فصل: 29- كتاب الوصايا عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي للمباركفوري ***


29- كتاب الوصايا عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

قال في الفتح‏:‏ الوصايا جمع وصية كالهدايا، وتطلق على فعل الموصي وعلى ما يوصي به من مال أو غيره من عهد ونحوه فتكون بمعنى المصدر وهو الإيصاء وتكون بمعنى المفعول وهو الاسم‏.‏ وفي الشرع عهد خاص مضاف إلى ما بعد الموت وقد يصحبه التبرع قال الأزهري‏:‏ الوصية من وصيت الشيء بالتخفيف أصيه إذا وصلته، سميت وصية لأن الميت يصل بها ما كان في حياته بعد مماته، ويقال وصية بالتشديد ووصاة بالتخفيف بغير همز، وتطلق شرعاً أيضاً على ما يقع به الزجر عن المنهيات والحث على المأمورات انتهى‏.‏

1408- بابُ مَا جَاءَ في الْوَصِيّةِ بالثّلُث

2137- حَدّثنا ابنُ أَبِي عُمَرَ، حدثنا سُفْيَانُ بن عُيينَةِ عن الزّهْرِيّ عن عَامِرِ بنِ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقّاصٍ عن أَبِيِه قالَ‏:‏ ‏"‏مَرِضْتُ عَامَ الفَتْحِ مَرَضَاً أَشْفَيْتُ مِنْهُ على المَوْتِ، فَأَتَانِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي، فَقلت‏:‏ يَا رسولَ الله إِنّ لِي مَالاً كَثِيراً وَلَيْسَ يَرِثُنِي إِلاّ ابْنَتِي فَأُوصِي بِمَالِي كُلّهِ‏؟‏ قالَ‏:‏ لاَ، قُلْتُ فَثُلُثَيْ مَالِي‏؟‏ قالَ‏:‏ لا، قلت‏:‏ فالشّطْرُ‏؟‏ قالَ‏:‏ لا، قلت‏:‏ فالثّلُثُ‏؟‏ قال‏:‏ الثّلُثُ وَالثّلُثُ كَثِيرٌ إِنَكَ إِنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفّفُونَ النّاسَ، وإِنّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً إِلاّ أُجِرْتَ فِيهَا، حَتّى الّلقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى في امْرَأَتِكَ‏.‏ قالَ‏:‏ قلت‏:‏ يا رَسولَ الله أُخَلّفُ عن هِجْرَتِي‏؟‏ قالَ‏:‏ إِنّكَ لَنْ تُخَلّفَ بَعْدِي فَتَعْمَلَ عَمَلاً تُرِيدُ بِهِ وَجْه الله إِلاّ ازْدَدْتَ بِه رِفْعَةً، وَدَرَجَةً، وَلَعَلّكَ إِنْ تُخَلّفْ حتى يَنْتَفِعَ بكَ أَقْوامٌ ويُضَرّ بِكَ آخَرُونَ‏.‏ الّلهُمّ امْضِ لأِصحَابِي هِجْرَتَهُمْ ولا تَرُدّهُمْ على أَعْقَابِهِمْ لَكِنّ البَائِسَ سَعْدُ ابنُ خَوْلَةَ‏:‏ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ مَاتَ بِمَكّةَ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ وفي البابِ عن ابنِ عَبّاسٍ‏.‏

وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ وقد رُوِيَ هذا الحديثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن سَعدِ بنِ أَبِي وَقّاصٍ‏.‏ والعَمَلُ على هذا عِنْدَ أَهْلِ العِلمِ أَنّهُ لَيْسَ للرّجُلِ أَنْ يُوصيَ بأَكْثَرَ مِنَ الثّلُثِ‏.‏ وقد اسْتَحَبّ بَعْضُ أَهلِ العِلمِ أَنْ يُنْقِصَ مِنَ الثّلُثِ لِقَوْلِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏وَالثّلُثُ كَثِيرٌ‏"‏‏.‏

2138- حدّثنا نَصْرُ بنُ عَلِيّ الجَهْضَمِيّ أخبرنا عَبْدُ الصّمَدِ بنُ عَبْدِ الْوَارِثِ حدثنا نَصْرُ بنُ عَلِيّ وهو جد هذا النصر، حدثنا الأَشْعَثُ بنُ جَابِرٍ عن شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ، عن أَبي هُرَيْرَةَ أَنه حَدّثَهُ عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ‏:‏ ‏"‏إن الرّجُلَ لَيَعْمَلُ وَالمَرْأَةَ بِطَاعَةِ الله سِتّينَ سَنَةً ثُمّ يَحْضُرُهُما المَوْتُ فَيُضَارّانِ في الوَصِيّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النّارُ، ثُمّ قَرَأَ عَليّ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَار وَصِيّة مِنَ الله‏}‏- إِلَى قَوْلِهِ- ‏{‏ذلكَ الفَوْزُ العَظِيمُ‏}‏‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ‏.‏ ونَصْرُ بنُ عَلِيَ الذي رَوَى عن الأَشْعَثَ بنِ جَابِرٍ هُوَ جَدّ نَصْرِ بن عليّ الْجَهْضَمِيّ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مرضت عام الفتح‏)‏ صوابه عام حجة الوداع‏.‏ قال الحافظ في فتح الباري‏:‏ اتفق أصحاب الزهري على أن ذلك كان في حجة الوداع إلا ابن عيينة فقال في فتح مكة‏:‏ أخرجه الترمذي وغيره من طريقه‏.‏ واتفق الحافظ على أنه وهم فيه، قال ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ذلك وقع له مرتين مرة عام الفتح ومرة عام حجة الوداع، ففي الأولى لم يكن له وارث من الأولاد أصلاً، وفي الثانية كانت له ابنة فقط انتهى ‏(‏أشفيت منه‏)‏ أي أشرفت، يقال اشفي على كذا أي قاربه وصار على شفاه‏.‏ ولا يكاد يستعمل إلا في الشر ‏(‏يعودني‏)‏ حال ‏(‏وليس يرثني‏)‏ أي من أصحاب الفروض ‏(‏إلا ابنتي‏)‏ لأنه كان له عصبة كثيرة ذكره المظهر‏.‏

قال الطيبي‏:‏ ويؤيد هذا التأويل قوله ورثتك، ولعل تخصيص البنت بالذكر لعجزها‏.‏ والمعنى ليس يرثني ممن أخاف عليه إلا ابنتي ‏(‏فأوصي‏)‏ بالتخفيف والتشديد ‏(‏بمالي كله‏)‏ أي بتصدقه للفقراء ‏(‏فالشطر‏)‏ بالجر أي فبالنصف‏.‏ قال ابن الملك‏:‏ يجوز نصبه عطفاً على الجار والمجرور ورفعه أي فالشطر كاف، وجره عطفاً على مجرور الباء ‏(‏قلت فالثلث‏)‏ بالجر وجوز النصب والرفع على ما سبق ‏(‏قال الثلث‏)‏ بالنصب‏.‏

قال النووي رحمه الله‏:‏ يجوز نصب الثلث الأول ورفعه بالنصب على الإغراء أو على تقدير‏:‏ أعط الثلث، وأما الرفع فعلى أنه فاعل أي يكفيك الثلث، أو أنه مبتدأ محذوف الخبر أو عكسه ‏(‏والثلث‏)‏ بالرفع لا غير على الابتداء خبره ‏(‏كثير‏)‏ قال السيوطي‏:‏ روي بالمثلثة والموحدة وكلاهما صحيح‏.‏ قال ابن الملك‏:‏ فيه بيان أن الإيصاء بالثلث جائز له وأن النقص منه أولى ‏(‏إنك‏)‏ استئناف تعليل ‏(‏إن تذر‏)‏ بفتح الهمزة والراء وبكسر الهمزة وسكون الراء أي تترك ‏(‏ورثتك أغنياء‏)‏ أي مستغنين عن الناس ‏(‏عالة‏)‏ أي فقراء ‏(‏يتكففون الناس‏)‏ أي يسألونهم بالأكف ومدها إليهم، وفيه إشارة إلى أن ورثته كانوا فقراء وهم أولى بالخير من غيرهم‏.‏

قال النووي رحمه الله‏:‏ أن تذر بفتح الهمزة وكسرها روايتان صحيحتان، وفي الفائق إن تذر مرفوع المحل على الابتداء أي تركك أولادك أغنياء خير والجملة بأسرها خبر إنك ‏(‏لن تنفق نفقة‏)‏ مفعول به أو مطلق ‏(‏إلا أجرت فيها‏)‏ بصيغة المجهول أي صرت مأجوراً بسبب تلك النفقة ‏(‏حتى اللقمة‏)‏ بالنصب وبالجر وحكي بالرفع ‏(‏ترفعها إلى في امرأتك‏)‏ وفي رواية‏:‏ حتى ما تجعل في في أمرأتك، أي في فمها‏.‏ والمعنى لابتغاء رضائه تعالى يؤجر وإن كان محل الإنفاق محل الشهوة وحظ النفس لأن الأعمال بالنيات ونية المؤمن خير من عمله كذا في المرقاة ‏(‏أخلف عن هجرتي‏)‏ أي أبقى بسبب المرض خلفاً بمكة قاله تحسرا وكانوا يكرهون المقام بمكة بعد ما هاجروا منها ‏(‏وتركوها لله‏)‏ إنك لن تخلف بعدي فتعمل عملاً الخ يعني أن كونك مخلفاً لا يضرك مع العمل الصالح ‏(‏لعلك إن تخلف‏)‏ أي بأن يطول عمرك ‏(‏حتى ينتفع بك أقوام‏)‏ أي من المسلمين بالغنائم مما سيفتح الله على يديك من بلاد الشرك ‏(‏ويضر‏)‏ مبني للمفعول ‏(‏بك آخرون‏)‏ من المشركين الذين يهلكون على يديك وقد وقع ذلك الذي ترجى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشفي سعد من ذلك المرض وطال عمره حتى انتفع به أقوام من المسلمين واستضربه آخرون من الكفار حتى مات سنة خمسين على المشهور، وقيل غير ذلك‏.‏ قال النووي‏:‏ هذا الحديث من المعجزات فإن سعداً رضي الله عنه عاش حتى فتح العراق وغيره وانتفع به أقوام في دينهم ودنياهم وتضرر به الكفار في دينهم ودنياهم، فإنهم قتلوا رجالهم وسبيت نساءهم وأولادهم وغنمت أموالهم وديارهم‏.‏ وولي العراق فاهتدى على يديه خلائق، وتضرر به خلائق بإقامته الحق فيهم من الكفار ونحوهم انتهى ‏(‏اللهم أمضىِ لأصحابي هجرتهم‏)‏ أي تممها لهم ولا تنقصها ‏(‏لكن البائس سعد بن خولة‏)‏ البائس من أصابه بؤس أي ضرر وهو يصلح للذم والترحم قيل إنه لم يهاجر من مكة حتى مات بها فهو ذم، والأكثر أنه هاجر ومات بها في حجة الوداع فهو ترحم ‏(‏يرثي له‏)‏، من رثيت الميت مرثية إذا عددت محاسنه ورثات بالهمز لغة فيه فإن قيل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي كما رواه أحمد وابن ماجة وصححه الحاكم، فإذا نهى عنه كيف يفعله‏؟‏ فالجواب أن المرثية المنهي عنها ما فيه مدح الميت وذكر محاسنه الباعث على تهييج الحزن وتجديد اللوعة أو فعلها مع الاجتماع لها أو على الإكثار منها دون ما عدا ذلك، والمراد هنا توجعه عليه السلام وتحزنه على سعد لكونه مات بمكة بعد الهجرة منها لا مدح الميت لتهييج الحزن كذا ذكره القسطلاني ‏(‏أن مات بمكة‏)‏ بفتح الهمزة أي لأجل موته بأرض هاجر منها وكان يكره موته بها فلم يعط ما تمنى‏.‏ قال ابن بطال‏:‏ وأما قوله‏:‏ يرثي له‏.‏ فهو من كلام الزهري تفسير لقولهصلى الله عليه وسلم‏:‏ لكن البائس الخ أي رثي له حين مات بمكة وكان يهوى أن يموت بغيرها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن ابن عباس‏)‏ أخرجه الشيخان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ أخرجه الجماعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والعمل على هذا عند أهل العلم أنه ليس للرجل أن يوصي بأكثر من الثلث‏)‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ استقر الإجماع على منع الوصية بأزيد من الثلث‏.‏ لكن اختلف فيمن ليس له وارث خاص، فذهب الجمهور إلى منعه من الزيادة على الثلث، وجوز له الزيادة الحنفية وإسحاق وشريك وأحمد في رواية، وهو قول علي وابن مسعود، واحتجوا بأن الوصية مطلقة في الاَية فقيدتها السنة لمن له وارث فبقي من لا وارث له على الإطلاق ‏(‏وقد استحب بعض أهل العلم أن ينقص من الثلث الخ‏)‏ قال الشوكاني في النيل‏:‏ المعروف من مذهب الشافعي استحباب النقص عن الثلث‏.‏ وفي شرح مسلم للنووي‏:‏ إن كان الورثة فقراء استحب أن ينقص منه وإن كانوا أغنياء استحب أن يوصي بالثلث تبرعاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا نصر بن علي‏)‏ بن نصر بن علي الجهضمي حفيد نصر بن علي الاَتي في هذا السند ثقة ثبت طلب للقضاء فامتنع من العاشرة ‏(‏حدثنا نصر بن علي‏)‏ ابن صهبان الأزدي الجهضمي البصري ثقة من السابعة ‏(‏حدثنا الأشعث بن جابر‏)‏ قال في التقريب‏:‏ أشعث بن عبد الله بن جابر الحداني الأزدي بصري يكني أبا عبد الله وقد ينسب إلى جده وهو الحملي صدوق من الخامسة ‏(‏قال إن الرجل ليعمل‏)‏ أي ليعبد ‏(‏والمرأة‏)‏ بالنصب عطفاً على اسم إن وخبر المعطوف محذوف بدلالة خبر المعطوف عليه ويجوز الرفع وخبره كذلك وقد تنازع في قوله ‏(‏بطاعة الله‏)‏ المحذوف والمذكور ‏(‏ستين سنة‏)‏ أي مثلاً، أو المراد منه التكثير ‏(‏ثم يحضرهم الموت‏)‏ وفي رواية يحضرهما بضمير التثنية وهو الظاهر أي علامته ‏(‏فيضاران في الوصية‏)‏ من المضاء أي يوصلان الضرر إلى الوارث بسبب الوصية للأجنبي بأكثر من الثلث، أو بأن يهب جميع ماله لواحد من الورثة كيلا يورث وارث آخرون من ماله شيئاً فهذا مكروه وفرار عن حكم الله تعالى، ذكره ابن الملك‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ كأن يوصي لغير الوصية أو يوصي بعدم إمضاء ما أوصى به حقاً بأن ندم من وصيته أو ينقض بعض الوصية ‏(‏فيجب لهما النار‏)‏ أي فتثبت‏.‏ والمعنى يستحقان العقوبة ولكنهما تحت المشيئة ‏(‏ثم قرأ علي‏)‏ بتشديد الياء، قائله شهر بن حوشب أي قرأ على أبو هريرة استشهاداً وإعتضاداً ‏(‏من بعد وصية‏)‏ متعلق بما تقدم من قسمة المواريث ‏(‏يوصى بها أو دين‏)‏ ببناء المجهول ‏(‏غير مضار‏)‏ حال عن يوصي مقدر لأنه لما قيل يوصي علم أن ثم موصياً أي غير موصل الضرر إلى ورثته بسبب الوصية ‏(‏إلى قوله ذلك الفوز العظيم‏)‏ يعني ‏(‏وصية من الله والله عليم حليم‏.‏ تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها‏)‏ إلى آخر الاَية‏.‏ والشاهد إنما هو الاَية الأولى وإنما قرأ الاَية الثانية، لأنها تؤكد الأولى وكذا ما بعدها من الثالثة، وكأنه أكتفى بالثانية عن الثالثة، قاله القاري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن غريب‏)‏ وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة‏.‏ قال المنذري بعد نقل تحسين الترمذي‏:‏ وشهر بن حوشب قد تكلم فيه غير واحد من الاَئمة، ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين‏.‏

1409- باب ما جَاءَ في الْحَثّ عَلَى الوَصِيّة

2139- حَدّثنا ابنُ أَبِي عُمَرَ، حدثنا سُفْيَانُ عن أَيّوبَ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ قالَ‏:‏ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَا حَقّ امْرِيءٍ مُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ وَلَهُ مَا يُوصِي فيِه إِلاّ وَوَصِيّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ وقد رُوِيَ عن الزّهْرِيّ عن سَالِمٍ عن ابنِ عُمَرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوُهُ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما حق امرئ مسلم‏)‏ كلمة ‏"‏ما‏"‏ بمعنى ليس ‏(‏يبيت ليلتين‏)‏ جملة فعلية وقعت صفة أخرى لامرئ ‏(‏وله ما يوصي فيه‏)‏ جملة حالية أي وله شيء يريد أن يوصي فيه ‏(‏إلا ووصيته مكتوبة عنده‏)‏ مستثنى خبر ليس والواو فيه للحال قاله العيني تبعاً للطيبي‏.‏ وقال الحافظ‏:‏ قوله يبيت كأن فيه حذفاً‏.‏ تقديره أن يبيت وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آياته يريكم البرق‏}‏ الاَية‏.‏ ويجوز أن يكون يبيت صفة لمسلم وبه جزم الطيبي قال هي صفة ثانية انتهى‏.‏ قال العيني معترضاً عليه‏:‏ هذا قياس فاسد وفيه تغيير المعنى أيضاً وإنما قدر أن في قوله ‏"‏يريكم‏"‏ لأنه في موضع الابتداء، لأن قوله ‏(‏ومن آياته‏)‏ في موضع الخبر، والفعل لا يقع مبتدأ فيقدر أن فيه حتى يكون في معنى المصدر فيصح حينئذ وقوعه مبتدأ‏.‏ فمن له ذوق من العربية يفهم هذا ويعلم تغيير المعنى فيما قال انتهى‏.‏

قلت‏:‏ قال القسطلاني‏:‏ لم يجب الحافظ عن ذلك في إنتقاض الاعتراض بشيء بل بيض له ككثير من الاعتراضات التي أوردها العيني عليه، لكن يدل لما قاله رواية النسائي من طريق فضيل بن عياض عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر حيث قال فيها‏:‏ أن يبيت‏.‏ فصرح بأن المصدرية انتهى‏.‏

قلت‏:‏ ويدل له أيضاً ما رواه أحمد عن سفيان عن أيوب بلفظ‏:‏ ‏"‏حق على كل مسلم أن لا يبيت ليلتين وله ما يوصي فيه‏"‏ الحديث‏.‏ وما رواه أبو عوانة من طريق هشام بن الغاز عن نافع بلفظ‏:‏ ‏"‏لا ينبغي لمسلم أن يبيت ليلتين‏"‏ الحديث، فقول العيني هذا قياس فاسد وفيه تغيير المعنى الخ ليس مما يلتفت إليه، وقد قال بما قال الحافظ غيره من أهل العلم قال في العدة‏:‏ ويحتمل أن يكون خبر المبتدأ يبيت بتأويله بالمصدر تقديره ما حقه بيتوتته ليلتين إلا وهو بهذه الصفة، وهذا معنى قوله في المصابيح‏:‏ أن يبيت ليلتين ارتفع بعد حذف أن مثل قوله تعالى ‏{‏ومن آياته يريكم البرق‏}‏ ذكره القسطلاني قال الحافظ‏:‏ قوله ليلتين كذا لأكثر الرواة، وفي رواية لأبي عوانة والبيهقي يبيت ليلة أو ليلتين، وفي رواية لمسلم والنسائي يبيت ثلاث ليال، فكأن ذكر الليلتين والثلاث لرفع الحرج لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها ففسح له هذا القدر ليتذكر ما يحتاج إليه، واختلاف الروايات فيه دال على أنه للتقريب لا التحديد، والمعنى لا يمضي عليه زمان وإن كان قليلاً إلا ووصيته مكتوبة، وفيه إشارة إلى اغتفار الزمن اليسير، وكأن الثلاث غاية للتأخير، ولذلك قال ابن عمر في رواية سالم‏:‏ لم أبت ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك ‏"‏إلا ووصيتي عندي‏"‏ انتهى‏.‏

قال النووي رحمه الله‏:‏ فيه الحث على الوصية وقد أجمع المسلمون على الأمر بها لكن مذهبنا ومذهب الجماهير أنها مندوبة لا واجبة‏.‏ وقال داود وغيره من أهل الظاهر‏:‏ هي واجبة لهذا الحديث ولا دلالة لهم فيه، فليس فيه تصريح بإيجابها لكن إن كان على الإنسان دين أو حق أو عنده وديعة ونحوها لزمه الإيصاء بذلك، قال الشافعي رحمه الله تعالى‏:‏ معنى الحديث ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده ويستحب تعجيلها، وإن يكتبها في صحيفة، ويشهد عليه فيها، ويكتب فيها ما يحتاج إليه، فإن تجدد له أمر يحتاج إلى الوصية به ألحقه بها‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ووصيته مكتوبة عنده‏"‏ معناه مكتوبة وقد أشهد عليه بها لا أنه يقتصر على الكتابة بل لا يعمل بها ولا ينفع إلا إذا كان أشهد عليه بها‏.‏ هذا مذهبنا ومذهب الجمهور‏.‏ وقال الإمام محمد بن نصر المروزي من أصحابنا‏:‏ يكفي الكتاب من غير إشهاد لظاهر الحديث انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه مالك وأحمد والشيخان وابن ماجه‏.‏

1410- باب ماَ جَاءَ أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلملَمْ يُوص

2140- حَدّثنا أَحمدُ بنُ مَنِيعٍ، أخبرنا أَبُو قَطَنٍ‏.‏ عمرو بن الهيثم البغدادي أخبرنا مَالِكُ بنُ مِغْوَلٍ عن طَلْحَةَ بنِ مُصَرّفٍ قالَ‏:‏ ‏"‏قُلْتُ لابْنِ أَبِي أَوْفَى‏:‏ أَوْصَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالَ‏:‏ لا، قلت‏:‏ وَكَيْفَ كُتِبَتِ الوَصِيّةُ وكَيْفَ أَمَرَ النّاسَ‏؟‏ قالَ‏:‏ أَوْصَى بِكِتَابِ الله تَعَالَى‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ‏.‏ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بنِ مِغْوَلٍ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن طلحة بن مصرف‏)‏ بميم مضمومة وفتح صاد وكسر راء مشددة على الصواب وحكى فتحها وبفاء كذا في المغني، وطلحة بن مصرف هذا هو ابن عمرو ابن كعب اليامي بالتحتانية الكوفي ثقة قارئ فاضل من الخامسة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قلت لابن أبي أوفى‏)‏ هو عبد الله بن أبي أوفى علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي صحابي شهد الحديبية وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم دهراً، مات سنة سبع وثمانين وهو آخر من مات بالكوفة من الصحابة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال لا‏)‏ هكذا أطلق الجواب وكأنه فهم أن السؤال وقع عن وصية خاصة فلذلك ساغ نفيها لا أنه أراد نفي الوصية مطلقاً‏.‏ لأنه أثبت بعد ذلك أنه بكتاب الله ‏(‏وكيف كتبت الوصية وكيف أمر الناس‏)‏ وفي رواية البخاري في فضائل القرآن‏:‏ كيف كتب على الناس الوصية أمروا بها ولم يوص‏.‏ وبذلك يتم الاعتراض، أي كيف يؤمر المسلمون بشيء ولا يفعله النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال النووي‏:‏ لعل ابن أبي أوفى أراد لم يوص بثلث ماله لأنه لم يترك بعده مالاً وأما الأرض فقد سلبها في حياته، وأما السلاح والبغلة ونحو ذلك فقد أخبر بأنها لا تورث عنه بل جميع ما يخلفه صدقة، فلم يبق بعد ذلك ما يوصي به من الجهة المالية، وأما الوصايا بغير ذلك فلم يرد ابن أبي أوفى نفيها، ويحتمل أن يكون المنفي وصيته إلى عليّ بالخلافة كما وقع التصريح به في حديث عائشة عند البخاري وغيره ذكروا عندها أن علياً كان وصياً فقالت متى أوصى إليه الحديث‏.‏ وقد أخرج ابن حبان حديث الباب من طريق ابن عيينة عن مالك بن مغول بلفظ يزيل الإشكال فقال‏:‏ سئل ابن أبي أوفى هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال ما ترك شيئاً يوصي فيه، قيل فكيف أمر الناس بالوصية ولم يوص‏؟‏ قال‏:‏ أوصى بكتاب‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ استبعاد طلحة واضح لأنه أطلق فلو أراد شيئاً بعينه لخصه به فاعترضه بأن الله كتب على المسلمين الوصية وأمروا بها فكيف لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فأجابه بما يدل على أنه أطلق في موضع التقييد ‏(‏أوصى بكتاب الله تعالى‏)‏ أي بالتمسك به والعمل بمقتضاه، ولعله أشار لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تركت فيكم ما إن تمسكتم به لم تضلوا كتاب الله‏"‏‏.‏ وأما ما صح في مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم أوصى عند موته بثلاث لا يبقين بجزيرة العرب دينان، وفي لفظ‏:‏ أخرجوا اليهود من جزيرة العرب‏.‏ وقوله ‏"‏أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم به‏"‏‏.‏ ولم يذكر الراوي الثالثة، وكذا ما ثبت في النسائي أنه صلى الله عليه وسلم كان آخر ما تكلم به‏:‏ ‏"‏الصلاة وما ملكت إيمانكم‏"‏‏.‏ وغير ذلك من الأحاديث التي يمكن حصرها بالتتبع، فالظاهر أن ابن أبي أوفى لم يرد نفيه ولعله اقتصر على الوصية بكتاب الله لكونه أعظم وأهم ولأن فيه تبيان كل شيء إما بطريق النصر وإما بطريق الاستنباط، فإذا اتبع الناس ما في الكتاب عملوا بكل ما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم به لقوله تعالى ‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه‏}‏ الاَية، أو يكون لم يحضر شيئاً من الوصايا المذكورة أو لم يستحضرها حال قوله، والأولى أنه إنما أراد بالنفي الوصية بالخلافة أو بالمال وساغ إطلاق النفي، أما في الأول فبقرينه الحال، وأما في الثانية فلأنه المتبادر عرفاً‏.‏ وقد صح عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم لم يوص، أخرجه ابن أبي شيبة من طريق أرقم بن شرحبيل عنه، مع أن ابن عباس هو الذي روى حديث أنه صلى الله عليه وسلم أوصى بثلاث والجمع بينهما على ما تقدم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه البخاري في الوصايا وفي المغازي وفي فضائل القرآن، وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه في الوصايا‏.‏

1411- باب مَا جَاءَ لاَوَصِيّةَ لِوَارِث

2141- حَدّثنا هَنّادٌ و عَلِيّ بنُ حُجْرٍ قالا‏:‏ أخبرنا إسماعيلُ بنُ عيّاشٍ، أخبرنا شُرَحْبِيلُ بن مُسْلِمٍ الخَوْلانِيّ عن أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهَلِيّ قالَ‏:‏ ‏"‏سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ في خُطْبَتِهِ عَامَ حَجّةِ الوَدَاعِ‏:‏ إِنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قد أَعْطَى لكُلّ ذِي حَقّ حَقّهُ فَلاَ وَصِيّةَ لِوَارِثٍ‏.‏ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ولِلْعَاهِرِ الْحَجرُ وَحِسَابهُمْ على الله تَعَالَى، ومن ادّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيِه أَو انْتَمى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيِه فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله التّابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏.‏ لا تُنْفِقُ امْرَأَةٌ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلاّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، قِيلَ يا رسولَ الله‏:‏ وَلاَ الطعامَ‏؟‏ قَالَ ذَلِكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا‏.‏ ثم قَالَ‏:‏ العَارِيّةُ مُؤَدّاةٌ، وَالمِنْحَةَ مَرْدُودَةٌ، وَالدّيْنُ مَقْضِيّ، والزّعِيمُ غَارِمٌ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ وفي البابِ عن عَمْرِو بنِ خَارِجَةَ وَأَنَسِ بنِ مَالِكٍ وهو حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ وقد رُوِيَ عن أَبِي أُمَامَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ هذا الوَجْهِ‏.‏ ورِوَايَةُ إسماعيلَ بنِ عَيّاشٍ عن أَهْلِ العِرَاقِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ لَيْسَ بِذَلِكَ فِيمَا يَتَفَرّدُ بِهِ لأَنّهُ رَوَى عَنْهُمْ مَنَاكِيرَ‏.‏ وَرِوَايَتُهُ عن أَهْلِ الشّامِ أَصَحّ‏.‏ هَكَذَا قالَ محمدُ بنُ إسماعيلَ قال سَمِعْتُ أَحمدَ بنَ الْحَسَنِ يَقُولُ‏:‏ قالَ أَحمدُ بنُ حَنْبَلٍ‏:‏ إسماعيلُ بنُ عَيّاشٍ أَصْلَحُ حَدِيثاً مِنْ بَقِيّةَ‏.‏ وَلِبقِيّةَ أَحَادِيثُ مَنَاكِيرُ عن الثّقَاتِ‏.‏ وسَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ عَبْدِ الرحمنِ يقولُ سَمِعْتُ زكريّا بنَ عَدِيّ يقولُ، قالَ أَبُو إسحاقَ الفَزَارِيّ‏:‏ خُذُوا عنْ بَقِيّةَ ما حَدّثَ عن الثّقَاتِ ولا تَأْخُذُوا عن إسماعيلَ بنِ عَيّاشٍ مَا حَدّثَ عن الثّقَاتِ وَلاَ عن غَيْرِ الثّقَاتِ‏.‏

2142- حدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا أَبو عَوَانَةَ عن قَتَادَةَ عن شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ عن عَبْدِ الرحمنِ بنِ غَنْمٍ عن عَمْرِو بنِ خَارِجَةَ‏:‏ ‏"‏أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خَطَب على نَاقَتِهِ وَأَنَا تَحْتَ جِرَانهَا وهِيَ تَقْصَعُ بِجِرّتِها وإِنّ لُعَابَهَا يَسِيلُ بَيْنَ كَتفَيّ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ‏:‏ إِنّ الله عَزّ وَجَلّ أَعْطَى كُلّ ذِي حَقّ حَقّهُ لا وَصِيَةَ لِوَارِثٍ وَالْوَلَدُ لِلفِرَاشِ ولِلْعَاهِرِ الْحَجرُ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرنا شرحبيل بن مسلم الخولاني‏)‏ الشامي صدوق فيه لين من الثالثة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قد أعطى كل ذي حق حقه‏)‏ أي بين له حظه ونصيبه الذي فرض له ‏(‏فلا وصية لوارث‏)‏ قال الأمير اليماني في السبل‏:‏ الحديث دليل على منع الوصية للوارث وهو قول الجماهير من العلماء‏.‏ وذهب الهادي وجماعة إلى جوازها مستدلين بقوله تعالى ‏{‏كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت‏}‏ الاَية‏.‏ قالوا ونسخ الوجوب لا ينافي الجواز‏.‏ قلنا‏:‏ نعم لو لم يرد هذا الحديث فإنه ينافي لجوازها، إذ وجوبها قد علم نسخه من آية المواريث كما قال ابن عباس‏:‏ كان المال للولد والوصية للوالدين فنسخ الله سبحانه من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع انتهى‏.‏

قلت‏:‏ حديث ابن عباس هذا أخرجه البخاري في صحيحه في الوصايا وغيره‏.‏

قال الحافظ‏:‏ هو موقوف لفظاً إلا أنه في تفسيره إخبار بما كان من الحكم قبل نزول القرآن فيكون في حكم المرفوع بهذا التقرير انتهى‏.‏

واعلم أن حديث الباب أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس وزاد في آخره‏:‏ إلا أن يشاء الورثة‏.‏ قال الحافظ في بلوغ المرام‏:‏ إسناده حسن، وقال في الفتح‏:‏ رجاله ثقات لكنه معلول فقد قيل إن عطاء الذي رواه عن ابن عباس هو الخراساني وهو لم يسمع من ابن عباس‏.‏ وأخرجه الدارقطني أيضاً من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً‏:‏ ‏"‏لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة‏"‏‏.‏ قال الحافظ في التلخيص‏:‏ إسناده واه، وفي هذه الزيادة دليل على أنها تصح وتنفذ الوصية للوارث إن أجازها الورثة‏.‏ قال العيني في العمدة‏:‏ قال المنذري‏:‏ إنما يبطل الوصية للوارث في قول أكثر أهل العلم من أجل حقوق سائر الورثة، فإن أجازوها جازت، كما إذا أجازوا الزيادة على الثلث، وذهب بعضهم إلى أنها لا تجوز، وإن أجازوها لأن المنع لحق الشرع، فلو جوزناها كنا قد استعملنا الحكم المنسوخ وذلك غير جائز، وهو قول أهل الظاهر انتهى‏.‏ ‏(‏الولد للفراش‏)‏ أي للأم‏.‏ قال في النهاية‏:‏ وتسمى المرأة فراشاً لأن الرجل يفترشها، أي الولد منسوب إلى صاحب الفراش سواء كان زوجاً أو سيداً أو واطئ شبهة، وليس للزاني في نسبه حظ، إنما الذي جعل له من فعله استحقاق الحد وهو قوله ‏(‏وللعاهر الحجر‏)‏ قال التوربشتي‏:‏ يريد أن له الخيبة، وهو كقولك له التراب، والذي ذهب إلى الرجم فقد أخطأ لأن الرجم لا يشرع في سائره ‏(‏وحسابهم على الله تعالى‏)‏ قال المظهر‏:‏ يعني نحن نقيم الحد على الزناة وحسابهم على الله إن شاء عفا عنهم وإن شاء عاقبهم، هذا مفهوم الحديث، وقد جاء‏:‏ ‏"‏من أقيم عليه الحد في الدنيا لا يعذب بذلك الذنب في القيامة، فإن الله تعالى أكرم من أن يثني العقوبة على من أقيم عليه الحد‏"‏‏.‏ ويحتمل أن يراد به من زنى أو أذنب ذنباً آخر ولم يقم عليه الحد فحسابه على الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه‏.‏ قال القاري‏:‏ ويمكن أن يقال ونحن نجري أحكام الشرع بالظاهر والله تعالى أعلم بالسرائر‏.‏ فحسابهم على الله وجزاؤهم عند الله أو بقية محاسبتهم ومجازاتهم من الإصرار على ذلك الذنب ومباشرة سائر الذنوب تحت مشيئة الله ‏(‏ومن ادعى إلى غير أبيه‏)‏ بتشديد الدال أي انتسب إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه ‏(‏أو انتمى إلى غير مواليه‏)‏ أي انتسب إليهم وصار معروفاً بهم من نميته إلى أبيه نمياً نسبته إليه وانتمى هو ‏(‏فعليه لعنة الله التابعة إلى يوم القيامة‏)‏ وفي رواية أبي داود عن أنس‏:‏ المتتابعة إلى يوم القيامة ‏(‏لا تنفق‏)‏ نفي وقيل نهي ‏(‏امرأة من بيت زوجها إلا بإذن زوجها‏)‏ أي صريحاً أو دلالة ‏(‏قيل يا رسول الله ولا الطعام قال ذاك أفضل أموالنا‏)‏ يعني فإذا لم تجز الصدقة بما هو أقل قدراً من الطعام بغير إذن الزوج فكيف تجوز بالطعام الذي هو أفضل ‏(‏العارية‏)‏ بالتشديد ويخفف ‏(‏مؤداة‏)‏ بالهمزة ويبدل‏.‏ قال التوربشتي‏:‏ أي تؤدى إلى صاحبها‏.‏

واختلفوا في تأويله على حسب اختلافهم في الضمان، فالقائل بالضمان يقول تؤدي عيناً حال القيام وقيمة عند التلف، وفائدة التأدية عند من يرى خلافه إلزام المستعير مؤنة ردها إلى مالكها ‏(‏والمنحة‏)‏ بكسر فسكون، ما يمنحه الرجل صاحبه أي يعطيه من ذات در ليشرب لبنها أو شجرة ليأكل ثمرها أو أرضاً ليزرعها، وفي رواية المنيحة ‏(‏مردودة‏)‏ إعلام بأنها تتضمن تمليك المنفعة لا تمليك الرقبة ‏(‏والدين مقضي‏)‏ أي يجب قضاؤه ‏(‏والزعيم‏)‏ أي الكفيل ‏(‏غارم‏)‏ أي يلزم نفسه ما ضمنه، والغرم أداء شيء يلزمه، والمعنى ضامن ومن ضمن ديناً لزمه أداؤه ‏(‏وفي الباب عن عمرو بن خارجة وأنس بن مالك‏)‏ أما حديث عمرو بن خارجة فأخرجه الترمذي في هذا الباب‏.‏ وأما حديث أنس بن مالك فأخرجه ابن ماجه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن‏)‏ وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وحسنه الحافظ أيضاً في التلخيص‏.‏ وقال في الفتح‏:‏ في إسناده إسماعيل بن عياش وقد قوى حديثه إذا روى عن الشاميين جماعة من الأئمة منهم أحمد والبخاري، وهذا من روايته عن الشاميين لأنه رواه عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة، وصرح في روايته بالتحديث عند الترمذي، وقال الترمذي حديث حسن‏.‏ وفي الباب عن عمر بن خارجة عند الترمذي والنسائي وعن أنس عندابن ماجه، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الدارقطني، وعن جابر عند الدارقطني أيضاً وقال الصواب إرساله‏.‏ وعن علي عند ابن أبي شيبة، ولا يخلو إسناد كل منها عن مقال لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلاً بل جنح الشافعي في الأم إلى أن هذا المتن متواتر فقال‏:‏ وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح‏:‏ ‏"‏لا وصية لوارث‏"‏، ويؤثرون عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم فكان نقل كافة عن كافة فهو أقوى من نقل واحد وقد نازع الفخر الرازي في كون هذا الحديث متواتراً، وعلى تقدير تسليم ذلك فالمشهور من مذهب الشافعي أن القرآن لا ينسخ بالسنة، لكن الحجة في هذا الإجماع على مقتضاه كما صرح به الشافعي وغيره انتهى ‏(‏قال أحمد بن حنبل‏:‏ إسماعيل بن عياش أصلح بدناً من بقية‏)‏ أي أصلح حالاً منه ‏(‏وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن‏)‏ هو الدارمي ‏(‏ولا تأخذوا عن إسماعيل بن عياش ما حدث عن الثقات ولا غير الثقات‏)‏‏.‏

قال النووي في شرح مقدمة صحيح مسلم‏:‏ هذا الذي قاله أبو إسحاق الفزاري في إسماعيل خلاف قول جمهور الأئمة قال عباس‏:‏ سمعت يحيى بن معين يقول‏:‏ إسماعيل بن عياش ثقة وكان أحب إلى أهل الشام من بقية‏.‏ وقال ابن أبي خيثمة‏:‏ سمعت يحيى بن معين يقول‏:‏ هو ثقة والعراقيون يكرهون حديثه‏.‏ وقال البخاري‏:‏ ما روي عن الشاميين أصح‏.‏ وقال عمرو بن علي‏:‏ إذا حدث عن أهل بلاده فصحيح وإذا حدث عن أهل المدينة مثل هشام بن عروة ويحيى بن سعيد وسهيل بن أبي صالح فليس بشيء‏.‏ وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ كنت أسمع أصحابنا يقولون‏:‏ علم الشام عند إسماعيل بن عياش والوليدة بن مسلم‏.‏

قال يعقوب‏:‏ وتكلم قوم في إسماعيل وهو ثقة عدل أعلم الناس بحديث الشام ولا يدفعه دافع، وأكثر ما تكلموا قالوا يغرب عن ثقات المكيين والمدنيين، وقال يحيى بن معين‏:‏ إسماعيل ثقة فيما روى عن الشاميين، وأما روايته عن أهل الحجاز فإن كتابه ضاع فخلط في حفظه عنهم‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ هو لين يكتب حديثه لا أعلم أحداً كف عنه إلا أبا إسحاق الفزاري انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأنا تحت جرانها‏)‏ بكسر الجيم‏.‏ قال في القاموس‏:‏ جران البعير بالكسر مقدم عنفه من مذبحه إلى منحره ‏(‏وهي تقصع بجرتها‏)‏ الجرة بكسر الجيم وتشديد الراء‏.‏ قال في القاموس الجرة بالكسر هيئة الجر وما يفيض به البعير فيأكله ثانية، وقد اجتر وأجر، واللقمة يتعلل بها البعير إلى وقت علفه والقصع البلع‏.‏ قال في القاموس‏:‏ قصع كمنع ابتلع جرع الماء، والناقة بجرتها ردتها إلى جوفها أو مضغتها أو هو بعد الدسع وقبل المضغ أو هو أن تملأ بها فاها أو شدة المضغ ‏(‏وإن لعابها يسيل بين كتفي‏)‏ وفي رواية‏:‏ وإن لغامها بضم اللام بعدها غين معجمة وبعد الألف ميم هو اللعاب‏.‏ قال في القاموس لغم الجمل كمنع رمي بلعابه لزبده، قال والملاغم ما حول الفم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذاحديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وفي سنده شهر بن حوشب وهو مختلف فيه‏.‏

1412- باب ما جَاءَ يُبْدَأُ بِالدّيْنِ قَبْلَ الوَصِية

2143- حَدّثنا ابنُ أَبِي عُمَر، حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ، عن أَبِي إسحاقَ الهَمَدانِيّ عن الحَارِثِ عن عَلِيّ‏:‏ ‏"‏أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بالدّيْنِ قَبْلَ الوَصِيّةِ وَأَنْتُم تُقِرّونَ الوصِيّةَ قَبْلَ الدّيْنِ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ والعَمَلُ على هذا عِنْدَ عَامّةِ أَهْلِ العِلمِ أَنه يُبْدَأُ بالدّيْنِ قَبْلَ الوَصِيّةِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأنتم تقرون الوصية قبل الدين‏)‏ أي في قوله تعالى ‏{‏من بعد وصية يوصي بها أو دين‏}‏ وقوله ‏{‏من بعد وصية يوصين بها أو دين‏}‏ وقوله ‏{‏من بعد وصية توصون بها أو دين‏}‏ وقوله ‏{‏من بعد وصية يوصى بها أو دين‏}‏ قال الطيبي رحمه الله‏:‏ قوله أنتم تقرأون إخبار فيه معنى الاستفهام، يعني أنتم أتقرأون هذه الاَية هل تدرون معناها‏؟‏ فالوصية مقدمة على الدين في القراءة متأخرة عنه في القضاء انتهى‏.‏ وتقدم وجه تقديم الوصية على الدين في القراءة مع كونها متأخرة عنه في القضاء في باب ميراث الإخوة من الأب والأم وسيأتي مفصلاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والعمل على هذا عند عامة أهل العلم أنه يبدأ بالدين قبل الوصية‏)‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ ولم يختلف العلماء في أن الدين يقدم على الوصية إلا في صورة واحدة وهي ما لو أوصي الشخص بألف مثلاً وصدقه الوارث وحكم به ثم ادعى آخر أن له في ذمة الميت ديناً يستغرق موجوده وصدقه الوارث ففي وجه للشافعية أنها تقدم الوصية على الدين في هذه الصورة الخاصة، وأما تقديم الوصية على الدين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من بعد وصية يوصي بها أو دين‏}‏ فقد قيل في ذلك إن الاَية ليس فيها صيغة ترتيب بل المراد أن المواريث إنما تقع بعد قضاء الدين وإنفاذ الوصية وأتي بأو للإباحة وهي كقولك جالس زيداً أو عمراً أي لك مجالسة فكل واحد منهما اجتمعا أو افترقا، وإنما قدمت لمعنى اقتضى الاهتمام بتقديمها، واختلف في تعيين ذلك المعنى‏.‏ وحاصل ما ذكره أهل العلم من مقتضيات التقديم ستة أمور‏:‏ أحدها- الخفة والثقل كربيعة ومضر فمضر أشرف من ربيعة لكن لفظ ربيعة لما كان أخف قدم في الذكر وهذا يرجع إلى اللفظ‏.‏ ثانيها- بحسب الزمان كعاد وثمود‏.‏ ثالثها- بحسب الطبع كثلاث ورباع‏.‏ رابعها- بحسب الرتبة كالصلاة والزكاة لأن الصلاة حق البدن والزكاة حق المال، فالبدن مقدم على المال‏.‏ خامسها‏.‏ تقديم السبب على المسبب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عزيز حكيم‏}‏‏.‏ وقال بعض السلف عز فلما عز حكم‏.‏ سادسهاـ بالشرف والفضل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من النبيين والصديقين‏}‏‏.‏ وإذا تقرر ذلك فقد ذكر السهيلي أن تقديم الوصية في الذكر على الدين لأن الوصية إنما تقع على سبيل البر والصلة بخلاف الدين فإنه إنما يقع غالباً بعد الميت بنوع تفريط، فوقعت البداءة بالوصية لكونها أفضل‏.‏ وقال غيره‏:‏ قدمت الوصية لأنها شيء يؤخذ بغير عوض والدين يؤخذ بعوض، فكان إخراج الوصية أشق على الوارث من إخراج الدين، وكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين، فإن الوارث مطمئن بإخراجه فقدمت الوصية لذلك‏.‏ وأيضاً فهي حظ فقير ومسكين غالباً، والدين حظ غريم يطلب بقوة وله مقال كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ إن لصاحب الدين مقالاً‏.‏ وأيضاً فالوصية ينشئها الموصي من قبل نفسه فقدمت تحريضاً على العمل بها بخلاف الدين انتهى‏.‏ وحديث علي المذكور ضعيف‏.‏ قال في النيل‏:‏ قد أخرج أحمد والترمذي وغيرهما من طريق الحارث الأعور عن علي عليه سلام الله ورضوانه قال‏:‏ قضى محمد أن الدين قبل الوصية وأنتم تقرأون الوصية قبل الدين، والحديث وإن كان إسناده ضعيفاً لكنه معتضد بالاتفاق الذي سلف انتهى‏.‏

1413- باب ما جَاءَ في الرّجُلِ يَتصَدّقُ أَوْ يُعْتقُ عِنْدَ المَوْت

2144- حَدّثنا بُنْدَارٌ، حدثنا عَبْدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيٍ حدثنا سُفْيَانُ عن أَبِي إسحاقَ عن أَبِي حَبِيبَةَ الطّائِيّ قالَ‏:‏ ‏"‏أَوْصَى إِلَيّ أَخِي بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ، فَلَقِيتُ أَبَا الدّرْدَاءِ، فَقلت‏:‏ إِنّ أَخِي أَوْصَى إِلَيّ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ فَأَيْنَ تَرَى لي وَضْعَهُ في الفُقَراءِ أو المَسَاكِينَ أو المُجَاهِدِينَ في سَبِيلِ الله‏؟‏ فقالَ‏:‏ أَمّا أَنَا فَلَوْ كُنْتُ‏:‏ لَمْ أَعْدِلْ بالمجاهِدِينَ، سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ مَثَلُ الذي يُعْتِقُ عِنْدَ المَوْتِ كَمَثَلِ الّذِي يُهْدِي إِذَا شَبِعَ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي حبيبة الطائي‏)‏ قال في تهذيب التهذيب في ترجمته‏:‏ روى عن أبي الدرداء حديث‏:‏ مثل الذي يهدي ويعتق عند الموت الخ، وعنه أبو إسحاق السبيعي ولا يعرف له غيره، وذكره ابن حبان في الثقات انتهى‏.‏ وقال في التقريب، مقبول من الثالثة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أما أنا فلو كنت لم أعدل بالمجاهدين‏)‏ أي لم أساو بهم الفقراء أو المساكين وغيرهم‏.‏ والمعنى لو كنت أنا موصياً لم أوص إلا للمجاهدين ‏(‏مثل الذي يعتق‏)‏ وفي رواية يتصدق ‏(‏عند الموت‏)‏ أي عند احتضاره‏.‏ وفي المشكاة‏:‏ مثل الذي يتصدق عند موته يعتق ‏(‏كمثل الذي يهدي إذا شبع‏)‏ قال الطيبي‏:‏ في هذا الإهداء نوع استخفاف بالمهدى إليه انتهى‏.‏ والأظهر أن المراد أنه مرتبة ناقصة لأن التصدق والإعتاق حال الصحة أفضل، كما أن السخاوة عند المجاعة أكمل قاله القاري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه أحمد والنسائي والدارمي‏.‏ وفي الباب عن أبي سعيد مرفوعاً‏:‏ ‏"‏لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق بمائة عند موته‏"‏، رواه أبو داود وفي سنده شرحبيل بن سعد الأنصاري‏.‏ قال المنذري‏:‏ لا يحتج بحديثه‏.‏

1414- باب

2145- حدّثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا الّليْثُ عن ابنِ شِهَابٍ عن عُرْوَةَ أن عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُ عَائِشَةَ فِي كِتَابَتِهَا وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئاً، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ‏:‏ ارْجِعِي إلى أَهْلِكِ فَإِنْ أَحَبّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ ويَكُونَ ولاؤُكِ لي فَعَلْتُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيَرةُ لأَهْلِهَا فَأَبَوْا وقالُوا إنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ ويَكُونَ لَنَا وَلاَؤُكِ فَلْتَفْعَلْ فَذَكَرْتُ ذلكَ لرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقالَ لَهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ابْتَاعِي فأَعْتِقي فإِنّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، ثم قامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ‏:‏ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ الله‏؟‏ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطاً لَيْسَ فِي كِتَابِ الله فَلَيْسَ لَهُ وإِنْ اشْتَرَطَ مائِةَ مَرّةٍ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏‏.‏ وقد رُوِي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن عَائِشَةَ والعملُ على هذا عندَ أَهلِ العِلمِ أَن الوَلاَءَ لِمَنْ أَعْتَقَ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن بريرة‏)‏ بوزن عظيمة هي مولاة لعائشة، تقدم ترجمتها في باب اشتراط الولاء والزجر عن ذلك من أبواب البيوع ‏(‏تستعين عائشة‏)‏ جملة حالية ‏(‏ولم تكن قضت‏)‏ أي أدت ‏(‏من كتابتها‏)‏ أي من بدل كتابتها ‏(‏ارجعي إلى أهلك‏)‏ المراد به مواليها ‏(‏فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت‏)‏ ظاهره أن عائشة طلبت أن يكون الولاء لها إذا بذلت جميع مال الكتابة ولم يقع ذلك إذ لو وقع لكان اللوم بطلبها ولاء من أعتقها غيرها، وقد رواه أبو أسامة عن هشام بلفظ يزيل الإشكال فقال إن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك ويكون ولاؤك لي فعلت‏.‏ وكذلك رواه وهيب عن هشام فعرف بذلك أنها أرادت أن تشتريها شراء صحيحاً ثم تعتقها إذ العتق فرع ثبوت الملك، ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ابتاعي فأعتقي، كذا في النيل ‏(‏فذكرت ذلك‏)‏ أي الذي قالته عائشة ‏(‏فأبوا‏)‏ أي امتنعوا أن يكون الولاء لعائشة ‏(‏إن شاءت‏)‏ أي عائشة ‏(‏أن تحتسب‏)‏ هو من الحسبة بكسر المهملة أي تحتسب الأجر عند لله ‏(‏ويكون‏)‏ بالنصب عطف على تحتسب ‏(‏لنا ولاؤك‏)‏ لا لها ‏(‏فذكرت‏)‏ أي عائشة ‏(‏ابتاعي فأعتقي‏)‏ هو كقوله في حديث ابن عمر‏:‏ لا يمنعك ذلك ‏(‏فإنما الولاء لمن أعتق‏)‏ فيه إثبات الولاء للمعتق ونفيه عما عداه كما تقضيه إنما الحصرية، واستدل بذلك على أنه لا ولاء لمن أسلم على يديه رجل أو وقع بينه وبينه مخالفة خلافاً للحنفية، ولا للملتقط خلافاً لإسحاق ‏(‏ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ وفي رواية للبخاري، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد ‏(‏ما بال أقوام‏)‏ أي ما حالهم ‏(‏ليست في كتاب الله‏)‏ أي في حكم الله الذي كتبه على عباده وشرعه لهم، قال ابن خزيمة‏:‏ أي ليس في حكم الله جوازها أو وجوبها لا أن كل من شرط شرطاً لم ينطق به الكتاب باطل لأنه قد يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشرط ويشترط في الثمن شروط من أوصافه أو نجومه ونحو ذلك فلا يبطل، فالشروط المشروعة صحيحة وغيرها باطل ‏(‏فليس له‏)‏ أي ذلك الشرط أي لا يستحقه، وفي رواية النسائي‏:‏ من شرط شرطاً ليس في كتاب الله لم يجز له ‏(‏وإن اشترط مائة مرة‏)‏ ذكر المائة للمبالغة في الكثرة لا أن هذا العدد بعينه هو المراد‏.‏

واعلم أن هذا الحديث قد استنبط أهل العلم منه فوائد كثيرة‏.‏ قال ابن بطال‏:‏ أكثر الناس في تخريج الوجوه في حديث بريرة حتى بلغوها نحو مائة وجه‏.‏ وقال النووي‏:‏ صنف فيه ابن خزيمة وابن جرير تصنيفين كبيرين أكثر فيهما من استنباط الفوائد منها فذكر أشياء‏.‏

قال الحافظ‏:‏ ولم أقف على تصنيف ابن خزيمة ووقفت على كلام ابن جرير من كتابه تهذيب الآثار ولخصت منه ما تيسر بعون الله تعالى، وقد بلغ بعض المتأخرين الفوائد من حديث بريرة إلى أربعمائة أكثرها مستبعد متكلف كما وقع نظير ذلك للذي صنف في الكلام على حديث المجامع في رمضان فبلغ به ألف فائدة وفائدة انتهى‏.‏ وقد ذكر الحافظ في الفتح كثيراً من فوائد هذا الحديث في كتاب المكاتب وفي كتاب النكاح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه البخاري في مواضع عديدة في أوائل كتاب الصلاة في باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد‏.‏ وفي الزكاة في باب الصدقة على موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفي العتق والمكاتب والهبة والبيوع والفرائض والطلاق والشروط والأطعمة وكفارة الأيمان، وأخرجه في الطلاق من حديث ابن عباس، وفي الفرائض من حديث ابن عمر، وأخرج مسلم طرفاً منه من حديث أبي هريرة‏.‏ وأخرجه البخاري أيضاً في باب البيع والشراء مع النساء من طريق عروة عن عائشة، وفي باب إذا اشترط في البيع شروطاً من حديث هشام عن أبيه عنها‏.‏ وأخرجه مسلم أيضاً مطولاً ومختصراً أخرجه أبو داود في العتق والنسائي في البيوع وفي العتق والفرائض وفي الشروط، وابن ماجه في العتق‏.‏

30- كتاب الولاء والهبة

الولاء بالفتح والمد حق ميراث المعتِق بالكسر من المعتَق بالفتح‏.‏

1415- باب ما جاءَ أَنّ الْوَلاَءِ لمَنْ أَعْتَق

2146- حَدّثنا بُنْدَارٌ حدثنا عبدُ الرحمن بنُ مَهْدِي حدثنا سُفْيَانُ عن منصورٍ عن إبراهيمَ عن الأسْوَدِ عن عائشةَ‏:‏ أَنّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ فَاشْتَرَطُوا الْوَلاَءَ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْطَى الثّمَنَ أَوْ لِمَنْ وَلِيَ النّعْمَةَ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ وأَبي هُرَيْرَةَ‏.‏

وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ والعملُ على هذا عِنْدَ أهلِ العِلْمِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الولاء لمن أعطى الثمن‏)‏ وفي رواية البخاري‏:‏ لمن أعطى الورق‏.‏ قال الحافظ أي أعطى الثمن، وإنما عبر بالورق لأنه الغالب ‏(‏أو لمن ولي النعمة‏)‏ أي نعمة العتق‏.‏

قال الحافظ‏:‏ معنى قوله ولي النعمة أعتق، وفي رواية البخاري وغيره‏:‏ وولي النعمة بواو العطف، ولفظه أو في رواية الترمذي هذه للشك من الراوي‏.‏ ومعنى الحديث أن من اشترى العبد وأعتقه فولاؤه له‏.‏ قال ابن بطال‏:‏ هذا الحديث يقتضي أن الولاء لكل معتق ذكراً كان أو أنثى وهو مجمع عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة‏)‏ أما حديث ابن عمر فأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي‏.‏ وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏وهذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه البخاري وأبو داود والنسائي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والعمل على هذا عند أهل العلم‏)‏ قال النووي رحمه الله‏:‏ قد أجمع المسلمون على ثبوت الولاء لمن أعتق عبده أو أمته عن نفسه وأنه يرث به وأما العتيق فلا يرث سيده عند الجماهير، وقال جماعة من التابعين يرثه كعكسه انتهى‏.‏

1416- باب ما جاء في النّهْيِ عَنْ بيْعِ الْوَلاَءِ وعن هِبَتِه

2147- حَدّثنا ابْنُ أَبي عُمَرَ، حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَة، حدثنا عبدُ الله بنُ دِينَارٍ سَمِعَ عبدَ الله بنَ عُمَرَ ‏"‏أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ وَعن هِبَتِهِ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ لا نعرفُه إِلاّ من حديثِ عبدِ الله بنِ دِينَارٍ عن ابنِ عُمَرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد رَوَاهُ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ الثّوْرِيّ وَمَالِكُ بنُ أَنَسٍ عن عبدِ الله بنِ دِينَارٍ‏.‏ ويُرْوَى عن شُعْبَةَ قال‏:‏ لَوَدِدْتُ أَنّ عبدَ الله بنَ دِينَارٍ حِينَ يُحَدّثُ بهذا الحديثِ أَذِنَ لي حتى كُنْتُ أَقُومُ إِلَيْهِ فَأُقَبّلُ رَأْسَهُ‏.‏ وَرَوَى يَحْيَى بنُ سُلَيْمٍ هذا الحديثَ عن عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ وَهْمٌ وَهِمَ فِيِه يَحْيَى بنُ سُلَيْمٍ‏.‏ والصحيحُ عن عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ عن عبدِ الله بنِ دِينَارٍ عن ابنِ عُمَرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ هكذا رَوَاهُ غيرُ واحدٍ عن عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ وتَفَرّدَ عبدُ الله بنُ دِينَارٍ بهذا الحديثِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نهى عن بيع الولاء وهبته‏)‏ تقدم هذا الحديث في باب كراهية بيع الولاء وهبته من أبواب البيوع وتقدم هناك شرحه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويروى عن شعبة قال‏:‏ لوددت أن عبد الله بن دينار حين يحدث بهذا الحديث أذن لي الخ‏)‏ الظاهر أن سبب وده ذلك أن هذا الحديث قد اشتهر عن عبد الله بن دينار حتى قال مسلم لما أخرجه في صحيحه‏:‏ الناس كلهم عيال على عبد الله بن دينار في هذا الحديث انتهى‏.‏ وقد اعتنى أبو نعيم الأصبهاني بجميع طرق هذا الحديث عن عبد الله بن دينار، فأورده عن خمسة وثلاثين نفساً ممن حدث به عن عبد الله بن دينار ‏(‏وروى يحيى بن سليم هذا الحديث عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر‏)‏ وصله ابن ماجه ولم ينفرد به يحيى بن سليم فقد تابعه أبو ضمرة أنس بن عياض ويحيى بن سعيد الأموي كلاهما عن عبيد الله بن عمر أخرجه أبو عوانة في صحيحه من طريقهما، لكن قرن كل منهما نافعاً بعبد الله بن دينار كذا في الفتح‏.‏

1417- باب ما جاءَ في مَنْ تَوَلّى غَيرَ مَوَالِيهِ أَوْ ادّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيه

2148- حَدّثنا هَنّادٌ، حدثنا أبو مُعَاوِيَةَ عن الأعمَشِ، عن إبراهيمَ التّيْمِيّ عن أَبِيِه قال‏:‏ خَطَبَنَا عَلِيٌ فقال‏:‏ مَنْ زَطعَمَ أَنّ عِندَنَا شَيْئاً نَقْرَؤُهُ إِلاّ كِتَابَ الله وَهَذِهِ الصّحِيفَةَ صَحِيفَةٌ فِيهَا أَسْنَانُ الاْبِلِ وَأَشْيَاءٌ مِنَ الْجِرَاحَاتِ فَقَدْ كَذَبَ، وقال فيها‏:‏ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏المَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثاً أَوْ آوَى مُحْدَثاً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله وَالمَلاَئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يَقْبَلُ الله مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفاً ولاَ عَدْلاً، وَمَنْ ادّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله وَالمَلاَئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ ولا عَدْلٌ، وَذِمّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ وَرَوَى بعضُهم عن الأعمَشِ عن إبراهيمَ التّيْمِيّ عن الحارِثِ بنِ سُوَيْدٍ عن عَلِيّ نَحْوَهُ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ وقد رُوِىَ مِنْ غيرِ وَجْهٍ عن عَلِيّ عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من زعم أن عندنا شيئاً نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة‏)‏ أي غيرهما وفي رواية للبخاري‏:‏ ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال النووي‏:‏ هذا تصريح من علي رضي الله عنه بإبطال ما تزعمه الرافضة والشيعة ويخترعونه من قولهم إن علياً رضي الله عنه أوصى إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأمور كثيرة من أسرار العلم‏.‏ وقواعد الدين وكنوز الشريعة، وإنه صلى الله عليه وسلم خص أهل البيت بما لم يطلع عليه غيرهم، وهذه دعاوى باطلة واختراعات فاسدة لا أصل لها، ويكفي في إبطالها قول علي رضي الله عنه هذا انتهى ‏(‏صحيفة‏)‏ بدل من هذه الصحيفة ‏(‏فيها أسنان الإبل‏)‏ أي بيان أسنانها ‏(‏وأشياء من الجراحات‏)‏ أي من أحكامها ‏(‏فقد كذب‏)‏ خبر لقوله من زعم ‏(‏وقال‏)‏ أي علي ‏(‏فيها‏)‏ أي في الصحيفة ‏(‏المدينة حرم‏)‏ بفتحتين ‏(‏ما بين عير‏)‏ بفتح العين المهملة وإسكان المثناة تحت جبل معروف بالمدينة ‏(‏إلى ثور‏)‏ بفتح الثاء المثلثة قال في القاموس‏:‏ ثور جبل بالمدينة، ومنه الحديث الصحيح‏:‏ المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، وأما قول عبيد بن سلام وغيره من الأكابر الأعلام‏:‏ إن هذا تصحيف، والصواب إلى أحد، لأن ثوراً إنما هو بمكة تغير جيد لما أخبرني الشجاع البعلي الشيخ الزاهد عن الحافظ أبي محمد عبد السلام البصري‏:‏ أن حذاء أحد جانحاً إلى ورائه جبل صغير يقال له ثور وتكرر سؤالي عنه طوائف من العرب العارفين بتلك الأرض فكل أخبر أن اسمه ثور، ولما كتب إلى الشيخ عفيف الدين المطري عن والده الحافظ الثقة قال‏:‏ إن خلف أحد عن شماليه جبلاً صغيراً مدوراً يسمى ثوراً يعرفه أهل المدينة خلفاً عن سلف انتهى ما في القاموس‏.‏ وقال الحافظ في الفتح‏:‏ قال المحب الطبري في الأحكام بعد حكاية كلام أبي عبيد ومن تبعه‏:‏ قد أخبرني الثقة العالم أبو محمد عبد السلام البصري أن حذاء أحد عن يساره جانحاً إلى ورائه جبل صغير، فذكر مثل ما في القاموس‏.‏ وفيه دليل على أن المدينة حرم كحرم مكة‏.‏ وفي هذا أحاديث عديدة مروية في الصحيحين وغيرهما وذكرها صاحب المنتقى‏.‏ قال الشوكاني‏:‏ استدل بما في هذه الأحاديث من تحريم شجر المدينة وخبطه وعضده وتحريم صيدها وتنفيره الشافعي ومالك وأحمد والهادي وجمهور أهل العلم على أن للمدينة حرماً كحرم مكة يحرم صيده وشجره‏.‏ قال الشافعي ومالك‏:‏ فإن قتل صيداً أو قطع شجراً فلا ضمان لأنه ليس بمحل للنسك فأشبه الحمى‏.‏ وقال ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى يجب فيه الجزاء كحرم مكة، وبه قال بعض المالكية وهو ظاهر قوله كما حرم إبراهيم مكة‏.‏ وذهب أبو حنيفة وزيد بن علي والناصر إلى أن حرم المدينة ليس بحرم على الحقيقة ولا تثبت له الأحكام من تحريم قتل الصيد وقطع الشجر والأحاديث ترد عليهم‏.‏ واستدلوا بحديث يا أبا عمير ما فعل النغير، وأجيب بأن ذلك كان قبل تحريم المدينة أو أنه من صيد الحل انتهى ‏(‏فمن أحدث‏)‏ أي أظهر في المدينة ‏(‏حدثاً‏)‏ بفتحتين وهو الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعناه ولا معروف في السنة ‏(‏أو آوى‏)‏ بالمد ويقصر‏.‏ قال في النهاية‏:‏ أوى فآوى بمعنى واحد، والمقصود منهما لازم ومتعد، يقال أويت إلى المنزل وأويت غيري وأويته‏.‏ وأنكر بعضهم المقصوري المتعدي‏.‏ وقال الأزهري هي لغة فصيحة، ومحدثاً بكسر الذال وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر من نصر جانباً وآواه وأجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتص منه، ومعنى الفتح هو الأمر المبتدع نفسه ويكون معنى الإيواء فيه المرضى به والصبر عليه فإنه إذا رضي ببدعته وأقر فاعله عليها ولم ينكرها فقد آواه، قاله العيني‏.‏ وقال القاري بكسر الدال على الرواية الصحيحة أي مبتدعاً، وقيل أي جانباً إلى آخر ما قاله العيني ‏(‏فعليه‏)‏ أي فعلى كل منهما ‏(‏لعنة الله‏)‏ أي طرده وإبعاده‏.‏ قال عياض‏:‏ استدل بهذا على أن الحدث في المدينة من الكبائر، والمراد بلعنة الملائكة والناس المبالغة في الإبعاد عن رحمة الله‏.‏ قال والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه في أول الأمر وليس هو كلعن الكافر ‏(‏والملائكة‏)‏ أي دعاؤهم عليه بالبعد عن رحمته ‏(‏والناس أجمعين‏)‏ أي من هذا الحدث والمؤدي أو هما داخلان أيضاً لأنهما ممن يقول ألا لعنة الله على الظالمين، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه ‏(‏لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً‏)‏ بفتح أولهما‏.‏ واختلف في تفسيرهما فعند الجمهور الصرف‏:‏ الفريضة والعدل‏:‏ النافلة، ورواه ابن خزيمة بإسناد صحيح عن الثوري وعن الحسن البصري بالعكس‏.‏ وعن الأصمعي‏:‏ الصرف التوبة والعدل الفدية، وقيل غير ذلك قال عياض‏:‏ معناه لا يقبل قبول رضا وإن قبل قبول جزاء، وقيل يكون القبول هنا بمعنى تكفير الذنب بهما، وقد يكون معنى الفدية أنه لا يجد يوم القيامة فدى يفتدي بخلاف غيره من المذنبين بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني كما رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري ‏(‏ومن ادعى‏)‏ أي انتسب ‏(‏أو تولى غير مواليه‏)‏ بأن يقول عتيق لغير معتقه‏:‏ أنت مولاي ولك ولائي‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ الظاهر أنه أراد به ولاء العتق لعطفه على قوله من ادعى إلى غير أبيه، والجمع بينهما بالوعيد فإن العتق من حيث إنه لحمة كلحمة النسب فإذا نسب إلى غير من هو له كان كالدعي الذي تبرأ عمن هو منه وألحق نفسه بغيره فيستحق به الدعاء عليه بالطرد والإبعاد عن الرحمة انتهى‏.‏

وهذا صريح في غلظ تحريم انتماء الإنسان إلى غير أبيه، أو انتماء العتيق إلى غير مواليه لما فيه من كفر النعمة وتضييع حقوق الإرث والولاء والعقل وغير ذلك مع ما فيه من قطيعة الرحم والعقوق ‏(‏وذمة المسلمين‏)‏ أي عهدهم وأمانهم ‏(‏واحدة‏)‏ أي أنها كالشيء الواحد لا يختلف باختلاف المراتب ولا يجوز نقضها لتفرد العاقد بها ‏(‏يسعى بها‏)‏ أي يتولاها ويلي أمرها ‏(‏أدناهم‏)‏ أي أدنى المسلمين مرتبة‏.‏ والمعنى أن ذمة المسلمين سواء صدرت من واحد أو أكثر شريف أو وضيع، فإذا أمن أحد من المسلمين كافراً وأعطاه ذمة لم يكن لأحد نقضه، فيستوي في ذلك الرجل والمرأة والحر والعبد لأن المسلمين كنفس واحدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه البخاري في الحج وفي الجزية وفي الفرائض وفي الاعتصام وأخرجه مسلم في الحج ‏(‏وروى بعضهم عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن علي نحوه‏)‏ أخرجه أحمد والنسائي‏.‏ وروى البخاري في الحج من طريق سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي قال الحافظ‏:‏ هذه رواية أكثر أصحاب الأعمش عنه، وخالفهم شعبة فرواه عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث عن سويد عن علي‏.‏ قال الدارقطني في العلل‏:‏ والصواب رواية الثوري ومن تبعه‏.‏

1418- باب ما جاءَ في الرّجُلِ يَنْتَفي مِنْ وَلَدِه

أي بالتعريض، وقد ترجم البخاري في الطلاق على حديث الباب إذا عرض بنفي الولد

2149- حَدّثنا عبدُ الْجَبّارِ بنُ الْعَلاَءِ بن عبد الجبار الْعَطّارُ وسَعِيدُ بنُ عبدِ الرحمَنِ المَخْزُومِيّ، قالا‏:‏ حدثنا سفيانُ عن الزّهْرِيّ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ عن أبي هُرَيْرَةَ قال‏:‏ ‏"‏جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بني فَزَارَةَ إِلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسولَ الله، إِنّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلاَماً أَسْوَدَ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ‏؟‏ قال‏:‏ نَعَمْ، قال‏:‏ فمَا أَلْوَانُهَا‏؟‏ قال‏:‏ حُمْرٌ، قال‏:‏ فَهَلْ فِيهَا أَوْرَقٌ‏؟‏ قال‏:‏ نَعَمْ إِنّ فِيهَا لَوُرْقاً، قال‏:‏ أَنّى أَتَاهَا ذَلِكَ‏؟‏ قال‏:‏ لَعَلّ عِرْقاً نَزَعَهَا، قال‏:‏ فَهَذَا لَعَلّ عِرْقاً نَزَعَهُ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جاء رجل‏)‏ وفي رواية للبخاري جاء أعرابي‏.‏

قال الحافظ‏:‏ واسم هذا الأعرابي ضمضم بن قتادة ‏(‏إن امرأتي ولدت غلاماً أسود‏)‏ زاد مسلم في رواية‏:‏ وإني أنكرته أي استنكرته بقلبي ولم يرد أنه أنكر كونه ابنه بلسانه‏.‏ وفي رواية أخرى لمسلم وهو حينئذ يعرض بأن ينفيه ويؤخذ منه أن التعريض بالقذف ليس قذفاً وبه قال الجمهور‏.‏ واستدل الشافعي بهذا الحديث لذلك، وعن المالكية‏:‏ يجب به الحد إذا كان مفهوماً، وأجابوا عن الحديث أن التعريض الذي يجب به القذف عندهم هو ما يفهم منه القذف كما يفهم من التصريح، وهذا الحديث لا حجة فيه لدفع ذلك فإن الرجل لم يرد قذفاً بل جاء سائلاً مستفتياً عن الحكم لما وقع له من الريبة، فلما ضرب له المثل أذعن كذا في الفتح ‏(‏قال حمر‏)‏ بضم فسكون جمع أحمر ‏(‏فهل فيها أورق‏)‏ قال الحافظ‏:‏ الأورق الذي فيه سواد ليس بحالك بل يميل إلى الغبرة ومنه قيل للحمامة ورقاء ‏(‏إن فيها لورقاً‏)‏ بضم فسكون جمع أورق ‏(‏أنى أتاها ذلك‏)‏ أي من أين أتاها اللون الذي خالفها هل هو بسبب فحل من غير لونها طرأ عليها أو لأمر آخر ‏(‏لعل عرقاً‏)‏ بكسر أوله ‏(‏نزعها‏)‏ المعنى يحتمل أن يكون في أصولها من هو باللون المذكور فاجتذبه إليه فجاء على لونه‏.‏ والمراد بالعرق الأصل من النسب شبهه بعرق الشجرة، ومنه قولهم فلان عريق في الأصالة، أي إن أصله متناسب وكذا معرق في الكرم أو اللؤم، وأصل النزع الجذب وقد يطلق على الميل ‏(‏قال فهذا‏)‏ أي الغلام الأسود ‏(‏لعل عرقاً نزعه‏)‏ أي لعله في أصولك أو في أصول امرأتك من يكون في لونه أسود فأشبهه واجتذبه إليه وأظهر لونه عليه، زاد مسلم في رواية‏:‏ لم يرخص له في الانتفاء منه‏.‏ قال النووي رحمه الله في هذا الحديث‏:‏ إن الولد يلحق الزوج وإن خالف لونه لونه حتى لو كان الأب أبيض والولد أسود أو عكسه لحقه، ولا يحل له نفيه بمجرد المخالفة في اللون، وكذا لو كان الزوجان أبيضين فجاء الولد أسوداً وعكسه، الاحتمال أنه نزعه عرق من أسلافه انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه‏.‏

1419- باب ما جاء في الْقَافَة

القافة‏:‏ جمع قائف، قال الجزري في النهاية‏:‏ القائف الذي يتتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه، والجمع القافة، يقال فلان يقوف الأثر ويقتافه قيافة، مثل قفا الأثر واقتفاه انتهى

2150- حَدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا اللّيْثُ عن ابنِ شِهَابٍ عن عُرْوَةَ عن عائشةَ‏:‏ ‏"‏أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا مَسْرُوراً تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فقال‏:‏ أَلَمْ تَرَيْ أَنّ مُجَزّزاً نَظَرَ آنِفاً إِلَى زَيْدِ بنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ فقال‏:‏ هذه الأقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ وقد رَوَى سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ هذا الحديثَ عن الزّهريّ عن عُرْوَةَ عن عائشةَ وَزَادَ فِيهِ‏:‏ ‏"‏أَلَمْ تَرَيْ أَنّ مُجَزّزاً مَرّ عَلَى زَيْدٍ بنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ وَقَدْ غَطّيَا رُؤُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فقال‏:‏ إِنّ هذه الأقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ‏"‏ وهكذا حدّثنا سعيدُ بنُ عبدِ الرحمَنِ وغيرُ واحدٍ عن سُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ هذا الحديث عن الزّهريّ عن عروة عن عائشة وهذا حديث حسن صحيح‏.‏ وقد احتجّ بعضُ أهلِ العِلْمِ بهذا الحديثِ في إِقَامَةِ أَمْرِ الْقَافَةِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏دخل عليها مسروراً‏)‏ أي فرحاناً ‏(‏تبرق‏)‏ بفتح التاء وضم الراء، أي تضيء وتستنير من السرور والفرح ‏(‏أسارير وجهه‏)‏ قال في النهاية‏:‏ الأسارير الخطوط التي تجتمع في الجبهة وتتكسر واحدها سر أو سرر، وجمعها أسرار وأسرة، وجمع الجمع أسارير انتهى ‏(‏ألم تري‏)‏ بحذف النون أي ألم تعلمي يعني هذا مما يتعين أن تعلمي فاعلمي ‏(‏مجززاً‏)‏ بضم الميم وكسر الزاي الثقيلة، وحكى فتحها وبعدها زاي أخرى، هذا هو المشهور، ومنهم من قال بسكون الحاء المهملة وكسر الراء ثم زاي وهو ابن الأعور بن جعدة المدلجي نسبة إلى مدلج بن مرة بن عبد مناف بن كنانة وكانت القيافة فيهم وفي بني أسد والعرب تعترف لهم بذلك وليس ذلك خاصاً بهم على الصحيح‏.‏ وقد أخرج يزيد بن هارون في الفرائض بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب أن عمر كان قائفاً أورده في قصته، وعمر قرشي ليس مدلجياً ولا أسدياً لا أسد قريش ولا أسد خزيمة، وكان مجززاً عارفاً بالقيافة، وذكره ابن يونس فيمن شهد فتح مصر وقال لا أعلم له رواية كذا في الفتح ‏(‏نظر آنفاً‏)‏ بالمد ويجوز القصر أي قريباً أو أقرب وقت ‏(‏فقال‏)‏ أي مجزز المدلجي ‏(‏هذه الأقدام بعضها من بعض‏)‏ قال النووي رحمه الله‏:‏ وكانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود شديد السواد وكان زيد أبيض‏.‏ كذا قاله أبو داود عن أحمد بن صالح، فلما قضى هذا القائف بإلحاق نسبه مع اختلاف اللون وكانت الجاهلية تعتمد قول القائف فرح النبي صلى الله عليه وسلم لكونه زاجراً لهم عن الطعن في النسب‏.‏ قال القاضي‏:‏ قال غير أحمد بن صالح، كان زيد أزهر اللون وأم أسامة هي أم أيمن واسمها بركة وكانت حبشية سوداء انتهى‏.‏ وقال الحافظ في الفتح‏:‏ قال عياض‏:‏ لو صح أن أم أيمن كانت سوداء لم ينكروا سواد ابنها أسامة لأن السوداء قد تلد من الأبيض أسود‏.‏

قال الحافظ‏:‏ يحتمل أنها كانت صافية فجاء أسامة شديد السواد فوقع الإنكار لذلك انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه البخاري في صفة النبي صلى الله عليه وسلم والمناقب والفرائض، ومسلم في النكاح، وأبو داود والنسائي في الطلاق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقد غطيا‏)‏ من التغطية أي سترا ‏(‏رؤوسهما‏)‏ أي بقطيفة كما في رواية ‏(‏وبدت‏)‏ أي ظهرت‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وفي هذه الزيادة دفع توهم من يقول لعله حاباهما بذلك لما عرف من كونهم كانوا يطعنون في أسامة انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقد احتج بعض أهل العلم بهذا الحديث في إقامة أمر القافة‏)‏ قال العيني في العمدة‏.‏ في الحديث إثبات الحكم بالقافة، وممن قال به أنس بن مالك وهو أصح الروايتين عن عمر، وبه قال عطاء ومالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وأبو ثور‏.‏ وقال الكوفيون والثوري وأبو حنيفة وأصحابه‏:‏ الحكم بها باطل لأنها، حدس ولا يجوز ذلك في الشريعة، وليس في حديث الباب حجة في إثبات الحكم بها، لأن أسامة قد كان ثبت نسبه قبل ذلك ولم يحتج الشارع في إثبات ذلك إلى قول أحد، وإنما تعجب من إصابة مجزز، كما يتعجب من ظن الرجل الذي يصيب ظنه حقيقة الشيء الذي ظنه ولا يجب الحكم بذلك‏.‏ وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنكار عليه لأنه لم يتعاط بذلك إثبات ما لم يكن ثابتاً، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏}‏ انتهى‏.‏ وقال الشوكاني في النيل ص 214 ج6‏:‏ وما قيل من أن حديث مجزز لا حجة فيه لأنه إنما يعرف القائف بزعمه أن هذا الشخص من ماء ذاك لا أنه طريق شرعي فلا يعرف إلا بالشرع، فيجاب بأن في استبشاره صلى الله عليه وسلم من التقرير ما لا يخالف فيه مخالف، ولو كان مثل ذلك لا يجوز في الشرع لقال له إن ذلك لا يجوز‏.‏ لا يقال إن أسامة قد ثبت فراش أبيه شرعاً وإنما لما وقعت القالة بسبب اختلاف اللون وكان قول المدلجي المذكور دافعاً لها لاعتقادهم فيه الإصابة وصدق المعرفة استبشر صلى الله عليه وسلم بذلك، فلا يصح التعلق بمثل هذا التقرير على إثبات أصل النسب لأنا نقول لو كانت القافة لا يجوز العمل بها إلا في مثل هذه المنفعة مع مثل أولئك الذين قالوا مقالة السوء لما قرره صلى الله عليه وسلم على قوله‏:‏ هذه الأقدام بعضها من بعض، وهو في قوة هذا ابن هذا، فإن ظاهره أنه تقرير للإلحاق بالقافة مطلقاً لا إلزام للخصم بما يعتقده، ولا سيما النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه إنكار كونها طريقاً يثبت بها النسب حتى يكون تقريره لذلك من باب التقرير على معنى كافر إلى كنية ونحوه مما عرف منه صلى الله عليه وسلم إنكاره قبل السكوت عنه‏.‏ وقد أطال الحافظ بن القيم الكلام في إثبات الحكم بالقافة في زاد المعاد، وقال في أثناء كلامه‏:‏ قال سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن سعيد بن سليمان بن يسار عن عمر في امرأة وطئها رجلان في طهر، فقال القائف قد اشتركا فيه جميعاً فجعله بينهما، قال الشعبي‏:‏ وعلي يقول هو ابنهما وهما أبواه يرثانه، ذكره سعيد أيضاً‏.‏ وروى الأثرم بإسناده عن سعيد بن المسيب في رجلين اشتركا في طهر امرأة فحملت فولدت غلاماً يشبههما، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فدعا القافة فنظروا فقالوا نراه يشبههما فألحقه بهما وجعله يرثهما ويرثانه، ولا يعرف قط في الصحابة من خالف عمر وعلياً رضي الله عنهما في ذلك، بل حكم عمر بهذا في المدينة وبحضرة المهاجرين والأنصار فلم ينكر منهم منكر‏.‏

1420- باب في حَثّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الهدية

كغنية ما أتحف به

2151- حَدّثنا أَزْهَرُ بنُ مَرْوَانَ البَصْرِيّ، حدثنا محمدُ بنُ سَوَاءٍ، أخبرنا أبو مَعْشَرٍ عن سعيدٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏تَهَادَوْا فَإِنّ الْهَدِيّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصّدْرِ، ولا تَحْقِرَنّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ شِقّ فِرْسِنَ شَاةٍ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الْوَجْهِ‏.‏ وأبو مَعْشَرٍ اسمُه نَجِيحٌ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، وقد تكلّم فيه بعضُ أهلِ العِلْمِ من قِبَلِ حِفْظِهِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا محمد بن سواء‏)‏ بفتح السين وتخفيف الواو، والد السدوسي العنبري أبو الخطاب البصري المكفوف صدوق رمي بالقدر من التاسعة ‏(‏عن سعيد‏)‏ هو ابن أبي سعيد المقبري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تهادوا‏)‏ بفتح الدال أمر من التهادي بمعنى المهاداة، أي ليعط الهدية ويرسلها بعضكم لبعض ‏(‏فإن الهدية تذهب وحر الصدر‏)‏ بفتح الواو والحاء المهملة أي غشه ووساوسه، وقيل الحقد والغيظ، وقيل العداوة، وقيل أشد الغضب، كذا في النهاية ‏(‏ولا تحقرن جارة لجارتها‏)‏ قال الكرماني لجارتها متعلق بمحذوف، أي لا تحقرن جارة هدية مهداة لجارتها ‏(‏ولو شق فرسن شاة‏)‏ بكسر الشين المعجمة، أي نصيفه أو بعضه كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اتقوا النار ولو بشق تمرة، والفرسن بكسر الفاء والسين المهملة بينهما راء ساكنة وآخره نون هو عظم قليل اللحم، وهو للبعير موضع الحافر للفرس، ويطلق على الشاة مجازاً ونونه زائدة وقيل أصلية، وأشير بذلك إلى المبالغة في إهداء الشيء اليسير وقبوله لا إلى حقيقة الفرسن لأنه لم يجر العادة باهدائه، أي لا تمنع جارة من الهدية لجارتها الموجود عندها لاستقلاله، بل ينبغي أن تجود لها بما تيسر وإن كان قليلاً فهو خير من العدم، وذكر الفرسن على سبيل المبالغة، ويحتمل أن يكون النهي إنما وقع للمهدى إليها وأنها لا تحتقر ما يهدى إليها ولو كان قليلاً، وحمله على الأعم من ذلك أولى‏.‏ وفي الحديث الحض على التهادي ولو باليسير لما فيه من استجلاب المودة وإذهاب الشحناء، ولما فيه من التعاون على أمر المعيشة، والهدية إذا كانت يسيرة، فهي أدل على المودة وأسقط للمؤنة وأسهل على المهدي لاطراح التكلف، والكثير قد لا يتيسر كل وقت، والمواصلة باليسير تكون كالكثير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث غريب‏)‏ وأخرجه أحمد ‏(‏أبو معشر اسمه نجيح الخ‏)‏ قال في التقريب‏:‏ نجيح بن عبد الرحمن السندي المدني أبو معشر وهو مولى بني هاشم مشهور بكنيته ضعيف من السادسة، أسن واختلط مات سنة سبعين ومائة، ويقال كان اسمه عبد الرحمن بن الوليد بن الهلال انتهى‏.‏

واعلم أن حديث الباب أخرجه البخاري في صحيحه في أول الهبة من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ‏:‏ يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة، قال الحافظ في الفتح‏:‏ وأخرجه الترمذي من طريق أبي معشر عن سعيد عن أبي هريرة لم يقل عن أبيه وزاد في أوله‏:‏ تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدر الحديث‏.‏ وقال‏:‏ غريب وأبو معشر يضعف‏.‏ وقال الطرقي‏:‏ إنه أخطأ فيه حيث لم يقل فيه عن أبيه كذا قال، وقد تابعه محمد بن عجلان عن سعيد، وأخرجه أبو عوانة نعم من زاد فيه عن أبيه أحفظ وأضبط فروايتهم أولى انتهى‏.‏

1421- باب ما جاء في كَرَاهِيَةِ الرجُوعِ في الْهِبَة

2152- حَدّثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا إسحاقُ بنُ يُوسُفَ الأزْرَقُ أخبرنا حُسَيْنُ المُكتَبِ عن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عن طاوُسٍ عن ابنِ عُمَرَ أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ‏:‏ ‏"‏مَثَلُ الّذِي يُعْطِي الْعَطِيّةَ ثُمّ يَرْجِعُ فِيهَا كَالْكلْبِ أَكَلَ حَتّى إِذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمّ عَادَ فَرجَعَ فِي قَيْئِهِ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ وفي البابِ عن ابنِ عَبّاسٍ وعبدِ الله بنِ عَمْرٍو‏.‏

2153- حدّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا ابنُ أَبي عَدِيّ عن حُسَيْنٍ المُعَلّمِ عن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، حدثني طَاوُسٌ عن ابنِ عُمَرَ وابنِ عَبّاسٍ يَرْفَعَانِ الحديثَ قال‏:‏ ‏"‏لا يَحِلّ لِلرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيّةً ثُمّ يَرْجِعُ فِيهَا إِلاّ الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ، وَمَثَلُ الّذِي يُعْطِي الْعَطِيّةَ ثُمّ يَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكلْبِ أَكَلَ حتى إذا شَبِع قَاءَ ثُمّ عَاد في قَيْئِهِ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ قال الشافعيّ‏:‏ لا يَحِلّ لِمَنْ وَهَبَ هِبَةً أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إِلاّ الْوَالِدُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فيما أَعْطَى وَلَدَهُ، واحتجّ بهذا الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها الخ‏)‏ فيه دلالة على تحريم الرجوع في الهبة وهو مذهب جماهير العلماء، وبوب البخاري باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته، وقد استثنى الجمهور ما يأتي عن الهبة للولد ونحوه، وذهبت الهادوية وأبو حنيفة إلى حل الرجوع في الهبة دون الصدقة إلا الهبة لذي رحم، قالوا والحديث المراد به التغليظ في الكراهة‏.‏ قال الطحاوي‏:‏ قوله كالعائد في قيئه وإن اقتضى التحريم لكن الزيادة في الرواية الأخرى وهي قوله كالكلب يدل على عدم التحريم، لأن الكلب غير متعبد فالقيء ليس حراماً عليه، والمراد التنزه عن فعل يشبه فعل الكلب وتعقب باستبعاد التأويل ومنافرة سياق الحديث له، وعرف الشرع في مثل هذه العبارة الزجر الشديد، كما ورد النهي في الصلاة عن إقعاء الكلب ونقر الغراب والتفات الثعلب ونحوه، ولا يفهم من المقام إلا التحريم، والتأويل البعيد لا يلتفت إليه‏.‏ وحديث ابن عمر المذكور أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس وأشار إليه الترمذي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن ابن عباس‏)‏ تقدم تخريجه آنفاً ‏(‏وعبد الله بن عمرو‏)‏ أخرجه النسائي وابن ماجة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يحل لرجل الخ‏)‏ هذا ظاهر في تحريم الرجوع في الهبة، والقول بأنه مجاز عن الكراهة الشديدة صرف له عن ظاهره ‏(‏ثم يرجع‏)‏ بالنصب عطف على يعطي ‏(‏فيها‏)‏ أي في عطيته ‏(‏إلا الوالد‏)‏ بالنصب على الاستثناء ‏(‏فيما يعطي ولده‏)‏ استدل به على أن للأب أن يرجع فيما وهبه لابنه وكذلك الأم وهو قول أكثر الفقهاء إلا أن المالكية فرقوا بين الأب والأم فقالوا للأم أن ترجع إن كان الأب حياً دون ما إذا مات، وقيدوا رجوع الأب بما إذا كان الابن الموهوب له لم يستحدث ديناً أو ينكح، وبذلك قال إسحاق‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ للأب الرجوع مطلقاً‏.‏ وقال أحمد‏:‏ لا يحل لواهب أن يرجع في هبته مطلقاً‏.‏ وقال الكوفيون‏:‏ إن كان الموهوب صغيراً لم يكن للأب الرجوع وكذا إن كان كبيراً وقبضها، قالوا وإن كانت الهبة لزوج من زوجته، أو بالعكس أو لذي رحم لم يجز الرجوع في شيء من ذلك، ووافقهم إسحاق في ذي الرحم وقال‏:‏ للزوجة أن ترجع بخلاف الزوج، والاحتجاج لكل واحد من ذلك يطول‏.‏ ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور أن الولد وماله لأبيه فليس في الحقيقة رجوعاً، وعلى تقدير كونه رجوعاً فربما اقتضته مصلحة التأديب ونحو ذلك كذا في الفتح ‏(‏ومثل الذي يعطي العطية‏)‏ أي لغير ولده ‏(‏أكل‏)‏ أي استمر على الموكل كل شيء ‏(‏حتى إذا شبع‏)‏ بكسر الموحدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال الشافعي لا يحل لمن وهب هبة أن يرجع فيها إلا الوالد الخ‏)‏ هذا هو الظاهر والله أعلم‏.‏