فصل: تفسير الآيات (179):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآيات (179):

قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)}.
بعد أن بيّن الله شرع القصاص ذكر الحكمة فيه، فقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ} أي ولكم يا أولي العقول فيما شرعت لكم من القصاص حياة وبقاء، لعلكم تتقون القصاص، فتنتهوا عن القتل.
وإنما كان في شرع القصاص حياة، لأنّ الناس إذا علموا أن من قتل يقتل كفّ بعضهم عن بعض. فإذا همّ أحد بقتل أخيه أوجس خيفة من القصاص، فكفّ عن القتل، فكان في ذلك حياة له وحياة لمن أراد قتله وحياة لغيرهما من الناس، فربما وقعت الفتنة بالقتل، فيقتل فيها خلق كثير، وشرع القصاص حاجز لذلك كله، وهذا على أنّ المراد بالقصاص شرع القصاص ويمكن أن يراد منه القصاص نفسه، ويكون المعنى أن في القصاص نفسه حياة، لأنّ القاتل إذا اقتصّ منه كان عبرة لغيره، فيرتدع من يهمّون بالقتل، فلا يقتلون ولا يقتلون، فكان القصاص سببا للحياة، وهناك وجه آخر ذكره السدي فقال: ولكم في القصاص حياة أي بقاء، لا يقتل إلا القاتل بجنايته.
وقد نقل الله بهذه الآية العقوبات من معنى إلى معنى سام جليل: فقد كانت العقوبات انتقاما في الأزمنة السالفة، ينتقم بها المجتمع من المجرمين، فجعل الله الغرض منها الاستصلاح {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ} ولم يقل انتقام، ولقد رقت قلوب قوم من رجال التشريع الوضعي!! فاستفظعوا قتل القاتل، ورحموه من القتل!! ولقد كان المقتول ظلما أولى برحمتهم وعطفهم، وإذا رحموا القاتل فمن يرحم المجتمع الذي يكثر فيه المجرمون الفسّاد، ولعمرنا إنهم نظروا نظرة ضيقة، ولو نظروا نظرة عامة شاملة لكانت رحمتهم هذه هي التي تدعوهم إلى القصاص والقسوة فيه، فإنّ من يرحم الناس يسعى لتقليل الشر عنهم، وكف عادية المعتدين.
فقسا ليزدجروا، ومن يك حازما ** فليقس أحيانا على من يرحم

ولقد عبّرت العرب عن هذا المعنى بعبارات مختلفة، منها قولهم: قتل البعض إحياء للجميع، وقولهم: أكثروا القتل ليقلّ القتل، وأجود ما قالوه في ذلك قولهم: القتل أنفى للقتل.
والنظم الكريم {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ} قد فاق تلك بمراحل، ويدل على ذلك أمور:
1- أنها أخص.
2- أن قولهم: القتل أنفى للقتل ظاهره أن القتل سبب في نفي القتل، وهو محال، بخلاف الآية، فإنّها جعلت القصاص، وهو نوع من القتل، فيه نوع من الحياة، بدليل التنكير، ولا إحالة في أن يكون نوع من القتل سببا لنوع من الحياة.
3- أن القتل ظلما قتل، وليس نافيا للقتل، بل هو أدعى للقتل، فيكون ذلك مبطلا لظاهر عموم قولهم. وثمّ وجوه أخرى لم نشأ الإطالة بها.

.تفسير الآية رقم (180):

قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)}.
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ} فرض عليكم.
الخير: ضد الشر، والمراد به هنا: المال، وقد ورد في القرآن كثيرا بمعنى المال، قال تعالى: {وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 272] {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات: 8] {إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24].
الوصية: القول المبين لما يستأنف عمله. وهي هنا مخصوصة بما بعد الموت وهي كذلك في العرف.
المعروف: ضد المنكر، وليس المراد بقوله: {إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} وقت حضور الموت ومعاينته، لأنّ هذا الوقت لا يعي فيه المرء ما يقول، بل المراد علامات الموت وأماراته، وذلك كالمرض المخوف.
وقد اختلف في ذلك المال الذي كتبت فيه الوصية. فقيل: هو الكثير، وقيل: أيّ مال قليلا كان أو كثيرا. والأولون اختلفوا، فقيل: هو الكثير غير محدود.
وبعضهم حدّده. واختلفوا في التحديد، فعن ابن عباس: إذا ترك سبعمائة درهم، فلا يوصي، فإن بلغ ثمانمائة درهم أوصى.
وعن قتادة: ألف درهم، وعن عائشة: أن رجلا قال لها: إني أريد أن أوصي.
قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة. قالت: قال الله: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} وإنّ هذا الشيء يسير، فاتركه لعيالك، فهو أفضل، والظاهر قول من قال: إن المراد المال مطلقا، قليلا، كان أو كثيرا. لأن اسم الخير يقع على قليل المال وكثيره، ولم يخصّ الله منه شيئا دون شيء.
وهذه الآية قد دلّت على وجوب الوصية، واختلف العلماء فيها: أهي منسوخة أم محكمة لم تنسخ؟ وجمهور العلماء على أنها منسوخة. قال الشافعي رضي الله عنه ما معناه: إن الله تعالى أنزل آية الوصية، وأنزل آية المواريث، فاحتمل أن تكون الوصية باقية مع الميراث، واحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصايا. وقد طلب العلماء ما يرجّح أحد الاحتمالين، فوجدوه في سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد روى عنه أصحاب المغازي أنه قال عام الفتح: «لا وصيّة لوارث».
وهو وإن كان خبر آحاد إلا أن العلماء تلقته بالقبول، وأجمعت العامة على القول به.
ثم إن القائلين بالنسخ اختلفوا: فذهب طاوس وقوم معه: إلى أن الوصية للوالدين والأقربين الوارثين نسخت، وبقيت للقرابة غير الوارثين، فمن أوصى لغير قرابة لم تجز، وذهب غيرهم إلى أنها منسوخة في حقّ من يرث، وحق من لا يرث. وحجة الأولين: أن الوصية لمن يرث ومن لا يرث من الأقربين كانت واجبة بالآية، فنسخت منها الوصية للوارثين، وبقيت للأقربين غير الوارثين على الوجوب.
ويؤكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: «ما حقّ امرئ مسلم له مال أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده».
وحجة الآخرين ما رواه الشافعي عن عمران بن الحصين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حكم في ستة مملوكين كانوا لرجل لا مال له غيرهم فأعتقهم عند الموت، فجزأهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأرقّ أربعة.
فلو كانت الوصية واجبة للأقربين وإذا جعلت في غيرهم بطلت لما أجازها صلّى الله عليه وسلّم في العبدين، لأن عتقهما وصية لهما، وهما غير قريبين، وقد ذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أنّ آية الوصية محكمة غير منسوخة، نقل ذلك عنه الفخر الرازي، وقرر مذهبه بوجوه:
أولا: أنّ هذه الآية ليست مخالفة لآية المواريث، بل هي مقررة لها، والمعنى: كتب ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين في قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] إذا كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين، والأقربين بتوفير ما أوصى الله به لهم عليهم.
ثانيا: أنه لا منافاة بين ثبوت الوصية للأقرباء وثبوت الميراث، فالوصية عطية من حضره الموت، والميراث عطية من الله تعالى، فالوارث جمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين.
ثالثا: لو قدّر حصول المنافاة بين آية الميراث وآية الوصية لكان يمكن جعل آية الميراث مخصّصة لآية الوصية لأن هذه الآية تفهم بعمومها أن الوصية واجبة لكلّ قريب، وآية المواريث أخرجت القريب الوارث، فبقيت آية الوصية مرادا بها القريب الذي لا يرث، إمّا لمانع من الإرث ككفر ورق، وإما لأنه محجوب بأقرب منه، وإما لأنه من ذوي الأرحام.
وابن جرير الطبري ذهب في تفسيره إلى هذا القول فقال في تفسير الآية: فرض عليكم أيها المؤمنون الوصيّة {إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً} والخير: المال {لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} الذين لا يرثون {بِالْمَعْرُوفِ} وهو الذي أذن الله فيه وأجازه في الوصية، ما لم يجاوز الثلث، ولم يتعمّد الموصي ظلم ورثته {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} يعني بذلك فرض عليكم هذا وأوجبه وجعله حقا واجبا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به.
فإن قال قائل: أو فرض على الرجل ذي المال أن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثون؟ قيل: نعم. وقد نقل مثل ذلك عن جماعة من العلماء منهم: الضحّاك فقد كان يقول: من مات ولم يوص لذي قرابته فقد ختم عمله بمعصية، ومنهم مسروق فقد حضر رجلا فأوصى بأشياء لا تنبغي، فقال له مسروق: إن الله قسم بينكم فأحسن القسم، وإنه من يرغب برأيه عن رأي الله يضلّه، أوص لذي قرابتك ممن لا يرثك، ثم دع المال على ما قسمه الله عليه.
وقد ذهب القائلون بأنها منسوخة إلى أنها تندب، وتكون في ثلث ماله، ومعنى قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} بالعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط، وقد بيّنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله لمن أراد أن يوصي: «الثلث والثلث كثير».
وقد روي عنه عليه صلوات الله أنه قال: «إنّ الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في أعمالكم».

.تفسير الآية رقم (181):

قال الله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)}.
لما أوجب الله تعالى الوصية وجعلها حقا على المتقين، توعّد من غيّرها وبدّلها فقال: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ} أي فمن غيّر ما أوصى به الموصي بعد ما سمع الوصية فليس على الموصي إثم، بل الإثم على مبدّل الوصية، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع للوصية، عليم بما أوصيتم به، فلا تخفى عليه خافية من التغيير الواقع فيها، وعلى ذلك يكون المنهي عن التغيير هو: الشاهد، فلا يكتم شهادة ولا يغيّرها، والوصي فلا يغير الوصية، ولا يحوّر فيها. والورثة فلا يمنعون من أوصي لهم من حقّهم.
وقيل: إنه هو الوصي، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يوصون للأباعد، ويتركون ذوي القربى في ضنك وشدة، فنهاهم الله عن ذلك، وجعل الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، ثم أوعد الموصين الذين يخالفون ما أمر به. ويجعلونها في غير المواضع التي أمرهم بها، أو يوصون بغير معروف، كأن يعطوا الأغنياء من أقاربهم، ويتركوا الفقراء، وعلى هذا يكون الضمير في قوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} راجعا إلى الحكم الذي علم من الآية السابقة.
أما على القول الأول فالضمير راجع إلى الوصية. وإنما أتى به مذكّرا والوصية مؤنثة نظرا إلى المعنى، فإنها بمعنى الإيصاء، كقوله: {فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275] أي وعظ، وقد دلت الآية على أن المرء لا يؤخذ بجريرة غيره. فالميت لا يؤخذ ببكاء أهله إلا أن يكون له دخل في البكاء، كأن يكون أوصى به.
ولذلك لا يعذّب الميت إذا أوصى ورثته بقضاء دينه، فقصّروا في القضاء، وهي في معنى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} [الأنعام: 164] {مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها} [فصلت: 46] {لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286].
هذا وقد طعن قوم في أحكام الوصية والميراث في الشريعة الإسلامية. وقالوا: إنها لا تلين لرغبات المالكين، وقد تكون هذه الرغبات محترمة أما أنها لا تلين لرغبات المالكين فلأن الميراث قد فرضت فروضه، وعيّنت أنصباؤه، وليس لأحد أن يغيّر فيها، وقد منعت الوصية للوارث، فليس لأحد أن يوصي لوارثه.
وأما أن رغبة المالكين قد تكون محترمة فلأنه ربما أراد أن يوصي لوارث فيزيد نصيبه، لأنه يراه أبرّ به من غيره، أو لأنه أحوج، قالوا: والشريعة الإسلامية قد خالفت ما عند الأمم الأخرى من احترام رغبات المالكين. وقد تذرّعت أمة إسلامية بذلك فتركت أحكام الشريعة في الميراث والوصايا، واستبدلت بها القانون السويسري.
ونحن نرى أنه لا موجب لهذه الغارة على أحكام الشريعة، فقد نقلنا ما رواه الفخر الرازي من رأي أبي مسلم الأصفهاني في الوصية، وقد علمنا منه أن رأيه أن الوصية للوارث باقية لم تنسخ، ولا منافاة بينها وبين الميراث.
فالميراث عطية من الله، والوصية عطية من المالك للوارث، فإذا كانت هذه الأمة قد اضطرت لاحترام إرادة المالكين، ولم تبال بما يصحبها من جور غالبا.
ففي الشريعة الإسلامية متسع لهذا. فلنا الأخذ برأي أبي مسلم الأصفهاني في الوصية وهو يجيز الوصية للوارث، ويحترم رغبة المالكين. فمن شاء أن يوصي لابن بار، أو وارث أشد حاجة: فله ذلك عنده. وما دام في الشريعة غنى، فليس لهم أن يستبدلوا بها قانونا آخر. وإن الأخذ بقول من أقوالها مهما كان ضعيفا خير من الخروج عنها جملة.