فصل: من سورة المجادلة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.من سورة المجادلة:

.تفسير الآية رقم (1):

قال الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)}.
ثبت في السنن والمسانيد أنّ أوس بن الصامت قال لزوجته خولة بنت ثعلبة بن مالك في شيء راجعته فيه: أنت عليّ كظهر أمّي وكان الرجل في الجاهلية إذا قال لزوجته ذلك حرمت عليه، فندم من ساعته، فدعاها، فأبت، وقالت: والذي نفس خولة بيده، لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إنّ أوسا تزوّجني وأنا شابة مرغوب فيّ، فلما خلا سنّي، ونثرت بطني، جعلني عليه كأمه، وتركني إلى غير أحد، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشني بها وإياه فحدثني بها، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن» وفي رواية: «ما أراك إلا قد حرمت عليه».
قالت: ما ذكر طلاقا، وجادلت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرارا، ثم قالت: اللهم إني أشكو إليك فاقتي، وشدّة حالي، وروي أنها قالت: إنّ لي صبية صغارا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء، وتقول: اللهم إني أشكو إليك، اللهم فأنزل على لسان نبيك، وما برحت حتى نزل القرآن فيها.
فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا خولة أبشري» قالت: خيرا، فقرأ عليه الصلاة والسلام عليها: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها}.
قال النحاة: إنّ قد الداخلة على الماضي لابدّ فيها من معنى التوقع، يعنون أنه لا يقال: قد فعل إلا لمن ينتظر الفعل، أو يسأل عنه، ولذلك قال سيبويه: وأما قد فجواب هل فعل، لأنّ السائل ينتظر الجواب، وقال الخليل: هذا الكلام لقوم ينتظرون الخبر، يريد أنّ الإنسان إذا سئل عن فعل، أو علم أنّ المحدّث يتوقع أن يخبر به قال: قد فعل. وإذا كان المخبر مبتدئا قال: فعل كذا وكذا.
و(قد) هنا فيها معنى التوقع، فإنّ السماع في قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها} مجاز عن القبول والإجابة بعلاقة السببية. ولا شكّ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتوقع أن يجيب الله دعاءها ويفرّج كربها.
{تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها} أي تراجعك الكلام في شأن زوجها {وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} الشكوى أن تخبر عن مكروه أصابك، وهي من الشكو، وأصله فتح الشكوة، وإظهار ما فيها، والشكوة وعاء كالدلو، أو القربة الصغيرة، يتخذ للماء واللبن ونقع الزبيب والتمر، ثم شاع استعمال الشكوى في إظهار البثّ، وما انطوت عليه النفس من المكروه.
{وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما} السمع هنا على حقيقته المعروفة، وهي أنّه صفة يدرك بها الأصوات، غير صفة العلم، أو أنه نوع من الإدراك يرجع إلى صفة العلم. والتحاور: المرادّة في الكلام، وهو قريب من معنى المجادلة.
{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي أنه تعالى يسمع كل المسموعات، ويبصر كل المبصرات، على أتم وجه وأكمله، ومن لازم ذلك أن يسمع تحاورهما، ويبصر هيئة المجادلة حين رفعت رأسها إلى السماء مبتهلة ضارعة.
قالت عائشة رضي الله عنها: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت خولة بنت ثعلبة تشكو إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا في كسر البيت يخفى عليّ بعض كلامها، فأنزل الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)} أخرجه البخاري والنسائي.

.تفسير الآية رقم (2):

قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)}.
الظهار لغة مصدر ظاهر، مفاعلة. يقال: ظاهر زيد عمرا، إذا قابل ظهره بظهره حقيقة، وظاهره غايظه، وإن لم يكن هناك تقابل حقيقة، باعتبار أنّ المغايظة تقتضي هذه المقابلة، وظاهره: ناصره باعتبار أنّه يقال قوّى ظهره إذا نصره، وظاهر بين ثوبين إذا لبس أحدهما فوق الآخر، باعتبار ما يلي به كل منهما الآخر ظهر الثوب. وظاهر من امرأته قال لها: أنت علي كظهر أمي. وكان ذلك طلاقا في الجاهلية كما تقدم، وقال بعض العلماء: وكان طلاقا أيضا في أوّل الإسلام، لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الرواية السابقة: «ما أراك إلا قد حرمت عليه».
وحكى بعضهم أنّه كان طلاقا يوجب حرمة مؤبدة لا رجعة فيه. وقيل: لم يكن طلاقا من كل وجه، بل كانت الزوجة تبقى معلقة، لا ذات زوج، ولا خلية تنكح غيره، وكان الظاهر أن يقال: ظاهر زوجته، كما يقال طلق زوجته، إلا أنّه لتضمنه معنى التبعيد عدّي بمن.
وقوله تعالى: {ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ} ليس خبر المبتدأ، إنما هو دليله، والخبر محذوف، والتقدير: الذين يظاهرون من نسائهم مخطئون، لسن أمهاتهم، ما أمهاتهم على الحقيقة إلا اللائي ولدنهم، فلا يشبّه بهن في الحرمة إلا من ألحقها الله بهن.
{وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} وصف الله الظهار بأنه منكر وزور، باعتبار أنّ قول الرجل لامرأته (أنت عليّ كظهر أمي) يتضمّن إخبارا وإنشاء، فالأول من جهة إخباره بأنها تشبه أمه، والثاني من جهة أنه أنشأ طلاقها وتحريمها، فهو خبر زور، وإنشاء منكر، ينكره الشرع، ولا يعرفه.
{وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} كثير العفو والمغفرة، فيغفر لهم ما سلف من الظهار، ويعفو عمن ارتكبه إذا تاب.
تمسّك المالكية بظاهر قوله تعالى: {مِنْكُمْ} في أنّ الذمي إذا قال لزوجته أنت عليّ كظهر أمي لم يعتبر ذلك ظهارا، ولم تترتب عليه أحكام. وهذا هو المنقول عن الحنابلة، وهو المعول عليه عند الحنفية، إلا أنّ الحنفية لم يستدلوا عليه بمفهوم قوله تعالى: {مِنْكُمْ}، بل حجتهم في ذلك أنّ الذمي ليس من أهل الكفّارة.
وقال الشافعية كما يصح طلاق الذمي وتترتب عليه أحكامه، يصحّ ظهار الذمي وتترتب عليه أحكامه، وقوله تعالى: {مِنْكُمْ} إنّما ذكر للتصوير والتهجين، لأن الظهار كان مخصوصا بالعرب، فليس من مفهوم الصفة ليستدل به على عدم صحة الظهار من الذمي.
واعترض قول الشافعية بصحة ظهار الذمي مع اشتراطهم النية في الكفارة بخصالها الثلاث والإيمان في الرقبة. والذمي ليس من أهل النية، ويتعذّر ملكه للرقبة المؤمنة.
وأجابوا عن ذلك بأنّ خصال الكفارة منها ما هو عبادة بدنية وهو الصوم، ومنها ما هو من قبيل الغرامات وهو العتق والإطعام، والنية فيما كان من قبيل الغرامات إنّما هي للتمييز، فلا يشترط فيها الإسلام، كما في قضاء الديون. فالذمي يكفّر بالإعتاق والإطعام، ولا يكفّر بالصوم، لأنه لا يصح منه، كما أنّ العبد المظاهر لا يكفّر بغير الصوم، لأنه لا يملك. ويتصور ملك الذمي للعبد المسلم بإسلام قنّه، أو بقوله لمسلم: أعتق عبدك عن كفارتي فيجيبه، فإن لم يمكنه شيء من ذلك وهو موسر، منع الوطء لقدرته على ملك الرقبة المسلمة، بأن يسلم فيشتريها، وكذلك لا ينتقل من الصوم إلى الإطعام لقدرته عليه بالإسلام. فإن عجز عن الصوم لكبر ونحوه انتقل إلى الإطعام، ونوى للتمييز أيضا.
قال العلماء: لفظ النساء المضاف إلى الرجال حقيقة في الزوجات دون الإماء، لأنّ المتبادر من كلمة نساء الرجل إنما هو زوجاته دون إمائه، فلا يقال فيهن نساؤه، إنما يقال جواريه وإماؤه وسراريه. والتبادر من أمارات الحقيقة، وحينئذ يكون ظاهر قوله تعالى: {مِنْ نِسائِهِمْ} أنّ الظهار إنما يكون في الزوجات، فلو قال لأمته الموطوءة، أو غير الموطوءة: أنت عليّ كظهر أمي، لم يعتبر ذلك ظهارا، ولم تترتب عليه أحكام الظهار، وهو منقول عن كثير من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وإليه ذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
وقد نقل عن مالك والثوري صحة الظهار في الأمة مطلقا.
وعن سعيد بن جبير وعكرمة وطاوس والزهري صحته في الأمة الموطوءة، ذهبوا إلى التعميم في قوله تعالى: {مِنْ نِسائِهِمْ} كما عمّ قوله تعالى: {وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ} [النساء: 23] الزوجات والإماء، فحرّم بنت الأمة كما حرّم بنت الزوجة.
واقتضى قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ} أنه ليس للنساء ظهار، فلو ظاهرت امرأة من زوجها لم يلزمها شيء، وهو متفق عليه بين الأئمة الأربعة، وقال أبو بكر بن العربي: وهو صحيح معنى، لأنّ الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح بيد الرجال، ليس بيد المرأة منه شيء.
ونقل أبو حيان عن الحسن بن زياد أنّها تكون مظاهرة، ويلزمها التكفير قبل التماس.
وعن الأوزاعي وعطاء وإسحاق أنّ عليها كفارة يمين، وعن الزهري: أنها تكفّر كفارة الظهار، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها.
وكذلك اقتضى عموم الموصول في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ} صحة ظهار العبد من زوجته، لأنّ أحكام النكاح في حقه ثابتة. وإن تعذّر عليه العتق والإطعام، فإنه قادر على الصيام. وحكى الثعلبي عن مالك أنّه لا يصح ظهار العبد.
ولكنّ الذي عليه المعوّل عند المالكية هو صحة ظهاره.
ويؤخذ من قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} أنّ الظهار حرام، بل اعتمد فقهاء الشافعية القول بأنه كبيرة، لأنّ فيه الإقدام على إحالة حكم الله تعالى وتبديله دون إذنه سبحانه. ولأنّ من أقدم على الظهار بعد أن أخبر الله بأنه منكر من القول وزور يعتبر كاذبا معاندا للشرع، فمن ثمّ كان كبيرة.

.تفسير الآية رقم (3- 4):

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)}.
رتب الله الكفارة على الظهار الذي يعقبه العود، وقد اختلف أهل التأويل في العود ما هو؟
فحكى عن مجاهد أنّ الظهار في الإسلام عود إلى ما كان عليه أهل الجاهلية، ومعنى الآية عنده: والذين كان من عادتهم أن يظاهروا من نسائهم، فقطعوا ذلك بالإسلام، ثم يعودون لمثله، فعلى من عاد منهم تحرير رقبة من قبل أن يتماسا.. إلخ فالكفارة تجب بنفس الظهار في الإسلام. وقد روي مثل ذلك عن طاوس والثوري وعثمان البتّي.
وقال أبو العالية وأهل الظاهر: العود تكرار لفظ الظهار وإعادته، فلا تلزم الكفارة إلا إذا أعاد لفظ الظهار.
واختلفت الروايات عن الأئمة الأربعة، فأصحّ الروايات عن أبي حنيفة أنّ العود هو العزم على الوطء.
وروى ابن الجلّاب عن مالك روايتين: أولاهما: أنه العزم على الوطء. وثانيتهما: أنه العزم على الإمساك. وابن العربي ينقل عن الموطأ أنه العزم عليهما معا.
وقال الإمام أحمد في قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا} قال: هو الغشيان إذا أراد أن يغشى كفّر.. اهـ.
وقال الشافعي: الذي عقلت مما سمعت في {يَعُودُونَ لِما قالُوا} أنّ المظاهر حرم مس امرأته بالظهار، فإذا أتت على المظاهر مدة بعد القول بالظهار ولم يحرّمها بالطلاق الذي يحرّم به، ولا شيء يكون له مخرج من أن تحرم عليه به، فقد وجب عليه كفارة الظهار، كأنهم يذهبون إلى أنه إذا أمسك ما حرّم على نفسه عاد لما قال فخالفه، فأحل ما حرّم، ولا أعلم له معنى أولى به من هذا.
فأمّا مجاهد ومن يرى رأيه، فلم يخف عليهم أنّ العود شرط في الكفارة، ولكنّ العود عندهم هو العود إلى ما كان عليه أهل الجاهلية من المظاهرة من الزوجات، وهكذا استعملوا العود في معناه الحقيقي، كما قال الله تعالى في جزاء الصيد: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] أي ومن عاد للاصطياد بعد نزول تحريمه، وكما قال تعالى: {عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا} [الإسراء: 8] أي وإن عدتم إلى الذنب عدنا إلى العقوبة، وقد أخبر الله عن الظهار أنه منكر وزور، فهو معصية منهيّ عنه، والعود إلى المنهي عنه فعله بعد النهي عنه.
ولا يخفى أنّ حمل الكلام على تأويل مجاهد ومن يرى رأيه خروج بالآية عن مقتضى الفصاحة، وتفكيك لنظمها. فإنّهم جعلوا الفعل المستقبل الدالّ على الاستمرار {يَظْهَرُونَ} بمعنى الماضي المنقطع. وجعلوا العائد غير المظاهر، إذ المظاهرون على رأيهم أهل الجاهلية، والعائدون أهل الإسلام، فإذا ساغ فهم ذلك في رجل ظاهر في الجاهلية، ثمّ ظاهر في الإسلام، فكيف يسوغ في رجل لم يظاهر في الجاهلية، أو لم يدرك الجاهلية أصلا؟
ومعلوم أنّ مساق الآية لبيان حكم المظاهر في الإسلام، وعليه ينطبق سبب النزول، وأيضا فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر أوس بن الصامت بالكفّارة، ولم يسأله أظاهر في الجاهلية أم لا؟
وأما أبو العالية وأهل الظاهر فقد استدلوا على رأيهم بأنّ الذي يعقل من لغة العرب في العود إلى الشيء إنما هو فعل مثله مرّة ثانية، كما قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] والفعل معدّى باللام كآية الظهار سواء بسواء، واتفق أهل التأويل على أن عودهم لما نهوا عنه هو إتيانهم مرة ثانية بمثل ما أتوا به أول مرة.
وكذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ} وهو في سورة المجادلة بعد ذكر الظهار بآيات، والعهد قريب.
وقالوا أيضا: أصحّ خبر في الظهار حديث عائشة رضي الله عنها أنّ أوس بن الصامت كان به لمم، فكان إذا اشتد به لممه ظاهر من زوجته، فأنزل الله فيه كفّارة الظهار. فهذا الحديث يقتضي التكرار.
وقالوا أيضا: فما عدا تكرار اللفظ: إما إمساك وإما عزم وإنما فعل، وليس واحد منها عودا لما قال، فلا يكون الإتيان به عودا، لا لفظا ولا معنى.
وأجاب الجمهور عن ذلك بأنّ هذا الرأي يقتضي أنّ الظهار أول مرة لا يترتب عليه كفارة، وقصة خولة تدفعه، لأنّه لم ينقل التكرار، ولا سأل عنه صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك لم يسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم سلمة بن صخر حين ظاهر من زوجته فألزمه الكفارة: أهذا ظهار مكرّر، أم هو أول ظهار؟
وأما حديث عائشة فما أصحّه، وما أبعد دلالته على ما قالوا، فإنّ غاية ما أفاده أن أوس بن الصامت ظاهر من زوجته مرات كثيرة، وأن زوجته جاءت آخر مرة تجادل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتشتكي إلى الله، فأنزل الله تحريم الظهار، ورتّب عليه وجوب الكفارة قبل التماس، فكان الذي أخذ هذا الحكم هو المرة الأخيرة، وأما ما قبلها من مرات المظاهرة فإنّها لغو لا حكم لها، أو أنها كما في بعض الآراء كانت طلاقا.
أما الأئمة الأربعة وأكثر المجتهدين فلم يخف عليهم أنّ الظاهر من قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا} أنّهم يكررون ما قالوا، إلّا أنّه منع من هذا الظاهر أن التكرار لم ينقل في قصة خولة وزوجها أوس، ولا في قصة سلمة بن صخر، وأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يسأل أوسا ولا سلمة عنه.
وقد قال أهل اللغة إذا قال قائل: (عاد لما فعل) جاز أن يريد أنه فعله مرة أخرى، وهذا ظاهر. وجاز أن يريد أنه نقض ما فعل وتداركه. لأنّ التصرف في الشيء بنقضه وتداركه لا يمكن إلا بالعود إليه، فلما منع من إجراء اللفظ على ظاهره ما تقدم، وجب المصير إلى المعنى الثاني وهو النقض والتدارك.
إلا أنّ الأئمة مختلفون في العمل الذي ينقضه المظاهر ويتداركه، فيرى غير الشافعي أنّ الظهار يوجب تحريما للزوجة لا يرفعه إلا الكفارة، فالذي يريد المظاهر نقضه وتداركه هو تحريمها عليه، ونقض ذلك التحريم وتداركه إنما يكون بوطئها، أو بالعزم على وطئها، أو باستباحة وطئها، على خلاف بينهم تقدم بيانه.
ويرى الشافعي أنّ كلمة الظهار فيها تشبيه الزوجة بالأم، وهذا التشبيه يقتضي فراقها، فالذي يريد المظاهر نقضه والرجوع عنه هو فراقها، فإن مضت مدة تتسع للفراق الشرعي ولم يفارق صار ناقضا لمقتضى ما قال راجعا عنه. وإن اتصل بلفظ الظهار فرقة فليس بعائد.
واعترض القول بأن العود هو الوطء بأنّ الآية ناصّة على وجوب الكفارة قبل الوطء، فيكون العود سابقا عليه، فكيف يكون هو الوطء؟
وأجاب بعض من يرى هذا الرأي بأنّ المراد من قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} من قبل أن يباح التماس شرعا، والوطء أولا حرام، موجب للتكفير، وهذا الجواب خروج باللفظ عن مقتضى ظاهره، من غير أن يقوم عليه دليل سوى التزام هذا المذهب.
وأجاب آخرون: بأنّ قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا} معناه ثم يريدون العود، كما قال تعالى: {فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] وكما قال: {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ونظائره مما يطلق الفعل فيه على إرادته لوقوعه بها، وهذا معنى قول الإمام أحمد وقد تقدّم: إذا أراد أن يغشى كفّر.
واعترض القول بأنّ العود هو العزم على الوطء بأنّ الآية لما نزلت، وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المظاهر بالكفارة، لم يسأله هل عزم على الوطء؟ والأصل عدم ذلك، والوقائع القولية كهذه يعمّها الاحتمال، فتكون الكفارة واجبة، سواء أعزم على الوطء أم لم يعزم.
والجواب أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ترك السؤال عن ذلك، لعلمه به من خولة، فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام قال: حدثتني خولة بنت ثعلبة قالت: فيّ وفي أوس بن الصامت أنزل الله تعالى صدر سورة المجادلة، كنت عنده شيخا كبيرا قد ساء خلقه، فدخل عليّ يوما، فراجعته بشيء، فغضب، فقال: أنت عليّ كظهر أمي، ثم رجع، فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليّ، فإذا هو يريدني عن نفسي، قلت: كلا والذي نفس خولة بيده، لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت، حتّى يحكم الله ورسوله فينا. ثم جئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكرت له ذلك، فما برحت حتّى نزل القرآن... الخبر. فإنّ ظاهر قولها: فذكرت له ذلك أنّها ذكرت كلّ ما وقع. ومنه طلب أوس وطأها، المكنّى عنه بـ: يريدني عن نفسي. وذكرها ذلك له عليه الصلاة والسلام أهمّ لها من ذكرها إياه ليوسف بن عبد الله بن سلام.
واعترض القول بأنّ العود هو إمساكها زمنا يتّسع للفراق الشرعي ولم يفارق، بأن الله تعالى قال: {ثُمَّ يَعُودُونَ} وكلمة (ثم) تقتضي التراخي الزماني، والإمساك المذكور معقب لا متراخ، فلا يعطف بثم، بل بالفاء.
والجواب أن زمن الإمساك ممتدّ، ومثله يجوز فيه العطف بثم، والعطف بالفاء باعتبار ابتدائه وانتهائه.
وقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} مبتدأ ثان، خبره محذوف أي فعليهم تحرير رقبة، والجملة خبر الموصول، ولتضمنه معنى الشرط زيدت الفاء في خبره، والمراد بالرقبة المملوك من تسمية الكل باسم الجزء فتحرير الرقبة إعتاق المملوك، وجعله حرّا.
وقد أطلق الله الرقبة هنا، ولم يقيّدها بالإيمان، فاقتضى ذلك إجزاء عتق الرقبة في الكفارة، وبهذا الظاهر قال الحنفية وأهل الظاهر، وقالوا: لو كان الإيمان شرطا لبيّنه سبحان، كما بينه في كفارة القتل، فوجب أن يطلق ما أطلقه الله، ويقيد ما قيده، فيعمل بكلّ منهما في موضعه، وزاد الحنفية أنّ اشتراط الإيمان هنا زيادة على النص، وهو نسخ، والقرآن لا ينسخ إلّا بالقرآن أو الخبر المشهور، ولا يحمل المطلق على المقيّد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة، ولا يلزم من التقييد في كفارة القتل الذي هو أعظم، ثبوت مثله في كفارة الظهار الذي هو أخف، فلا يصحّ أن تكون آية القتل بيانا لآية الظهار.
وذهب مالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه إلى اشتراط الإيمان في كفارة غير القتل، كما هو شرط في كفارة القتل، قالوا في بيان ذلك واللفظ للشافعي: شرط الله سبحانه في الرقبة في القتل أن تكون مؤمنة، وأطلق هنا، كما شرط العدالة في الشهادة، وأطلق الشهود في مواضع، فاستدللنا به على أنّ ما أطلق على معنى ما شرط.
على أنّه سبحانه إنما ردّ زكاة المسلمين على المسلمين لا على المشركين وفرض الله الصدقات، فلم تجز إلا لمؤمن، وكذلك ما فرض من الرقاب، لا يجوز إلا لمؤمن.
قال الشافعي: وإنّ لسان العرب يقتضي حمل المطلق على المقيد إذا كان من جنسه، فحمل عرف الشرع على مقتضى لسانهم. قال: ولو نذر رقبة مطلقة لم يجزه إلا مؤمنة، وهذا بناء على هذا الأصل، وأن النذر محمول على واجب الشرع، وواجب العتق لا يتأدّى إلا بعتق المسلم. ومما يدلّ على هذا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لمن استفتى في عتق رقبة منذورة: «ائتني بها»، فسألها: «أين الله»؟ فقالت: في السماء. فقال: «من أنا»؟ فقالت: أنت رسول الله. فقال: «أعتقها فإنّها مؤمنة».
قال الشافعي: فلما وصفت بالإيمان أمر بعتقها. اهـ.
والضمير في قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} للمظاهر والمظاهر منها معلومين من السياق، والتماسّ كناية عن الجماع، فدلّت الآية على حرمة الجماع قبل التكفير.
وألحق الحنفية بالجماع دواعيه من التقبيل ونحوه، لأنّ الأصل أنه إذا حرّم الشيء حرّم بدواعيه، إذ طريق المحرم محرم، وأظهر القولين عند الشافعية الجواز، لأن حرمة الجماع ليست لمعنى يخل بالنكاح، فلا يلزم من تحريم الجماع تحريم دواعيه، فإنّ الحائض يحرم جماعها دون دواعيه، والصائم يحرم منه الوطء دون دواعيه، والمسبية يحرم وطؤها دون دواعيه.
أوجبت الآية الكفارة قبل المسيس، وقد يذهب من يتمسّك بالظواهر إلى أنّه إذا وطئ قبل أن يكفّر أثم، وسقطت عنه الكفارة، لأنه قد فات وقتها، ولم يبق له سبيل إخراجها قبل التماس، وهذا الحكم منقول عن الزهري وسعيد بن جبير وأبي يوسف.
ولكنّك تعلم أنّ الآية مع أنّها وقتت للكفارة ميقاتا هو ما قبل المسيس، فإنّها مع ذلك حرّمت على المظاهر العائد المسيس حتى يكفر، فما لم يكفر لا يحل له وطؤها، ولو وطئها مئة مرة، وفوات وقت الأداء لا يسقط الواجب في الذمة، كالصلاة والصيام وسائر العبادات. فلا يزال المظاهر مطالبا بالكفّارة.
وقد دلت على ذلك السنة الصحيحة:
أخرج أبو داود والترمذي وغيرهما أنّ سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته، فوقع عليها قبل أن يكفّر، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما حملك على ذلك»؟ فقال: رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فاعتزلها حتى تكفّر».
فحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوجوب الكفارة على من وطئ قبل أن يكفّر، وإلى ذلك ذهب الأئمة الأربعة وأكثر المجتهدين.
ويروى عن مجاهد في الرجل يطأ قبل أن يكفّر أنّ عليه كفارتين، وصحّ مثله عن ابن عمر وعمرو بن العاص رضي الله عنهم، ووجه قولهم: أنّ إحدى الكفارتين للظهار الذي اقترن به العود. والثانية للوطء المحرم، كالوطء في نهار رمضان، وكوطء المحرم. وعن الحسن وإبراهيم أنّ عليه ثلاث كفارات، ولا يعلم لذلك وجه إلا أن يكون عقوبة على إقدامه على الحرام، وحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدلّ على خلاف هذه الأقوال.
{ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي الحكم بالكفارة، تزجرون به عن مباشرة ما يوجبه {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} عالم بجميع أعمالكم، ظواهرها وبواطنها، ومجازيكم عليها كلها، فحافظوا على حدود ما شرع لكم، ولا تخلّوا بشيء منه.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)}.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} أي فمن لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا.
والمراد بمن لم يجد الرقبة من لم يملك الرقبة ولا ثمنها فاضلا عن قدر كفايته، واختلفت مذاهب الفقهاء في بيان قدر الكفاية، ومحلّ ذلك كتب الفروع، وكذلك اختلفوا في اعتبار وقت اليسار والإعسار. فذهب مالك والشافعي في أظهر أقواله إلى اعتبار ذلك بوقت التكفير والأداء، لأنّ الكفّارة عبادة لها بدل من غير جنسها، كالوضوء والتيمم، والقيام من الصلاة والقعود فيها، فاعتبر وقت أدائها.
وذهب أحمد والشافعي في أحد أقواله إلى اعتبار ذلك بوقت الوجوب، تغليبا لشائبة العقوبة، كما لو زنى قنّ ثم عتق، فإنّه يحدّ حدّ القنّ.
وقد جرى عرف الشارع على اعتبار الشهور بالأهلة، فلا فرق بين التام والناقص، فمن بدأ بالصوم في أول الشهر كمّل الشهرين بالهلال، ولو اتفق أنهما ناقصان أجزأه ذلك إجماعا. ومن بدأ بالصوم في أثناء الشهر- فقد اختلفوا فيه، فقال الشافعية: بحسب الشهر بعده بالهلال لتمامه، ويتم الأول من الثالث ثلاثين يوما، لتعذّر الهلال فيه. وقال الحنفية: لابدّ من ستين يوما.
أوجبت الآية التتابع في صيام الشهرين، فلو أفطر يوما منهما ولو الأخير من غير عذر، انقطع التتابع، ولزمه الاستئناف اتفاقا. ومن صور الفطر بغير عذر أن يتخللها يوم يحرم صومه كيوم النحر، لأنّه لو ابتدأ صوم الشهرين وهو يعلم أنّ يوم النحر سيتخللهما فسد صومه، لأنّه نيته لصوم الكفارة مع علمه بطروء المبطل تلاعب منه، فهو كالإحرام بالظهر قبل وقتها، مع العلم بذلك. ولو ابتدأ صومهما وهو لا يعلم أنّ يوم النحر سيتخللهما صحّ صومه، لكنّه لا يعتدّ به في الكفارة، لأنّه قطع التتابع بتقصيره.
أما الإفطار بعذر فقد اختلفت مذاهب الفقهاء فيه، فذهب الحنفية إلى وجوب الاستئناف لزوال التتابع المشروط، وهو قادر عليه عادة.
وذهب مالك والشافعي في أحد قوليه إلى أنه لا يقطع التتابع، لأنّ التتابع لا يزيد على أصل وجوب رمضان، وهو يسقط بالعذر.
وفرّق بعض العلماء بين العذر الذي يمكن معه الصوم: كالسفر والمرض، والعذر الذي لا يمكن معه الصوم: كالجنون والإغماء جميع النهار، فجعل الأول قاطعا للتتابع، والثاني غير قاطع له.
وأوجبت الآية أن يكون صوم الشهرين المتتابعين قبل المسيس، وقد رأى بعض الظاهرية أنّ من وطئ قبل أن يصوم شهرين متتابعين أثم بالوطء، وسقطت عنه الكفارة لفوات وقتها وعدم التمكن من إيقاع الصيام المتتابع قبل المسيس. كما قالوا ذلك فيمن وطئ قبل العتق، وقد تقدم. والجواب هنا هو الجواب هناك.
واختلف الفقهاء فيمن وطئ التي ظاهر منها في خلال الشهرين ليلا متعمدا ونهارا ناسيا.
فذهب أبو حنيفة ومحمد ومالك وأحمد في ظاهر مذهبه إلى وجوب استئناف الصوم عملا بظاهر الآية، فإنها أمر بصيام شهرين متتابعين لا مسيس فيهما. فإذا جامعها في خلال الشهرين لم يأت بالمأمور به.
وذهب أبو يوسف والشافعي وأحمد في رواية أخرى عنه إلى عدم وجوب الاستئناف، لأنّ هذا الوطء لم يفسد الصوم، فلم يتخلّل الشهرين إفطار، فلم ينقطع التتابع، وليس من شرط التتابع ألا يتخلل الشهرين جماع.
وكما أنّ ظاهر الآية وجوب صوم شهرين متتابعين لا مسيس فيهما، كذلك ظاهرها وجوب صوم شهرين متتابعين لا مسيس قبلهما، فلو كان الواطئ في خلالهما غير آت بالمأمور به، لكان الوطء قبلهما غير آت بالمأمور به، ولفات الامتثال بالوطء قبلهما، ولا قائل به غير أهل الظاهر، فوجب حينئذ حمل قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} على تحريم المسيس قبل أن يتمّ صيام الشهرين المتتابعين، لا على أنّ عدم المسيس شرط في الاعتداد بالصوم.
{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} أي فمن لم يستطع صيام شهرين متتابعين بأن لم يستطع الصيام: أو لم يستطع تتابعه لسبب من الأسباب، كهرم، ومرض لا يرجى زواله، أو يطول زمانه، أو لحوق مشقة شديدة لا تحتمل عادة، فعليه إطعام ستين مسكينا.
أطلقت الآية إطعام المساكين، ولم تقيده بقدر ولا تتابع، فاقتضى ذلك أنّه لو أطعمهم فغداهم وعشاهم من غير تمليك جاز، وكان ممتثلا لأمر الله تعالى، وهذا قول الجمهور أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وسواء أطعمهم جملة أم متفرقين، وليس معنى هذا أن تمليك المساكين لا يجزئ، بل المراد أنّ الآية أمرت بالإطعام الذي هو حقيقة في إعطاء الطعام، سواء أكان ذلك بالتمليك أم بالإباحة، فأيهما وقع من المكفر أجزأه.
وأوجب الشافعية تمليكهم، قالوا: نحن لا ننكر أنّ الآية تحتمل التمليك والإباحة، إلا أنّ السنة وردت بالتمليك، وجرى عرف الشرع في الصدقة الواجبة أنّها مقدرة مشروط فيها التمليك، فكما أنّ الزكاة وصدقة الفطر لابدّ فيهما من التمليك، كذلك الكفارة لابدّ فيها من التمليك، ولا تجزئ فيها الإباحة. وذلك لأن التمليك أدفع للحاجة، فلا تقوم مقامه الإباحة.
ثم اختلفت المذاهب في المقدار الذي يملّك لكل مسكين. فقال الحنفية: يعطى لكل مسكين نصف صاع من برّ، أو صاع من شعير أو تمر، ومستندهم في ذلك أخبار ذكرها صاحب فتح القدير.
وقال الشافعية: لكل مسكين مدّ من غالب قوت محل المكفّر، لأنّه صحّ في رواية عنه صلّى الله عليه وسلّم تقدير الكفارة بستين مدا، وصحّ في رواية أخرى تقديرها بستين صاعا، والنسخ هنا متعذّر للجهل بالتاريخ، ولإمكان الجمع بين الروايتين، فكان ذلك الجمع متعينا، فحملت رواية الستين صاعا على بيان الجواز الصادق بالندب.
ومذهب مالك فيما روى عنه ابن وهب مدان، وقيل: مد وثلثا مد، وقيل: ما يشبع من غير تحديد.
وظاهر قوله تعالى: {فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} أنّه لابدّ من استيفاء عدد الستين، فلو أطعم واحدا ستين يوما لم يجزه إلا عن واحد. هذا قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه، والثانية إن وجد غيره لم يجزئه، وإن لم يجد غيره أجزأه. وهو ظاهر مذهبه. والثالثة: أنّ الواجب إطعام طعام ستين مسكينا، ولو لواحد في ستين يوما، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، قالوا: لأنّ المقصود سدّ خلة المحتاج، والحاجة تتجدد كل يوم، فالدفع إليه في اليوم الثاني كالدفع إلى غيره، وكالدفع إليه في اليوم الأول، وأنت تعلم أنّ الآية نصّت على ستين مسكينا، وبتكرر الحاجة في مسكين واحد لا يصير هو ستين مسكينا، فكان التعليل بأنّ المقصود سدّ خلة المحتاج إلخ مبطلا لمقتضى النصّ فلا يجوز.
ألا ترى الحنفية حين قالوا: لا يجزئ الدفع لمسكين واحد طعام ستين دفعة واحدة، علّلوا ذلك بأنّ التفريق واجب بالنص، مع أنّ تفريق الدفع غير مصرّح به، وإنما هو مدلول التزامي لعدد المساكين، فالنص على العدد أولى بالاعتبار، لأنّه المستلزم، وغاية ما يعطيه كلامهم أنّه بتكرر الحاجة يتكرر المسكين حكما، فكان تعدّدا حكما. وحينئذ يلزم أنّ يكون المراد بالستين مسكينا في الآية مسكينا حقيقة أو حكما، من باب عموم المجاز الذي يشمل تعدد المساكين حقيقة، وتعددهم حكما، فيكون ستين مسكينا مجازا عن ستين حاجة، وهو أعم من كونها حاجات ستين مسكينا، أو حاجات واحد في ستين يوما. ولا يخفى أنّه لا مقتضى للعدول عن الحقيقة إلى هذا المجاز، وأن ظاهر الآية إنما هو عدد معدوده ذوات المساكين، وتعدد الذوات مما يصح أن يكون مقصودا معقول المعنى لما في تعميم الجميع من بركة الجماعة، وشمول المنفعة، واجتماع القلوب على المحبة والدعاء.
وظاهر الاقتصار في الآية على المساكين أنّه لا يجزئ دفع الكفارة إلّا إلى المساكين، ويدخل فيهم الفقراء، كما يدخل المساكين في لفظ الفقراء عند الإطلاق.
وقد قالوا: كما علمت المسكين والفقير إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، هذا مذهب الجمهور.
وعمّم أصحاب أحمد وغيرهم الحكم في كلّ من يأخذ من الزكاة لحاجته، وهم الفقراء والمساكين وابن السبيل والغارم لمصلحته والمكاتب، ولكنّ ظاهر القرآن اختصاصها بالمساكين على ما علمت.
وقد أطلقت الآية المسكين هنا، ولكنّ الفقهاء شرطوا فيه اعتبارا بمسكين الزكاة ألّا يكون ممن تلزم المكفر نفقته، وألا يكون هاشميا ولا مطلبيا ولا كافرا على خلاف في ذلك بين الفقهاء، منشؤه اختلاف أقوالهم في مسكين الزكاة.
واستنبط بعض الشافعية من التعبير في جانب تحرير الرقبة بعدم الوجود، وفي جانب الصيام بعدم الاستطاعة، أنّه لو كان له مال غائب ينتظره ليعتق منه ولا يصوم، ولو كان مريضا يرجى برؤه، ولكنه يدوم في ظنه مدة شهرين يطعم، ولا ينتظر البرء ليصوم، ووافقهم الحنفية في عدم الصوم لا في الإطعام.
ثمّ إنّ الله سبحانه قيّد التكفير بكونه قبل المسيس في العتق والصيام، وأطلقه في الإطعام، فكان ذلك ظاهرا في أنّه لو وطئ قبل الإطعام أو في خلاله لم يأثم، ولا يستأنف، ونقل عن هذا بعض الناس عن أبي حنيفة، ولكنّه توهم، والذي عليه المعول عنده رحمه الله أنّه يأثم، ولا يستأنف الإطعام، وبهذا قال جمهور الفقهاء.
أما عدم استئناف الإطعام فوجهه ظاهر، وأما حرمة الوطء فدليل الفقهاء عليها مختلف بحسب اختلافهم في قواعد الأصول، فمن يرى حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحادثة يقول: استفيد حكم ما أطلقه الله مما قيّده، إما بيانا، وإما قياسا قد ألغي فيه الفارق بين الصورتين، فإنّ المعروف عن الشرع في الأعم الأغلب ألا يفرّق بين المتماثلين، وقد ذكر الله {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} مرتين، ونبّه بذلك على تكرّر حكمه في الكفارات الثلاث، ولو ذكره في آخر الكلام مرة واحدة لأوهم اختصاصه بالإطعام، ولو ذكره في أول مرة فقط لأوهم اختصاصه بالعتق، وإعادته في كل مرة تطويل، فكان أفصح الكلام وأبلغه وأوجزه ما جاء به النظم الجليل.
وأيضا فإنّه نبه بوجوب التكفير قبل المسيس في الصوم مع تطاول زمنه وشدة الحاجة إلى المسيس فيه، على أن اشتراط تقدم الإطعام الذي لا يطول زمنه أولى.
على أنّ قوله صلّى الله عليه وسلّم في الخبر الحسن. وقد تقدّم: «اعتزلها حتّى تكفّر عنك».
يشمل التكفير بالإطعام.
وأما الحنفية الذين لا يرون حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحادثة، فلهم على حرمة الوطء قبل الإطعام دليلان.
الأول: أنّ إباحة الوطء قبل الإطعام قد تفضي إلى الممتنع، والمفضي إلى الممتنع ممتنع، بيان ذلك: أنّه لو قدر على العتق أو الصيام في خلال الإطعام أو قبله يلزمه التكفير بالمقدور عليه، فلو أبيح للعاجز عنهما القربان قبل الإطعام ثم اتفق أنّه قدر على العتق فوجب التكفير به، لزم أن يقع العتق بعد التماس، وهو ممتنع.
واعترض على هذا الدليل بأنّ القدرة حال قيام العجز بالفقر والكبر والمرض الذي لا يرجى زواله أمر موهوم، والأمور الموهومة لا تراعى في إثبات الأحكام ابتداء، بل غايتها أن تراعى في ثبوت الاستحباب ورعا.
والدليل الثاني: ما تقدم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اعتزلها حتى تكفّر».
وقد يقال: إن هذا الحديث ليس نصا في الموضوع، لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك للمظاهر قبل أن يتبين عجزه عن الإعتاق والصوم، فجاز أن يراد اعتزلها حتى تكفّر بالعتق، أو حتّى تكفّر بالصوم.
بقي أن يقال: لم تذكر الآية حكم من عجز عن الخصال الثلاث، أتسقط الكفارة عنه أم تستقر في ذمته ويحرم عليه المسيس حتى يكفر؟
والذي استظهره العلماء أنّها لا تسقط، بل تستقر في ذمته، حتى يتمكن، قياسا على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات، كجزاء الصيد وغيره. ولأنّ أصحاب السنن رووا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أعان أوس بن الصامت بعذق من تمر، وأعانته زوجته بمثله فكفّر، وأمر سلمة بن صخر أن يأخذ صدقة قومه فيكفّر بها عن نفسه، ولو سقطت بالعجز لما أمرهما بإخراجها.
وقد أطلنا هنا بذكر الفروع، لأننا نراها كلها متعلقة بتفسير الآية، والله الموفق.
{ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الإشارة إلى ما سبق من البيان وتفصيل الأحكام، وتعليمهم إياها. أي ذلك الذي بيّنا فيما مرّ واقع وحاصل لتؤمنوا بالله ورسوله، وتعملوا بما شرع لكم، وترفضوا ما كنتم عليه في جاهليتكم.
{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي الأحكام المذكورة حدود الله فالزموها، وقفوا عندها لا تتعدوها {وَلِلْكافِرِينَ} الذين يتعدونها {عَذابٌ أَلِيمٌ} على كفرهم. وأطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظا وزجرا، نظير قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ} [آل عمران: 97].