فصل: من سورة الأحقاف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.من سورة الأحقاف:

.تفسير الآيات (15- 16):

قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16)}.
قدمنا لك في سورة لقمان [14] ما فيه كفاية في تفسير الآية الأولى وفي بيان ما تشتمل من أحكام، وخلاف العلماء في مدة الرضاع، ومستندهم الذي يستندون إليه في تدعيم آرائهم، ونحن من أجل ذلك لا نعيده، وإن احتجت إلى شيء منه فارجع إليه هناك، وإنما نذكر هنا ما لم يرد له ذكر هناك.
الكره: بفتح الكاف وضمها المشقة كالضّعف والضّعف بالفتح والضم. ومن ظريف ما يقولون في بيان المفردات هنا: أنّ المشقة تكون بعد الحمل بقليل لا وقت الحمل، بل حين يثقل الولد في بطنها، وكأنّهم ظنّوا أنّ القرآن يحدّد وقت المشقة.
وهذا الموضع لبيان المتاعب التي تتجشمها الأمّ أثناء الحمل، حتى يكون ذلك مرقّقا للولد على أمه، فالمدار أن يكون تعب في أثناء الحمل. وقد يسبق الكره ثقل الولد، بل هو الواقع الكثير، فإنّ الوالدات يتحمّلن كثيرا من المتاعب في أيام الوحم، فيمتنعن من الطعام ومن الشراب، ويعفن كل شيء.
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} غاية لمحذوف، تقديره فعاش أو طالت حياته، حتى إذا بلغ أشده.
والأشد: القوة، وبلوغه استحكامه، وذلك يكون بكماله في القوة المادية والعقلية. وبلوغ الأربعين سنة قيل: هو وقت بلوغ الأشد، وذلك هو الوقت الذي يكتمل فيه الخلق، وتقوى متانته، ولذلك قيل: إنّه لم ينبأ نبيّ قبل الأربعين، وإن كان بعض العلماء على خلافه، مستدلا بما ورد في شأن عيسى ويحيى من مثل: {قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)} [مريم: 30]. ومن مثل: {وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12].
ويرى ابن العربي أنّه يجوز بعث الصبي، ولكنه لم يقع، وتأوّل الأدلة على أنّها إخبار عمّا سيكون، لا عمّا وقع بالفعل، قال: ومثله كثير في القرآن.
على أنّه لا مانع من أن تبقى الآيات على ظاهرها، ويكون ذلك على خلاف الغالب في الأنبياء.
{قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ}.
أوزعه بالشيء: أغراه به، فأوزع فهو موزع، أي مغرى إذا أغراه غيره، والمراد هنا حمله على سلوك سبيل الشكر والتوفيق إلى السير فيه.
والمراد بالنعمة التي أنعم الله بها عليه وعلى والديه، قيل: نعمة الدين، وقيل: {كلّ ما في الإنسان من نعمة وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ} [النمل: 19] معطوف على {أَنْ أَشْكُرَ} والعمل الصالح المرضي ما يكون سالما من غوائل عدم القبول {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} اجعل الصلاح يسير فيها، ويمشي خلالها، ويتفشّى فيها، ويرسخ، حتى يكون لها خلقا وطبعا. وأصلح: أصله يتعدى بنفسه، وإنما عدّي بالحرب (في) لإفادة الرسوخ والسريان {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} من جميع الذنوب والآثام {وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أنفسهم إليك، المنقادين لك، الخاضعين لربوبيتك.
{أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا}. هذا إشارة إلى الإنسان المذكور في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ} وجمعه باعتبار أفراده الذين تحقق فيهم ما ذكر من الأوصاف المذكورة، من معرفة حقوق الوالدين، والرجوع إلى الله بسؤال التوفيق للشكر، إلى آخر ما في الآية، وهو إيذان بأنّ هذه الأوصاف هي صفات الإنسانية الكاملة، من اتصف بها فهو الإنسان، وأصحابها هم الذين يكرمهم الله، فيتقبل عنهم ما قدموا من صالح العمل {وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ} فيعفو عنها، إذ هي تتلاشى بجانب الحسنات {إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ} [هود: 114] {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ} الذي وعدهم الله به في كتبه وعلى لسان أنبيائه، والله منجز ما وعد.

.من سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم:

.تفسير الآية رقم (4):

قال الله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4)}.
أثخن في العدو- بالغ في الجراحة فيهم، وأثخن فلانا أوهنه. و{حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ} أي غلبتموهم، وكثرت فيهم الجراح.
والمعنى: أنهم صاروا لا قبل لهم بالحرب، ولا قدرة لهم على قتالكم من شدة ما أصابهم.
والوثاق: ما يشد به، وأوثقه به: شده فيه.
ومن عليه منّا: أنعم، واصطنع عنده صنيعة.
وفداه يفديه فداء، وافتدى به، وفاداه: أعطي شيئا فأنقذه، والفداء ككساء: ذلك الشيء المعطى.
والأوزار، جمع وزر بكسر الأول: الإثم، والثقل، والسلاح، والحمل الثقيل.
هذا هو بيان المفردات التي تحتاج إلى بيان في الآية الكريمة.
ومعنى الآية بعد هذا: أنّ الله تعالى يأمر المؤمنين عند لقاء الكفار في الحرب ألا تأخذهم في قتال الكفار شفقة، بل عليهم أن يعملوا فيهم السلاح، فيضربوا به رقابهم، وأن يستمر ذلك حتى يهنوا ويضعفوا، وتخضد شوكتهم، فلا يبقى لهم بعد ذلك قدرة على قتال المسلمين، فإذا انتهت الحرب بإثخانهم وقهرهم، فعلى المؤمنين أن يشدّوا وثاق من قدروا عليه منهم، وذلك كناية عن قيد الأسر، ووقوعهم أسرى في يد المؤمنين هنالك بعد الأسر، واستقرارهم في قبضة المؤمنين يكون لنا أن نبقيهم كذلك أسرى أرقاء، يقتسمهم الغانمون على ما ورد في قسمة الغنائم، وأن ننعم عليهم بالإطلاق من غير مقابل، فيكون ذلك يدا لنا عليهم، ومنة نمنّ عليهم بها، حيث أصبح الأعداء لا يخشى بأسهم. وأن نأخذ الفداء في مقابل إطلاقهم، لنسد بالفداء ما عساه يكون عند المؤمنين من حاجة إليه، وقد جعل الله تعالى غاية هذه الأوامر وضع الحرب أوزارها وآثامها وشرورها، التي تلحق الناس منها، أو وضع الأثقال والتبعات التي تلحق الناس في الحروب، أو وضع الحرب سلاحها، فلا يكون قتال بعد.
ثم قال الله تعالى: (ذلك) وقد كثر في لغة العرب استعمال اسم الإشارة عند الفصل بين كلامين، والانتهاء من الأول وإرادة الانتقال إلى الثاني.
كأنه قيل: ذلك هو ما نريد أن نقوله في هذا الشأن، ونقول بعده كذا وكذا. أو احفظ ذلك والأمر بعده كذا وكذا، فاسم الإشارة للفصل بين كلامين، والكلام في الإعراب بعد ذلك سهل يسير.
والكلام الذي بعده يقصد منه بيان الحكمة في شرع القتال مع قدرة الله أن ينتصر على أعدائه من غير أن تكون حرب بينهم وبين أوليائه، وتلك الحكمة هي امتحان الناس، واختبار صبرهم على المكاره، واحتمالهم للشدائد {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} [آل عمران: 142].
ثم بيّن الله تعالى بعد ذلك أنّ الذين يكون من حظّهم أن يقتلوا في سبيل الله ستحفظ أعمالهم، وتخلّد لهم، ثم هم بعد ذلك في روضات الجنات يحبرون.
والآية الكريمة بعد هذا متفقة مع آية الأنفال: {ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] غير أنّ آية الأنفال لم يذكر فيها ما يكون بعد الإثخان، والآية التي معنا بيّن فيها أنّ المؤمنين عليهم بعد غلبة الأعداء وقهرهم أن يشدوا الوثاق، ثم لهم بعد ذلك أن يمنّوا على من أوثقوهم من غير فداء، ولهم أن يفادوهم، وقد تسأل بعد هذا وأين استرقاقهم؟ فنقول: إن الاسترقاق قد فهم من الأمر بشدّ الوثاق. وبعد هناك حالان أذن لنا فيهما الشارع الكريم: هما المن والفداء.
وإنا نذكر لك هنا آراء العلماء في المن على الأسرى وأخذ فدائهم ثم نعقب عليه بما يفتح الله به:
قد اختلف العلماء فيما دلّت عليه الآية الكريمة في مواضع: منها المراد بالذين كفروا، فذهب بعضهم إلى أنهم المشركون، وهو مروي عن ابن عباس، وذهب بعضهم إلى أن المراد كلّ من ليس بيننا وبينهم عهد ولا ذمة، ويظهر أنّ هذا هو الصحيح، إذ الآية عامة، والتخصيص لا دليل عليه.
وقد اختلف أيضا في المراد من ضرب الرقاب، فذهب السدي إلى أنّ المراد منه القتال، وذهب جماعة على أن المراد منه قتل الأسير صبرا، والظاهر الأول، فإنّه الذي ينساق إليه الذهن من قول الله: {فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ} إذ جعل الإثخان وهو الإضعاف- غاية لضرب الرقاب، فأين قتل الأسير صبرا، وهو إنما يقع في الأسر بعد إثخانه وضعفه.
وكذلك اختلف العلماء في المراد من الفداء، فقال بعضهم: المراد من المفاداة العتق: وقال بعضهم: إنّ المراد إطلاق سراحهم في مقابل ما يأخذه المسلمون منهم، وقد يكون المقابل أسرى من المسلمين عند الكفار، من طريق التبادل، حسبما يتيسر عند المفاداة، وقد يكون المقابل مالا، أو عتادا يأخذه المسلمون في نظير أسرى الحرب.
واختلفوا كذلك في المراد من وضع الحرب أوزارها، بعد الذي علمت من معاني الأوزار، فقال بعضهم: إنّ وضع الأوزار كناية عن الإيمان، والمعنى حتى يؤمنوا ويذهب الكفر، وقال بعضهم: بل المراد حتى ينزل عيسى عليه السلام، وأنت لو نظرت إلى قول الله تعالى: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] رجحت الأول على الثاني، نعم إنّ نزول عيسى قد ورد فيه أنّه حين يكون لا يكون على ظهر الأرض كافر، ولكنّ نزول عيسى أمر لا شيء في الآية، ولا في غيرها مما جاء في القرآن، يشعر به.
بقي بعد كلّ هذا خلاف العلماء في الأحكام التي دلّت عليها الآية من التخيير بين الاسترقاق والإطلاق دون مقابل والفداء، ألا تزال هذه الأحكام معمولا بها، أم نسخ العمل بها، وتغيّرت الأحكام.
فذهب بعضهم إلى أنّها منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وذهب البعض إلى أنّ النسخ إنما هو في بعض ما تناولته فقط، فهي منسوخة في حقّ عبّاد الأوثان، فهؤلاء لا يمنّ عليهم، ولا يفادون، لأنّنا منهيون عن معاهدتهم، وقال الضحاك: لا نسخ فيها، بل هي باقية الحكم في كل ما دلّت عليه.
ويرى سعيد بن جبير، أنّ الكفار بعد أن يثخنوا ويضعفوا فالحكم فيهم باق لا يتغير، أما قبل أن يضعفوا فلا يجوز أن يكون هناك منّ ولا فداء، وهذا يتفق مع ما أشير إليه في قوله تعالى: {ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا.
قال الجصاص: اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير، لا نعلم بينهم خلافا فيه، وقد تواترت الأخبار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قتل الأسير. منها قتله عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وهو الذي قالت أخته:
أمحمّد ها أنت صنو كريمة ** في قومها، والفحل فحل معرق

ما كان ضرّك لو مننت وربّما ** منّ الفتى، وهو المغيظ المحنق

قتل بعد الأسر يوم بدر.
وقتل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد أبا عزّة الشاعر، بعد ما أسر.
وقتل بني قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بالقتل وسبي الذرية. ومنّ على الزبير بن باطا من بينهم.
وفتح خيبر بعضها صلحا وبعضها عنوة، وشرط على ابن أبي الحقيق ألا يكتم شيئا، فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله.
وفتح مكة، وأمر بقتل هلال بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وآخرين. وقال: «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلّقين بأستار الكعبة».
واختلف الفقهاء في فداء الأسير، فقال الحنفية جميعا: لا يفادى الأسير بالمال، ولا يباع السّبي لأهل الحرب، فيرجعون حربا علينا، وقال أبو حنيفة: لا يفادون بأسرى المسلمين أيضا، وقال أبو يوسف ومحمد: لا بأس أن يفادى أسرى المؤمنين بأسرى المشركين، وهو قول الثوري والأوزاعي.
ونقل المزني عن الشافعي: أن للإمام أن يمنّ على الرجال الذي ظهر عليهم، أو يفادي بهم.
أما المجيزون للفداء بأسرى المسلمين وبالمال، فيستدلّون بقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً} فقد أجازت الآية الكريمة الفداء مطلقا غير مقيّد، وبأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فادى أسرى بدر بالمال.
ويحتجون للفداء بأسرى المسلمين بما روى ابن المبارك عن معمر عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين: قال أسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأسر أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلا من بني عامر بن صعصعة، فمرّ به على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال الأسير: علام أحبس؟ فقال: «بجريرة حلفائك» فقال: «إني مسلم» فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كلّ الفلاح». ثم مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فناداه أيضا، فأقبل، فقال: إني جائع فأطعمني، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نعم هذه حاجتك» ثم فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما.
وروي أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين، ولم يذكر في هذه الرواية إسلام الأسير.
والذين يقولون بعدم الجواز يقولون: إنّ هذه الآية نسختها آية: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وبقوله تعالى: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29].
ويقولون: إنّ ما كان من النبي صلّى الله عليه وسلّم في صلح الحديبية: «إنّ من جاءنا منهم رددناه عليهم».
قد نسخ. ونهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الإقامة بين أظهر المشركين، وقال: «من أقام بين أظهر المشركين فقد برئت منه الذّمة».
وما روي في أسارى بدر منسوخ بما تلونا.
هذه حجج الفريقين قد سقناها لك، وإنك لترى فيها أنّ النبي فعل أشياء كثيرة مختلفة، فمنّ وقال: «اذهبوا فأنتم الطّلقاء».
وقال: «من دخل دار فلان فهو آمن».
وفي الوقت نفسه قتل جماعة من الأسرى، وقال: «اقتلوهم وإن تعلقوا بأستار الكعبة».
وقتل يهود بني قريظة نزولا على حكم سعد بن معاذ، وكانوا قد رضوا حكمه، ومنّ على واحد منهم، وفادى بالمال والمسلمين، وترى أنّ كلّ ذلك قد كان تبعا للمصلحة الحربية، وقد أرشد الله تعالى في القرآن الكريم إلى أنّ المصلحة الحربية فوق كلّ اعتبار، انظر إلى قوله تعالى: {ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)} [الأنفال: 67] فقد عاتب الله نبيه على اتخاذ الأسرى قبل أن تقوى شوكة الإسلام، وقبل أن يتمّ خذلان العدو وقهره.
وقد يكون في إباحة الأسر قبل الغلبة تقوية قلوب الأعداء، إذ يقولون: ما دمنا سنكون أحياء نأكل ونشرب، فما لنا نخضع لدعوتهم، فيستمرّون في مناوشة المسلمين، ومداومة حربهم كلّ يوم. أما إذا علموا أنّه لا هوادة في الحرب، وأنهم مقتولون إن لم يؤمنوا، وأنهم لا ملجأ لهم من الله إلا إليه أسلموا، وقبلوا الدعوة، أو أسلموا أمورهم، وانقادوا، وذلوا، فلا يقومون بحرب، ولا يقلقون راحة المسلمين، فما لنا لا نوادعهم، ونأسر منهم، فنسترقّ، ونمنّ، ونفادي، فانظر عظمة الإسلام ومكارمه.
وقد جاء القرآن بالترخيص في هذا صريحا في الآية التي معنا.
والقول بالنسخ لا حاجة إليه، وقواعد النسخ تأباه، إذ النسخ مشروط- بعد المعارضة- بعدم إمكان الجمع بعد ثبوت التأخر في الناسخ، والتقدم في المنسوخ.
وحيث إنه لا معارضة فإنّ لنا أن نقول: إنّ آيات القتال كانت في أولئك الذين كانوا حربا على المسلمين، وأخرجوهم من ديارهم، وظاهروا على إخراجهم، وعاهدوا، ونقضوا عهدهم، أو نقول: إن المصلحة الحربية والتمكين لقاعدة المسلمين (جزيرة العرب) ألا يبقى فيها دينان، قضت بالقتل حتى تطهر الجزيرة.
انظر إلى قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28].
وبعد فإنّا نرى أن يفوّض إلى أهل الذكر والبصر بالحرب أمر الحرب، ووضع خططها، والتصرف في الأسرى وغيرهم، بحسب ما تقضي المصلحة الحربية، فإن رأوا إبادتهم خيرا أبادوهم، وإن رأوا استرقاقهم استرقوهم، وإن رأوا المفاداة بالمال وبالأسرى فعلوا، فيترك لهم أمر تقدير المصلحة.
وما نحسبنا مخطئين إذا قلنا: إنّ الذي كان من النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأعمال المختلفة كان نزولا على مقتضى المصلحة، ولذلك نراه كان يجتهد في تعرّف وجوه المصلحة، فيستشير أبا بكر وعمر، ويختلف أبو بكر وعمر، ويجيء القرآن مؤيدا لأحد الرأيين، وكذلك نزوله على تحكيم سعد بن معاذ، ولو كان الأمر أمر خطة مرسومة، وحدا لا يتخطّى، لما كان هناك معنى للاستشارة، ولا للنزول على الرضا بالتحكيم ولما خالف في الحرب الواحدة بين أسير وأسير، فقتل هذا ومنّ على غيره. فالمصلحة العامة وحدها هي المحكّمة، وهي الخطة التي تتّبع في الحروب، خصوصا والحرب مكر وخديعة، وما دامت مكرا وخديعة فليترك للماكرين وضع خطط المكر والخديعة، ولا يرسم لهم كيف يمكرون، وإلا ما كانوا ماكرين.