فصل: 547- باب ما جَاءَ في قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي للمباركفوري ***


547- باب ما جَاءَ في قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَان

799- حدثنا هَنّادٌ، حدثنا محمدُ بنُ الفُضَيْلِ عن دَاوُدَ بنِ أبي هِنْدٍ عن الوَلِيدِ بنِ عَبْدِ الرحمَنِ الجُرَشِيّ عن جُبَيْرِ بنِ نُفَيْرٍ عن أَبي ذَرَ قال‏:‏ ‏"‏صُمْنَا مَعَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُصَلّ بِنَا حتّى بَقِيَ سَبْعٌ مِنَ الشّهْرِ فقامَ بِنَا حتَى ذَهَبَ ثُلُثُ اللّيْلِ ثُمّ لَمْ يَقُمْ بِنَا في السّادِسَةِ وقَامَ بِنَا في الخَامِسَةِ حتّى ذَهَبَ شَطْرُ اللّيْلِ، فَقُلْنَا له يا رسولَ الله لو نفّلْتَنَا بَقِيّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ‏؟‏ فَقَالَ إنّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإمَامِ حَتّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ‏.‏ ثُمّ لَمْ يُصَلّ بِنَا حَتى بَقِيَ ثَلاَثٌ مِنَ الشهْرِ وصَلّى بِنَا في الثّالِثَةِ وَدَعَا أَهْلَهُ ونِسَاءَهُ فَقَامَ بِنَا حَتّى تَخَوّفْنَا الفَلاَحَ، قُلْتُ لَهُ‏:‏ ومَا الفَلاَحُ‏؟‏ قالَ‏:‏ ‏"‏السّحورُ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏

واخْتَلَفَ أَهْلُ العِلمِ في قِيَامِ رَمَضَانَ، فَرَأَىَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُصَلّيَ إحْدَى وأَرْبَعِينَ رَكْعَةً مَعَ الوِتْرِ، وهُوَ قَوْلُ أَهْلِ المَدِينَةِ، والعَمَلُ على هذَا عِنْدَهُمْ بالمَديِنَةِ‏.‏ وأَكْثَرُ أهْلِ العِلمِ على ما رُوِيَ عن عُمَر وعلي وغَيْرِهِمَا مِنْ أَصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم عِشْرِينَ رَكْعَةً‏.‏ وَهُوَ قَوْلُ الثّوْرِيّ وابنِ المُبَارَكِ والشّافِعيّ‏.‏ وقَالَ الشّافِعيّ‏:‏ وهَكَذَا أدْرَكْتُ بِبَلَدِنَا بِمَكّةَ، يُصَلّونَ عِشْرِينَ رَكْعَةً‏.‏ وقال أحْمَدُ‏:‏ رُوِيَ في هَذَا ألْوانٌ ولم يَقْضِ فيهِ بَشيءٍ، وقال إسحَاقُ بل نخْتَارُ إِحْدَى وأرْبَعِينَ رَكْعَةً عَلَى ما رُوِيَ عن أُبَيّ بنِ كَعْبٍ واخْتَارَ ابنُ المَبارَكِ وأحْمَدُ وإِسْحَاقُ الصّلاةَ مَعَ الإمَامِ في شَهْرِ رَمَضَانَ، واخْتَارَ الشّافِعِيّ أنْ يُصَلّيَ الرّجلُ وَحْدَهُ إذَا كاَنَ قَارِئاً‏.‏ وفي الباب عن عائشة والنعمان بن بشير وابن عبّاسٍ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي في رمضان ‏(‏فلم يصل بنا‏)‏ أي لم يصل بنا غير الفريضة من ليالي شهر رمضان، وكان إذا صلى الفريضة دخل حجرته ‏(‏حتى بقي سبع من الشهر‏)‏ أي ومضى اثنان وعشرون‏.‏ قال الطيبي‏:‏ أي سبع ليال نظراً إلى المتيقن وهو أن الشهر تسع وعشرون فيكون القيام في قوله ‏(‏فقام بنا‏)‏ أي ليلة الثالثة والعشرين، والمراد بالقيام صلاة الليل ‏(‏ ‏"‏حتى ذهب ثلث الليل‏"‏‏)‏ أي صلى بنا بالجماعة صلاة الليل إلى ثلث الليل، وفيه ثبوت صلاة التراويح بالجماعة في المسجد أو الليل ‏(‏ ‏"‏ثم لم يقم بنا في السادسة‏"‏‏)‏ أي مما بقي وهي الليلة الرابعة والعشرون ‏(‏ ‏"‏وقام بنا في الخامسة‏"‏‏)‏ وهي الليلة الخامسة والعشرون ‏(‏ ‏"‏حتى ذهب شطر الليل‏"‏‏)‏ أي نصفه ‏(‏ ‏"‏لو نفلتنا‏"‏‏)‏ من التنفيل ‏(‏ ‏"‏بقية ليلتنا هذه‏"‏‏)‏ أي لو جعلت بقية الليل زيادة لنا على قيام الشطر‏.‏ وفي النهاية‏:‏ لو زدتنا من الصلاة النافلة سميت بها النوافل لأنها زائدة على الفرائض‏.‏ قال المظهر‏:‏ تقديره لو زدت قيام الليل على نصفه لكان خيراً لنا، ولو للتمني ‏(‏ ‏"‏إنه‏"‏‏)‏ ضمير الشأن ‏(‏ ‏"‏من قام مع الإمام‏"‏‏)‏ أي من صلى الفرض معه ‏(‏ ‏"‏حتى ينصرف‏"‏‏)‏ أي الإمام ‏"‏كتب له قيام ليلة‏"‏ أي حصل له قيام ليلة تامة، يعني أن الأجر حاصل بالفرض وزيادة النوافل مبنية على قدر النشاط لأن الله تعالى لا يمل حتى تملوا، والظاهر أن المراد بالفرض العشاء والصبح لحديث ورد بذلك ‏(‏ ‏"‏حتى بقي ثلاث من الشهر‏"‏‏)‏ أي الليلة السابعة والعشرون والثامنة والعشرون والتاسعة والعشرون ‏(‏ ‏"‏وصلى بنا في الثالثة‏"‏‏)‏ وهي الليلة السابعة والعشرون ‏(‏ ‏"‏ودعا أهله ونساءه‏"‏‏)‏ وفي رواية أبي داود‏:‏ جمع أهله ونساءه والناس ‏(‏ ‏"‏قلت‏:‏‏"‏‏)‏ قائلة جبير بن نفير ‏(‏ ‏"‏له‏"‏‏)‏ أي لأبي ذر ‏(‏ ‏"‏ما الفلاح‏؟‏ قال السحور‏"‏‏)‏ بالضم والفتح قال في النهاية‏:‏ السحور بالفتح اسم ما يتسحر به من الطعام والشراب وبالضم المصدر والفعل نفسه، وأكثر ما يروي بالفتح، وقيل الصواب بالضم لأنه بالفتح الطعام، والبركة والأجر والثواب في الفعل لا في الطعام انتهى‏.‏ قال القاضي‏:‏ الفلاح الفوز بالبغية، سمي السحور به لأنه يعين على إتمام الصوم وهو الفوز بما كسبه ونواه والموجب للفلاح في الاَخرة وقال الخطابي‏:‏ أصل الفلاح البقاء وسمي السحور فلاحاً إذا كان سبباً لبقاء الصوم ومعيناً عليه انتهى‏.‏

تنبيه‏:‏

إعلم أنه لم يرد في حديث أبي ذر هذا بيان عدد الركعات التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليالي، لكن قد ورد بيانه في حديث جابر رضي الله عنه وهو أنه صلى الله عليه وسلم، صلى في تلك الليالي ثمان ركعات ثم أوتر كما ستقف عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ ‏"‏هذا حديث حسن صحيح‏"‏‏)‏ وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وسكت عنه أبو داود‏.‏ ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره، وقال ابن حجر المكي‏:‏ هذا الحديث صححه الترمذي والحاكم انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ ‏"‏واختلف أهل العلم في قيام رمضان‏"‏‏)‏ أي في عدد ركعات التراويح ‏(‏فرأى بعضهم أن يصلي إحدى وأربعون ركعة مع الوتر‏)‏ وهو قول أهل المدينة، ولم أر فيه حديثاً مرفوعاً لا صحيحاً ولا ضعيفاً وروي فيه أثار، فأخرج محمد بن نصر في قيام الليل عن محمد بن سيرين أن معاذاً أبا حليمة القاري كان يصلي بالناس في رمضان إحدى وأربعين ركعة وعن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة قال‏:‏ أدركت الناس قبل الحرة يقومون بإحدى وأربعين يوترون منها بخمس انتهى‏.‏ قال العيني‏:‏ قال شيخنا يعني الحافظ العراقي‏:‏ وهو أكثر ما قيل فيه‏.‏ قال العيني‏:‏ وذكر ابن عبد البر في الاستذكار عن الأسود بن يزيد‏:‏ كان يصلي أربعين ركعة ويوتر بسبع هكذا ذكره‏.‏ ولم يقل إن الوتر من الأربعين ‏(‏والعمل على هذا عندهم بالمدينة‏)‏ قول الترمذي هذا يخالف ما رواه محمد بن نصر عن ابن أيمن قال مالك‏:‏ أستحب أن يقوم الناس في رمضان بثمان وثلاثين ركعة ثم يسلم الإمام والناس ثم يوتر بهم بواحدة، وهذا العمل بالمدينة قبل الحرة منذ بضع ومائة سنة إلى اليوم انتهى‏.‏ قال العيني بعد ذكر هذه الرواية‏:‏ هكذا روى ابن أيمن عن مالك وكأنه جمع ركعتين من الوتر مع قيام رمضان وإلا فالمشهور عن مالك ست وثلاثون والوتر بثلاث والعدد واحد انتهى كلام العيني‏.‏ قلت تأويل العيني رواية ابن أيمن بقوله‏:‏ وكأنه جمع الخ يرده لفظ رواية ابن أيمن فتفكر‏.‏

إعلم أن الترمذي رحمه الله في قيام رمضان قولين‏:‏ الأول‏:‏ إحدى وأربعون ركعة مع الوتر، والثاني‏:‏ عشرون ركعة، وفيه أقوال كثيرة لم يذكرها الترمذي قلنا أن نذكرها‏.‏ قال العيني في عمدة القاري بعد ذكر القول الأول‏:‏ ورواية ابن أيمن عن مالك المذكورة ما لفظه‏:‏ وقيل‏:‏ ست وثلاثون، وهو الذي عليه عمل أهل المدينة، وروى ابن وهب قال‏:‏ سمعت عبد الله بن عمر يحدث عن نافع قال‏:‏ لم أدرك الناس إلا وهم يصلون تسعاً وثلاثين ركعة ويوترون منها بثلاث‏.‏

وقيل‏:‏ أربع وثلاثون على ما حكي عن زرارة بن أوفي أنه كذلك كان يصلي بهم في العشر الأخير‏.‏

وقيل‏:‏ ثمان وعشرون، وهو المروى عن زرارة بن أوفى في العشرين الأولين من الشهر، وكان سعيد بن جبير يفعله في العشر الأخير‏.‏

وقيل‏:‏ أربع وعشرون وهو مروي عن سعيد بن جبير‏.‏

وقيل عشرون، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم، فإنه مروىيعن عمر وعلي وغيرهما من الصحابة وهو قول أصحابنا الحنفية‏.‏

وقيل‏:‏ إحدى عشرة ركعة، وهو اختيار مالك لنفسه واختاره أبو بكر بن العربي انتهى كلام العيني‏.‏

وقال الحافظ جلال الدين السيوطي في رسالته المصابيح في صلاة التراويح‏:‏ قال الجوزي من أصحابنا عن مالك أنه قال‏:‏ الذي جمع عليه الناس عمر بن الخطاب أحب إلي وهو إحدى عشرة ركعة وهي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل له إحدى عشرة ركعة بالوتر‏؟‏ قال نعم وثلاث عشرة قريب، قال ولا أدري من أين أحدث هذا الركوع الكثير انتهى‏.‏

قلت‏:‏ القول الراجح المختار الأقوى من حيث الدليل هو هذا القول الأخير الذي اختاره مالك لنفسه أعني إحدى عشرة ركعة، وهو الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسند الصحيح، بها أمر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وأما الأقوال الباقية فلم يثبت واحد منها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند صحيح ولا ثبت الأمر به عن أحد من الخلفاء الراشدين بسند صحيح خال عن الكلام‏.‏ فأما ما قلنا من أن إحدى عشرة ركعة هي الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمَن أنه سأل عائشة كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان‏؟‏ فقالت‏:‏ ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً الحديث‏.‏ فهذا الحديث الصحيح نص صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة‏.‏

تنبيه‏:‏

قد ذكر العيني رحمه الله في عمدة القاري تحت هذا الحديث أسئلة مع أجوبتها وهي مفيدة فلنا أن نذكرها قال‏:‏ الأسئلة والأجوبة منها أنه ثبت في الصحيح من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأول يجتهد فيه ما لا يجتهد في غيره، وفي الصحيح أيضا من حديثها كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد ميزرة، وهذا يدل على أنه كان يزيد في العشر الأواخر على عادته فكيف يجمع بينه وبين حديث الباب‏.‏

فالجواب‏:‏ أن الزيادة في العشر الأواخر يحمل على التطويل دون الزيادة في العدد‏.‏

ومنها أن الروايات اختلف عن عائشة رضي الله عنها في عدد ركعات صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، ففي حديث الباب‏:‏ إحدى عشرة ركعة، وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه‏:‏ كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، وفي رواية مسروق أنه سألها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر، وفي رواية إبراهيم عن الأسود عن عائشة أنه كان يصلي الليل تسع ركعات، رواه البخاري والنسائي وابن ماجه‏.‏

والجواب‏:‏ أن من عدها ثلاث عشرة أراد بركعتي الفجر، وصرح بذلك في رواية القاسم عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ كانت صلاته بالليل عشر ركعات ويوتر بسجدة ويركع بركعتي الفجر فتلك ثلاث عشرة ركعة، وأما رواية سبع وتسع فهي في حالة كبره وكما سيأتي إن شاء الله تعالى انتهى كلام العيني‏.‏

قلت‏:‏ الأمر كما قال العيني رحمه الله في الجواب عن السؤال الثاني‏.‏ وأما الجواب عن السؤال الأول ففيه أنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد يصلي ثلاث عشرة ركعة سوى الفجر، فروى مسلم في صحيحه من حديث زيد بن خالد الجهني أنه قال‏:‏ لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة، فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهمادون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما‏.‏ ثم أوتر‏.‏ فلذلك ثلاث عشرة ركعة، فالأحسن في الجواب أن يقال‏:‏ إنه صلى الله عليه وسلم كان يفتح صلاته بالليل بركعتين خفيفتين كما في هذا الحديث، وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين‏.‏

وروي أيضاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا قام أحدكم من الليل فليفتح صلاته بركعتين خفيفتين‏"‏‏.‏ فقد عدت هاتان الركعتان الخفيفتان، فصار قيام الليل ثلاث عشرة ركعة‏.‏ ولما لم تعد لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخففهما، صار إحدى عشرة ركعة والله تعالى أعلم‏.‏

ويدل على هذا القول الأخير الذي اختاره مالك لنفسه، أعني إحدى عشرة ركعة حديث جابر رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ثمان ركعات وأوتر فلما كانت القابلة اجتمعنا في المسجد، ورجونا أن يخرج فلم نزل فيه حتى أصبحنا ثم دخلنا فقلنا‏:‏ يا رسول الله اجتمعنا البارحة في المسجد، ورجونا أن تصلي بنا‏.‏ فقال إني خشيت أن يكتب عليكم رواه الطبراني في الصغير ومحمد بن نصر المروزي في قيام الليل، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما‏.‏

قال الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال بعد ذكر هذا الحديث‏:‏ إسناده وسط انتهى‏.‏ وهذا الحديث صحيح عند ابن خزيمة وابن حبان، ولذا أخرجاهما في صحيحهما‏.‏ وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذا الحديث في فتح الباري لبيان عدد الركعات التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بالناس في شهر رمضان، فهو صحيح عنده أو حسن، فإنه قد قال في مقدمة الفتح‏:‏ فأسوق إن شاء الله تعالى الباب وحديثه أولاً، ثم أذكر وجه المناسبة بينهما إن كانت خفية ثم استخرج ثانياً ما يتعلق به غرض صحيح في ذلك الحديث، من الفوائد المتنية والإسنادية، من تتمات وزيادات وكشف غامض، وتصريح مدلس بسماع، ومتابعة سامع من شيخ اختلط قبل ذلك، كل من أمهات المسانيد والجوامع والمستخرجات والاجزاء والفوائد، بشرط الصحة أو الحسن فيما أورده من ذلك انتهى‏.‏

فإن قلت‏:‏ قال النيموي في آثار السنن بعد ذكر حديث جابر المذكور‏:‏ في إسناده لين‏.‏ وقال في تعليقه‏:‏ مداره على عيسى بن جارية ثم ذكر جرح ابن معين والنسائي وأبي داود، وتوثيق أبي زرعة وابن حبان‏.‏ ثم قال‏:‏ قول الذهبي إسناده وسط ليس بصواب بل إسناده دون وسط انتهى‏.‏

قلت‏:‏ قال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة‏:‏ الذهبي من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال انتهى‏.‏ فلما حكم الذهبي بأن إسناده وسط بعد ذكر الجرح والتعديل في عيسى بن جارية وهو من أهل الاستقرار التام في نقد الرجال، فحكمه بأن إسناده وسط هو الصواب ويؤيده إخراج ابن خزيمة وابن حبان هذا الحديث في صحيحيهما ولا يلتفت إلى ما قال النيموي، ويشهد لحديث جابر هذا حديث عائشة المذكور‏:‏ ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة‏.‏

ويدل على هذا القول الأخير الذي اختاره مالك أعني إحدى عشرة ركعة ما رواه أبو يعلى من حديث جابر بن عبد الله قال‏:‏ جاء بن أبي كعب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إنه كان مني الليلة شيء يعني في رمضان، قال ‏"‏وما ذاك يا أبي‏؟‏‏"‏ قال نسوة في داري قلن إنا لا نقرأ القرآن فنصلي بصلاتك‏.‏ قال فصليت بهن ثمان ركعات وأوترت‏.‏ فكانت سنة الرضا، ولم يقل شيئاً‏.‏ قال الهيثمي في مجمع الزوائد‏:‏ إسناده حسن‏.‏

وأما ما قلنا من أن بإحدى عشرة ركعة أمر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فلأن الإمام مالك رحمه الله روى في موطئه عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال‏:‏ أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب رضي الله عنه وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة وكان القارئ يقرأ حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر‏.‏ ورواه أيضاً سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة قال النيموي في آثار السنن‏:‏ إسناده صحيح‏.‏

فإن قلت‏:‏ قال الحافظ في الفتح بعد ذكر أثر عمر رضي الله عنه هذا‏:‏ ورواه عبد الرزاق من وجه آخر عن محمد بن يوسف فقال‏:‏ إحدى وعشرين انتهى‏.‏ وقال الزرقاني في شرح الموطأ قال ابن عبد البر‏:‏ روى غير مالك في هذا إحدى وعشرون‏.‏ وهو الصحيح، ولا أعلم أحداً قال فيه إحدى عشرة إلا مالك‏.‏ ويحتمل أن يكون ذلك أولاً ثم خفف عنهم طول القيام ونقلهم إلى إحدى وعشرين إلا أن الأغلب عندي أن قوله إحدى عشرة وهم انتهى‏.‏

قلت‏:‏ قول ابن عبد البر أن الأغلب عندي أن قوله إحدى عشرة وهم باطل جداً قال الزرقاني في شرح الموطأ بعد ذكر قول ابن عبد البر هذا ما لفظه‏:‏ ولا وهم وقوله‏:‏ إن مالكاً انفرد به ليس كما قال‏.‏ فقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن محمد بن يوسف فقال‏:‏ إحدى عشرة كما قال مالك انتهى كلام الزرقاني‏.‏ وقال النيموي في آثار السنن‏:‏ ما قاله ابن عبد البر من وهم مالك فغلط جداً، لأن مالكاً قد تابعه عبد العزيز بن محمد عند سعيد بن منصور في سننه، ويحيى بن سعيد القطان عند أبي بكر بن أبي شيبة في مصنفه، كلاهما عن محمد بن يوسف وقالا إحدى عشرة‏.‏ كما رواه مالك عن محمد بن يوسف‏.‏ وأخرج محمد بن نصر المروزي قي قيام الليل من طريق محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد قال كنا نصلي في زمن عمر رضي الله عنه في رمضان ثلاث عشرة ركعة‏.‏

قال النيموي‏:‏ هذا قريب مما رواه مالك عن محمد بن يوسف أي مع الركعتين بعد العشاء انتهى كلام النيموي‏.‏

قلت‏:‏ فلما ثبت أن الإمام مالكاً لم ينفرد بقوله‏:‏ إحدى عشرة بل تابعه عليه عبد العزيز بن محمد وهو ثقة ويحيى بن سعيد القطان إمام الجرح والتعديل، قال الحافظ في التقريب‏:‏ ثقة متقن حافظ إمام ظهر لك حق الظهور أن قول ابن عبد البر أن الأغلب أن قوله إحدى عشرة وهم ليس بصحيح بل لو تدبرت ظهر لك أن الأمر على خلاف ما قال ابن عبد البر، أعني أن الأغلب أن قول غير مالك في هذا الأثر إحدى وعشرون كما في رواية عبد الرزاق وهم، فإنه قد انفرد هو بإخراج هذا الأثر بهذا اللفظ، ولم يخرجه به أحد غيره فيما أعلم‏.‏ وعبد الرزاق وإن كان ثقة حافظاً لكنه قد عمي في آخر عمره فتغير‏.‏ كما صرح به الحافظ في التقريب‏.‏ وأما الإمام مالك فقال الحافظ في التقريب‏:‏ إمام دار الهجرة رأس المتقنين وكبير المثبتين حتى قال البخاري‏:‏ أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر انتهى‏.‏ ومع هذا لم ينفرد هو بإخراج هذا لأثر بلفظ‏:‏ إحدى عشرة بل أخرجه أيضاً بهذا اللفظ سعيد بن منصور وابن أبي شيبة كما عرفت‏.‏

فالحاصل أن لفظ‏:‏ إحدى عشرة‏.‏ في أثر عمر بن الخطاب المذكور صحيح ثابت محفوظ، ولفظ إحدى وعشرون في هذا الأثر غير محفوظ والأغلب أنه وهم والله تعالى أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأكثر أهل العلم على ما روي عن علي وعمر وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عشرين ركعة‏)‏ أما أثر علي رضي الله عنه فأخرجه البيهقي في سننه وابن أبي شيبة عن أبي الحسناء‏:‏ أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمر رجلاً أن يصلي بالناس خمس ترويحات عشرين ركعة‏.‏ قال النيموي في تعليق آثار السنن‏:‏ مدار هذا الأثر على أبي الحسناء وهو لا يعرف انتهى‏.‏

قلت الأمر كما قال النيموي قال الحافظ في التقريب في ترجمة أبي الحسناء‏:‏ أنه مجهول وقال الذهبي في ميزانه‏:‏ لا يعرف انتهى‏.‏ وروى عن علي أثر آخر فروى البيهقي في سننه من طريق حماد بن شعيب عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمَن السلمي عن علي رضي الله تعالى عنه ودعاء القراء في رمضان فأمر منهم رجلاً يصلي بالناس عشرين ركعة، قال وكان علي رضي الله تعالى عنه يوتر بهم‏.‏ وروي ذلك من وجه آخر عن علي‏.‏ قال النيموي بعد ذكر هذا الأثر‏:‏ حماد بن شعيب ضعيف‏.‏ قال الذهبي في الميزان‏:‏ ضعفه ابن معين وغيره‏.‏ وقال يحي مرة‏:‏ لا يكتب حديثه‏.‏ وقال البخاري‏:‏ فيه نظر‏.‏ وقال النسائي‏:‏ ضعيف‏.‏ وقال ابن عدي، أكثر حديثه مما لا يتابع عليه انتهى كلام النيموي قلت‏:‏ الأمر كما قال النيموي‏.‏

فائدة قال الشيخ ابن الهمام في التحرير‏:‏ إذا قال البخاري للرجل فيه نظر فحديثه لا يحتج به، ولا يستشهد به ولا يصلح للاعتبار انتهى كلام ابن الهمام‏.‏ قلت‏:‏ فأثر على هذا لا يحتج به ولا يستشهد به ولا يصلح للاعتبار فإن في سنده حماد بن شعيب وقال البخاري فيه نظر‏.‏

تنبيه يستدل بهذين الأثرين على أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أمر أن يصلي التروايح عشرين ركعة‏.‏ وعلي أنه رضي الله عنه صلى التروايح عشرين ركعة وقد عرفت أن هذين الأثرين ضعيفان لا يصلحان للاستدلال‏.‏ ومع هذا فهما مخالفان لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث الصحيح‏.‏

وأما أثر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة قال‏:‏ حدثنا وكيع عن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمر رجلاً يصلي بهم عشرين ركعة‏.‏ قال النيموي في آثار السنن‏:‏ رجاله ثقات، لكن يحيى بن سعيد الأنصاري لم يدرك عمر رضي الله تعالى عنه انتهى‏.‏

قلت‏:‏ الأمر كما قال النيموي فهذا الأثر منقطع لا يصلح للاحتجاج ومع هذا فهو مخالف لما ثبت بسند صحيح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه أمر أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة‏.‏ أخرجه مالك في الموطأ‏.‏ وقد تقدم، وأيضاً هو مخالف لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث الصحيح‏.‏ وأما أثر عمر رضي الله تعالى عنه الذي أخرجه عبد الرزاق فقد عرفت حاله، وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه عن عبد العزيز بن رفيع قال‏:‏ كان أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه يصلي بالناس في رمضان بالمدينة عشرين ركعة ويوتر بثلاث‏.‏ قال النيموي عبد العزيز بن رفيع لم يدرك أبي بن كعب انتهى‏.‏ قلت الأمر كما قال النيموي، فأثر أبي بن كعب هذا منقطع‏.‏ ومع هذا فهو مخالف لما ثبت عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه أمر أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وأيضاً هو مخالف لما ثبت عن أبي بن كعب أنه صلى في رمضان بنسوة داره ثمان ركعات وأوتر‏.‏ وقد تقدم ذكره بتمامه‏.‏ وفي قيام الليل قال الأعمش‏:‏ كان أي ابن مسعود ‏(‏وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي‏)‏ وهو قول الحنفية واستدل لهم بما روى ابن أبي شيبة في مصنفه والطبراني وعنه البيهقي من طريق ابراهيم بن عثمان أبي شيبة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في رمضان عشرين ركعة سوى الوتر انتهى‏.‏ وهذا الحديث ضعيف جداً لا يصلح للاستدلال، فاستدلالهم بهذا الحديث ليس بصحيح‏.‏ قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية‏:‏ وهو معلول بابن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان جد الإمام أبي بكر بن أبي شيبة، وهو متفق على ضعفه، ولينه ابن عدي في الكامل، ثم إنه مخالف للحديث الصحيح عن أبي سلمة بن عبد الرحمَن‏:‏ أنه سأل عائشة رضي الله عنها كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان‏؟‏ قالت ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة‏.‏ الحديث انتهى كلام الزيلعي، وقال النيموي في تعليق آثار السنن‏:‏ وقد أخرجه عبد بن حميد الكشي في مسنده والبغوي في معجمه، والطبراني في معجمه الكبير والبيهقي في سننه، كلهم من طريق أبي شيبة إبراهيم بن عثمان جد الإمام أبي بكر بن أبي شيبة وهو ضعيف، قال البيهقي بعد ما أخرجه‏:‏ انفرد به أبو شيبة إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي وهو ضعيف انتهى‏.‏ وقال المزي في تهذيب الكمال‏:‏ قال أحمد ويحيى وأبو داود ضعيف، وقال يحيى أيضاً ليس بثقة، وقال النسائي والدولابي متروك الحديث وقال أبو حاتم ضعيف الحديث سكتوا عنه، وقال صالح ضعيف لا يكتب حديثه‏.‏ ثم قال المزي ومن مناكيره حديث‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في رمضان عشرين ركعة انتهى‏.‏ وهكذا في الميزان، وقال الحافظ في التقريب‏:‏ متروك الحديث انتهى كلام النيموي، وقال الشيخ ابن الهمام في فتح القدير بعد ذكر هذا الحديث‏:‏ ضعيف بأبي شيبة إبراهيم بن عثمان جد الإمام أبي بكر بن أبي شيبة، متفق على ضعفه مع مخالفته للصحيح انتهى، وقال العيني في عمدة القاري بعد ذكر هذا الحديث وأبو شيبة هو إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي قاضي واسط جد أبي بكر بن أبي شيبة كذبه شعبة وضعفه أحمد وابن معين والبخاري والنسائي وغيرهم‏.‏ وأورد له ابن عدي هذا الحديث في الكامل في مناكيره انتهى‏.‏

واستدل لهم أيضاً بما روى البيهقي في سننه عن السائب بن يزيد قال‏:‏ كنا نقوم في زمان عمر ابن الخطاب بعشرين ركعة والوتر وصحح إسناده السبكي في شرح المنهاج وعلي القاري في شرح الموطأ‏.‏

قلت‏:‏ في سنده أبو عثمان البصري واسمه عمرو بن عبد الله قال النيموي في تعليق آثار السنن‏:‏ لم أقف من ترجم له انتهى‏.‏ قلت لم أقف أنا أيضاً على ترجمته مع التفحص الكثير وأيضاً في سنده أبو طاهر للفقيه شيخ البيهقي ولم أقف على من وثقه‏.‏ فمن ادعى صحة هذا الأثر فعليه أن يثبت كون كل منهما ثقة قابلاً للاحتجاج‏.‏ فإن قلت قال التاج السبكي في الطبقات الكبرى في ترجمة أبي بكر الفقيه‏:‏ كان إمام المحدثين والفقهاء في زمانه وكان شيخاً أديباً عارفاً بالعربية، له يد طولى في معرفة الشروط، وصنف فيه كتاباً انتهى‏.‏ فهذا يدل على كونه ثقة قلت‏:‏ لا دلالة في هذا على كونه ثقة قابلاً للاحتجاج، نعم فيه دلالة على كونه جليل القدر في الحديث والفقه والعربية ومعرفة الشروط، ولكن لا يلزم من هذا كونه ثقة فالحاصل أن في صحة هذا الأثر نظراً وكلاماً، ومع هذا فهو معارض بما رواه سعيد بن منصور في سننه قال‏:‏ حدثنا عبد العزيز بن محمد حدثني محمد بن يوسف سمعت السائب بن يزيد يقول‏:‏ كنا نقوم في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإحدى عشرة ركعة‏.‏ قال الحافظ جلال الدين السيوطي في رسالته المصابيح في صلاة التراويح بعد ذكر هذا الأثر‏:‏ إسناده في غاية الصحة انتهى، وأيضاً هو معارض بما رواه محمد بن نصر في قيام الليل من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد قال‏:‏ كنا نصلي في زمن عمر رضي الله عنه في رمضان ثلاث عشرة ركعة، وهو أيضاً معارض بما رواه مالك في الموطأ، عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال‏:‏ أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، فأثر السائب بن يزيد الذي رواه البيهقي لا يصلح للاحتجاج‏.‏ فإن قلت روى البيهقي هذا الأثر بسند آخر بلفظ قال‏:‏ كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة وصحح إسناده النووي وغيره قلت في إسناده أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، ولم أقف على ترجمته، فمن يدعي صحة هذا الأثر فعليه أن يثبت كونه ثقة قابلاً للاحتجاج‏.‏ وأما قول النيموي‏:‏ هو من كبار المحدثين في زمانه، لا يسأل عن مثله، فما لا يلتفت إليه‏.‏ فإن مجرد كونه من كبار المحدثين لا يستلزم كونه ثقة‏.‏

تنبيهات‏:‏ الأول- قال النيموي في تعليق آثار السنن‏:‏ لا يخفي عليك أن ما رواه السائب من حديث عشرين ركعة قد ذكره بعض أهل العلم بلفظ‏:‏ إنهم كانوا يقومون على عهد عمر بعشرين ركعة، وعلى عهد عثمان وعلي مثله‏.‏ وعزاه إلى البيهقي، فقوله وعلي عهد عثمان وعلى مثله قول مدرج لا يوجد في تصانيف البيهقي انتهى كلام النيموي‏.‏

قلت‏:‏ الأمر كما قال النيموي‏.‏

الثاني- قد جمع البيهقي وغيره بين روايتي السائب المختلفتين المذكورتين بأنهم كانوا يقومون بإحدى عشرة ركعة، ثم كانوا يقومون بعشرين ويوترون بثلاث‏.‏

قلت فيه‏:‏ إنه لقائل أن يقول بأنهم كانوا يقومون أولاً بعشرين ركعة، ثم كانوا يقومون بإحدى عشرة ركعة‏.‏ وهذا هو الظاهر لأن هذا كان موافقاً لما هو الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذاك كان مخالفاً له فتفكر‏.‏

الثالث‏:‏ قد ادعى بعض الناس أنه قد وقع الإجماع على عشرين ركعة في عهد عمر رضي الله عنه واستقر الأمر على ذلك في الأمصار‏.‏

قلت‏:‏ دعوى الإجماع على عشرين ركعة واستقرار الأمر على ذلك في الأمصار باطلة جداً‏.‏ كيف وقد عرفت في كلام العيني رحمه الله أن في هذا أقوالاً كثيرة، وأن الإمام مالكاً رحمه الله قال‏:‏ وهذا العمل يعني القيام في رمضان بثمان وثلاثين ركعة والإيتار بركعة بالمدينة قبل الحرة منذ بضع ومائة سنة إلى اليوم انتهى‏.‏ واختار هذا الإمام إمام دار الهجرة لنفسه إحدى عشرة ركعة وكان الأسود بن يزيد النخعي الفقيه يصلي أربعين ركعة ويوتر بسبع وتذكر باقي الأقوال التي ذكرها العيني، فأين الإجماع على عشرين ركعة‏؟‏ وأين الاستقرار على ذلك في الأمصار‏؟‏ ‏(‏وقال أحمد روى في هذا ألوان‏)‏ أي أنواع من الروايات ‏(‏لم يقض‏)‏ أي لم يحكم أحمد ‏(‏فيه بشيء‏)‏ وفي كتاب قيام الليل لابن نصر المروزي قال إسحاق بن منصور قلت لأحمد بن حنبل‏:‏ كم من ركعة يصلي في قيام شهر رمضان‏؟‏ فقال قد قيل فيه ألوان نحواً من أربعين إنما هو تطوع قال إسحاق‏:‏ نختار أربعين ركعة وتكون القراءة أخف انتهى‏.‏ ‏(‏وقال إسحاق بل نختار إحدى وأربعين ركعة على ما روى عن بن أبي كعب‏)‏ لم أقف على من رواه وقد ثبت أن عمر رضي الله عنه أمر أبي بن كعب رضي الله عنه وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة وقد ثبت أيضاً أنه صلى بالنساء في رمضان بثمان ركعات وأوتر وذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقل شيئاً ‏(‏واختار ابن المبارك وأحمد وإسحاق الصلاة مع الإمام في شهر رمضان‏)‏ وفي كتاب قيام الليل‏:‏ وقيل لأحمد بن حنبل‏:‏ يعجبك أن يصلي الرجل مع الناس في رمضان أو وحده‏؟‏ قال يصلي مع الناس‏.‏ قال ويعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته‏"‏‏.‏ قال أحمد رحمه الله‏:‏ يقوم مع الناس حتى يوتر معهم ولا ينصرف حتى ينصرف الإمام قال أبو داود‏:‏ شهدته يعني أحمد رحمه الله شهر رمضان يوتر مع إمامه إلا ليلة لم أحضرها‏.‏ وقال إسحاق رحمه الله قلت لأحمد‏:‏ الصلاة في الجماعة أحب إليك أم يصلي وحده في قيام شهر رمضان‏؟‏ قال يعجبني أن يصلي في الجماعة يحيي السنة وقال إسحاق كما قال انتهى‏.‏ ‏(‏واختار الشافعي أن يصلي الرجل وحده إذا كان قارئاً‏)‏ أي حافظاً للقرآن كله أو بعضه‏.‏

548- باب ما جَاءَ في فَضْلِ مَنْ فَطّرَ صَائِما

800- حدثنا هَنّادٌ، حدثنا عَبْدُ الرّحِيمِ عنْ عَبْدِ المَلِكِ بنِ أبي سُلَيمَانَ عن عَطاءٍ عَن زَيْدِ بنِ خَالِدٍ الجُهَنِيّ قالَ‏:‏ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من فطّرَ صائِماً كانَ لهُ مثْلُ أجرِهِ غَيْرَ أنّهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أجْرِ الصّائِمِ شيئاً‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من فطر صائماً‏)‏ قال ابن الملك التفطير جعل أحد مفطراً، أي من أطعم صائماً انتهى‏.‏ قال القاري‏:‏ أي عند إفطاره ‏(‏كان له‏)‏ أي لمن فطر ‏(‏مثل أجره‏)‏ أي الصائم‏:‏ وقد جاء في حديث سلمان الفارسي‏.‏ من فطر فيه صائماً كان له مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار‏.‏ وكان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجره شيء‏:‏ قلنا يا رسول الله ليس كلنا نجد ما نفطر به الصائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماً على مذقة لبن أو تمرة أو شربة من ماء، ومن أشبع صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة‏"‏ الحديث، رواه البيهقي‏.‏ قال ميرك‏:‏ ورواه ابن خزيمة في صحيحه وقال‏:‏ إن صح الخبر ورواه من طريقه البيهقي، ورواه أبو الشيخ وابن حبان في الثواب باختصار عنهما، وفي رواية لأبي الشيخ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من فطر صائماً في شهر رمضان من كسب حلال صلت عليه الملائكة ليالي رمضان كلها وصافحه جبريل ليلة القدر ومن صافحه جبريل عليه السلام يرق قلبه وتكثر دموعه‏"‏، قال فقلت يا رسول الله من لم يكن عنده‏؟‏ قال‏:‏ فقبضة من طعام قلت‏:‏ أفرأيت إن لم يكن عنده، قال‏:‏ ‏"‏فشربه من ماء‏"‏، قال المنذري وفي أسانيدهم علي بن زيد بن جدعان ورواه ابن خزيمة والبيهقي أيضاً باختصار عنه من حديث أبي هريرة، وفي إسناده كثير بن زيد كذا في المرقاة‏.‏ قلت قال الحافظ في التقريب‏:‏ علي بن زيد بن جدعان ورواه ابن خزيمة والبيهقي أيضاً باختصار عنه من حديث أبي هريرة، وفي إسناده كثير بن زيد كذا في المرقاة‏.‏ قلت قال الحافظ في التقريب‏:‏ علي بن زيد بن جدعان ضعيف وقال في تهذيب التهذيب قال الترمذي صدوق إلا أنه ربما رفع الشيء الذي يوقفه غيره انتهى‏.‏ فعلي بن زيد هذا ضعيف عند الأكثر صدوق عند الترمذي‏.‏

قوله‏:‏ هذا حديث حسن صحيح وأخرجه النسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، ولفظ ابن خزيمة والنسائي‏:‏ من جهز غازياً أو جهز حاجاً أو خلفه في أهله أو أفطر صائماً كان له مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم‏.‏ كذا في الترغيب‏.‏

549- باب التّرْغِيبِ في قِيَامِ رَمَضانَ وما جَاءَ فِيهِ مِنْ الفَضْل

801- حدثنا عبدُ بنُ حُمَيْدٍ، حدثنا عبدُ الرّزّاقِ أخبرنا مَعْمرٌ عنْ الزّهْرِيّ عنْ أبي سَلَمَةَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ‏:‏ كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُرَغّبُ في قيَامِ رَمَضانَ مِنْ غَيْرِ أنْ يَأْمُرَهُمْ بِعزِيمةٍ ويقول‏:‏ ‏"‏مَنْ قامَ رَمَضانَ إيماناً واحْتِسَاباً غُفِرَ لهُ ما تَقدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ‏"‏ فَتُوِفّيَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والأمْرُ علَى ذلِكَ ثُمّ كانَ الأمرُ كَذَلِكَ في خِلافَةِ أبي بَكْرٍ وصَدْراً مِنْ خِلافَةِ عُمَر علَى ذلِكَ‏.‏

وفي البابِ عنْ عائِشَةَ‏.‏ وقَدْ رُوِيَ هذا الحديثُ أيضاً عنْ الزّهْرِيّ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يرغب‏)‏ من الترغيب ‏(‏من غير أن يأمرهم بعزيمة‏)‏ أي بفريضة قاله في مجمع البحار وقال القاري‏:‏ أي بعزم وبث وقطع، يعني بفريضة‏.‏ وقال الطيبي‏:‏ العزيمة والعزم عقد القلب على إمضاء الأمر ‏(‏من قام رمضان إيماناً‏)‏ أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه ‏(‏واحتساباً‏)‏ أي طلباً للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه ‏(‏غفر له‏)‏ ظاهره يتناول الصغائر والكبائر وبه جزم ابن المنذر‏.‏ وقال النووي‏:‏ المعروف أنه يختص بالصغائر، وبه جزم إمام الحرمين وعزاه عياض لأهل السنة‏.‏ قال بعضهم‏:‏ ويجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة‏.‏ كذا في الفتح ‏(‏ما تقدم من ذنبه‏)‏ زاد أحمد وغيره‏:‏ وما تأخر‏.‏

قال الحافظ‏:‏ قد استشكلت هذه الزيادة من حيث أن المغفرة تستدعي سبق شيء يغفر، والمتأخر من الذنوب لم يأت فكيف يغفر‏؟‏ والجواب أنه كناية عن حفظهم من الكبائر فلا تقع منهم كبيرة بعد ذلك وقيل‏:‏ أن معناه أن ذنوبهم تقع مغفورة انتهى‏.‏ ‏(‏والأمر على ذلك‏)‏ أي على ترك الجماعة في التراويح وصدراً من خلافة عمر بن الخطاب، أي في أول خلافته وصدر الشيء ووجهه أوله، ثم جمع عمر رضي الله عنه الناس على قاريء واحد ففي صحيح البخاري عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمَن بن عبد القاريء‏:‏ أنه قال خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر‏:‏ إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم‏.‏ قال عمر رضي الله عنه‏:‏ نعم البدعة هذه، والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون‏.‏ يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن عائشة‏)‏ أخرجه الشيخان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث صحيح‏)‏ وأخرجه الشيخان‏.‏

9- كتاب الحج

أصل الحج في اللغة القصد وقال الخليل‏:‏ كثرة القصد إلى معظم، وفي الشرع القصد إلى البيت الحرام بأعمال مخصوصة، وهو بفتح المهملة وبكسرها لغتان، نقل، الطبري أن الكسر لغة أهل نجد والفتح لغيرهم، ونقل عن حسين الجعفي أن الفتح الاسم والكسر المصدر، وعن غيره عكسه‏.‏ ووجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة وأجمعوا على أنه لا يتكرر إلا لعارض كالنذر، واختلف، هل هو على الفور أو التراخي، وهو مشهور وفي وقت ابتداء فرضه اختلاف فقيل قبل الهجرة وهو شاذ وقيل بعدها ثم اختلف في سنته، فالجمهور على أنها سنة ست‏.‏ لأنها نزل فيها قوله تعالى ‏(‏وأتموا الحج والعمرة لله‏)‏ وهذا ينبئ على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض ويؤيده قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي بلفظ‏:‏ وأقيموا أخرجه الطبري بأسانيد صحيحة عنهم‏.‏ وقيل المراد بالاتمام الاكمال بعد الشروع‏.‏ وهذا يقتضي تقدم فرضه قبل ذلك وقد وقع في قصة ضمام ذكر الأمر بالحج وكان قدومه على ما ذكر الواقدي سنة خمس‏.‏ وهذا يدل أن ثبت على تقدمه على سنة خمس أو وقوعه فيها‏.‏ قاله الحافظ في فتح الباري‏.‏

550- باب ما جَاءَ في حُرْمَةِ مَكّة

802- حدثنا قُتَيْبةُ بنُ سَعدٍ، حدثنا اللّيثُ بنُ سَعدٍ، عن سَعِيدِ بنِ أبي سَعيدٍ المَقْبُرِيّ، عنْ أبي شُرَيْحٍ العَدَويّ أنهُ قالَ لعَمْروِ بنِ سَعِيدٍ وهو يَبْعَثُ البُعُوثَ إلى مَكةَ‏:‏ ‏"‏إِئذَنْ لي أيهَا الأميرُ أُحَدّثْكَ قَوْلاً قامَ بهِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغَدَ مِنْ يَوْمِ الفَتْحِ سَمِعَتْهُ أذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلّمَ بهِ، أنّه حَمِدَ الله وأثنَى عليهِ ثُمّ قالَ‏:‏ إنّ مَكةَ حَرّمَهَا الله ولم يُحَرّمْهَا النّاسُ ولا يَحِلّ لامرئ يُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الاَخِرِ أنْ يَسْفِكَ فيهَا دماً أَو يَعْضِدَ بهَا شَجَرَةً فإِنْ أَحَدٌ تَرَخّصَ بقِتَالِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فِيهَا فَقُولُوا لهُ‏:‏ إنّ الله أذِنَ لرسولهِ صلى الله عليه وسلم ولَمْ يَأْذَنْ لَكَ وإنما أَذِنَ لي فيه سَاعةً مِنْ النّهَارٍ، وقَدْ عادتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بالأمْسِ ولُيبَلّغْ الشّاهدُ الغَائبَ‏"‏ فَقِيلَ لأبي شُرَيحٍ‏:‏ ما قالَ لكَ عَمْروُ‏؟‏ قالَ أنَا أَعْلَمُ مِنْكَ بِذَلِكَ يا أبا شُرَيحٍ، إنّ الحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِياً ولا فَارّاً بِدَمٍ ولا فَارّاً بخَرْبَةٍ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ ويُرْوَى ‏(‏ولا فارّاً بِخَزْيةٍ‏)‏ قال‏:‏ وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ وابنِ عبّاسٍ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ حديثُ أبي شُرَيحٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ وأبو شُرَيْحٍ الخُزَاعِيّ اسمُهُ خُوَيلِدُ بنُ عَمْروٍ وهو العَدَوِيّ وهو الكَعْبِيّ ومَعْنَى قوله‏:‏ ‏(‏ولا فارّاً بِخَرْبَةٍ‏)‏ يَعْنِي الجِنَايَة، يقولُ منْ جَنَى جِنَايَة أوْ أَصَابَ دَماً ثم لجأ إِلى الحَرَمِ فإِنّهُ يُقَامُ عَليهِ الحَدّ‏.‏

قوله ‏(‏العدوي‏)‏ بفتح العين والدال وأبو شريح العدوي هذا هو الخزاعي الصحابي المشهور رضي الله عنه ‏(‏أنه قال لعمرو بن سعيد‏)‏ هو ابن العاصي بن سعيد بن العاصي بن أمية القرشي الأموي يعرف بالأشدق وليست له صحبة ولا كان من التابعين بإحسان ‏(‏وهو‏)‏ أي عمرو ‏(‏يبعث البعوث‏)‏ أي يرسل الجيوش والبعث جماعة من الجند يرسلها الأمير إلى قتال فرقة وفتح بلاد ‏(‏إلى مكة‏)‏ أي لقتال عبد الله بن الزبير لكونه امتنع من مبايعة يزيد بن معاوية واعتصم بالحرم وكان عمرو والي يزيد على المدينة‏.‏ والقصة مشهورة وملخصها أن معاوية عهد بالخلافة بعده ليزيد بن معاوية فبايعه الناس إلا الحسين بن علي وابن الزبير فأما ابن أبي بكر فمات قبل موت معاوية وأما ابن عمر فبايع ليزيد عقب موت أبيه، وأما الحسين بن علي فسار إلى الكوفة لاستدعائهم اياه ليبايعوه فكان ذلك سبب قتله، وأما ابن الزبير فإعتصم ويسمى عائذ البيت وغلب على أمر مكة، فكان يزيد بن معاوية أمر أمراءه على المدينة أن يجهزوا إليه الجيوش، فكان آخر ذلك أن أهل المدينة على خلع يزيد من الخلافة ‏(‏ايذن‏)‏ بفتح الذال وتبدل همزته الثانية بالياء عند الابتداء وهو أمر من الإذن بمعنى الإجازة ‏(‏أحدثك‏)‏ بالجزم وقيل بالرفع ‏(‏قولاً‏)‏ أي حديثاً ‏(‏قام به‏)‏ صفة للقول، أي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك القول خطيباً والمعنى حدث به ‏(‏الغد‏)‏ بالنصب أي اليوم الثاني من يوم الفتح ‏(‏سمعته أذناي‏)‏ بضم الذال وسكونها فيه اشارة إلى بيان حفظه له من جميع الوجوه أي حملته عنه بغير واسطة وذكر الأذنين للتأكيد ‏(‏ووعاه قلبي‏)‏ أي حفظه تحقيق لفهمه وتثبته ‏(‏وأبصرته عيناي‏)‏ يعني أن سماعه منه ليس اعتماداً على الصوت فقط بل مع المشاهدة ‏(‏أنه حمد الله الخ‏)‏ هو بيان لقوله تكلم ‏(‏إن مكة حرمها الله تعالى‏)‏ أي جعلها محرمة معظمة‏.‏

قال الحافظ‏:‏ أي حكم بتحريمها وقضاه ولا معارضة بين هذا وبين قوله في حديث أنس‏:‏ أن إبراهيم حرم مكة لأن المعنى أن إبراهيم حرم مكة بأمر الله تعالى لا باجتهاده انتهى ‏(‏ولم يحرمها الناس‏)‏ أي من عندهم، أي أن تحريمها كان بوحي من الله لا باصلاح الناس ‏(‏أن يسفك‏)‏ بكسر الفاء وحكى ضمها وهو صب الدم والمراد به القتل ‏(‏بها‏)‏ أي بمكة ‏(‏أو يعضد‏)‏ بكسر الضاد المعجمة أي يقطع بالمعضد وهو آلة كالفاس ‏(‏فإن‏)‏ شرطية ‏(‏أحد‏)‏ فاعل فعل محذوف وجوباً يفسره ‏(‏ترخص‏)‏ نحو قوله تعالى ‏"‏وان أحد من المشركين استجارك‏"‏ ‏(‏ولم يأذن لك‏)‏ وبه تم جواب المترخص ثم ابتدأ وعطف على الشرط فقال ‏(‏وإنما أذن‏)‏ أي الله ‏(‏ساعة‏)‏ أي مقدار من الزمان والمراد به يوم الفتح‏.‏ وفي مسند أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن ذلك كان من طلوع الشمس إلى العصر، والمأذون فيه القتال لا الشجر ‏(‏وقد عادت‏)‏ أي رجعت ‏(‏حرمتها اليوم‏)‏ أي يوم الخطبة المذكورة ‏(‏كحرمتها بالأمس‏)‏ أي ما عدا تلك الساعة ويمكن أن يراد بالأمس الزمن الماضي ‏(‏ما قال لك عمرو بن سعيد‏)‏ أي في جوابك ‏(‏قال‏)‏ أي عمرو ‏(‏بذلك‏)‏ أي الحديث أو الحكم ‏(‏يا أبا شريح‏)‏ يحتمل أن يكون النداء تتمة لما قبله أو تمهيداً لما بعده ‏(‏إن الحرم‏)‏ وفي رواية للبخاري أن مكة ‏(‏لا يعيذ‏)‏ من الاعاذة أي لا يجيز ولا يعصم ‏(‏عاصياً‏)‏ أي أن إقامة الحد عليه ‏(‏ولا فاراً بدم‏)‏ أي هارباً عليه دم يعتصم بمكة كيلا يقتص منه ‏(‏ولا فاراً بخربة‏)‏ قال الحافظ بفتح المعجمة وإسكان الراء ثم موحدة يعني السرقة كذا ثبت تفسيرها في رواية المستملي‏.‏ قال ابن بطال‏:‏ الخربة بالضم الفساد وبالفتح السرقة، وقد تصرف عمرو في الجواب وأتى بكلام ظاهره حق لكن أراد به الباطل‏.‏ فإن الصحابي أنكر عليه نصب الحرب على مكة فأجابه بأنها لا تمنع من اقامة القصاص وهو صحيح‏.‏ إلا أن ابن الزبير لم يرتكب أمراً يجب عليه فيه شيء من ذلك انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويروي بخزية‏)‏ قال ابن العربي في بعض الروايات بكسر الخاء وزاي ساكنة بعدها مثناة تحتية أي بشيء يخزي منه أي يستحي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن أبي هريرة‏)‏ أخرجه الجماعة ‏(‏وابن عباس‏)‏ أخرجه البخاري ومسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حديث أبي شريح حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه البخاري ومسلم أيضاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يقول‏)‏ أي عمرو بن سعيد يعني يريد عمرو بقوله ولا فاراً بخربة أي من جنى جناية أو أصاب دماً ثم جاء إلى الحرم فإنه يقام عليه الحد وفيه اختلاف بين العلماء وقد بينه الحافظ في الفتح بالبسط والتفصيل من شاء الإطلاع عليه فليرجع إليه‏.‏

551- باب ما جَاءَ في ثَوابِ الحَجّ والعُمرة

803- حدثنا قُتَيْبةُ و أبو سَعِيدٍ الأشَجّ قالا‏:‏ أخبرنا أبو خَالِدٍ الأحْمَرُ عنْ عَمْروِ بنِ قَيْسٍ عنْ عَاصِمٍ عنْ شَقيقٍ عنْ عبدِ الله بن مسعود قالَ‏:‏ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تابِعُوا بَيْنَ الحَجّ والعُمْرَةِ فإِنهُما يَنْفِيَانِ الفَقْرَ والذنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيْرُ خَبَثَ الحَدِيدِ والذهَبِ والفِضةِ ولَيْسَ للحَجّةِ المبرُورَةِ ثَوَابٌ إلاّ الجَنّةَ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ وفي البابِ عنْ عُمَرَ وعامِرِ بنِ رَبِيعَةَ وأبي هُرَيْرَةَ وعبدِ الله بنِ حُبْشيّ وأمّ سَلَمَةَ وجَابِرٍ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ حديثُ ابنِ مَسْعُودٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِنْ حديثِ عبدِ الله بنِ مسعودٍ‏.‏

804- حدثنا ابنُ أبي عُمَر، حدثنا سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عنْ منصُورٍ عنْ أبي حَازِمٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ‏:‏ قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏مَنْ حَجّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ غُفِرَ لهُ ما تقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ حديثُ أبي هُرَيْرَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ وأبو حَازِمٍ كُوفِيّ وهُو الأشْجَعِيّ واسْمُهُ سَلْمَانُ مَوْلَى عَزّةَ الأشْجَعِيّةِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الله‏)‏ أي ابن مسعود ‏(‏تابعوا بين الحج والعمرة‏)‏ أي قاربوا بينهما وأما بالقرآن أو بفعل أحدهما بالاَخر‏.‏ قال الطيبي رحمه الله‏:‏ أي إذا اعتمرتم فحجوا وإذا حججتم فاعتمروا ‏(‏فإنهما‏)‏ أي الحج والإعتمار ‏(‏ينفيان الفقر‏)‏ أي يزيلانه وهو يحتمل الفقر الظاهر بحصول غنى اليد، والفقر الباطن بحصول غنى القلب ‏(‏والذنوب‏)‏ أي يمحوانها قيل المراد بها الصغائر ولكن يأباه قوله ‏(‏كما ينفي الكير‏)‏ وهو ما ينفخ فيه الحداد لاشتعال النار للتصفية ‏(‏خبث الحديد والذهب والفضة‏)‏ أي وسخها ‏(‏وليس للحجة المبرورة‏)‏ قيل المراد بها الحج المقبول وقيل الذي لا يخالطه شيء من الإثم ورجحه النووي، وقال القرطبي الأقوال في تفسيره متقاربة المعنى‏.‏ وحاصلها أنه الحج الذي وفيت أحكامه فوقع مواقعاً لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل‏.‏ كذا قال السيوطي في التوشيح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن عمر‏)‏ أخرجه ابن أبي شيبة ومسدد كذا في شرح سراج أحمد انتهى قلت‏:‏ وأخرجه أحمد وابن ماجه بمثل حديث ابن مسعود‏.‏ المكذور لكن إلى قوله خبث الحديد ‏(‏وعامر بن ربيعة‏)‏ لم أقف على حديثه ‏(‏وأبي هريرة‏)‏ أخرجه البخاري ومسلم بلفظ‏:‏ من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ‏(‏وعبد الله بن حبشي‏)‏ بضم الحاء المهملة وسكون الموحدة وكسر الشين المعجمة ولم أقف على حديثه ‏(‏وأم سلمة‏)‏ أخرجه أبو داود وابن ماجه ‏(‏وجابر‏)‏ أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط بإسناد حسن مرفوعاً‏:‏ الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة قيل وما بره قال‏:‏ إطعام الطعام وطيب الكلام‏.‏ ورواه أيضاً ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي والحاكم مختصراً وقال‏:‏ صحيح الإسناد وفي الباب أحاديث كثيرة ذكرها المنذري في الترغيب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح الخ‏)‏ وأخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من حج‏)‏ وفي رواية للبخاري من حج هذا البيت قال الحافظ وهو يشمل الحج والعمرة وقد أخرجه الدارقطني بلفظ‏:‏ من حج أو اعتمر وفي إسناده ضعف ‏(‏فلم يرفث‏)‏ بضم الفاء قال الحافظ‏:‏ فاء الرفث مثلثة في الماضي والمضارع والأفصح، الفتح في الماضي والضم في المستقبل قال الرفث الجماع ويطلق على التعريض به وعلى الفحش في القول وقال الأزهري‏:‏ الرفث إسم جامع لكل ما يريده الرجل من المرأة وكان ابن عمر يخصه بما خوطب به النساء‏.‏ وقال عياض‏:‏ هذا من قول الله تعالى ‏{‏فلا رفث ولا فسوق‏}‏ والجمهور على أن المراد به في الاَية الجماع انتهى‏.‏ قال الحافظ والذي يظهر أن المراد به في الحديث ما هو أعم من ذلك وإليه نحا القرطبي، وهو المراد بقوله في الصيام‏:‏ فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث انتهى ‏(‏ولم يفسق‏)‏ أي لم يأت بسيئة ولا معصية ‏(‏غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏ وفي رواية الصحيحين رجع كيوم ولدته أمه‏.‏ قال الحافظ في الفتح أي بغير ذنب، وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات وهو من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس المصرح بذلك وله شاهد من حديث ابن عمر في تفسير الطبري انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه الشيخان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأبو حازم كوفي وهو الأشجعي وإسمه سلمان الخ‏)‏ وأما أبو حازم سلمة بن دينار صاحب سهل بن سعد فلم يسمع من أبي هريرة قاله الحافظ‏.‏

552- باب ما جَاءَ مِنَ التّغْلِيظِ في تَرْكِ الحَج

805- حدثنا محمدُ بنُ يَحْيى القُطَعِيّ البَصْرِيّ، حدثنا مسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ، حدثنا هِلاَلُ بنُ عبدِالله مَوْلَى رَبِيعَةَ بنِ عَمْروِ بنِ مسْلِمٍ البَاهِلي، حدثنا أبو إسحاقَ الهَمْدَانِيّ عنْ الحَارِثِ عنْ عَلِي قالَ‏:‏ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَنْ مَلَكَ زَاداً وَرَاحِلَةً تُبَلّغُه إِلى بَيْتِ الله وَلَمْ يَحجّ فلاَ عَليْهِ أَنْ يمُوت يَهُودِيّاً أو نَصْرَانِيّاً وذَلِكَ أنّ الله يقُولُ في كِتَابِهِ‏:‏ ‏{‏ولله عَلَى النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاَ‏}‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ هَذا الوَجْهِ وَفي إسْنَادِهِ مقَالٌ وِهلالُ بنُ عبدِ الله مَجْهُولٌ والحَارِثُ يُضَعّفُ في الحَديثِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏محمد بن يحيى القطعي‏)‏ بضم القاف وفتح الطاء المهلمة البصري صدوق من العاشرة ‏(‏أخبرنا هلال بن عبد الله‏)‏ قال الحافظ في التقريب هلال بن عبد الله الباهلي مولاهم أبو هاشم البصري متروك من السابعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من ملك زاداً وراحلة‏)‏ وأي ولو بالإجازة ‏(‏تبلغه‏)‏ بتشديد اللام وتخفيفها أي توصله ‏(‏فلا عليه‏)‏ أي فلا بأس ولا مبالاة ولا تفاوت عليه ‏(‏أن يموت‏)‏ أي في أن يموت أو بين أن يموت ‏(‏يهودياً أو نصرانياً‏)‏ في الكفر إن اعتقد عدم الوجوب وفي العصيان إن اعتقد الوجوب، وقيل هذا من باب التغليظ الشديد وللمبالغة في الوعيد، والأظهر أن وجه التخصيص بهما كونهما من أهل الكتاب غير عاملين به فشبه بهما من ترك الحج حيث لم يعمل بكتاب الله تعالى ونبذه وراء ظهره كأنه لا يعلمه‏.‏ قال الطيبي‏:‏ والمعنى أن وفاته بهذه الحالة ووفاته على اليهودية والنصرانية سواء‏.‏ والمقصود التغليظ في الوعيد كما في قوله تعالى ‏{‏ومن كفر‏}‏ انتهى ‏(‏وذلك‏)‏ أي ما ذكر من شرط الزاد والراحلة والوعيد على ترك هذه العبادة ‏(‏ولله على الناس‏)‏ أي واجب عليهم ‏(‏حج البيت‏)‏ بفتح الحاء، وكسرها ويبدل من الناس ‏(‏من استطاع إليه سبيلاً‏)‏ أي طريقاً وفسره صلى الله عليه وسلم بالزاد والراحلة‏:‏ رواه الحاكم وغيره كذا في الجلالين ويأتي الكلام في ذلك في الباب الأتي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي إسناده مقال وهلال بن عبد الله مجهول والحارث يضعف في الحديث‏)‏ أما هلال بن عبد الله فقال الذهبي في الميزان في ترجمته‏:‏ قال البخاري منكر الحديث وقال الترمذي مجهول وقال العقيلي لا يتابع على حديثه ثم ذكر الذهبي هذا الحديث من طريقه ثم قال ويروى عن علي قوله وقد جاء بإسناد آخر أصلح من هذا انتهى كلام الذهبي وأما الحارث فهو الحارث بن عبد الله الهمداني الأعور كذبه الشعبي وغيره‏.‏

إعلم أن لحديث الباب طرقاً منها هذه التي ذكرها الترمذي ومنها الطريق التي أخرجها سعيد بن منصور في السنن، وأحمد وأبو يعلى والبيهقي عن شريك عن ليث بن أبي سليم عن ابن سابط عن أبي أمامة بلفظ‏:‏ من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائز فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً‏.‏ وليث ضعيف وشريك سيء الحفظ وقد خالف سفيان الثوري فأرسله‏.‏ رواه أحمد في كتاب الإيمان له عن وكيع عن سفيان عن ليث عن ابن سابط‏.‏ ومنها الطريق التي أخرجها ابن عدي عن عبد الرحمَن القطامي عن أبي المهزم وهما متروكان عن أبي هريرة، قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذه الطرق مع ألفاظها‏:‏ وله طريق صحيحة إلا أنها موقوفة رواها سعيد بن منصور والبيهقي عن عمر ابن الخطاب قال‏:‏ لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى أهل الأمصار فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليه الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين، لفظ سعيد ولفظ البيهقي أن عمر قال‏:‏ ليمت يهودياً أو نصرانياً- يقولها ثلاث مرات- رجل مات ولم يحج وعنده لذلك سعة وخليت سبيله، قلت وإذا انضم هذا الموقوف إلى مرسل بن سابط، علم أن لهذا الحديث أصلاً، ومحمله على من استحل الترك‏.‏ وتبين بذلك خطأ من ادعى أنه موضوع انتهى كلام الحافظ‏.‏

553- باب ما جَاءَ في إيجابِ الحَجّ بالزّادِ والرّاحِلَة

806- حدثنا يُوسُفُ بنُ عِيسى، حدثنا وكيعٌ حدثنا إبراهيمُ بنُ يَزيدَ عن مُحمدِ بنِ عَبّادِ بنِ جَعْفَرٍ عن ابنِ عُمَر قال‏:‏ جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالَ‏:‏ ‏"‏يا رسولَ الله ما يُوجِبُ الحَجّ‏؟‏ قال الزّادُ والرّاحِلَةُ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ والعملُ عليهِ عِنْدَ أهلِ العلمِ‏:‏ أَنّ الرّجُلَ إذَا مَلَكَ زَاداً ورَاحِلَةً وَجَبَ عليهِ الحَجّ‏.‏ وإبراهيمُ هو ابنُ يَزيدَ الخَوْزِيّ المَكّيّ وقد تَكلّمَ فيهِ بَعْضُ أهلِ العلمِ مِنْ قَبلِ حِفْظِهِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما يوجب الحج‏)‏ أي ما شرط وجوب الحج ‏(‏قال الزاد والراحلة‏)‏ يعني الحج واجب على من وجدهما ذهاباً وإياباً‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن‏)‏ الظاهر أن الترمذي حسنه لشواهده، وإلا ففي سند هذا الحديث إبراهيم بن يزيد الخوزي وهو متروك الحديث كما صرح به الحافظ في التقريب‏.‏ وقال في التلخيص‏:‏ روى الدارقطني والحاكم والبيهقي من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى ‏{‏ولله على الناس حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا‏}‏ قال قيل‏:‏ يا رسول الله ما السبيل‏؟‏ قال ‏"‏الزاد والراحلة‏"‏‏.‏ قال البيهقي‏:‏ الصواب عن قتادة عن الحسن مرسلاً، يعني الذي أخرجه الدارقطني وسنده صحيح إلى الحسن ولا أرى الموصول إلا وهماً‏.‏ وقد رواه الحاكم من حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس أيضاً إلا أن الراوي عن حماد هو أبو قتادة عبد الله بن واقد الحراني، وقد قال أبو حاتم هو منكر الحديث ورواه الشافعي والترمذي وابن ماجه والدارقطني من حديث ابن عمر وقال الترمذي حسن، وهو من رواية إبراهيم بن يزيد الخوزي وقد قال فيه أحمد والنسائي متروك الحديث‏.‏ ورواه ابن ماجه والدارقطني من حديث ابن عباس وسنده ضعيف أيضاً ورواه ابن المنذر من قول ابن عباس، ورواه الدارقطني من حديث جابر ومن حديث علي بن أبي طالب، ومن حديث ابن مسعود، ومن حديث عائشة ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وطرقها كلها ضعيفة، فقد قال عبد الحق‏:‏ إن طرقه كلها ضعيفة وقال أبو بكر ابن المنذر‏:‏ لا يثبت الحديث في ذلك مسنداً‏.‏ والصحيح من الروايات رواية الحسن المرسلة انتهى‏.‏

554- باب ما جَاءَكُمْ فُرِضَ الحَجّ‏؟‏

807- حدثنا أَبو سَعيدٍ الأشَجّ، حدثنا مَنْصُورُ بنُ وَرْدَان عن عَليّ بنِ عَبْدِ الأعْلَى عن أبيهِ عن أبي البَخْتَرِيّ عن عليّ بنِ أبي طَالِبٍ قالَ لَمّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏ولله على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنْ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبيلاً‏}‏ قالُوا‏:‏ يا رسولَ الله أَفِي كلّ عامٍ‏؟‏ فَسَكَتَ فَقالوا‏:‏ يا رسولَ الله في كلّ عَامٍ‏؟‏ قالَ لا‏.‏ وَلَوْ قُلْتُ نَعمْ لَوَجَبَتْ فأَنْزَلَ الله ‏{‏يا أَيُهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُوءْكُمْ‏}‏‏.‏

قال‏:‏ وفي البابِ عنِ ابنِ عبّاسٍ وأبي هُريرةَ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ حديثُ علي حديثٌ حسنٌ غريبٌ واسْمُ أبي البَخْتَرِيّ سعيدُ بنُ أَبي عِمْرَانَ وهُوَ سَعيدُ بنُ فَيْرُوزَ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي البختري‏)‏ بفتح الموحدة وسكون الخاء المعجمة وفتح المثناة الفوقية وكسر الراء وشدة ياء تحتانية، وهو سعيد بن فيروز بن أبي عمران الطائي مولاه ثم الكوفي ثقة ثبت كثير الإرسال من الثالثة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال لا‏)‏ فيه دليل على أن الحج لا يجب إلا مرة واحدة وهو مجمع عليه كما قال النووي والحافظ وغيرهما وكذلك العمرة عند من قال بوجوبها، لا تجب إلا مرة إلا أن ينذر بالحج أو العمرة وجب الوفاء بالنذر بشرطه ‏(‏ولو قلت نعم لوجبت‏)‏ استدل به على أن النبي صلى الله عليه وسلم مفوض في شرع الأحكام وفي ذلك خلاف مبسوط في الأصول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن ابن عباس‏)‏ قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏يا أيها الناس كتب عليكم الحج‏"‏ فقام الأقرع بن حابس فقال‏:‏ أفي كل عام يا رسول الله‏؟‏ فقال ‏"‏لو قلتها لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها، الحج مرة فمن زاد فهو تطوع‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي والحاكم وقال صحيح على شرطهما ‏(‏وأبي هريرة‏)‏ أخرجه أحمد ومسلم والنسائي، وفي الباب أيضاً عن أنس أخرجه ابن ماجه قال الحافظ في التلخيص‏:‏ رجاله ثقات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حديث علي حديث حسن غريب‏)‏ قال الحافظ في التلخيص‏:‏ سنده منقطع انتهى‏.‏ قلت قال الخزرجي في الخلاصة‏:‏ سعيد بن فيروز أبو البختري الكوفي تابعي جليل عن عمر وعلي مرسلاً انتهى‏.‏ وقال ابن أبي حاتم في كتاب المراسيل‏:‏ قال علي بن المديني‏:‏ أبو البختري لم يلق علياً قال أبو زرعة‏:‏ أبو البختري لم يسمع من علي شيئاً انتهى‏.‏

555- باب ما جَاءَكمْ حَجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم‏؟‏

808- حدثنا عَبدُ الله بنُ أَبي زِيادٍ الكوفي، حدثنا زَيْدُ بنُ حُبَابٍ عن سُفْيَانَ عن جَعْفَرِ بنِ مُحمدٍ عن أبيهِ عن جَابِرِ بنِ عبدِ الله ‏"‏أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حَجّ ثَلاثَ حِجَجٍ‏:‏ حَجّتَيْنِ قَبْلَ أنْ يُهَاجِرَ وحَجّةً بَعْدَ مَا هاجَرَ ومَعهَا عُمْرَةٌ فَسَاقَ ثلاثاً وسِتّينَ بَدَنَةً وجاءَ عليّ مِنَ اليَمَنِ بِبَقِيّتِها فيها جَمَلٌ لأبي جَهْلٍ في أنْفِه بُرَةٌ منْ فِضّةٍ فَنَحَرَها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ كلّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ فَطُبِخَتْ وشَرِبَ منْ مَرَقِهَا‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ غريبٌ مِنْ حديثِ سُفْيانَ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَديثِ زَيْدِ بنِ حُبابٍ ورَأيْتُ عَبْدَ الله بنَ عبدِ الرحمَنِ رَوَى هذا الحَديثَ في كُتُبِهِ عن عبْدِ الله بنِ أبي زِيادٍ، قال‏:‏ وسأَلْتُ مُحمداً عن هذا فَلَمْ يَعْرِفْهُ مِنْ حَديثِ الثّوْرِيّ عن جَعْفَرٍ عن أبيهِ عن جابِرٍ عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورَأَيْتُهُ لم يَعُد هذا الحَديثَ مَحْفُوظاً وقال، إِنّمَا يُرْوَى عنِ الثّوْرِيّ عن أبي إسْحاقَ عن مُجَاهِدٍ مرسلاً‏.‏

809- حدثنا إسحاقُ بنُ مَنْصُورٍ حدثنا حَبّانُ بنُ هِلاَلٍ حدثنا هَمّامٌ حدثنا قَتَادَةُ قال‏:‏ قُلْتُ لأنَسِ بنِ مالِكٍ‏:‏ ‏"‏كَمْ حَجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالَ حَجّة وَاحِدَة‏.‏ واعْتَمرَ أرْبَعَ عُمَرٍ‏:‏ عُمْرَة في ذِي القَعْدَةِ وعُمْرَة الحُدَيْبِيّةِ وعُمْرَة معَ حَجّتهِ وعُمْرة الجِعْرَانَةِ إذْ قَسَمَ غنِيمَةَ حُنَيْنٍ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وحَبّانُ بنُ هِلاَلٍ هو أبو حَبيب البَصْرِيّ جَليلٌ ثِقَةٌ وثّقَهٌ يَحْيى بنُ سعيدٍ القَطّانُ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فساق ثلاثاً وستين بدنة‏)‏ بفتحتين وهي الإبل والبقر عند الحنفية، والإبل فقط عند الشافعي، وسميت بها لكبر بدنها، والجمع بدن بضم فسكون‏.‏ ‏(‏وجاء علي من اليمن ببقيتها‏)‏ أي ببقية البدن التي ذبحها النبي صلى الله عليه وسلم أو ببقية المائة، وإرجاع الضمير إلى المائة مع عدم ذكرها لشهرتها قال النووي‏:‏ ما أهدي به علي رضي الله عنه اشتراه لا أنه من السعاية على الصدقة ‏(‏في أنفه برة‏)‏ بضم الباء وتخفيف الراء الحلقة تكون في أنف البعير‏.‏ ‏(‏من فضة‏)‏ وفي رواية البيهقي من ذهب‏.‏ قاله السيوطي ببضعة بفتح الموحدة وقد تكسر القطعة من اللحم ‏(‏فشرب من مرقها‏)‏ بفتح الميم والراء النكتة في شربه صلى الله عليه وسلم من مرقها دون الأكل من اللحم لما في المراق من الجمع لما خرج من البضعات كلها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ورأيت عبد الله بن عبد الرحمَن إلخ‏)‏ هو عبد الله بن عبد الرحمَن بن الفضل بن بهرام السمرقندي أبو محمد الدارمي الحافظ صاحب المسند ثقة فاضل متقن من الحادية عشر‏.‏ كذا في التقريب وقال الخزرجي في الخلاصة في ترجمته‏.‏ أحد الأعلام وصاحب المسند والتفسير والجامع عن يزيد بن هارون ويعلى بن عبيد، وجعفر بن عون وأبي علي الحنفي وخلق وعنه م و ت والبخاري في غير الصحيح‏.‏ قال أحمد إمام أهل زمانه‏.‏ وقال ابن حبان‏.‏ كان ممن حفظ وجمع وتفقه وصنف وحدث وأظهر السنة في بلده ودعا إليها وذب عن حريمها وقمع مخالفيها‏.‏ قال أحمد بن سنان‏:‏ مات سنة خمس وخمسين ومائتين انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حبان بن هلال‏)‏ بفتح الحاء المهملة وتشديد الموحدة ثقة ثبت من التاسعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حجة واحدة‏)‏ بالنصب أي حج حجة واحدة، وهي حجة الوداع‏.‏ ‏(‏عمرة في ذي القعدة‏)‏ بالنصب على البدلية وبالرفع على الخبرية أي إحداها عمرة في ذي القعدة، ‏(‏وعمرة الحديبية‏)‏ بضم الحاء المهملة وتفتح الدال المهملة وسكون التحتية وكسر الموحدة وشدة التحتية الثانية وخفتها، موضع بينه وبين مكة تسعة أميال ‏(‏وعمرة الجعرانة‏)‏ بكسر الجيم وسكون العين، وقيل بكسر العين وتشديد الراء موضع بينه وبين مكة تسعة أميال وقيل ستة أميال‏.‏ ‏(‏إذ قسم غنيمة حنين‏)‏ بضم الحاء المهملة مصغراً موضع وكان قسمة غنيمته بعد فتح مكة سنة ثمان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه ومسلم‏.‏

556- باب ماجَاءَكمْ اعْتَمَرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم

810- حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا دَاوُد بن عبد الرّحْمَن العطّار عن عُمرو بن دِينَار عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عبّاسٍ‏:‏ ‏"‏أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ أرْبَعَ عُمَرٍ‏:‏ عُمْرَةَ الحُدَيْبِيّةِ وعُمْرةَ الثّانيَةِ منْ قابِلٍ وَعُمْرَةَ القَضَاءِ في ذِي القَعْدَةِ وعُمْرةَ الثّالِثَةِ منَ الجِعْرَانَةِ والرّابِعَةَ التي مَعَ حَجّتِهِ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ وفي البابِ عن أنَسٍ وعَبْدِ الله بنِ عَمْروٍ وابنِ عُمَر‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ حديثُ ابنِ عبّاسٍ حديثٌ حسنٌ غريبٌ وَرَوَى ابنُ عُيَيْنَةَ هذا الحَديثَ عنْ عَمْروِ بنِ دِينَارٍ عن عِكْرِمَةَ أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ ولَمْ يَذْكُرْ فيهِ عنِ ابنِ عَبّاسٍ‏.‏

قال‏:‏ حدثنا بِذَلِكَ سعيدُ بنُ عبدِ الرّحمَن المْخزُومِيّ حدثنا سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن عَمْروِ بنِ ديِنَارٍ عن عِكْرَمِةَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ نَحْوَهُ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اعتمر أربع عمر‏)‏ بضم العين وفتح الميم جمع عمرة‏.‏ ‏(‏عمرة الحديبية‏)‏ بتخفيف الياء وتشديدها، قيل هي اسم بيروقيل شجرة وقيل قرية على تسعة أميال من مكة أكثرها في الحرم، ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً إلى هذا الموضع، فاجتمعت قريش وصدوه من دخول مكة فصالحهم على أن يأتي من العام المقبل، فرجع ولم يعتمر، ولكن عدوها من العمر لترتب أحكامها من إرسال الهدى، والخروج عن الإحرام فنحر وحلق وكانت في ذي القعدة‏.‏ ‏(‏وعمرة الثانية‏)‏ أي عمرة السنة الثانية‏.‏ ‏(‏من قابل‏)‏ أي من عام قابل ‏(‏عمرة القصاص‏)‏ أي عمرة العوض، وفي بعض النسخ عمرة القضاء، وفي صحيح البخاري من حديث أنس عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده المشركون، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة حيث صالحهم ‏(‏والرابعة التي مع حجته‏)‏ أي حجة الوداع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن أنس وعبد الله بن عمرو وابن عمر‏)‏ أما حديث أنس فأخرجه الترمذي في الباب المتقدم، وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهم‏.‏ وأما حديث عبد الله بن عمرو فلينظر من أخرجه‏.‏ وأما حديث ابن عمر فأخرجه البخاري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حديث ابن عباس حديث غريب‏)‏ أخرجه أبو داود وابن ماجه وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله كلهم ثقات‏.‏

557- باب ما جَاءَ من أيّ مَوْضِعٍ أَحْرمَ النبيّ صلى الله عليه وسلم

811- حدثنا ابنُ أَبي عُمَر، حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عنْ جَعْفَرِ بنِ مُحمّدٍ عنْ أبيهِ عنْ جابِرِ بنِ عبدِ الله قالَ‏:‏ ‏"‏لَمّا أَرادَ النبيّ صلى الله عليه وسلم الحَجّ أذّنَ في النّاسِ فاجْتَمَعُوا فَلَمّا أتَى البَيْدَاءَ أحْرَمَ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ وفي البابِ عنِ ابنِ عُمَرَ وأنَسٍ والمِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ حديثُ جَابِرٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏

812- حدثنا قُتَيْبةُ بنُ سَعيدٍ، حدثنا حاتِمُ بنُ إسْماعيلَ عنْ مُوسى بنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمِ بنِ عَبْدِ الله بنِ عُمرَ عنِ ابنِ عُمرَ قالَ‏:‏ ‏"‏البَيْدَاءُ التي يكْذِبُونَ فيهَا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والله مَا أهَلّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلاّ مِنْ عِنْد المَسْجِدِ، مِنْ عِنْدِ الشّجْرةِ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أذن في الناس‏)‏ لقوله تعالى ‏{‏وأذن في الناس بالحج‏}‏ الاَية‏:‏ أي نادى بينهم بأني أريد الحج‏.‏ قاله ابن الملك والأظهر أنه أمر منادياً بأنه صلى الله عليه وسلم يريد الحج‏.‏ كما في حديث جابر الطويل قاله القاري‏.‏ ‏(‏فاجتمعوا‏)‏ أي خلق كثير في المدينة ‏(‏فلما أتى البيداء‏)‏ وهي المفازه التي لا شيء فيها، وهي هنا إسم موضع مخصوص عند ذي الحليفة ‏(‏أحرم‏)‏ أي كرر إحرامه أو أظهره وهو أظهر لما ثبت أنه أحرم ابتدأ في مسجد ذي الحليفة بعد ركعتي الإحرام كذا في المرقاة‏.‏ قلت بل هو المتعين ويدل عليه حديث أبي داود وستقف عليه عن قريب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن ابن عمر‏)‏ أخرجه الشيخان عنه أنه يقول‏:‏ ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد يعني مسجد ذي الحليفة، هذا لفظ البخاري ‏(‏وأنس‏)‏ أخرجه الجماعة ولفظ البخاري صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا وبذي الحليفة ركعتين، ثم بات حتى أصبح بذي الحليفة فلما ركب راحلته واستوت به أهل‏.‏ وفي رواية لأبي داود صلى الظهر ثم ركب راحلته فلما علا على جبل البيداء أهل ‏(‏والمسور بن مخرمة‏)‏ أخرجه البخاري وأبو داود في قصة الحديبية وفيه‏:‏ فلما كان بذي الحليفة قلد الهدى وأشعره وأحرم منها‏.‏

وفي الباب أيضاً عن سعد بن أبي وقاص أخرجه أبو داود عنه‏.‏ كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ طريق الفرع أهل إذا استقلت به راحلته، وإذا أخذ طريق أحد أهل إذا أشرف على جبل البيداء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حديث جابر حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه البخاري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏البيداء التي تكذبون فيها الخ‏)‏ وفي رواية لمسلم‏:‏ كان ابن عمر إذا قيل له الإحرام من البيداء قال البيداء، التي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال النووي‏:‏ قال العلماء هذه البيداء هي الشرف الذي قدام ذي الحليفة إلى جهة مكة، وهي بقرب ذي الحليفة، وسميت بيداء لأنه ليس فيها بناء ولا أثر وكل مفازة تسمى بيداء‏.‏ وأما ههنا فالمراد بالبيداء ما ذكرناه‏.‏ وقوله تكذبون فيها أي تقولون إنه صلى الله عليه وسلم أحرم منها ولم يحرم منها وإنما أحرم قبلها من مسجد ذي الحليفة، ومن عند الشجرة التي كانت هناك وكانت عند المسجد، وسماهم ابن عمر كاذبين لأنهم أخبروا بالشيء على خلاف ما هو، والكذب عند أهل السنة هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو سواء تعمده أم غلط فيه وسها‏.‏ وقال المعتزلة يشترط فيه العمدية، وعندنا أن العمدية شرط لكونه أسماً لا لكونه يسمى كذباً، فقول ابن عمر جاء على قاعدتنا انتهى‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏والله ما أهل‏)‏ أي ما رفع صوته بالتلبية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه الشيخان‏.‏

إعلم أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في موضع إهلاله صلى الله عليه وسلم، وسبب اختلافهم ما رواه أبو داود في سنته عن سعيد بن جبير قال‏:‏ قلت لعبد الله بن عباس‏:‏ يا أبا العباس لإختلاف عجبت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوجب‏.‏ فقال‏:‏ إني لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه، فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالاً فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل، فقالوا‏:‏ إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما علا على شرف البيداء أهل وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا‏:‏ إنما أهل حين علا على شرف البيداء وأيم الله لقد أوجب في مصلاه وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء انتهى‏.‏ قال المنذري في إسناده خصيف بن عبد الرحمَن الحراني وهو ضعيف‏.‏ وقال الطحاوي بعد ذكر هذه الرواية بتمامها‏:‏ فبين ابن عباس الوجه الذي جاء فيه اختلافهم، وأن إهلال النبي صلى الله عليه وسلم الذي ابتدأ الحج ودخل فيه كان في مصلاه‏.‏ فبهذا نأخذ وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد ومالك والشافعي وأحمد وأصحابهم‏.‏ وقال الأوزاعي وعطاء وقتادة‏:‏ المستحب الإحرام من البيداء قال البكري البيداء هذه فوق علي ذي الحليفة لمن صعد من الوادي، وفي أول البيداء بئر ماء، كذا في عمدة القاري‏.‏

558- باب ما جَاءَ مَتى أحْرَمَ النبيّ صلى الله عليه وسلم‏؟‏

‏(‏باب ما جاء متى أحرم النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي في أي وقت أحرم‏.‏

813- حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا عبدُ السّلامِ بنُ حَرْبٍ عنْ خُصَيْفٍ عن سَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبّاسٍ‏:‏ ‏"‏أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أهَلّ في دُبُرِ الصّلاَةِ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسن غريبٌ لا نَعْرِفُ أَحَداً روَاهُ غَيْرَ عَبْدِ السّلاَمِ بنِ حَرْبٍ وهُوَ الّذِي يَسْتَحِبّهُ أَهْلُ العِلْمِ أنْ يُحْرِمَ الرّجُلُ في دُبُرِ الصّلاَةِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن خصيف‏)‏ بالخاء المعجمة والصاد المهملة مصغراً ابن عبد الرحمَن الجزري أبو عون صدوق سيء الحفظ خلط بآخره، ورمى بالأرجاء من الخامسة كذا في التقريب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أهل في دبر الصلاة‏)‏ بضم الدال المهملة والموحدة أي عقيبها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث غريب الخ‏)‏ قال الزيلعي في نصب الراية‏:‏ أخرجه الترمذي والنسائي قال في الإمام‏:‏ وعبد السلام بن حرب أخرج له الشيخان في صحيحهما‏.‏ وخصيف بن عبد الرحمَن ضعفه بعضهم انتهى‏.‏ وقال الحافظ في الدراية‏:‏ فيه خصيف وهو لين الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهو الذي يستحبه أهل العلم أن يحرم الرجل في دبر الصلاة‏)‏ قال النووي قال مالك والشافعي والجمهور‏:‏ إن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يحرم عقيب الصلاة وهو جالس قبل ركوب دابته وقبل قيامه‏.‏ وهو قول ضعيف للشافعي وفيه حديث من رواية ابن عباس لكنه ضعيف انتهى‏.‏ قلت‏:‏ يشير إلى حديث الباب قال الحافظ في الدراية‏:‏ قوله ولو لبى بعد ما استوت به راحلته جاز ولكن الأول أفضل لما روينا كذا قال، والأحاديث في أنه لبى بعد ما استوت به راحلته، أكثر وأشهر من الحديث الذي احتج به‏.‏ ففي الصحيحين عن ابن عمر‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته‏.‏ وفي لفظه لمسلم‏:‏ كان صلى الله عليه وسلم إذا وضع رجله في الغرز وانبعثت به راحلته قائمة أهل وفي لفظ‏:‏ لم أره يهل حتى تنبعث به راحلته‏.‏ وللبخاري عن أنس‏:‏ فلما ركب راحلته واستوت به أهل‏.‏ وله عن جابر‏:‏ إن إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته‏.‏ ولمسلم عن ابن عباس‏:‏ ثم ركب راحلته فلما استوت به على البيداء أهل قال الحافظ‏:‏ وقد ورد ما يجمع بين هذه الأحاديث من حديث ابن عباس عند أبي داود والحاكم ثم ذكر الحديث وقد تقدم‏.‏ قال‏:‏ لو ثبت لرجح ابتداء الإهلال عقيب الصلاة إلا أنه من رواية خصيف وفيه ضعف انتهى‏.‏ وقال في فتح الباري‏:‏ وقد اتفق فقهاء الأمصار على جواز جميع ذلك وإنما الخلاف في الأفضل انتهى‏.‏

559- باب ما جَاءَ في إفْرَادِ الحَج

‏(‏باب ما جاء في إفراد الحج‏)‏ إعلم أن الحج على ثلاثة أقسام‏:‏ الإفراد والتمتع والقران أما الإفراد فهو الإهلال بالحج وحده في أشهره عند الجميع وفي غير أشهره أيضاً عند من يجيزه، والاعتمار بعد الفراغ من أعمال الحج لمن شاء، وأما التمتع فالمعروف أنه الاعتمار في أشهر الحج ثم التحلل من تلك العمرة والإهلال بالحج في تلك السنة، ويطلق التمتع في عرف السلف على القرآن أيضاً‏.‏ قال ابن عبد البر لا خلاف بين العلماء أن التمتع المراد بقوله تعالى ‏{‏فمن تمتع بالعمرة إلى الحج‏}‏ أنه الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج قال‏:‏ ومن التمتع أيضاً القران لأنه تمتع بسقوط سفر النسك الاَخر من بلده، ومن التمتع فسح الحج أيضاً إلى العمرة انتهى‏.‏ وأما القران فصورته الإهلال بالحج والعمرة معاً، وهذا لا خلاف في جوازه، أو الإهلال بالعمرة ثم يدخل عليها الحج أو عكسه، هذا مختلف فيه‏.‏ قاله الحافظ في الفتح‏.‏

814- حدثنا أَبُو مُصْعَبٍ قِراءَةً عن مالِكٍ بنِ أنَسٍ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ القَاسِمِ عن أبيهِ عنْ عائِشَةَ ‏"‏أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أَفْرَدَ الحَجّ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وفي البابِ عن جَابِرٍ وابنِ عُمَرَ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ حديثُ عائِشَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، والعمَلُ عَلَى هذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ، ورُوِي عنِ ابنِ عُمَرَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أفْرَدَ الحَجّ وأفرَدَ أَبُو بكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمانُ‏.‏

حدثناج بِذَلكَ قُتَيْبةُ أخبرنا عبدُ الله بنُ نافِعٍ الصّائِغُ عن عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ عنْ نَافعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ بهذَا‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ وقال الثّوْريّ‏:‏ إنْ أَفْرَدْتَ الحَجّ فَحَسنٌ وإنْ قَرَنْتَ فَحَسَنٌ وَإنْ تَمَتّعْتَ فَحَسَنٌ‏.‏ وقال الشّافعيّ مِثْلَهُ، وقالَ أَحَبّ إلَيْنَا الإفْرَادُ ثُمّ التّمَتّعُ ثمّ القِرَانُ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أفرد الحج‏)‏ أي أحرم بالحج وحده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن جابر‏)‏ أخرجه مسلم ‏(‏وابن عمر‏)‏ أخرجه أحمد ومسلم‏.‏ وفي الباب أيضاً عن ابن عباس أخرجه مسلم وعن عائشة أخرجه الشيخان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وحديث عائشة حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وروى عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج الخ‏)‏ لهذا الحديث دليل لمن قال إن الإفراد أفضل من القران والتمتع‏.‏

إعلم أنه قد اختلف في حجه صلى الله عليه وسلم هل كان قراناً أو تمتعاً أو إفراداً‏؟‏ وقد اختلفت الأحاديث في ذلك، فروى عن عدة من الصحابة أنه حج إفراداً كما عرفت وروى عن جماعة منهم أنه حج قراناً وروى عن طائفة منهم أنه حج تمتعاً كما ستعرف، وقد اختلفت الأنظار واضطربت الأقوال لاختلاف الأحاديث، فمن أهل العلم من جمع بين الروايات كالخطابي فقال‏:‏ إن كان أضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر به اتساعاً ثم رجح أنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج‏.‏ وكذا قال عياض وزاد فقال‏:‏ وأما إحرامه فقد تضافرت الروايات الصحيحة بأنه كان مفرداً، وأما رواية من روى التمتع فمعناه أنه أمر به لأنه صرح بقوله‏:‏ ولولا أن معي الهدى لأحللت فصح أنه لم يتحلل، وأما رواية من روى القرآن فهو إخبار عن آخر أحواله، لأنه أدخل العمرة على الحج لما جاء إلى الوادي‏.‏ وقيل قل عمرة في حجة‏.‏ قال الحافظ هذا الجمع هو المعتمد وقد سبق إليه قديماً ابن المنذر وبينه ابن حزم في حجة الوداع بياناً شافياً، ومهده المحب الطبري تمهيداً بالغاً يطول ذكره‏.‏ ومحصله أن كل من روى عنه الإفراد حمل على ما أهل به في أول الحال، وكل من روى عنه التمتع أراد ما أمر به أصحابه، وكل من روى عنه القرآن، أراد ما استقر عليه الأمر، وجمع شيخ الإسلام ابن تيمية جمعاً حسناً فقال ما حاصله‏:‏ إن التمتع عند الصحابة يتناول القران فتحمل عليه رواية من روى أنه صلى الله عليه وسلم حج تمتعاً وكل من روى الإفراد قد روى أنه صلى الله عليه وسلم حج تمتعاً وقراناً، فيتعين الحمل على القران وأنه أفرد أعمال الحج ثم فرغ منها، وأتى بالعمرة‏.‏ ومن أهل العلم من صار إلى التعارض فرجح نوعاً، وأجاب عن الأحاديث القاضية بما يخالفه، وهي جرابات طويلة أكثرها متعسفة‏.‏ وأورد كل منهم لما اختاره مرجحات، أقواها وأولاها مرجحات القران، لا يقاومها شيء من مرجحات غيره‏.‏ وقد ذكر صاحب الهدى مرجحات كثيرة، ولكنها مرجحات باعتبار أفضلية القران على التمتع والإفراد، لا باعتبار أنه صلى الله عليه وسلم حج قراناً‏.‏ وهو يحث آخر كذا في النيل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الثوري‏:‏ إن أفردت الحج فحسن، وإن قرنت فحسن، وإن تمتعت فحسن‏)‏ الظاهر من كلام الثوري هذا، أن الأنواع الثلاثة عنده سواء، لا فضيلة لبعضها على بعض قال الحافظ في الفتح‏:‏ حكى عياض عن بعض العلماء أن الصور الثلاثة في الفضل سواء، وهو مقتضى تصرف ابن خزيمة في صحيحه انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الشافعي مثله وقال‏:‏ أحب إلينا الإفراد ثم التمتع ثم القران‏)‏ وعند الحنفية القران أفضل من التمتع‏.‏ والإفراد والتمتع أفضل من الإفراد، قال الحافظ في الفتح‏:‏ ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن التمتع أفضل لكونه صلى الله عليه وسلم تمناه، فقال‏:‏ ‏"‏لولا أني سقت الهدى لأحللت‏"‏، ولا يتمنى إلا الأفضل وهو قول أحمد بن حنبل في المشهور عنه وأجيب بأنه إنما تمناه تطييباً لقلوب أصحابه لحزنهم على فوات موافقته، وإلا فالأفضل ما اختاره الله له واستمر عليه‏.‏ وقال ابن قدامة‏:‏ يترجح التمتع بأن الذي يفرد إن اعتمر بعدها فهي عمرة مختلف في أجزائها عن حجة الإسلام، بخلاف عمرة التمتع، فهي مجزئة بلا خلاف، فيترجح التمتع على الإفراد ويليه القران‏.‏ وقال من رجح القران هو أشق من التمتع وعمرته مجزئة بلا خلاف، فيكون أفضل منهما‏.‏ وعن أبي يوسف‏:‏ القران والتمتع في الفضل سواء وهما أفضل من الإفراد وعن أحمد‏:‏ من ساق الهدى فالقران أفضل له ليوافق فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن لم يسق الهدى فالتمتع أفضل له ليوافق ما تمناه وأمر به أصحابه كذا في فتح الباري‏.‏

560- باب ما جاء في الجَمْعِ بَيْنَ الحَجّ والعُمْرَة

815- حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن حُمَيْدٍ عن أنَسٍ قال سَمِعْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقولُ‏:‏ ‏"‏لَبّيْكَ بِعُمرَةٍ وحَجّةٍ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ وفي البابِ عن عُمَرَ وعِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ حديثُ أَنَسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وقد ذَهبَ بَعْضُ أَهْلِ العلمِ إلى هذَا، واخْتَارَوهُ مِنْ أَهْلِ الكُوفَةِ وغَيْرِهِمْ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يقول لبيك بعمرة وحجة‏)‏ وفي رواية الشيخين يلبى بالحج والعمرة جميعاً يقول‏:‏ لبيك عمرة وحجاً‏.‏ وهو من أدلة القائلين بأن حجه صلى الله عليه وسلم كان قراناً‏.‏ وقد رواه عن أنس جماعة من التابعين منهم الحسن البصري وأبو قلابة وحميد بن هلال وحميد بن عبد الرحمَن الطويل وقتادة ويحيى بن سعيد الأنصاري، وثابت البناني وعبد العزيز بن صهيب وغيرهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن عمر‏)‏ بن الخطاب قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي العقيق يقول‏:‏ ‏"‏أتاني الليلة آت من ربي فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة‏"‏‏.‏ أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه‏.‏ وفي رواية للبخاري‏:‏ وقل عمرة وحجة ‏(‏وعمران بن حصين‏)‏ أخرجه مسلم وفي الباب أيضاً عن ابن عمر عند الشيخين‏.‏ وعن عائشة عندهما أيضاً وعن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم‏.‏

561- باب مَا جاءَ في التّمَتّع

816- حدثنا أبو مُوسَى مُحَمّدُ بنُ المَثَنّى، أخبرنا عبدُ الله بْنُ إدْرِيسَ عنْ لَيثٍ عنْ طَاوُسٍ عنْ ابنِ عبّاسٍ قالَ‏:‏ ‏"‏تَمَتّعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بَكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمَانُ، وأوّلُ مَنْ نَهَى عنهُ مُعَاوِيةُ‏"‏‏.‏

817- حدثنا قُتَيْبةُ بنُ سَعيدٍ، عَنْ مالِكِ بنِ أنَسٍ، عنِ ابنِ شِهَابٍ، عن مُحمدِ بنِ عبدِ الله بنِ الحَارِثِ بنِ نَوْفَلٍ أَنّهُ سَمِعَ سَعْدَ بنَ أبي وقّاصٍ والضّحّاكَ بنَ قَيْسٍ وهُما يَذْكُرَان التّمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ فقال الضّحّاكُ بنُ قَيْسٍ‏:‏ لا يَصْنَعُ ذَلكَ إلاّ مَنْ جَهِلَ أمْرَ الله فقالَ سَعْدٌ‏:‏ بِئْسَ ما قُلْتَ يا ابنَ أَخِي‏.‏ فقال الضّحّاكُ بن قيسٍ‏:‏ فإِنّ عُمَرَ بنَ الخَطّابِ قَدْ نَهى عنْ ذلكَ‏.‏ فقالَ سَعْدٌ‏:‏ ‏"‏قَدْ صَنَعَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وصَنَعْنَاها مَعَهُ‏"‏ قال‏:‏ هذا حديثٌ صحيحٌ‏.‏

818- حدثنا عبدُ بنِ حُمَيدٍ، أَخْبَرَنِي يَعْقُوبُ بن إبْرَاهيمَ بنُ سَعْدٍ حدثنا أبي عنْ صَالحٍ بنِ كَيْسَانَ عن ابنِ شِهَابٍ أنّ سَالِمَ بنَ عبدِ الله حَدّثَهُ أنهُ سَمِعَ رَجُلاً منْ أهْلِ الشّامِ وهُوَ يَسْأَلُ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ عنْ التّمَتّعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ، فقالَ عبدُ الله بنُ عُمَرَ‏:‏ هِي حَلاَلٌ‏.‏ فقالَ الشّامِيّ إِنّ أبَاكَ قَدْ نَهَىَ عَنْهَا‏.‏ فقالَ عبدُ الله بنُ عُمَرَ‏:‏ أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ أبي نَهَى عَنْهَا وصَنَعَهَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَأَمْرُ أبِيْ نتّبَعُ أمْ أمْرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقالَ الرّجُلُ‏:‏ بَلْ أمْرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقالَ لَقَدْ صَنَعَهَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ حديثُ ابنِ عبّاسٍ حديثٌ حسنٌ وقداخْتَارَ قَوْمٌ مِنْ أهْلِ العلم مِنْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهْم التّمتّعَ بالعُمْرةِ‏.‏ والتّمتّعُ أَنْ يَدْخُلَ الرّجُلُ بعْمَرةٍ في أشْهُرِ الحَجّ ثُمّ يُقِيم حَتّى يَحجّ فَهُوَ مُتَمَتّعٌ وعَليهِ دَمُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فإن لَمْ يَجِدْ صَامَ ثلاثةَ أيّامٍ في الحَجّ وسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ إلى أهْلِهِ‏.‏ ويُسْتَحَبّ للمُتَمتّعِ إذَا صَامَ ثلاثةَ أَيّامٍ في الحّجّ أنْ يَصُومَ العَشْر وَيَكُونُ آخِرُهَا يَوْمَ عَرَفَةَ‏.‏ فإِنْ لَمْ يَصُمْ في العَشْرِ صَامَ أَيّامَ التّشْرِيقِ في قَوْلِ بَعْضِ أهلِ العِلِمِ مِنْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُم ابنُ عُمَرَ وعائِشَة وبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ والشّافِعيّ وأحمدُ وإسحاقُ‏.‏

وقالَ بَعْضُهُمْ لا يَصُومُ أَيّامَ التّشْرِيقِ وهُوَ قَوْلُ أهلِ الكُوفَةِ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ وأهلُ الَحديِثِ يَخْتَارُونَ التّمَتّعَ بالعُمْرَةِ في الحَجّ‏.‏ وهُوَ قولُ الشّافِعيّ وأحمد وإسحاقَ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنه سمع سعد بن أبي وقاص‏)‏ أحد العشرة المبشرة بالجنة مناقبه كثيرة رضي الله عنه‏.‏ ‏(‏والضحاك بن قيس‏)‏ بن خالد بن وهب الفهري أبو أنيس الأمير المشهور صحابي صغير قتل في وقعة مرج راهط سنة أربع وستين‏.‏ كذا في التقريب‏.‏ وقال الخزرجي في الخلاصة‏:‏ شهد فتح دمشق وتغلب عليها بعد موت يزيد ودعا إلى البيعة وعسكر بظاهرها، فالتقاه مروان بمرج راهط سنة أربع وستين فقتل، قيل ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بست سنين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يصنع ذلك‏)‏ أي التمتع ‏(‏إلا من جهل أمر الله تعالى‏)‏ أي لأنه تعالى قال‏:‏ ‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله‏}‏ فأمره بالإتمام يقتضي استمرار الإحرام إلى فراغ الحج ومنع التحلل، والتمتع يحلل ‏(‏فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك‏)‏ قال الباجي‏:‏ إنما نهى عنه لأنه رأى الإفراد أفضل منها ولم ينه عنه تحريماً قال عياض‏:‏ إنه نهى عن الفسخ ولهذا كان يضرب الناس عليها كما في مسلم‏.‏ بناء على معتقده إن الفسخ خاص بتلك السنة‏.‏ قال النووي‏:‏ والمختار أن عمر وعثمان وغيرهما إنما نهوا عن المتعة المعروفة التي هي الإعتمار في أشهر الحج ثم الحج في عامه‏.‏ وهو على التنزيه للترغيب في الافراد‏.‏ ثم انعقد الاجماع على جواز التمتع من غير كراهة، وبقي الخلاف في الافضل كذا في المحلي شرح الموطأ ‏(‏قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي المتعة اللغوية وهي الجمع بين الحج والعمرة، وحكم القران والمتعة واحد‏.‏ قاله القاري ‏(‏وصنعناها معه‏)‏ قال أي المتعة اللغوية أو الشرعية، إذ تقدم أن بعض الصحابة تمتعوا في حجة الوداع، والحاصل أن القران وقع منه صلى الله عليه وسلم والتمتع من بعض أصحابه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث صحيح‏)‏ وأخرجه مالك في الموطأ ‏(‏أمر أبي‏)‏ بتقدير همزة الاستفهام وفي بعض النسخ أأمر أبي بذكر الهمزة ‏(‏يتبع‏)‏ بصيغة المجهول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان الخ‏)‏ يعارضه ما في صحيح مسلم، قال عبد الله بن شقيق‏:‏ كان عثمان ينهي عن المتعة وكان علي يأمر بها وقد تقدم نهى عمر رضي الله عنه فيمكن أن يجاب‏:‏ إن نهيهما محمول على التنزيه‏.‏ ونهى معاوية رضي الله تعالى عنه على التحريم فأوليته باعتبار التحريم، قال النووي رحمه الله‏:‏ وكان عمر وعثمان ينهيان عنها نهي تنزيه لا تحريم انتهى‏.‏ ويمكن الجمع بين فعلهما ونهيهما بأن الفعل كان متأخراً لما علما جواز ذلك ويحتمل أن يكون لبيان الجواز‏.‏ كذا في شرح أبي الطيب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن علي وعثمان‏)‏ أخرج مسلم وأحمد عن عبد الله بن شقيق‏:‏ أن علياً كان يأمر بالمتعة وعثمان ينهى عنها فقال عثمان كلمة فقال علي‏:‏ لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عثمان‏:‏ أجل ولكنا كنا خائفين ‏(‏وجابر‏)‏ أخرجه مسلم ‏(‏وسعد‏)‏ بن أبي وقاص أخرجه أحمد ومسلم عن غنيم بن قيس المازنيي قال‏:‏ سألت سعد بن أبي وقاص عن المتعة في الحج فقال‏:‏ فعلناها وهذا يومئذ كافر بالعروش‏:‏ يعني بيوت مكة يعني معاوية انتهى‏.‏ ‏(‏وأسماء ابنة أبي بكر وابن عمر‏)‏ أخرجه الشيخان وفي الباب أيضاً عن عائشة أخرجه الشيخان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حديث ابن عباس حديث حسن‏)‏ وأخرجه أحمد أيضاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فمن لم يجد‏)‏ أي الهدى، ويتحقق ذلك بأن يعدم الهدي، أو يعدم ثمنه حينئذ، أو يجد ثمنه لكن يحتاج إليه لأهم من ذلك، أو يجده لكن يمتنع صاحبه من بيعه، أو يمتنع من بيعه إلا بغلائه، فينقل إلى الصوم كما هو نص القرآن ‏{‏فصيام ثلاثة أيام في الحج‏}‏ أي بعد الإحرام به‏.‏ وقال النووي‏:‏ هذا هو الأفضل فإن صامها قبل الإهلال بالحج أجزأه على الصحيح، وأما قبل التحلل من العمرة فلا على الصحيح، قاله مالك وجوزه الثوري وأصحاب الرأي وعلى الأول‏:‏ فمن استحب صيام عرفة بعرفة قال‏:‏ يحرم يوم السابع ليصوم السابع والثامن والتاسع وإلا فيحرم يوم السادس ليفطر بعرفة ‏(‏وسبعة إذا رجع إلى أهله‏)‏ أشار إلى أن المراد بقوله تعالى ‏{‏إذا رجعتم‏}‏ الرجوع إلى الأمصار وبذلك فسر ابن عباس رضي الله عنه كما في صحيح البخاري‏.‏ ووقع في حديث ابن عمر المرفوع‏:‏ فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله‏.‏ أخرجه البخاري في باب‏:‏ من ساق البدن معه، وهذا هو قول الجمهور‏.‏ وعن الشافعي معناه الرجوع إلى مكة وعبر عنه مرة بالفراغ من أعمال الحج‏.‏ ومعنى الرجوع التوجه من مكة، فيصومها في الطريق إن شاء، وبه قال إسحاق بن راهويه‏.‏ قاله الحافظ ‏(‏منهم ابن عمر وعائشة، وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق‏)‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ روى عن ابن عمر وعائشة موقوفاً‏:‏ إن أخرها يوم عرفة فإن لم يفعل صام أيام منى أي الثلاثة التي بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق‏.‏ وبه قال الزهري والأوزاعي ومالك والشافعي في القديم، ثم رجع عنه وأخذ بعموم النهي عن صيام أيام التشريق انتهى‏.‏ ‏(‏وقال بعضهم لا يصوم أيام التشريق وهو قول أهل الكوفة‏)‏ وهو قول الحنفية وحجتهم نبيشة الهذلي عند مسلم مرفوعاً‏:‏ أيام التشريق أيام أكل وشرب‏.‏ وله من حديث كعب بن مالك‏:‏ أيام منى أيام أكل وشرب‏.‏ ومنها حديث عمرو بن العاص أنه قال لإبنه عبد الله في أيام التشريق‏:‏ إنها الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومهن وأمر بفطرهن‏.‏ أخرجه أبو داود وابن المنذر وصحه ابن خزيمة والحاكم وحجة من قال‏:‏ إنه يجوز للمتمتع أن يصوم أيام التشريق‏.‏ ما رواه البخاري عن عروة عن عائشة وعن سالم عن ابن عمر قالا‏:‏ لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن يجد الهدى، قال الحافظ في الفتح‏:‏ كذا رواه الحفاظ من أصحاب شعبة بضم أوله على البناء لغير معين، ووقع في رواية يحيى بن سلام عن شعبة عند الدارقطني واللفظ له، والطحاوي‏:‏ رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للتمتع إذا لم يجد الهدي، أن يصوم أيام التشريق‏.‏ وقال‏:‏ إن يحيى بن سلام ليس بالقوى، ولم يذكر طريق عائشة وأخرجه من وجه آخر ضعيف عن الزهري عن عروة عن عائشة‏.‏ وإذا لم تصح هذه الطرق المصرحة بالرفع، بقي الأمر على الاحتمال‏.‏ وقد اختلف علماء الحديث في قول الصحابي‏:‏ أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، هل له حكم الرفع‏؟‏ على أقوال ثالثها‏:‏ إن أضافه إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم الرفع وإلا فلا‏.‏ واختلف الترجيح فيما إذا لم يضفه ويلتحق به‏.‏ رخص لنا في كذا وعزم علينا أن لا نفعل كذا‏.‏ كل في الحكم سواء فمن يقول‏:‏ إن له حكم الرفع‏.‏ فغاية ما وقع في رواية يحيى بن سلام أنه روى بالمعنى، لكن قال الطحاوي‏:‏ إن قول ابن عمر وعائشة ‏"‏لم يرخص‏"‏ أخذاه من عموم قوله تعالى ‏{‏فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج‏}‏ لأن قوله في الحج يعم ما قبل يوم النحر وما بعده، فيدخل أيام التشريق‏.‏ فعلى هذا فليس بمرفوع بل هو بطريق الاستنباط منهما عما فهما من عموم الاَية‏.‏ وقد ثبت نهيه صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق، وهو عام في حق المتمتع وغيره، وعلى هذا فقد تعارض عموم الاَية المشعر بالإذن، وعموم الحديث المشعر بالنهي‏.‏ وفي تخصيص عموم المتواتر بعموم الاَحاد نظر لو كان الحديث مرفوعاً، فكيف وفي كونه مرفوعاً نظر‏.‏ فعلى هذا يترجح القول بالجواز، وإلى هذا جنح البخاري كذا في فتح الباري‏.‏

562- باب ما جَاءَ في التّلْبِيَة

819- حدثنا أحمدُ بنُ مَنيعٍ حدثنا إسماعيلُ بنُ إبرَاهِيمَ عنْ أيّوبَ عنْ نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ قالَ‏:‏ أنّ تَلْبيَةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت‏:‏ ‏"‏لَبّيْكَ اللهُمّ لَبّيْكَ، لَبّيْكَ لاَ شِريكَ لَكَ لَبّيْكَ، إنّ الحَمْدَ والنعْمَةَ لَكَ والمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ وفي البابِ عَنْ ابنِ مَسْعُودٍ وجَابِرٍ وَعَائِشَة وابنِ عَبّاسٍ وأبِي هُرَيْرَةَ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ حديثُ ابنَ عُمَرَ حدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ والعَملُ عَلْيهِ عِنْدَ بعض أهْلِ العِلْمِ مِنْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ، وهُوَ قَوْلُ سُفْيانَ والشّافِعِيّ وأَحمدَ وإسحاقَ، قالَ الشّافِعِيّ‏:‏ وإِنْ زَادَ في التّلْبِيِةِ شَيْئاً مِنْ تَعْظِيمِ الله فَلاَ بأسَ إنْ شاءَ الله، وأَحَبّ إلَيّ أنْ يَقْتَصِرَ عَلَى تَلْبِيةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قالَ الشّافِعِيّ‏:‏ ‏(‏وإنّما قُلْنا لاَ بَأْس بِزِيادَةِ تَعْظِيمِ الله فِيهَا‏)‏ لِمَا جَاءَ عَنْ ابنِ عُمَرَ وهُوَ حَفِظَ التّلْبِيَةَ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثُمّ زَادَ ابنُ عُمَرَ في تَلْبِيَتِهِ مِنْ قبلِهِ‏:‏ ‏(‏لَبّيْكَ والرّغْبَان إلَيْكَ والعَمَلُ‏)‏‏.‏

820- حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا اللّيْثُ عن نَافعٍ عن ابنِ عُمَرَ أَنّهُ‏:‏ أَهَلّ فانْطَلَقَ يُهِلّ فيقُولُ‏:‏ ‏"‏لَبّيْكَ اللّهُمّ لَبّيْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبّيْكَ، إنّ الحَمْدَ والنّعْمَةَ لَك والمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ‏"‏ قالَ وكانَ عبدُ الله بنُ عُمَرَ يقُولُ‏:‏ هَذِهِ تَلْبِيَةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وكانَ يَزِيدُ مِنْ عِنْدِهِ في أثر تَلْبِيةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لَبّيْكَ لَبّيْكَ، وسَعْدَيْكَ والخَيْرُ في يَدَيْكَ لَبّيْك، والرغباءُ إلَيْكَ‏.‏ والعملُ‏.‏ قال هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لبيك‏)‏ هي مصدر لبى أي قال‏:‏ لبيك ولا يكون عامله إلا مضمراً، أي ألبيت يا رب بخدمتك إلباباً بعد إلباب من ألب بالمكان أقام به، أي أقمت على طاعتك إقامة بعد إقامة‏.‏ وقيل أجبت دعوتك إجابة بعد إجابة، والمراد بالتثنية التكثير كقوله تعالى ‏{‏فارجع البصر كرتين‏}‏ أي كرة بعد كرة وحذف الزوائد للتخفيف، وحذف النون للإضافة، قاله القاري‏.‏ وقال الحافظ في الفتح وعن الفراء هو منصوب على المصدر وأصله ‏"‏لباً لك‏"‏ فثنى على التأكيد، أي ألباباً بعد ألباب، وهذه التثنية ليست حقيقية، بل هي للتكثير أو المبالغة، ومعناه إجابة بعد إجابة أو إجابة لازمة، وقيل معنى لبيك‏:‏ اتجاهي وقصدي إليك، مأخوذ من قولهم‏:‏ داري تلب دارك، أي تواجهها‏.‏ وقيل معناه‏:‏ أنا مقيم على طاعتك من قولهم‏:‏ لب الرجل بالمكان إذا أقام‏.‏ وقيل‏:‏ قرباً منك، من الإلباب وهو القرب‏.‏ والأول أظهر وأشهر لأن المحرم مستجيب لدعاء الله إياه في حج بيته، ولهذا من دعا فقال‏:‏ لبيك فقد استجاب‏.‏ وقال ابن عبد البر‏:‏ قال جماعة من أهل العلم معنى التلبية إجابة دعوة إبراهيم حين أذن في الناس بالحج انتهى‏.‏ وهذا أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم بأسانيدهم في تفاسيرهم عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغير واحد والأسانيد إليهم قوية، وأقوى ما فيه عن ابن عباس، ما أخرجه أحمد بن منيع في مسنده وابن أبي حاتم من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عنه قال‏:‏ لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قيل له أذن في الناس بالحج، قال‏:‏ رب وما يبلغ صوتي، قال‏:‏ أذن وعلى البلاغ، قال فنادى إبراهيم يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق‏.‏ فسمعه من بين السماء والأرض‏.‏ أفلا ترون أن الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون، ومن طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وفيه‏:‏ فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء وأول من أجابه أهل اليمن، فليس حاج يحج من يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم يومئذ انتهى كلام الحافظ مختصراً ‏(‏إن الحمد‏)‏ روى بكسر الهمزة على الاستيناف وبفتحها على التعليل، والكسر أجود عند الجمهور‏.‏ وقال ثعلب لأن من كسر جعل معناه إن الحمد لك على كل حال، ومن فتح قال‏:‏ معناه لبيك بهذا السبب‏.‏ ‏(‏والملك‏)‏ بالنصب عطف على الحمد ولذا يستحب الوقف عند قوله الملك ويبتدأ بقوله ‏(‏لا شريك لك‏)‏ أي في استحقاق الحمد وإيصال النعمة ولا مانع من أن يكون الملك مرفوعاً وخبره لا شريك لك، أي فيه، كذا في المرقاة، وقال الحافظ في الفتح‏:‏ والملك بالنصب على المشهور ويجوز الرفع وتقديره والملك كذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أهل فانطلق يهل يقول لبيك‏)‏ قال أبو الطيب السندي أي أراد أن يهل فانطلق يهل، أي فشرع يهل أي ذهب حال كونه يهل، وقوله يقول لبيك بيان ليهل انتهى‏.‏ والمراد من الإهلال رفع الصوت ‏(‏قال وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه‏)‏ القائل هو نافع ‏(‏في أثر تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي في عقبها وبعد الفراغ منها، قال في القاموس‏:‏ خرج في إثره وأثره بعده ‏(‏وسعديك‏)‏ قال القاضي‏:‏ إعرابها وتثنيتها كما في لبيك ومعناه‏.‏ مساعدة لطاعتك بعد مساعدة ‏(‏والخير في يديك‏)‏ أي الخير كله بيد الله تعالى ومن فضله ‏(‏والرغبى إليك‏)‏ قال القاضي قال المازري‏:‏ يروى بفتح الراء والمد وبضم الراء مع القصر ونظيره العلياء والعليا، ومعناه ههنا الطلب والمسألة إلى من بيده الخير ‏(‏والعمل‏)‏ عطف على الرغبي، قال الطيبي‏:‏ وكذلك العمل منته إليك، إذ هو المقصود منه انتهى‏.‏ قال القاري والأظهر أن التقدير والعمل لك أي لوجهك ورضاك أو العمل بك أي بأمرك وتوفيقك أو المعنى أمر العمل راجع إليك في الرد والقبول انتهى‏.‏ قلت‏:‏ الأظهر عندي هو ما قال الطيبي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن ابن مسعود‏)‏ أخرجه النسائي ‏(‏وجابر‏)‏ أخرجه أبو داود وابن ماجه ‏(‏وعائشة‏)‏ أخرجه البخاري ‏(‏وابن عباس‏)‏ أخرجه أبو داود ‏(‏وأبي هريرة‏)‏ أخرجه أحمد وابن ماجه والنسائي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حديث ابن عمر حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والعمل عليه عند أهل العلم الخ‏)‏ قال الطحاوي بعد أن أخرج حديث ابن عمر وابن مسعود وعائشة وجابر وعمرو بن معد يكرب‏:‏ أجمع المسلمون جميعاً على هذه التلبية، غير أن قوماً قالوا لا بأس أن يزيد فيها من الذكر لله ما أحب وهو قول محمد والثوري والأوزاعي وخالفهم آخرون فقالوا‏:‏ لا ينبغي أن يزاد على ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس كما في حديث معد يكرب ثم فعله هو ولم يقل لبوا بما شئتم، مما هو من جنس هذا بل علمهم كما علمهم التكبير في الصلاة، فكذا لا ينبغي أن يتعدى في ذلك شيئاً مما علمه، ثم أخرج حديث عامر بن سعد بن وقاص عن أبيه‏.‏ أنه سمع رجلاً يقول لبيك ذا المعارج فقال إنه لذو المعارج، وماه هكذا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فهذا سعد قد كره الزيادة في التلبية، وبه نأخذ انتهى‏.‏ قال القاري في المرقاة‏:‏ قال في البحر وهذا اختيار الطحاوي، ولعل مراده من الكراهة أن يزيد الرجل من عند نفسه على التلبية المأثورة بقرينة ذكره قبل هذا القول‏.‏ ولا بأس للرجل أن يزيد فيها من ذكر الله تعالى ما أحب وهو قول محمداً أو أراد الزيادة في خلال التلبية المسنونة فإن أصحابنا قالوا‏:‏ إن زاد عليها فهو مستحب‏.‏ قال صاحب السراج الوهاج هذا بعد الإتيان بها، أما في خلالها فلا انتهى‏.‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ وهذا يدل على أن الاقتصار على التلبية المرفوعة أفضل لمداومته هو صلى الله عليه وسلم عليها‏.‏ وأنه لا بأس بالزيادة لكونه لم يرد عليهم وأقرهم عليها وهو قول الجمهور‏.‏ وبه صرح أشهب وحكى ابن عبد البر عن مالك الكراهة، قال وهو أحد قولي الشافعي‏.‏ وقال الشيخ أبو الحامد‏:‏ حكى أهل العراق عن الشافعي يعني في القديم أنه كره الزيادة على المرفوع وغلطوا بل لا يكره ولا يستحب، وحكي الترمذي عن الشافعي قال‏:‏ فإن زاد في التلبية شيئاً من تعظيم الله فلا بأس وأحب إلى أن يقتصر على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وذلك أن ابن عمر حفظ التلبية عنه ثم زاد من قبله زيادة انتهى‏.‏