فصل: تفسير الآية رقم (9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (9):

قال الله تعالى: {وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)}.
لما حذّر الله المؤمنين نتائج الاستماع لنبأ الفاسق، أراد أن يبيّن ما يتدارك به الأمر لو وقع، فقال: {وَإِنْ طائِفَتانِ} الطائفة: أقل من الفرقة، بدليل قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ} [التوبة: 122] كذا قيل، ولك أن تقول: لولا تقدّم الفرقة ما فهم منه هذا المعنى، فالطائفة الجماعة، والفرقة الجماعة، وقد تكون الجماعة قليلة، وقد تكون كثيرة.
والتعبير (بإن) للإشارة إلى أنّه لا ينبغي أن يقع القتال بين المسلمين، وأنه إن وقع فإنما يقع من الندرة والقلة، التي يشكّ في وجودها، وجاء {اقْتَتَلُوا} بلفظ الجمع، مع أنّ الظاهر مجيئه بلفظ التثنية، لأن الطائفة وإن كان مفردا في اللفظ فهو جمع في المعنى، فروعي فيه المعنى أولا، ثم روعي اللفظ ثانيا، في قوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما}.
(واقتتلوا) بمعنى تقاتلوا، والمراد بالإصلاح في قوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما} الأولى بذل النصح والإرشاد، وإزالة الشبه التي تكون عند إحداهما، أو عند كليهما، ودعوتهما إلى النزول على حكم الله.
{فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى} البغي: العدوان، والمراد الغلو بغير الحق، وعدم الإذعان للنصيحة {فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ} أي استمرّوا في قتالها حتى ترجع إلى حكم الله، أو إلى ما أمر الله به من عدم البغي.
{فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ} بفصل ما بينهما من أسباب الخصومة ونتائجها، ولا تكتفوا بمجرد المتاركة والموادعة، خشية أن تكون إحداهما أو كلاهما تركته تقية، وانتظارا للفرصة تسنح، وتقييد الصلح بالعدل هنا لأنه بعد القتال، وذلك مظنة الحيف، أي لا يحملنكم ما كان منهم من عناد وبغي على أن تظلموهم، ولا على أن تظلموا عدوّهم لضعفه، بل يجب أن تعدلوا {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى}.
{وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي اعدلوا، والزموا العدل في كل الأمور، فإنّ الله يحب المقسطين، فيجازيهم أحسن الجزاء.

.سبب النزول:

أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم في سبب نزول هذه الآية عن أنس رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لو أتيت عبد الله بن أبي، فانطلق إليه، وركب حمارا، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما انطلق إليه، قال: إليك عنّي، فو الله لقد آذاني ريح حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجال من قومه، وغضب للأنصاري آخرون من قومه، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فأنزل الله فيهم: {وَإِنْ طائِفَتانِ}.
وقيل: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم متوجها لزيارة سعد بن عبادة في مرضه، فمر على عبد الله بن أبي بن سلول، فقال ما قال، فرد عليه عبد الله بن رواحة، فتعصّب لكل أصحابه، فتقاتلوا، فنزلت، فقرأها صلّى الله عليه وسلّم فاصطلحوا، وكان ابن رواحة خزرجيا، وابن أبي أوسيا.
وقيل: إنّها نزلت في رجل من الأنصار يقال له عمران، وكان تحته امرأة يقال لها: أم زيد، وقد أرادت أن تزور أهلها، فحبسها زوجها، وجعلها في علية له، لا يدخل عليها أحد من أهلها، فبعثت المرأة إلى أهلها، فجاء قومها، فأنزلوها لينطلقوا بها، واستعان الرجل بقومه، فجاءوا ليحولوا بين المرأة وأهلها، فتدافعوا، وكان بينهم معركة، فنزلت فيهم هذه الآية، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأصلح بينهم، وفاءوا إلى أمر الله.
والخطاب في الآية الكريمة لولاة الأمور، والأمر فيها للوجوب، فيجب الإصلاح بالنصح، فإن أبت إحداهما إلا البغي، وجب قتالها ما قاتلت، فإن رجعت عن بغيها، والتزمت حكم الله تركت.
هذا وقد تمسّك جماعة بما جاء في سبب النزول، وقالوا: يقتصر في قتال الفئة الباغية على ما دون السلاح، ولا يجوز مقاتلتهم بالسلاح، وهو لا يصح أن يتمسّك به. فأنت تعلم أنّ الله قال: {فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ} وهو أمر بالمقاتلة إلى الفيئة، فإذا كانوا لا يفيئون إلا بالسيف وجب قتالهم به، لأن الغرض من المقاتلة هو الفيئة، وهي لا تحصل إلا به، وقد وقع من الصحابة قتال البغاة بالسيف، وكفى بهم قدوة، ونزول آية عامة على واقعة خاصة لا يخصص العام، على أنّ القتال إنما شرع عند البغي قمعا للفتنة بين المسلمين، والمفروض أنّ العلاج قد استعصى بالنصح، ويراد اتخاذ علاج حاسم، فليترك الأمر لمن يباشر الحسم، فإن رأى أنّ الدواء يستأصل بما دون السلاح كان مسرفا في الزيادة، وإن رأى أنّ الفتنة لا تدفع إلا بالسلاح فعل حتى الفيئة.
واختلفت أقوال الفقهاء في أموال البغاة التي أخذت منهم أثناء قتالهم، فعن الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة: أن أموالهم لا تكون غنيمة. وإنما يستعان على حربهم بكراعهم وسلاحهم عند الاستيلاء عليه، فإذا وضعت الحرب أوزارها ردّ المال عليهم، وكذا يردّ الكراع والسلاح إذا لم يبق أحد باغيا.
وروي عن أبي يوسف: أن ما وجد في أيدي أهل البغي من كراع وسلاح فهو فيء يقسّم ويخمس، وإذا تابوا لم يؤخذوا بدم ولا مال استهلكوه.
وروي عن الإمام مالك رضي الله عنه: ما استهلكه الخوارج من مال ودم ثم تابوا لم يؤخذوا به، وما كان قائما بعينه ردّ، وهو مروي عن الأوزاعي والشافعي.
وقال الحسن بن صالح: إذا قوتل اللصوص المحاربون فقتلوا، وأخذ ما معهم، فهو غنيمة لمن قاتلهم بعد إخراج الخمس، إلا أن يكون شيء قد علم أنّهم سرقوه من الناس، وعرف أصحابه، فإنّه يردّ عليهم.
وما استهلك من أموالهم أثناء التجمع للقتال، والتفريق عند وضع الحرب أوزارها، لا ضمان فيه بالإجماع.
وقد جاء في حديث أخرجه الحاكم ما يوضّح الحكم في المسألة، فقد جاء فيه قال عليه الصلاة والسلام: «يا ابن أم عبد هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة».
فقال: الله ورسوله أعلم. قال: «لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يقسّم فيئها».
وقد روى عكرمة بن عمار بسنده عن ابن عباس أنّ الخوارج نقموا على علي رضي الله عنه أنّه لم يسب ولم يغنم، فحاجّهم قائلا: أفتسبون أمّكم عائشة، ثم تستحلون منها ما تستحلّون من غيرها؟ فإن فعلتم لقد كفرتم.
وقد سئل أبو وائل: أخمّس علي أموال أهل الجمل؟ قال: لا.
وإنما ذكر الله العدل في الإصلاح بعد الفيئة، لأنّ هذا وقت قد غلبت فيه الفئة الباغية على أمرها، ويغلب أن تظلم، وتصادر أموالها، وما أخذ منها لا يردّ إليها.
فالعدل وذكره هنا بمثابة أن يقال: لا يحملنّكم قهركم إياهم على ظلمهم، فهم طائفة من المؤمنين عصمت دماؤهم، وعصمت أموالهم، وما حصل منهم يكفي فيه قهرهم، وما نالهم من الهزيمة، فتكون الآية حينئذ ظاهرة في أنّه لا يجوز أسرهم بعد الفيئة، ولا يكون مالهم فيئا ولا يضمّنون شيئا.

.تفسير الآية رقم (10):

قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)}.
بيّن الله تعالى في الآية السابقة أنّه لو ظهرت بوادر القتال بين طائفتين من المؤمنين، فالواجب إصلاح ذات البين بالنصح والإرشاد، فإن جنحا للسلم، فقد كفى الله المؤمنين القتال، وإن جنحت إحداهما، وبغت الأخرى، فالواجب قتال الباغية حتّى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت ورجعت فالواجب الإصلاح بالعدل، لا يجهز على جريح، ولا يسبى أحد، ولا يقسم الفيء، وهنا بيّن الله تعالى أنّ الإصلاح كما يجب بين الجماعات فهو واجب بين الأفراد، حتّى لا يظنّ ظانّ أنّ الإصلاح إنما يجب عند اختلاف الجماعات والطوائف، لأنّ اختلاف الجماعات شديد البلاء، يخشى منه على المسلمين أن تذهب ريحهم، ويتمكّن منهم عدوّهم. فأمّا إذا كان الخلاف بين فردين فليست له هذه الأهمية، فلا يجب الإصلاح، فدفعا لهذا الوهم قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} وقد ذهب بعض أهل اللغة، إلى أنّ إخوة جمع الأخ من النسب، وأما الأخ بمعنى الصديق فجمعه إخوان، فجعل الله الإخوة في الإسلام إخوة في النسب، فأعطاها اسمها توكيدا لأمر المحافظة عليها، وإشارة إلى أنهم في الإسلام إخوة، وأن الإسلام ينتمون إليه كما ينتمي الإخوة إلى أبيهم.
أبي الإسلام لا أب لي سواه ** إذا افتخروا بقيس أو تميم

وزيادة في أمر العناية بالإصلاح بين الأخوين ذيّل الله الأمر به بالأمر بالتقوى، لأنّه لما لم يكن عاما فقد لا يخشى ضرره، فلا يتسارع الناس إلى إزالته، فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} يعني والله أعلم: فأصلحوا بينهما، وليكن رائدكم في هذا الإصلاح تقوى الله وخشيته، والخوف منه، فالتزموا الحق العدل، ولا تحيفوا، ولا يكن منكم ميل لأحد الأخوين، فإنّهم إخوانكم، وليس أحدهما بالنسبة إليكم فاضلا والآخر مفضولا، إذ الذي جمع بينكم وبينهما الإسلام، وفي الإسلام تذهب الفوارق وتتلاشى.
الحصر (بإنما) يفيد أنّ أمر الإصلاح ووجوبه إنما هو عند وجود الإخوة في الإسلام، فأما بين الكفار فلا، وأما بين المسلم والكافر، فللمسلم علينا النصرة والإعانة مطلقا إن كان خصمه حربيا. ونصره وإعانته عند وقوع ظلم عليه إن كان خصمه ذميا أو صاحب أمن.
وأما إن كان خصمه ذميا والمسلم ظالم له، فالواجب علينا وضع الظلم، فقد استحق بعقد الذمة أن يكون له ما لنا وعليه ما علينا.