فصل: تفسير الآيات (2- 3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآيات (2- 3):

قال الله تعالى: {فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)}.
{فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} هذا من مجاز المشارفة، بقرينة ما بعده، لأنّه لا يؤمر بالإمساك بعد انقضاء العدة، أي فإذا شارفن آخر عدتهنّ فأمسكوهنّ بمعروف، أو فارقوهنّ بمعروف، والإمساك بالمعروف مراجعتهن مع حسن المعاشرة، والإنفاق المناسب، والمفارقة بالمعروف تخليتهنّ حتى تنقضي عدتهن مع إيفائهن حقهن، واتقاء الضّرار بهن.
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي وأشهدوا عند الرجعة إن اخترتموها، أو الفرقة إن اخترتموها، لأنّ الإشهاد يقطع النزاع، ويدفع الريبة.
وهذا أمر ندب واستحباب في الرجعة والفرقة، كما في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وللشافعي قول في القديم بوجوب الإشهاد في الرجعة، وأنه شرط في صحتها. والجديد أنه لا يشترط لصحتها الإشهاد عليها، بناء على الأصح أنّها في حكم استدامة النكاح لا ابتدائه، ومن ثمّ لم يحتج فيها لولي ولا لرضاها، وإنما يندب فيها الإشهاد لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وصرفه عن الوجوب إجماعهم على عدم الوجوب عند الطلاق، فكذلك عن الإمساك.
{وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ} أي أدوا الشهادة أيها الشهود خالصة لوجه الله، وفيه دليل على وجوب إقامة الشهادات عند الحكام على الحقوق كلها، لأنّ الشهادة هنا اسم للجنس، وإن كان مذكورا بعد الأمر بإشهاد ذوي عدل على الرجعة أو الفرقة، لأنّ ذكرها بعده لا يمنع استعمال اللفظ على عمومه.
{ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الإشارة إلى ما تقدّم من الحث على إقامة الشهادة لله، أو إلى ما تقدّم من الأحكام كلها، من إيقاع الطلاق على وجه السنة، وإحصاء العدة، والكف عن الإخراج والخروج، والإشهاد على الرجعة أو الفرق، وإقامة الشهادة لله، أي هذه الأحكام يوعظ بها من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، لأنه المنتفع بها.
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} هذا اعتراض جيء به لتأكيد ما سبق من الأحكام، أي {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} في كل عمله {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} من هموم الدنيا ومضارها، وغمرات الموت وأهوال الآخرة وشدائدها، ويرزقه الفوز بخيري الدارين، من وجه لا يخطر بباله، وإذا كان هذا وعدا لعامة المتقين، تناول بعمومه الزوج الذي اتقى الله في الطلاق للسنة، ولم يخرج المعتدة من مسكنها، وأمسك بمعروف أو فارق بمعروف، واحتاط فأشهد على ما اختار، يعد الله هذا الزوج بالخلاص مما عسى أن يقع فيه من الهموم ومشاكل الزوجية، ويفرّج عنه ما يعتريه من الكروب، {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} وكذلك يتناول الزوجة التي اتقت الله فيما عليها من حق، فلم تخرج من منزل عدتها، ولم تكتم ما خلق الله في رحمها، فالله يعدها على هذه التقوى بتفريج كربها، ورزقها من حيث لا تحتسب.
{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي فهو كافيه جل شأنه في جميع أموره، لأنّ الله هو القادر على كل شيء، الغني عن كل شيء، الجواد بكل شيء، فإذا فوّض العبد الضعيف أمره إليه كفاه لا محالة ما أهمّه.
{إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ} إنّ الله يبلغ ما يريده سبحانه، ولا يفوته مراد.
{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} أي إنّه عزّ وجلّ قدّر الأشياء قبل وجودها، وعلم مقاديرها وأوقاتها، وإذا كان كلّ شيء من الرزق وغيره لا يكون إلا بتقديره تعالى، ولا يقع إلا حسبما علم، لم يسع العاقل إلا التسليم للقدر، وفي هذه الجملة كسابقتها بيان لوجوب التوكل عليه تعالى، وتفويض الأمر إليه جلّ ثناؤه.

.تفسير الآيات (4- 5):

قال الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5)}.
أخرج الحاكم، وصححه البيهقي في سننه وجماعة عن أبيّ بن كعب أنّ أناسا من أهل المدينة لما نزل قوله تعالى في سورة البقرة: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] قالوا: لقد بقي من عدة النساء عدد لم تذكر في القرآن: الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهنّ الحيض، وذات الحمل، فأنزل الله التي في سورة النساء القصرى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} الآية.
جعل الله عدّة الآيسة ثلاثة أشهر، ولا خلاف بين الفقهاء في أن المرأة ما دامت ترى الحيض فهي من ذوات الأقراء، لا تكون آيسة ولو بلغت مئة سنة.
إنما خلافهم فيمن انقطع حيضها متى تكون آيسة، وتعتد بالأشهر؟ ألذلك حدّ معين أم ليس له حد معين؟
والقائلون بالتحديد مختلفون، فمنهم من قدّره بالسنين. بخمسين سنة وبخمس وخمسين وبستين وباثنتين وستين إلى أقوال أخر، أقصاها خمس وثمانون، ومنهم من اعتبره بيأس النساء في بلدها الذي هي فيه، فإنّ المكان إذا كان طيب الهواء والماء كبعض الصحارى يبطئ فيها سنّ اليأس، وقيل: يأس كل النساء إلخ.
قال أصحاب التحديد: إن اليأس يعتمد غلبة الظن، ومهما انقطع دم المرأة فإنّها لا تزال ترجو عوده، ولا يتأكد الظن بعدم عوده إلا إذا بلغت من السن مبلغا لا يحيض مثلها فيه، وأمر العدد مبني على الاحتياط وطلب اليقين ما أمكن.
والقائلون بعدم التحديد يقولون: اليأس ضدّ الرجاء، فإذا كانت المرأة قد يئست من الحيض ولم ترجه فهي آيسة، ولو خالفت في ذلك عادة النساء جميعا، ولو كان لها أربعون سنة أو أقل، كما أنّها ما دامت تحيض وترى الدم وترجوه فهي ليست آيسة، ولو كان لها سبعون سنة أو أكثر، ولو خالفت في ذلك عادة النساء جميعا. وكما أنه يرجع في الاعتداد بالأقراء إلى عادة المعتدة نفسها، لا إلى عادة غيرها، كذلك يرجع في الإياس إلى كل امرأة من نفسها، وكما أنّهم لم يجعلوا للصغر الموجب للاعتداد بالأشهر حدّا، كذلك ينبغي ألا يكون للكبر الموجب للاعتداد بها حدا.
وينبني على الخلاف في التحديد وعدمه خلافهم في المرأة التي طلّقت، وكانت من ذوات الأقراء، ثم ارتفع حيضها، بماذا تعتد؟
فأصحاب التحديد يقولون: تنتظر حتى ترى الدم أو تبلغ حدّ اليأس، فتعتد بثلاثة أشهر، ولو كانت مدة التربص أكثر من عشر سنين. وهذا هو مذهب الحنفية وقول الشافعي في الجديد.
والذين لا يرون لليأس حدّا يقولون: تتربّص غالب مدة الحمل، ثم تعتد عدة الآيسة، ثم تحلّ للأزواج مهما كانت سنها، قالوا: وقد صحّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرأة طلّقت، فحاضت حيضة أو حيضتين، ثم ارتفعت حيضتها، لا تدري ما رفعها، أنّها تتربص تسعة أشهر، فإن استبان بها حمل وإلا اعتدت ثلاثة أشهر. وقد وافقه كثير من الفقهاء على هذا منهم مالك وأحمد والشافعي في القديم.
وكذلك اختلفوا في متعلّق الارتياب في قوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} فقال جماعة: إن ارتبتم في حكمهنّ فلم تدروا ما عدتهن؟ فعدتهن ثلاثة أشهر، وعلى ذلك يكون الشرط بيانا للواقعة التي نزل فيها الحكم من غير قصد للتقييد، فلا مفهوم له عند القائلين بالمفهوم.
قال آخرون: إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض أم استحاضة، وإذا كانت هذه عدة المرتاب في دمها، فغير المرتاب في دمها أولى بذلك.
وقال الزجاج: المعنى: إن ارتبتم في حيضهن، وقد انقطع عنهن الدم، وكن ممن يحيض مثلهن. إلى أقوال أخر.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة قول من قال: عنى بذلك إن ارتبتم فلم تدروا ما الحكم فيهنّ. وذلك أنّ معنى ذلك لو كان كما قاله من قال: إن ارتبتم بدمائهن فلم تدروا أدم حيض أم استحاضة، لقيل: إن ارتبتنّ، لأنهنّ إذا أشكل الدم عليهن فهن المرتابات بدماء أنفسهن لا غيرهن. وفي قوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} وخطابه للرجال بذلك دون النساء الدليل الواضح على صحة ما قلنا من أنّ معناه: إن ارتبتم أيها الرجال بالحكم فيهنّ.
وأخرى: وهي أنّه جل ثناؤه قال: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} واليائسة من المحيض هي التي لا ترجو محيضا للكبر، ومحال أن يقال: واللائي يئسن، ثم يقال: ارتبتم بيأسهن، لأن اليأس هو انقطاع الرجاء، والمرتاب بيأسها مرجو لها، وغير جائز ارتفاع الرجاء ووجوده في وقت واحد. اهـ.
وهذا الذي اختاره ابن جرير وافقه عليه جمهور المفسرين، وليس عليه اعتراض سوى أن يقال: إذا كان معنى {إِنِ ارْتَبْتُمْ} إن جهلتم عدتهن فسألتم عنها، فأي فائدة في ذكر هذا الشرط بعد أن كان معلوما في كل الأحكام الشرعية أنّ الله أنزلها لتعليم من لا يعلم؟
وأجابوا عن ذلك بأنّ المقصود: إن سألتم عن حكمهنّ، وشككتم فيه، فقد بيناه لكم أيها السائلون، ففيه تنويه بشأن السائلين، وبيان لنعمته تعالى عليهم حين أجاب طلبهم، وأزال ما عندهم من الشك والريب، بخلاف المعرض عن طلب العلم الذي لم يخطر بباله، استوفيت عدد النساء أم لم تستوف؟
{وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} مبتدأ خبر محذوف، أي واللائي لم يحضن كذلك، أي عدتهن ثلاثة أشهر، يريد أنّ المعتدة التي لم يسبق لها حيض تعتد بثلاثة أشهر، سواء أكان عدم حيضها لصغر، أم لعلة، أم لمنعه بدواء.
ولا نعلم خلافا في أنّ التي لم تر الحيض أصلا تعتد بثلاثة أشهر، مهما بلغت من السنّ، إلا رواية عن أحمد رحمه الله فيمن بلغت ولم تحض أنّها تتربص تسعة أشهر غالب مدة الحمل، فإن استبان حملها وإلا اعتدت ثلاثة أشهر، فيكون مثلها كمثل التي ارتفع حيضها، لا تدري ما رفعه. والرواية الثانية عن أحمد الموافقة لرأي الجمهور أنها تعتد ثلاثة أشهر، ولم يجعلوا للصغر الموجب للاعتداد بالأشهر حدّا.
أخذ العلماء من قوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} أن للإنسان أن يزوّج ولده الصغار، لأنّ الله تعالى جعل على من لم تحض من النساء لصغر أو غيره عدة، ولا يكون على الصغيرة عدة إلّا أن يكون لها نكاح.
وظاهر العموم في قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} وقوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} أنّ الحرة والأمة في ذلك سواء، فكما تعتد الحرة الآيسة أو الصغيرة بثلاثة أشهر، كذلك تعتد الأمة الآيسة أو الصغيرة ثلاثة أشهر، وبهذا قال أهل الظاهر وابن سيرين ومكحول ومالك، وهو أحد الأقوال في مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد رحمهم الله.
وقال جمهور العلماء: عدة الأشهر فرع وبدل عن عدّة الأقراء، وقد جرى عمل المسلمين من الصحابة والتابعين على أنّ عدة الأمة ذات الأقراء قرآن، ولا يعرف في الصحابة مخالف في ذلك. وبه قال الأئمة الأربعة، وخلائق من فقهاء الأمصار لا يحصون عدا، ذهبوا إلى أنّها على النصف من عدة الحرة. ولولا أنّ القرء لا يمكن تنصيفه لكانت عدتها قرءا ونصفا.
ثم من هؤلاء الفقهاء من قال: عدة الأمة الآيسة والصغيرة شهران، لأن عدتها بالأقراء قرآن، فجعل كلّ شهر مكان قرء، وهو أحد أقوال الشافعي، وأشهر الروايات عن أحمد.
ومنهم من قال: عدتها شهر ونصف، لأن التصنيف في الأشهر ممكن، فتنصفت بخلاف القروء، ونظير هذا أنّ المحرم إذا وجب عليه في جزاء الصيد نصف مدّ أخرجه، فإن أراد الصيام مكانه لم يجز إلا صوم يوم كامل، وهذا هو مذهب أبي حنيفة، والقول الثالث للشافعي، ورواية ثالثة عن أحمد رحمهم الله.
ثم إنّه لا تعارض بين قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} وقوله تعالى في سورة البقرة: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]. فإنّ آية البقرة خاصّة بذوات الأقراء، والآيسة والتي لم تحض ليستا من ذوات الأقراء، وهو ظاهر. إنما التعارض بين الآية التي معنا وقوله تعالى في سورة البقرة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] فإنّ آية البقرة عامة تشمل ذوات الأقراء واللائي يئسن واللائي لم يحضن، فتقضي بعمومها أنّ عدة الوفاة للآيسة والصغيرة أربعة أشهر وعشرا، والآية التي معنا عامة في السبب الذي من أجله كانت العدة، سواء أكان فرقة حي أم فرقة ميت، فاقتضت بعمومها أنّ عدة الوفاة للآيسة والصغيرة ثلاثة أشهر، فكان بين النصين تعارض في ظاهرهما.
لكنّ العلماء يكادون يجمعون على أنّ الآية التي معنا واردة في خصوص عدة الطلاق، لأنّ سياق الآية ظاهر في ذلك، وحينئذ يكون اعتداد الآيسة والصغيرة ثلاثة أشهر خاصا بالمعتدات المطلقات، فلا يكون بين الآيتين تعارض.
{وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أجل الشيء مدته كلها، وأجله أيضا آخر مدته، والمراد بالأجل هنا آخر المدة التي تتربصها المرأة، أي آخر عدتهن أن يضعن حملهن، وظاهر هذا أنّ المعتدة الحامل تنتهي عدتها بوضع الحمل، سواء أكانت معتدة عن طلاق أم عن وفاة، فتكون الآية معارضة لآية البقرة، وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} لأن بين الآيتين عموما وخصوصا من وجه. وذلك أنّ آية البقرة أعم من التي معنا في المعتدات، إذ تشمل الحامل وغير الحامل، وأخص من التي معنا في سبب العدة وهو الوفاة وعلى العكس من ذلك الآية التي معنا، فكان التعارض واقعا بينهما في القدر الذي اجتمعتا عليه واشتركتا فيه، وهو عدة المتوفى عنها الحامل، فآية البقرة تجعل عدتها أربعة أشهر وعشرا، والآية التي معنا تجعل عدتها مدة حملها، فمتى وضعت فقد انقضت عدتها.
ومن أجل هذا التعارض اختلف السلف في عدة المتوفى عنها إذا كانت حاملا، فقال علي وابن عباس وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم: تعتد بأبعد الأجلين من وضع الحمل أو أربعة أشهر وعشرا، وهذا أحد القولين في مذهب مالك رحمه الله، واختاره سحنون.
وقال جمهور الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة: إنّ عدتها تنتهي بوضع الحمل، ولو كان الزوج على مغسله فوضعت حلّت.
فمن ذهب إلى أبعد الأجلين احتجّ بأنّ النصين متعارضان على ما سمعت، ولا يمكن تخصيص العموم في أحدهما بالخصوص في الآخر، لأنّ ذلك إلغاء، ولا يصار إلى الإلغاء إلا إذا تعذّر الجمع، والجمع هنا ممكن، فكان هو المتعين، وبالاعتداد بأبعد الأجلين يحصل الجمع بين النصين، لأنّ مدة الحمل إن زادت فقد تربصت أربعة أشهر وعشرا مع الزيادة، وإن قصرت وتربصت المدة فقد وضعت وتربصت، فيحصل العمل بمقتضى الآيتين.
وأنت تعلم أنّ هذا إنما هو جمع بين المدتين، ولا يعدّ جمعا بين النصين.
وإعمالا لعموم كل منهما في مقتضاه، وذلك أنها إذا وضعت الحمل قبل أربعة أشهر وعشر ثم حكمنا عليها بأنها لا تزال في العدة، كان ذلك إهدارا لمقتضى الحصر والتوقيت في قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فإنّه ظاهر في أنه لا عدة عليها بعد وضع الحمل، وأنها حلال للأزواج متى وضعت حملها.
وأصحاب هذا الرأي يحرمونها على الأزواج، ويلزمونها القرار في مسكن العدة إلى أن تنتهي أربعة الأشهر والعشر. فكيف يقال بعد ذلك إنّهم عملوا بمقتضى الآية التي معنا؟
وكذلك يقال فيمن مضى عليها أربعة أشهر وعشر ولم تضع حملها إذا ألزمناها الاعتداد إلى وضع الحمل، كان ذلك إهدارا لمقتضى الحصر والتوقيت في قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} وهو ظاهر. فلم يكن في هذا المذهب جمع بين النصين، بل فيه إهدار لأحد النصين لا محالة.
أما الجمهور الذين قالوا: إنّ عدتها تنتهي بوضع الحمل فقط، فدليلهم على ذلك: أنّ السنة الصريحة دلت على اعتبار الحمل فقط. كما في الصحيحين أنّ سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة، فتوفي عنها وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلّت من نفاسها تجمّلت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل، فقال لها: ما لي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح إنّك والله ما أنت بناكح حتى تمرّ عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوّج إن بدا لي.
وصحّ أيضا أنّ أبا سلمة بن عبد الرحمن وابن عباس اجتمعا عند أبي هريرة وهما يذكران المرأة تنفس بعد وفاة زوجها بليال فقال ابن عباس: عدّتها آخر الأجلين. وقال أبو سلمة: قد حلت، فجعلا يتنازعان ذلك فقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي- يعني أبا سلمة-، فبعثوا كريبا- مولى ابن عباس- إلى أم سلمة رضي الله عنها يسألها عن ذلك، فجاءهم، فأخبرهم أنّ أمّ سلمة قالت: إنّ سبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليال، وإنّها ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمرها أن تتزوّج.
وروى الضياء في المختارة وابن مردويه وغيرهما عن أبي بن كعب قال: قلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن أهي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها؟ قال: «هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها».
فجاءت السنة مبيّنة أنّ قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} عام في المطلقة والمتوفى عنها، وأنّ عموم الآية مراد، وإن كان السياق يقتضي أنها خاصة بالمطلقات، فصارت الآية بعد بيان السنة ناصّة على أنّ عدة الحامل المتوفى عنها تنتهي بوضع الحمل فقط، والآية التي معنا نزلت بعد آية البقرة، كما أخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من شاء باهلته أنّ الآية التي في سورة النساء الصغرى {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ} إلخ نزلت بعد سورة البقرة بكذا وكذا شهرا.
وفي البخاري عنه أيضا أشهد لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى فتكون الآية التي معنا ناسخة لآية البقرة فيما اجتمعتا عليه، واشتركتا فيه، فصار المراد من الأزواج في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً} الآية غير الحوامل من المتوفى عنهن.
ومن الناس من قال: الآية التي معنا خاصة بالمطلقات كما هو ظاهر السياق.
وآية البقرة خاصّة بالمتوفى عنهن، فلا تعارض بينهما، غير أنّ السنة الصحيحة وردت بإخراج الحوامل من عموم الأزواج في قوله تعالى: {وَيَذَرُونَ أَزْواجاً} فجعلت المراد منهن غير الحوامل، فكانت آية البقرة مخصوصة بالسنة، وكان حكم الحوامل المتوفى عنهنّ معلوما من السنة لا من الكتاب.
ومنهم من قال: الآية التي معنا أخصّ مطلقا مما في سورة البقرة، وبيان ذلك أنّ الله ذكر في سورة البقرة حكم المطلقات من النساء، وحكم المتوفى عنهنّ في آيتين على التفريق، ثم وردت هذه الآية التي معنا بعدهما مخصّصة في البابين معا، ولا شك أنّ المستفاد من آيتي البقرة هو أنّ عدة المعتدات الحوامل وغير الحوامل إما ثلاثة قروء، وإما أربعة أشهر وعشر، وأن المستفاد من الآية التي معنا أنّ عدة المعتدات الحوامل تنتهي بوضع الحمل، فكانت الآية معنا أخص مطلقا من آيتي البقرة، وقد نزلت بعدهما، فكانت مخصّصة لهما. والله أعلم.
واقتضى قوله تعالى: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أنّ العدة تنقضي بوضع الحمل، وأنّ المرأة إذا وضعت حملها فقد حلّت للأزواج، ولا يتوقف حلّها على طهرها من النفاس خلافا للشعبي والحسن وإبراهيم النخعي وحماد، فإنّهم قالوا: لا يصحّ زواجها حتى تطهر من نفاسها، واحتجوا بقوله في حديث سبيعة: «فلما تعلّت من نفاسها».
أي طهرت منه، ولا حجة لهم فيه، لأنّ ذلك إخبار عنه وقت سؤالها، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنها حلت حين وضعت».
ولم يعلّل بالطهر من النفاس.
وكذلك اقتضى قوله تعالى: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أنها إذا كانت حاملا بتوأمين لم تنقض عدتها حتى تضعهما جميعا، واقتضى أيضا أن العدة تنقضي بوضع الحمل، سواء أكان حيا أم ميتا، تام الخلقة أم ناقصها، نفخ فيه الروح أم لم ينفخ.
وظاهر العموم في قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ} أنّ الحرة الأمة في الاعتداد بوضع الحمل سواء، ولا نعلم خلافا في ذلك بين العلماء.
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} أي ومن يخف الله فيأتمر بما أمر به وينته عما نهى عنه يسهّل عليه أمره كله.
{ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} الإشارة إلى ما تقدّم من الأحكام كلّها يقول تعالى ذكره: هذا الذي بينت لكم من حكم الطلاق والرجعة والعدة أمر الله أنزله إليكم لتأتمروا له، وتعملوا به {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ} يمح ذنوبه من صحائف أعماله، ولا يؤاخذه بها {إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ} [هود: 114] {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} ويضاعف له جزاء حسناته، ويجزل له المثوبة على عمله.