فصل: تفسير الآية رقم (11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (11):

قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)}.
السخر: الهزء، قيل: وهو النظر إلى المسخور بعين النقص، وقال القرطبي: إنّ السخرية وهي اسم منه، الاستحقار والاستهانة، والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه. والأكثر تعدية فعله (بمن) وهي لغة الكتاب العزيز، كما تدل عليه الآية التي معنا، وقوله تعالى: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} [هود: 38] ويقال: فلان سخرة، بوزن همزة.
إذا كان يهزأ به الناس، وقد تكون السخرية بمحاكاة الفعل بالقول والإشارة، أو الضحك على كلام المسخور منه إذا بدا منه تخبط أو غلط، أو على صنعته، أو قبح صورته، ويرى بعضهم أن السخرية ذكر الشخص بما يكره على وجه مضحك بحضرته. ويرى البعض أنّ المراد منها احتقار القول أو الفعل بحضور صاحبه.
والآية نزلت في قوم بني تميم، سخروا من بلال وسلمان وعمّار وخباب وصهيب وابن فهيرة وسالم مولى أبي حذيفة.
وقد ذكر فيها النهي عن السخرية بالنساء تتميما لبيان الحكم.
وروي أنّها في شأن أمّ سلمة حين سخر منها بعض الصحابيات، وقيل غير ذلك.
وقوله عزّ وجلّ: {عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} تعليل للنهي، أي عسى أن يكون المسخور منه عند الله خيرا من الساخر، فـ «ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبرّه» وقيل: بل المعنى عسى أن يبدّل الله الحال، ويعكس الأمر، فيصير المسخور منه عزيزا رفيع الجانب، والساخر ذليلا مهانا، وهو حينئذ على حد قوله:
لا تهن الفقير علّك أن ** تركع يوما والدهر قد رفعه

وقد ذكر الله تعالى النساء مع القوم في الآية، فكان ذلك قرينة على أنّ المراد بالقوم الرجال. ويرى بعضهم أنّ القوم اسم خاصّ بالرجال لا يدلّ على النساء إلا من طريق التغليب، ومنه ما جاء في بيت زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري ** أقوم آل حصن أم نساء

وكأنّ هذا المعنى يرجع إلى أنّ لفظ القوم مأخوذ من أنّ الرجل قوّام على المرأة، وهو في الأصل: إما مصدر بمعنى القيام، ثم استعمل في جماعة الرجال، وإما اسم جمع لقائم.
وقد جاء النهي عن السخرية موجها إلى جماعة الرجال والنساء، وإن كان حكم الفرد من الفريقين كذلك، جريا على ما كان حاصلا، وما هو الأغلب من وقوع السخرية في المجامع والمحافل. وما دامت علة النهي عامة، فهو يفيد عموم الحكم لعموم العلة.
وكلمة (عسى) في مثل هذا التركيب الذي أسندت فيه إلى (أن، والفعل) قيل: تامة، لا تحتاج إلى خبر، و(أن) وما دخلت عليه في محل رفع على الفاعلية. وقيل ناقصة، وسد ما بعدها مسد جزءيها.
{وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} أي لا يعب بعضكم بعضا، وقد جعل الله لمز بعض المؤمنين لمزا للنفس، لأنهم كنفس واحدة، فمتى عاب المؤمن أخاه، فكأنّه عاب نفسه.
وقد ذكر الله في الآية النهي عن ثلاثة أشياء: عن السخرية، وعن اللمز، وعن التنابز بالألقاب.
أما التنابز بالألقاب: وهو التعاير بها، فمغايرته للسخرية واللمز ظاهرة.
وأما السخرية واللمز، فقد ذهب العلماء في المغايرة بينهما إلى وجوه، فمنهم من يرى أنّ السخرية احتقار الشخص مطلقا على وجه مضحك بحضرته، واللمز التنبيه على معايبه، سواء أكان على مضحك أم غيره، وسواء أكان بحضرته أم لا، وعلى هذا اللّمز أعم من السخرية، ويكون من عطف العام على الخاص، لإفادة الشمول.
ومنهم من يرى السخرية الاحتقار واللمز والتنبيه على المعايب، أو تتبعها، وهو يرى أنّ العطف من قبيل عطف العلة على معلولها. كأنّه قيل: لا يحقّر أحد لعيبه، وهذا الوجه لا يكاد يظهر له كبير معنى.
ومنهم من يرى أنّ اللمز خاص بما كان من السخرية على وجه الخفية، وعليه العطف من عطف الخاص على العام، مبالغة في النهي عنه، كأنه جنس آخر.
ويرى بعضهم أن المعنى: ولا تأتوا من الأفعال ما يكون سببا لأن يلمزكم الناس، ويكون المعنى لا يسخر أحد من أحد، ولا يفعلنّ أحد ما يقتضي أن يلمزه الناس.
{وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ} التنابز: التعاير، والتداعي بالألقاب، وخصّ في العرف بالمكروه منها، وقد نقل عن العلماء النصّ على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره، سواء أكان صفة له، أم لأبيه، أم لأمه، أم لكلّ من ينتسب إليه.
{بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ} تعليل للنهي، والاسم هنا المراد منه الذكر، والمراد: ذم أن يجتمع اسم الفسوق الذي يلحق الناس بسبب التنابز مع الإيمان، وذلك تغليظ شديد، حيث جعل التنابز فسقا، وفيه من التنفير منه ما لا يخفى.
وقيل: بل المعنى: لا ينسبن أحدكم غيره إلى الفسق الذي كان فيه بعد اتصافه بالإيمان، كأنّه قيل: لا تشهّروا بالناس بذكر ما كانوا عليه من فسق بعد ما حصلوا على الإيمان، ويكون ذلك نهيا عن أن ينادى من دخل الإسلام بصفته التي كان عليها، وقد استثني من النهي دعاء الرجل بلقب قبيح لا على سبيل الاستخفاف والإهانة، بأن يكون على قصد التمييز، كقول المحدّثين: سليمان الأعمش.
{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي من لم يتب عما نهي عنه من الأمور الثلاثة فهو ظالم، وكأنه لا ظالم سواه، لأنه وضع العصيان موضع الطاعة، وعرّض نفسه للعذاب.

.تفسير الآية رقم (12):

قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)}.
يقال اجتنب الشيء أي كان منه على جانب، ثم استعمل في التباعد مطلقا، فمعنى قوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} تباعدوا عن كثير من الظن، وجيء بلفظ (كثير) منكّرا، ليحتاط فيه، فيكون بعيدا عن بعض الظن الذي هو إثم إذا ابتعد عن الكثير منه.
والظن أنواع: منه ما هو محرّم، ومنه ما هو واجب ومنه ما هو مندوب، ومنه ما هو مباح.
فالمحرم: كسوء الظن بالله والعياذ بالله. وسوء الظن بالمسلم مستور الحال، ظاهر العدالة، فقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظنّ بالله عزّ وجلّ».
وعنه أنه قال: «إيّاكم والظنّ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث».
وقد جاء في القرآن الكريم: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس: 36] وقال الله تعالى: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} [الفتح: 12].
وفي الحديث: «إنّ الله تعالى حرّم من المسلم دمه وعرضه وأن يظنّ به ظنّ السوء».
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أساء بأخيه الظنّ فقد أساء الظنّ بربّه، إن الله تعالى يقول: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ}».
وقد قدمنا أنّ الممنوع إساءة الظن بالمسلم المستور ظاهر العدالة، وأما من يتعاطى الرّيب، والمجاهرة بالخبائث، فلا يحرم إساءة الظن به، فليس الناس أحرص منه على نفسه، وقد أمر أن يتجنب الريب، وألّا يقف مواقف التّهم، فمن وقف مواقف التهم اتّهم.
والظن الواجب: يكون فيما تعبّدنا الله تعالى بعلمه، ولم ينصب عليه دليلا قاطعا، فهنا يجب الظن للوصول إلى المعرفة التي تعبّدنا الله بها، وما غلب على ظنه فهو الذي تعبّدنا الله به. ومن ذلك قبول شهادة العدل، وتحرّي القبلة، وتقويم المستهلكات، وأروش الجنايات التي لم يرد بمقاديرها نصّ عن الشارع.
والمندوب من الظن: ظنّ الخير بالمسلم، وقد تقول: ما دام سوء الظن محرّما، فما بال حسن الظن مندوبا؟
ولكن إذا علمت أنّ هناك واسطة، وهو ألا يظن شيئا علمت أنّه لا يلزم التقابل في الحكم.
والظنّ المباح: قد مثّلوا له بالشك في الصلاة، وكأنهم يريدون من الظنّ استواء الطرفين، ومثّلوا له أيضا بالظن الذي يعرض في القلب، مما يوجب الريبة، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا ظننتم فلا تحققوا».
أي لا توجدوا أثرا لهذا الظن.
وحرمة الظن بالناس إنما تكون إذا كان لسوء الظن أثر يتعدّى إلى الغير، وأمّا أن تظنّ شرا لتتقيه، ولا يتعدّى ذلك إلى الغير، فذلك محمود غير مذموم، وهو محمل ما ورد من أنّ (من الحزم سوء الظن).
و(احترسوا من الناس بسوء الظن).
وما جاء في الحكم: (حسن الظنّ ورطة، وسوء الظنّ عصمة).
وقوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} تعليل للأمر باجتناب الظنّ. والإثم الذنب الذي يستحقّ فاعله العقوبة عليه.
{وَلا تَجَسَّسُوا} أي لا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم، وتستكشفوا ما ستروه. والتجسس: تفعل من الجس، وهو بمعنى التحسس على ما قيل، وبعضهم يرى أنهما متغايران، وأن التجسس معرفة الظاهر، وبالحاء تتبع البواطن، وقيل: بالعكس، والأمر مرجعه إلى اللغة. وقد عدّ العلماء التجسس من الكبائر.
وقد أخرج أبو داود وغيره عن أبي برزة الأسلمي قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنّه من يتّبع عوراتهم يتّبع الله عورته ومن يتّبع الله عورته يفضحه في بيته».
{وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} أي لا يذكر بعضكم بعضا بما يكره.
أخرج مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «ذكرك أخاك بما يكره». قيل: أفرأيت لو كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه».
ومعلوم أنّ المراد من هذا النهي النهي عن الإيذاء بتفهيم الغير معايب المغتاب، وذلك يتناول كلّ طرق الإفهام، وهو يتناول أيضا كلّ ما يكره، سواء في دينه أو دنياه، وفي خلقه أو خلقه، وفي ماله، أو ولده، أو زوجته، أو مملوكه، أو خادمه، أو لباسه، وخصّه بعضهم بما لا يذمّ شرعا من الصفات، فمن ذكر الزاني بأنّه زان لا يكون مغتابا، ولا يحرم عليه هذا الذكر عنده. واستدل لذلك بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اذكروا الفاجر بما فيه، يحذره الناس».
ولم يرفض الجمهور ذلك، وقالوا: الحديث ضعيف لا ينهض حجة: قال أحمد: وهو منكر، وقال البيهقي: ليس بشيء، ولو صحّ فهو محمول على فاجر متهتّك يعلن فجوره وتهتكه.
ويرى بعضهم أنّ الذكر بالمكروه يحرم مطلقا في الغيبة والحضور، ونصّ بعض المفسرين على أنه المعتمد، ويكون التقييد بالغيبة خارج مخرج الغالب، إذ إنّ الغالب أن الناس تستحي من أن تذكر أحدا بمعايبه في حضرته.
{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} هذا مثال ذكره الله تنفيرا من الغيبة، وتبعيدا منها، وهو مثل بالغ النهاية في تأدية المراد، قد وضّح فيه ما يصدر من المغتاب من حيث صدوره عنه، ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه تستقبحه العقول، وتنفر منه الطباع، وتنكره الشرائع، وقد ذكر المثل على سبيل الاستفهام التقريري، وهو لا يقع إلّا في كلام مسلّم عند السامع، حقيقة أو ادّعاء، وقد أسند في المثل الفعل إلى أحد إيذانا بأنّه لا يستقر في طبع أحد كائنا من كان أن يقدم على أن يأكل لحم إنسان، فضلا عن أن يحبه، وما بالك به إذا كان المأكول لحم أخيه؟ لا شك أنه يكون أشنع، وماذا تكون الشناعة إذا كان الأخ ميتا؟ إنّها تكون شناعة ما فوقها شناعة.
فقد بيّن الله بهذا المثل أوضح بيان أنّ وقوع المغتاب في عرض الناس بذكر معايبهم يشبه أن يكون أكلا للحومهم، وهم إخوته، وليتهم كانوا حاضرين، بل هو إنما ينهش أعراضهم وهم غائبون، فهو كالكلب ينهض لحوم الجيف. ولو عقل الناس هذا المثل، وما استعمل فيه من طرق التنفير ما أقدموا على الغيبة.
والفاء في قوله تعالى: {فَكَرِهْتُمُوهُ} فإن الفصيحة مقدّر معها (قد) وهي واقعة في جواب شرط مقدّر، أي إن عرض لكم هذا فقد كرهتموه، ولا يمكنكم إنكار كراهته.
وبعضهم: إنّ المعنى فأنتم تكرهونه، ويكون الكلام تصريحا بجوابهم عن الاستفهام، كأنّهم قالوا: لا نحب، فقال الله تعالى: فأنتم كرهتموه، وعبر بالماضي للمبالغة.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} عطف على مقدّر، كأنه قيل: امتثلوا ما أمرتم به، ونهيتم عنه، {واتقوا الله إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} تعليل للأمر بالتقوى، وتوّاب: معناه كثير القبول لتوبة من تاب.
والغيبة محرّمة بنص إلهيّ في الآية الكريمة، وقد نقل القرطبي الإجماع على أنها من الكبائر. والغزالي: يرى أنّها من الصغائر، وهو عجيب من عمدة الأخلاق الغزالي، ولعلّه أراد أن يخفف على الناس لمّا رأى فشوها فيهم، لا يخلو منهم من لا يرتكبها إلا النادر، ولكنّا ما علمنا أنّ إطباق الناس على منكر يكون سببا في تخفيفه ولو لم يرد فيها من دلائل التحريم غير ما ذكر في هذه الآية وأنّها من أشنع القبائح لكان ذلك كافيا في كونها من الكبائر.
وليس لأحد أن يتعلّق بما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد عن أبي بكرة أنّه قال: بينما أنا أماشي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو آخذ بيدي، ورجل عن يساري، فإذا نحن بقبرين أمامنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير» وبكى إلى أن قال: وما يعذبان إلا في الغيبة والبول؛ إذ المراد أنهما ما كان يكبر عليهما أن يتجنّبا سبب هذا العذاب، فكان أحدهما لا يستنزه من البول، وإنّه ليسير، وكان الآخر لا يبتعد عن الغيبة، وما هو عليه بعسير.
ولو أنّ الإمام الغزالي رحمه الله ذهب إلى أنّ بعضها ليس بكبيرة، بل هو من الصغائر لكان الأمر هينا فإنّك عرفت أنّ الغيبة إنما نهي عنها من أجل الإيذاء، وهو مراتب، فلن يكون ذكر معايب الثوب أو القربة مثلا ببالغ حدّ الخوض في العرض من جهة الإيذاء، فالغيبة حرام، ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة والاستغفار منها.
وقد أخرج العلماء أشياء لا يكون لها حكم الغيبة فيما إذا كان العيب لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا به.
فمن ذلك التظلم: فلمن ظلم أن يشكو لمن يظنّ منه القدرة على إزالة ظلمه.
ومنه الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على تغييره.
ومنه الاستفتاء: كأن يقول للمفتي ظلمني فلان بكذا، فما طريق الوصول إلى حقي؟
ومنه أن يكون صاحب العيب مجاهرا بالمعصية، كشربه الخمر- للذين يتظاهرون-.
ومنه جرح الرواة والمصنفين والمفتين مع عدم الأهلية، وكلّ ما فيه تحذير المسلمين من الشر، إذا تعين ذلك طريقا له.
هذا وقد اشتملت الآية الكريمة على الأمر باجتناب الظنّ باجتناب أثره، ثم النهي عن طلب تحقيق ذلك الظن بقوله: ولا تجسسوا ثم النهي عن ذكر ما عسى أن يكون المتجسس قد وقف عليه، فهذه ثلاثة مترتبة: ظنّ، فعلم من طريق التجسس، فاغتاب.