المصاحف أجراً، أبو بكر رحمه الله، على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله‏.‏ وأما ما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن‏"‏ الحديث‏.‏ فلا ينافي ذلك، لأن الكلام في كتابة مخصوصة على صفة مخصوصة‏.‏ وقد كان القرآن كله كتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتب السور‏.‏ وأما ما أخرجه ابن أبي داود وفي المصاحف من طريق ابن سيرين، قال قال علي‏:‏ لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم آليت أن آخذ على ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن فجمعه، فإسناده ضعيف لانقطاعه‏.‏ وعلى تقدير أن يكون محفوظاً فمراده بجمعه حفظه في صدره‏.‏ قال والذي وقع في بعض طرقه حتى جمعته بين اللوحين وهم من راوية‏.‏

قال الحافظ‏:‏ ورواية عبد خير عن علي، يعني التي تقدمت آنفاً، أصبح فهو المعتمد‏.‏ ووقع عند ابن أبي داود أيضاً بيان السبب في إشارة عمر بن الخطاب بذلك‏.‏ فأخرج من طريق الحسن‏:‏ أن عمر سأل عن آية من كتاب الله، فقيل‏:‏ كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة، فقال إنالله، وأمر بجمع القرآن، فكان أول من جمعه في المصحف، وهذا منقطع، فإن كان محفوظاً حمل على أن المراد بقوله‏:‏ فكان أول من جمعه، أي أشار بجمعه في خلافه أبي بكر، فنسب الجمع إليه لذلك ‏(‏قال أبو بكر إنك شاب غافل لا نتهمك قد كنت تكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي‏)‏ ذكر له أربع صفات مقتضية خصوصيته بذلك‏:‏ كونه شاباً، فيكون أنشط لما يطلب منه‏.‏ وكونه عاقلاً، فيكون أوعى له‏.‏ وكونه لا يتهم، فتركن النفس إليه‏.‏ وكونه كان يكتب الوحي، فيكون أكثر ممارسة له، وهذه الصفات التي اجتمعت له قد توجد في غيره لكن مفرقة ‏(‏فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ من ذلك‏)‏ أي مما أمرني به من جمع القرآن، كما في رواية البخاري‏.‏

قال الحافظ‏:‏ كأنه جمع أولاً باعتبار أبي بكر ومن وافقه، وأفرد باعتبار أنه الاَمر وحده بذلك، وإنما قال زيد بن ثابت ذلك لما خشيه من التقصير في إحصاء ما أمر بجمعه، لكن الله تعالى يسر له ذلك ‏(‏فتتبعت القرآن أجمعه‏)‏ حال من الفاعل أو المفعول، أي من الأشياء التي عندي وعند غيري ‏(‏من الرقاع‏)‏ جمع رقعة، وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد‏.‏ وفي رواية‏:‏ وقطع الأديم ‏(‏والعسب‏)‏ بضم المهملتين ثم موحدة جمع عسيب وهو جريد النخل، كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الظرف العريض، وقيل العسيب طرف الجريدة العريض، وقيل العسيب طرف الجريدة العريض الذي لم ينبت عليه الخوص، والذي ينبت عليه الخوص هو السعق ‏(‏واللخاف‏)‏ بكسر الللام ثم حاء معجمة خفيفة وآخره فاء‏:‏ وهي الحجارة البيض الرقاق واحدتها لخفة بفتح الللام وسكون المعجمة وعند ابن أبي داود في المصاحف من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال‏:‏ قام عمر فقال‏:‏ من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فليأت، به وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب، قال وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شاهدان‏.‏ وهذا يدل على أن زيداً كان لا يكتفي بمجرد وجدانه مكتوباً حتى يشهد به من تلقاه سماعاً، مع كون زيد كان يحفظه، وكان يفعل ذلك مبالغة في الاحتياط‏.‏ وعند ابن أبي داود أيضاً من طريق هشام بن عروة عن أبيه‏:‏ أن أبا بكر قال لعمرو ولزيد‏:‏ اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه، ورجاله ثقات مع انقطاعه، وكأن المراد بالشاهدين الحفظ والكتاب، والمراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن، وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لا من مجرد الحفظ ‏(‏وصدور الرجال‏)‏ أي الحفاظ منهم، أي حيث لا أجد ذلك مكتوباً أو الواو بمعنى مع، أي اكتبه من المكتوب الموافق للمحفوظ في الصدور ‏(‏فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة ابن ثابت‏)‏ وفي رواية البخاري في فضائل القرآن‏:‏ من طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عبيد بن السباق، عن زيد بن ثابت‏:‏ حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وقع في رواية عبد الرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن سعد مع خزيمة بن ثابت، أخرجه أحمد والترمذي‏.‏ ووقع في رواية شعيب عن الزهري كما تقدم في سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري‏.‏ وقد أخرجه الطبراني في مسند الشاميين من طريق أبي اليمان عن شعيب فقال فيه‏:‏ خزيمة بن ثابت الأنصاري‏.‏ وكذا أخرجه ابن أبي داود من طريق يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، وقول من قال عن إبراهيم بن سعد مع أبي خزيمة أصح‏.‏ وقد تقدم البحث فيه في تفسير سورة التوبة، وأن الذي وجد معه آخر سورة النوبة غير الذي وجد معه الاَية التي في الأحزاب‏.‏ فالأول اختلف الرواة فيه على الزهرى‏:‏ فمن قائل مع خزيمة، ومن قائل مع أبي خزيمة، ومن شاك فيه يقول خزيمة أو أبي خزيمة‏.‏ والأرجح أن الذي وجد معه آخر سورة التوبة أبو خزيمة بالكنية، والذي وجد معه الاَية من الأحزاب خزيمة وأبو خزيمة، قيل هو ابن أوس بن يزيد بن أصرم، مشهور بكنيته دون اسمه، وقيل هو الحرث بن خزيمة وأما خزيمة فهو ابن ثابت ذو الشهادتين، كما تقدم صريحاً في سورة الأحزاب انتهى ‏(‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم‏)‏‏:‏ أي من جنسكم في كونه عربياً قرشياً مثلكم تعرفون نسبه وحسبه، وأنه من ولد إسماعيل لا من العجم ولا من الجن ولا من الملك‏.‏ والخطاب للعرب عند جمهور المفسرين‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ هي خطاب لجمع العالم ‏(‏عزيز عليه ما عنتم‏)‏‏:‏ ما مصدرية، والعنت‏:‏ التعب والمشقة‏.‏ والمعنى شديد وشاق عليه عنتكم ومشقتكم ولقاءكم المكروه ‏(‏حريص عليكم‏)‏‏:‏ أي على إيمانكم وهدايتكم ‏(‏بالمؤمنين رؤوف رحيم‏)‏‏:‏ أي شديد الرحمة ‏(‏فإن تولوا‏:‏ أي أعرضوا عن الإيمان بك ‏(‏فقل حسبى الله‏)‏‏:‏ أي يكفيني وينصرني ‏(‏لا إله إلا هو‏)‏‏:‏ أي المتفرد بالألوهية، وهذه الجملة الحالية كالدليل لما قبلها ‏(‏عليه توكلت‏)‏‏:‏ أي به وثقت لا بغيره ‏(‏وهو رب العرش العظيم‏)‏ وصفه بالعظم لأنه أعظم المخلوقات، قرأ الجمهور بالجر على أنه صفة العرش، وقرئ بالرفع صفة لرب، ورويت هذه القراءة عن ابن كثير‏.‏ قال أبو بكر الأصم‏:‏ وهذه القراءة أعجب إلي، لأن جعل العظيم صفة للرب أولى من جعله صفة للعرش، قال ابن عباس‏:‏ إنما سمى العرش عرشاً لارتفاعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه أحمد والبخاري والنسائي‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏أن حذيفة‏)‏ هو ابن اليمان ‏(‏وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق‏)‏ أي كان عثمان يجهز أهل الشام وأهل العراق لغزو أرمينية وأذربيجان وفتحهما‏.‏

قال الحافظ‏:‏ إن أرمينية فتحت في خلافه عثمان، وكان أميراً لعسكر من أهل العراق سلمان بن ربيعة الباهلي، وكان عثمان أمر أهل الشام وأهل العراق أن يجتمعوا على ذلك، وكان أمير أهل الشام على ذلك العسكر حبيب بن مسلمة الفهري، وكان حذيفة من جملة من غزا معهم، وكان هو على أهل المدائن وهي من جملة أعمال العراق انتهى‏.‏ وإرمينية بكسر الهمزة وسكون الراء وكسر الميم بعدوها تحتانية ساكنة ثم نون مكسورة ثم تحتانية مفتوحة خفيفة، وقد تثقل‏.‏

وقال ابن السمعاني‏:‏ بفتح الهمزة، وقال أبو عبيد‏:‏ هي بلد معروف يضم كوراً كثيرة‏.‏ وقال الرشاطي‏:‏ افتتحت سنة أربع وعشرين في خلافة عثمان رضي الله عنه على يد سلمان بن ربيعة‏.‏ وأذربيجان بفتح الهمزة والذال المعجمة وسكون الراء، وقيل بسكون الذال وفتح الراء وبكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم جيم خفيفة وآخره نون‏.‏ وحكى ابن مكي‏:‏ كسر أوله، وضبطها صاحب المطالع، ونقله عن ابن الأعرابي، بسكون الذال وفتح الراء‏:‏ بلد كبير من نواحي جبال العراق وهي الاَن تبريز وقصباتها، وهي تلي أرمينية من جهة غربيها واتفق غزوهما في سنة واحدة، واجتمع في غزوة كل منهما أهل الشام وأهل العراق، والمذكور في ضبط أذربيجان هو المشهور، وقد تمد الهمزة، وقد تحذف وقد تفتح الموحدة، وقيل في ضبطها غير ذلك ‏(‏فرأى حذيفة اختلافهم في القرآن‏)‏ وفي رواية البخاري‏:‏ فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة‏.‏ وذكر الحافظ ههنا روايات توضح ما كان فيهم من الاختلاف في القراءة، ففي رواية يتنازعون في القرآن حتى سمع حذيفة من اختلافهم ما ذعره‏.‏

وفي رواية‏:‏ فتذاكروا القرآن فاختلفوا فيه حتى كان يكون بينهم فتنة‏.‏ وفي رواية‏:‏ أن حذيفة قدم من غزوة فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان، فقال يا أمير المؤمنين‏:‏ أدرك الناس، قال‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ غزوت فرج أرمينية فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أبي بن كعب فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة عبد الله بن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فيكفر بعضهم بعضاً‏.‏

وفي رواية‏:‏ أنه سمع رجلاً يقول‏:‏ قراءة عبد الله بن مسعود، وسمع آخر يقول‏:‏ قراءة أبي موسى الأشعري، فغضب، ثم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ هكذا كان من قبلكم اختلفوا، والله لأركبن إلى أمير المؤمنين‏.‏ وفي رواية أن اثنين اختلفا في آية من سورة البقرة قرأ هذا‏:‏ وأتموا الحج والعمرة لله، وقرأ هذا‏:‏ وأنموا الحج والعمرة للبيت، فغضب حذيفة واحمرت عيناه‏.‏ وفي رواية‏:‏ قال حذيفة‏:‏ يقول أهل الكوفة قراءة ابن مسعود، ويقول أهل البصرة‏:‏ قراءة أبي موسى، والله لئن قدمت على أمير المؤمنين لأمرته أن يجعلها قراءة واحدة ‏(‏أدرك هذه الأمة‏)‏ أمر من الإدراك، يمعنى التدارك ‏(‏فأرسل‏)‏ أي عثمان ‏(‏إلى حفصة أن أرسلي النبأ بالصحف‏)‏ وكانت الصحف بعد ما جمع القران أبو بكر عنده حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر ‏(‏ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك‏)‏ أي ننقلها، والمصاحف جمع المصحف‏:‏ بضم الميم‏.‏

قال الحافظ‏:‏ الفرق بين الصحف والمصحف أن الصحف الأوراق المجردة التي جمع فيها القرآن في عهد أبي بكر كانت سوراً مفرقة كل سورة مرتبة بآياتها على حدة، ولكن لم يرتب بعضها إثر بعض، فلما نسخت ورتب بعضها إثر بعض، صارت مصحفاً انتهى‏.‏ ‏(‏فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن الزبير‏:‏ أن انسخوا الصحف‏)‏ أي انقلوا ما فيها‏.‏

وفي رواية البخاري‏:‏ فأمر، مكان فأرسل‏.‏ وقد جاء عن عثمان أنه إنما فعل ذلك بعد أن استشار الصحابة، فأخرج ابن أبي داود بإسناد صحيح من طريق سويد ابن غفلة‏.‏

قال علي‏:‏ لا تقولوا في عثمان إلا خيراً، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا، قال ما تقولون في هذه القراءة، فقد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفراً‏.‏

قلنا‏:‏ فما ترى‏؟‏ قال‏:‏ نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة ولا اختلاف‏.‏ قلنا‏:‏ فنعم ما رأيت ‏(‏وقال‏)‏ أي عثمان ‏(‏للرهط القرشيين الثلاثة‏)‏ يعني سعيداً وعبد الرحمن وعبد الله، لأن سعيداً أموي، وعبد الرحمَن مخزومي، وعبد الله أسدي، وكلها من بطون قريش ‏(‏فإنما نزل بلسانهم‏)‏ أي بلسان قريش‏.‏

قال القاضي بن أبو بكر بن ال باقلاني‏:‏ معنى قول عثمان نزل القرآن بلسان قريش أي معظمه، وأنه لم تقم دلالة قاطعة على أن جميعه بلسان قريش، فإن ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏"‏إنا جعلناه قرآناً عربياً‏"‏ أنه نزل بجميع ألسنة العرب، ومن زعم أنه أراد مضر درن ربيعة، أو هما دون اليمن، أو قريشاً دون غيرهم، فعليه البيان، لأن اسم العرب يتناول الجميع تناولاً واحداً، ولو ساغت هذه الدعوى لساغ للاَخران‏.‏ ويقول‏:‏ نزل بلسان بني هاشم مثلاً، لأنهم أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسباً من سائر قريش ‏(‏إلى كل أفق‏)‏ بضمتين‏:‏ أي طرف من أطراف الاَفاق ‏(‏بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوا‏)‏ زاد البخاري‏:‏ وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ في هذا الحديث جواز تحريق الكتب التي فيها اسم الله بالنار وأن ذلك إكرام لها وصون عن وطئها بالأقدام‏.‏ وقد أخرج عبد الرزاق من طريق طاوس‏:‏ أنه كان يحرق الرسائل التي فيها البسملة إذا اجتمعت، وكذا فعل عروة، وكرهه إبراهيم‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ الرواية بالحاء المهملة أصح، وهذا الحكم هو الذي وقع في ذلك الوقت‏.‏ وأما الاَن‏:‏ فالغسل أولى لما دعت الحاجة إلى إزالته، هكذا في الفتح‏.‏ وقال العيني‏:‏ قال أصحابنا الحنفية‏:‏ إن المصحف إذا بلى بحيث لا ينتفع به، يدفن في مكان طاهر بعيد عن وطئ الناس‏.‏

قلت‏:‏ لو تأملت عرفت أن الاحتياط هو في الإحراق دون الدفن، ولهذا اختار عثمان رضي الله عنه ذلك دون هذا والله تعالى أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال الزهرى وحدثني خارجة بن زيد الخ‏)‏ هذا موصول إلى الزهرى بالإسناد المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه‏)‏ من الثبات مع النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏فمنهم من قضى نحبه‏)‏ مات أو قتل في سبيل الله ‏(‏ومنهم من ينتظر‏)‏ ذلك ‏(‏فوجدتها مع خزيمة بن ثابت، أو أبي خزيمة‏)‏ كذا في هذا الكتاب بالشك‏.‏

وفي رواية البخاري‏:‏ لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري بغير شك ‏(‏فألحقتها في سورتها‏)‏ فيه إشكال لأن ظاهره أنه اكتفى بخزيمة وحده، والقرآن إنما يثبت بالتواتر، والذي يظهر في الجواب أن الذي أشار إليه أن فقده فقد وجودها مكتوبة، لا فقد وجودها محفوظة، بل كانت محفوظة عنده وعند غيره‏.‏ ويدل على هذا قوله في حديث جمع القرآن‏:‏ فأخذت أتتبعه من الرقاع والعسب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال الزهري فاختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه‏)‏ أي هل هو بالتاء أو بالهاء ‏(‏فقال القرشيون التابوت‏)‏ أي بالتاء ‏(‏وقال زيد التابوه‏)‏ أي بالهاء ‏(‏اكتبوه التابوت‏)‏ أي بالتاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن عبد الله بن مسعود ذكره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف الخ‏)‏ العذر لعثمان رضي الله عنه في ذلك أنه فعله بالمدينة وعبد الله بالكوفة، ولم يؤخر ما عزم عليه من ذلك إلى أن يرسل إليه ويحضر‏.‏ وأيضاً فإن عثمان أراد نسخ الصحف التي كانت جمعت في عهد أبي بكر، وأن يجعلها مصحفاً واحداً، وكان الذي نسخ ذلك في عهد أبي بكر هو زيد بن ثابت لكونه كاتب الوحي، فكانت له في ذلك أولية ليست لغيره ‏(‏أعزل عن نسخ كتابة المصاحف‏)‏ بصيغة المجهول، أي أنحى عن نسخ المصاحف المكتوبة ‏(‏ويقولاها‏)‏ أي كتابة المصاحف ‏(‏اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها الخ‏)‏ أي اخفوها واستروها‏.‏

قال النووي‏:‏ معناه أن ابن مسعود كان مصحفه يخالف مصحف الجمهور، وكانت مصاحف أصحابه كمصحفه، فأنكر عليه الناس وأمروه بترك مصحفه وبموافقة مصحف الجمهور، وطلبوا مصحفه أن يحرقوه كما فعلوا بغيره فامتنع، وقال لأصحابه‏:‏ فلوا مصاحفكم، أي اكتموها ‏(‏ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة‏)‏ يعني فإذا غللتموها جئتم بها يوم القيامة، وكفى لكم بذلك شرفاً‏.‏ ثم قال على سبيل الإنكار‏:‏ ومن هو الذي تأمرونني أن آخذ بقراءته وأترك مصحفي الذي أخذته من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏فالقوا القول‏)‏ أمر من اللقاء ‏(‏فبلغني أن ذلك كره إلخ‏)‏ يعني أن رجالاً من أفاضل الصحابة قد كرهوا قول ابن مسعود المذكور، وقوله من مقالة ابن مسعود رضي الله عنه بيان لقوله ذلك‏.‏

تنبيه‏:‏

قال ابن التين وغيره‏:‏ الفرق بين جمع أبي بكر وبين جمع عثمان، أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعاً في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتباً لاَيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القرآن حين قرأوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض، فخشى من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتباً لسوره، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محتجاً بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع في قراءته رفعاً للحرج والمشقة في ابتداء الأمر، فرأى أن الحاجة إلى ذلك انتهت فاقتصر على لغة واحدة، أو كان لغة قريش أرجح اللغات فاقتصر عليها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه البخاري‏.‏