فصل: من سورة المزمل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.من سورة المزمل:

.تفسير الآيات (1- 4):

قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)}.
قال الحسن وعكرمة وعطاء وجابر: إنّ هذه السورة مكية كلّها. وحكى الأصبهاني أنّها مكية ما عدا الآيتين: {وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ}. وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وهناك قول ثالث: أنها مكية ما عدا قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ...}
وقد اعترض السيوطي في الإتقان على الأخير بأنه يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة رضي الله عنها أنّ قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} إلخ قد نزل بعد نزول صدر السورة بسنة، لما كان قيام الليل فرضا في أول الإسلام قبل أن تفرض الصلوات الخمس. يعني: وإذا كانت الصلوات الخمس قد شرعت في مكة قبل الهجرة بسنة، وقد تمّ بفرضيتها نسخ ما كان قبلها من فرض القيام، ظهر أنّ آخر المزمل من المكي.
ولعلك تختار القول الأول لما أورده السيوطي على الأخير، ولأنّ أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالصبر على أذى الكفار، والإعراض عنهم، وهجرهم، إنما كان في أول الإسلام، قبل أن يكثر أنصار الدعوة الإسلامية، وقبل أن يأذن الله تعالى للمؤمنين المظلومين أن يدفعوا عن أنفسهم بالقوة. على ما يدل عليه الاستقراء، وتتبع موارد الآيات القرآنية التي تأمر بمثل ما ورد في آيتي {وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ} والتي بعدها.
{يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} المزّمل بتشديد الزاي والميم: اسم فاعل من تزمّل، وأصله المتزمل، فأدغمت التاء والزاي، ومعناه: المتلفف في ثيابه، ومنه قول ذي الرّمة:
وكائن تخطت ناقتي من مفازة ** ومن نائم عن ليلها متزمل

وقرأه أبيّ على الأصل. كما قرئ بتخفيف الزاي، على أنه اسم فاعل أو اسم مفعول.
وقد اختلف المفسرون في سبب تزمّله عليه الصلاة والسلام، فقيل: إنه كان نائما بالليل متزمّلا في قطيفة، أو أنه يريد فتلفّف بالقطيفة، فجاءه الملك بنداء الله تعالى: {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} إلخ ليدع النوم، ويقوم لما هو أهم، وينهض لعبادة الله في ناشئة الليل، فإنها خير معين له على تحمّل ما سيرد عليه من الوحي، وما سيلقى عليه من القول الثقيل. وقيل: إنّ تزمّله عليه الصلاة والسلام كان لأسفه وحزنه لما بلغه ما كان من المشركين، وما دبّروه من القول السيئ، يدفعون به دعوته. فقد أخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عن جابر رضي الله عنه قال: اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسما تصدّوا الناس عنه.
فقالوا: كاهن. قالوا: ليس بكاهن، قالوا: مجنون. قالوا: ليس بمجنون، قالوا: ساحر، قالوا: ليس بساحر. قالوا: يفرّق بين الحبيب وحبيبه، فتفرّق المشركون على ذلك. فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فتزمل في ثيابه، وتدثّر فيها، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)}، {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)}.
وقد يساعد هذا القول ما ورد في السورة من قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)} على القول بأنّ هاتين الآيتين من المكي، وأنهما نزلتا مع الآيات السابقة.
غير أنّه يقال: إذا كان هذا هو سبب التزمل، وأنه من أجله أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في هذه السورة أن يهجر أولئك، ويصبر عليهم، ولا يأبه لقولهم، فما السبب في أنه لم تذكر الآيتان {وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ} وما بعدها عقب النداء؟ ولماذا فصل بين ذلك بالأوامر الأولى المتعلقة بقيام الليل والذكر والترتيل؟
والجواب: أنه لا شك أنّ هذه العبادات تقوّي قلبه عليه الصلاة والسلام، وتثبّت فؤاده، وتعينه على الصبر والاحتمال والإغضاء عن السوء من أقوال الكافرين.
وقيل: إنّ السبب هو ما ورد في حديث جابر المشهور على ما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي، فلم أر شيئا، فرفعت رأسي، فإذا الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض، فجثثت- بمثلثتين مبنيا للمجهول، فزعت- منه رعبا، فرجعت، فقلت: دثروني، دثروني».
وفي رواية: فجئت أهلي، فقلت: «زمّلوني زمّلوني»، فأنزل الله: {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)}.
وجمهور العلماء يقولون: وعلى إثرها نزلت: {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} وعلى هذا يكون سبب التزمل هو ما عراه صلّى الله عليه وسلّم من الرعب والفزع عند رؤية الملك، وتكون حادثة التزمل هي حادثة التدثر بعينها، أما على القولين الأولين فيصحّ أن يكون السبب واحدا أيضا، كما يصحّ أن يكون مختلفا.
والحكمة في ندائه عليه الصلاة والسلام بوصف التزمل هو إرادة ملاطفته وإيناسه، على نحو ما كان عليه العرب في مخاطباتهم في مثل هذه الحالة، ومن ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي لما غاضب فاطمة، وكان نائما قد لصق بجبينه التراب فقال له: «قم أبا ترب».
{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} المراد من قيام الليل صلاة التهجد، وذلك بتقدير الصلاة، أي انهض لصلاة الليل، أو بتضمين (قم) معنى صل.
وقد أعرب بعض المفسرين: (الليل) ظرفا لفعل القيام، جريا على مذهب البصريين الذين يجوّزون في مثله أن يكون ظرفا، ولو استغرقه الحدث، كما هنا، فإنّ المعنى على إرادة جميع أجزاء الليل حتى يصحّ الاستثناء بقوله: {إِلَّا قَلِيلًا} فإنّ الاستثناء معيار العموم.
أما على رأي الكوفيين الذين يمنعون ذلك فنصب الليل يكون من قبيل النصب على المفعولية.
ومعنى {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} انهض للصلاة مستغرقا بها الليل إلا جزءا قليلا منه، {ونِصْفَهُ} بدل كل من الليل بعد مراعاة الاستثناء، فكأنه قيل: قم نصف الليل، ويصحّ أن يكون بدلا من {قَلِيلًا} والأمران في قوله تعالى: {أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} معطوفان على الأمر الأول. والضميران في (منه) و(عليه) عائدان على الليل بعد مراعاة الاستثناء، والإبدال أيضا. ويصحّ أن يعود على (نصفه) والمآل واحد.
وحاصل المعنى أنه صلّى الله عليه وسلّم مأمور بأن يقوم من الليل للتهجد، وأنّ الله خيّره أن يقوم نصف الليل، وأن ينقص من النصف مقدارا قليلا، وأن يزيد على ذلك النصف، ولم تقيد الزيادة على النصف بالقلّة، كما قيّد النقص بها، لأنّ الزيادة الكثيرة لا تخلّ بالأمر، بل فيها زيادة برّ وعمل صالح. أمّا النقص الكثير عن النصف فعلى خلاف ذلك، إذ إنّه مخلّ بالمطلوب.
هذا وقد قال العلماء: إنّه في حالة النقص عن النصف لا يتحقق الوفاء إلا إذا كان النقص لا يبلغ الربع، وهو ظاهر، إذ لا يقال في الاستعمال العربي لمن اقتصر على الربع إنه أنقص من النصف قليلا- ومن العلماء من قال: إنّ القليل هو ما دون السدس، فإذا بلغ النقص السدس، أو تجاوزه كان كثيرا مخلّا بالوفاء.
لكنه يقال: كيف يكون النصف بدل كلّ من الليل الذي استثنى منه القليل؟
وكيف يكون نصف الشيء مطابقا له مع استثناء جزء قليل منه؟
وأجاب المفسرون بأنّه لزيادة الاعتناء بالنصف المقارن للتهجد، وتفضيله بالصلاة فيه على النصف الآخر الخالي من الصلاة، جعل هو أغلب الليل وأكثره، وإن كان في الحقيقة نصفه.
ظاهر توجيه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمره بقيام الليل مع ندائه بالوصف الخاصّ به- وهو التزمل- أنّ التهجد كان فريضة عليه، وأنّ فرضيته كانت خاصة به. وإلى هذا ذهب جمع من العلماء، قالوا: وهو الذي يدلّ عليه قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] فإنّ قوله: {نافِلَةً لَكَ} بعد الأمر بالتهجد ظاهر في أن الوجوب من خصائصه عليه الصلاة والسلام، وليس معنى النافلة في هذه الآية ما يجوز فعله وتركه، فإنّه على هذا الوجه لا يكون خاصا به عليه الصلاة والسلام، بل معنى كون التهجد نافلة له صلّى الله عليه وسلّم أنّه شيء زائد على ما هو مفروض على غيره من الأمة.
وذهب جماعة آخرون إلى أنّ وجوب التهجد كان ثابتا في حقّ الأمة أيضا، مستندين إلى قوله تعالى في آخر السورة التي معنا {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} إلخ. فإنه يدلّ على أنّ الصحابة كانوا يقومون من الليل كما كان يقوم النبي صلّى الله عليه وسلّم أدنى من ثلثيه ونصفه وثلثه، وإنه قد خفّف الله عنهم جميعا بأمرهم بالقيام على حسب ما يتيسر لهم، قالوا: ويشهد لهذا ما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنّه كان يقول: أوّل ما نزل أول المزمل، كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان، وكان بين أولها وآخرها قريب من سنة.
وما رواه ابن جرير عن أبي عبد الرحمن أنه قال: لما نزلت: {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} قاموا حولا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، حتى نزلت (فاقرءوا ما تيسر منه) قال: فاستراح الناس.
وما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن سعيد بن هشام أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن قيام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: ألست تقرأ هذه السورة: {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)}؟
قال: بلى. قالت: فإنّ الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فرضيته.
وقال بعض الناس: إنّ التهجد لم يكن مفروضا لا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا على أحد من أمته، واحتجّوا على ذلك بما يأتي:
1- ظاهر قوله تعالى في سورة الإسراء: {نافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] فإنه يفيد أنّ التهجد زيادة لم تتعلق بها الفرضية، وقد علمت ردّه فيما سبق.
2- أنّ الأمر في قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ} وقوله جلّ شأنه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ} لا يفيد الوجوب، وحمله على الندب أولى، لأنّا وجدنا أوامر الشريعة تارة تفيد الوجوب، وتارة تفيد الندب، فينبغي حمل ما يرد منها على القدر المشترك بينهما، وهو ترجيح جانب الفعل على جانب الترك، دفعا للتجوّز والاشتراك اللفظي وإذا كان الأمر كذلك كان الثابت معنى الندب، لأن تمام معنى الواجب- وهو عدم جواز الترك- لابدّ له من دليل آخر، كالتوعد على الترك، أو قرينة أخرى تدل على ذلك، وهو غير متوفّر في الأمرين السابقين، فبقي الترك على أصله، وهو الجواز.
والجواب يعلم مما تقرر في علم الأصول، وهو أنّ المختار في الأوامر حملها على الإلزام، إلا أن يصرف عن ذلك صارف، وهو مذهب الجمهور.
3- أنه تعالى ترك تقدير قيام الليل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وخيّره بين أن يقوم نصف الليل، أو يزيد عليه، أو ينقص منه، ومثل هذا لا يكون في الواجبات، فإنّ الشأن فيها أن تعيّن وتحدّد مقاديرها، كما في المكتوبات.
والجواب: أنه لا مانع من ذلك. وقد عهد في الشريعة أن يفرض الله على المكلف أحد أمور معينة، بحيث لا يجوز له الإخلال بها جميعا، ثم إذا فعل واحدا منها كان قائما بما وجب عليه، فيكون قيام الليل مفروضا، بحيث لا ينقص كثيرا عن النصف، فإذا قام المكلف في الليل قريبا من نصفه فقد حصل الواجب، وإذا زاد إلى النصف أو أكثر منه كان محصّلا للواجب من باب أولى.
وبعد فهذه أقوال ثلاثة قد عرفت مآخذها، وعرفت الردّ على ما استدل به أصحاب القول الثالث.
أما ما استند إليه أصحاب القول الأول فيمكن الجواب عنه بأنّ توجيه الخطاب إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وحده لا يقتضي تخصيصه بما ورد بعده من الأوامر، فإنّه عليه الصلاة والسلام نبيّ متبوع، وخطابه يتناول أمته، كما هو معروف في الأصول، إلّا أن يقوم دليل على الخصوص.
أما آية الإسراء: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] فهي مدنية متأخّرة في النزول عن سورة المزمّل فيصح أن يكون التهجد قد بقي وجوبه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ما نسخ عن أمته، ويكون معنى الآية: استمر على التهجد بالليل فريضة زائدة لك على ما استقرّ وجوبه على أمتك.
والذي يستخلص من ذلك أنّ أرجح الأقوال هو الثاني، وهو القول بأنّ التهجد كان فريضة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعلى أمته، إذ هو الذي يمكن أن تأتلف عليه النصوص القرآنية السابقة. ويشهد له ما تقدّم من الآثار عن ابن عباس وعائشة وغيرهما.
وننتقل بعد ذلك إلى الكلام في بقاء وجوب التهجد وعدمه، وفي تعيين الناسخ على القول بعدم البقاء.
وللعلماء في ذلك أربعة أقوال:
الأول: نقل عن الحسن وابن سيرين وابن جبير ما يفيد القول ببقاء وجوب التهجد على الناس جميعا، وأنّ أصل وجوب القيام لم ينسخ، وإنما الذي نسخ هو وجوب قيام جزء مقدّر من الليل لا ينقص كثيرا عن النصف على ما علمت. وهذا قول يخالف ما روي عن عائشة رضي الله عنها على ما سبق، وكذلك يخالف ما روي عن ابن عباس أنّه قال: سقط قيام الليل عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصار تطوعا، وبقي بعد ذلك فرضا على رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ويردّه أيضا ما ثبت في الصحيحين أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للرجل الذي سأله عما يجب: «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوّع».
القول الثاني: أنّه نسخ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن أمته بآخر سورة المزمّل، واستبدل به قراءة القرآن على ما يعطيه ظاهر قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20].
ويدل عليه أيضا ظاهر ما روي عن عائشة رضي الله عنها كما تقدم فإنّ قولها: فصار قيام الليل تطوعا، لم تقيده بالأمة.
القول الثالث: أنّ وجوب التهجد استمر على النبي وعلى الأمة، حتى نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج.
القول الرابع: أنّه نسخ عن الأمة وحدها، وبقي وجوبه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما يعطيه ظاهر آية الإسراء [79].
ولعلّ الراجح هو هذا القول الأخير، كما أنّ الظاهر أنّ نسخ التهجد لم يحصل دفعة واحدة، فإنّ آخر سورة المزمل يفيد نسخ المقدار الذي بيّن في أولها، ولا يلزم من هذا نسخ وجوب التهجد من أصله، وكان بين آخر السورة وأولها نحو عام، كما ورد في الآثار السابقة.
أما النسخ أصل الوجوب فإنه كان بافتراض الصلوات الخمس ليلة المعراج، وكان ذلك قبل الهجرة بعام.
والظاهر أيضا أنّ هذا كله بالنظر للأمة، فأما النبي صلّى الله عليه وسلّم فإنّ آية الإسراء المدنية تدلّ على أنّ وجوب التهجد قد بقي عليه من بعد هذا، وأنّه استمر وجوبه عليه لم ينسخ إلى آخر حياته عليه الصلاة والسلام لعدم ما يدلّ على ذلك النسخ، وهذا هو الذي يشهد له ما تقدّم لك عن ابن عباس أنه يقول: سقط قيام الليل عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصار تطوعا، وبقي ذلك فرضا على رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ويشهد له أيضا ما صحّ أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يدع قيام الليل حضرا ولا سفرا، وأنه كان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع صلّى من النهار اثني عشر ركعة. كما ورد عن عائشة في حديثها مع سعيد بن هشام وقد تقدم بعضه. فإنّ مواظبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على قيام الليل في الحضر والسفر، وقضاءه ما فاته من ذلك بعذر النوم أو المرض دليل على استمرار فرضية القيام عليه صلّى الله عليه وسلّم.
{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} تقول العرب: ثغر رتل ورتل بالفتح والكسر، إذا كان مفلّجا أو حسن التنضيد، وفي القاموس: الرتل محركة: حسن تناسق الشيء، وفيه أيضا: ورتل الكلام ترتيلا: أحسن تأليفه. وترتّل فيه ترسّل.
أما أقوال أهل التفسير: فعن ابن عباس أنّ معنى {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} بيّنه تبيينا وعن مجاهد: ترسّل فيه ترسلا. وقال قتادة: تثبّت فيه تثبتا. وكلها تدور حول شيء واحد، والمراد: اقرأه في قيامك بالليل على مهل، وتبيّن حروفه، فإنّ ذلك يكون عونا لك ولمن يسمع منك على فهمه وتدبر معانيه.
أخرج العسكري في المواعظ عن عليّ كرّم الله وجهه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن هذه الآية فقال: «بيّنه تبيينا، ولا تنثره نثر الدقل، ولا تهذّه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة».
الدقل بفتح القاف: رديء التمر ويابسه. والهذّ: الإسراع، ولقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ قراءة مرتّلة مفسّرة حرفا حرفا، وكان يقطّع قراءته آية آية، ويمد حروف المد.
روى ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أمّ سلمة رضي الله عنها أنّها سئلت عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: كان يقطّع قراءته آية آية {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
وأخرج البخاري عن أنس أنّه سئل عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: كانت مدّا، ثم قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)} يمد {بِسْمِ اللَّهِ} ويمد {الرَّحْمنِ} ويمد {الرَّحِيمِ}.
وعلى هذا فليس لأحد من الناس مخالفة في أنّه يقرأ القرآن بترتيل وتبيين حروف، وتحسين مخارج، وإظهار مقاطع، إنما الكلام في التغني به وتلحينه.
وقد اختلف في ذلك علماء السلف والخلف، فقال بكراهته أنس بن مالك، وسعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير، والقاسم بن محمد، والحسن، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي، والإمامان مالك وأحمد.
وروي عن ابن المسيب أنّه سمع عمر بن عبد العزيز يؤم الناس فطرب في قراءته، فأرسل إليه سعيد يقول: أصلحك الله إنّ الأئمة لا تقرأ هكذا. فترك عمر التطريب بعد.
وروي عن القاسم أنّ رجلا قرأ في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم فطرب فأنكر ذلك القاسم، وقال: يقول الله عزّ وجلّ: {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ}.
وروى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن الألحان في الصلاة؟ فقال: لا تعجبني، وقال: إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم.
وروي عن أحمد أنّه كان يقول في قراءة الألحان: ما تعجبني، ويقول: القراءة بالألحان بدعة لا تسمع.
وعن عبد الله بن يزيد العكبري قال: سمعت رجلا يسأل أحمد: ما تقول في القراءة بالألحان؟ فقال له: ما اسمك؟ قال: محمد. قال له: أيسرك أن يقال لك: موحامد، ممدودا؟
وأجاز القراءة بالألحان عمر بن الخطاب، وابن عباس وابن مسعود وعبد الرحمن بن الأسود بن زيد والإمامان أبو حنيفة والشافعي، واختاره أبو جعفر الطبري وأبو بكر بن العربي.
فعن عمر بن الخطاب فيما رواه الطبري أنه كان يقول لأبي موسى: ذكّرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى ويتلاحن، فيقول عمر: من استطاع أن يتغنّى بالقرآن غناء أبي موسى فليفعل.
وابن مسعود كانت تعجبه قراءة علقمة الأسود- وكان حسن الصوت- فكان يقرأ له علقمة، فإذا فرغ قال له: زدني فداك أبي وأمي.
وعن عطاء بن أبي رباح قال: كان عبد الرحمن بن الأسود يتبع الصوت الحسن في المساجد في شهر رمضان.
وروى الطحاوي أنّ أبا حنيفة كان يستمع القرآن بالألحان، كما روي أنّ الشافعي كان كذلك.
هذا هو المأثور عن الأئمة والعلماء في قراءة التلحين والتطريب، والنظر بعد ذلك في أدلتهم.
استدل المجيزون بما يأتي:
1- ما أخرجه أبو داود والنسائي عن البراء بن عازب أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «زيّنوا القرآن بأصواتكم».
2- وما أخرجه مسلم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن».
3- وما في البخاري عن عبد الله بن مغفّل قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته فرجّع في قراءته.
4- وما روي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استمع ليلة لقراءة أبي موسى الأشعري، فلما أخبره بذلك قال: لو كنت أعلم أنّك تسمعه لحبّرته لك تحبيرا، ويروى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما سمعه قال: «إنّ هذا أعطي مزمارا من مزامير آل داود».
5- وما رواه مسلم عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما أذن الله لشيء أذنه لنبي حسن الصوت يتغنّى بالقرآن».
الأذن بفتحتين الاستماع.
6- وقالوا أيضا: إنّ الترنم بالقرآن، والتطريب بقراءته من شأنه أن يبعث على الاستماع والإصغاء، وهو أوقع في النفس، وأنفذ في القلب، وأبلغ في التأثير.
روي أنّ عقبة بن عامر كان من أحسن الناس صوتا فقال له عمر: اعرض عليّ سورة كذا، فعرض عليه، فبكى عمر وقال: ما كنت أظنّ أنها نزلت.
أما المانعون فاحتجوا بما يأتي:
1- ما رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق، فإنّه يجيء من بعدي أقوام يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم» فقد نعى على من يرجّع بالقرآن ترجيع الغناء والنوح، على نحو ما يفعله أكثر قراء هذا العصر، ووصفهم بفتنة القلوب، كما وصف بها كل من يسمع لهم ويعجبه شأنهم.
2- وما روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه ذكر أشراط الساعة، وذكر أشياء، منها أن يتخذ القرآن مزامير، وقال: «يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم، ولا أفضلهم ليغنيهم غناء».
3- وما رواه ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مؤذّن يطرب فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الأذان سهل سمح، فإن كان أذانك سهلا سمحا وإلا فلا تؤذن» أخرجه الدارقطني.
فقد كره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يطرب المؤذن في أذانه، فدلّ ذلك على أنه يكره التطريب في القراءة بطريق أولى.
4- وما روي أنّ زيادا النميري جاء إلى أنس رضي الله عنه مع القرّاء فقيل له: اقرأ، فرفع صوته وطرب- وكان رفيع الصوت-، فكشف أنس عن وجهه، وكان على وجهه خرقة سوداء، وقال: يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون، وكان إذا رأى شيئا ينكره رفع الخرقة عن وجهه. وهذا له حكم الرفع، فقوله: ما هكذا كانوا يفعلون. دلّ على أنّ القراءة في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم لم تكن على نحو قراءة زياد.
5- وقالوا أيضا: إنّ التغني والتطريب يؤدّي إلى أن يزاد على القرآن ما ليس منه، وذلك لأنّه يقتضي مدّ ما ليس بممدود، وهمز ما ليس بمهموز، وجعل الحرف الواحد حروفا كثيرة، وهو لا يجوز. هذا إلى أنّ التلحين من شأنه أن يلهي النفوس بنغمات الصوت، ويصرفها عن الاعتبار وتدبر معاني القرآن.
هذه أدلة المانعين، وقد تأوّلوا ما أورده المجيزون مما يفيد جواز القراءة بالألحان فقالوا في حديث: «زينوا القرآن بأصواتكم».
إن فيه قلبا، وأصله: «زينوا أصواتكم بالقرآن».
كما قيل في: عرضت الناقة على الحوض، وعلى تسليم أنه ليس في الحديث قلب، فمعنى تزيين القرآن بالأصوات تجويده، وتحسين أدائه بالمد والغنة والإظهار، وضبط كلماته، وتبيين حروفه، وأنت ترى أنّ هذا التأويل بوجهيه بعيد عن لفظ الحديث غاية البعد، وهو على كل حال تأويل لا دليل عليه، ولا موجب له.
وقالوا في الحديث الثاني: «ليس منّا من لم يتغن بالقرآن».
إنه ليس من الغناء وإنما هو من الاستغناء، كما فسره بذلك سفيان بن عيينة، ومعناه: ليس منا من لم يستغن بالقرآن عن الحديث، أو عن أخبار الأولين. قالوا: وقد ورد التغني بمعنى الاستغناء في كلام العرب. قال الأعشى:
وكنت امرأ زمنا بالعراق ** عفيف المناخ طويل التغنّي

وأنت ترى أيضا أنّ تأويل التغني بالاستغناء تأويل بعيد لا دليل عليه، ولذلك لما سئل الشافعي عن هذا التأويل المنسوب لابن عيينة قال: نحن أعلم بهذا، لو أراد به الاستغناء لقال. من لم يستغن بالقرآن، ولكن لما قال: «يتغنّ بالقرآن» علمنا أنه أراد به الغناء. أما بيت الأعشى فلا حجة لهم فيه، فإنّه لا يستقيم معناه على إرادة الاستغناء، وإنما هو بمعنى الإقامة، من قولهم: غنى فلان بمكان كذا إذا أقام، ومنه قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}.
ثم أوّلوا ما ورد في بقية الأحاديث التي استدلّ بها المجيزون من الترجيع والتحبير والتغني مما يرجع لحسن التجويد، وإتقان الأداء.
والحق أنّ الأدلة تشهد للمجيزين، وذلك لأنه إذا كان التلحين والتطريب يغيّر من ألفاظ القرآن، ويخلّ بما نقل إلينا من طرق الأداء أو كان تكلّفا وتصنّعا ورفعا وخفضا على نحو توقيعات الموسيقى، فلا كلام في أنّه ممنوع ومحرّم.
أما إذا كان تحبيرا وترقيقا وتحزينا، وشيئا قضى به اتعاظ القارئ، وكمال تأثّره بمعاني القرآن، فليس هناك من الأدلة ما ينهض على منعه. بل الأدلة شاهدة به وداعية إليه. وعلى هذا ينبغي حمل كل ما أورده المانعون في منع التغني على التغني المذموم الذي يسير فيه القارئ مع الهوى ويلهو به عن تدبر المعنى ويخرج فيه عن الحدود والقوانين المأثورة في الأداء والترتيل. وهذا محمل قريب جدا وهو فوق ذلك مؤيد بتلك النصوص والآثار التي تجيز التغني في قراءة القرآن وبعد هذا ترى الأدلة كلها متفقة لا تعارض بينها ولا تدافع.
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} الإلقاء: الإنزال: والإيحاء. وعبّر به للإشارة من أول الأمر إلى أنّ ما يوحى به شديد وعظيم.
والمراد بالقول الثقيل: القرآن، وثقله باعتبار ما اشتمل عليه من تحميله عليه الصلاة والسلام أعباء الرسالة ومهمة التبليغ، وما إلى ذلك من التكاليف التي يتطلّب القيام بها صبرا وجلدا وقوة عزيمة.
وقيل: إنه ثقيل في نزوله عليه صلّى الله عليه وسلّم، وتلقيه إياه من الوحي، فقد كان عليه الصلاة والسلام يكرب عند ذلك، ويرجف، ويشتدّ عليه الأمر.
روى الشيخان ومالك والترمذي والنسائي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا.
أخرج أحمد وابن جرير وغيرهما عن عائشة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها، فما تستطيع أن تتحرّك، حتى يسرّى عنه، وتلت: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)}.
وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم نزل عليه الوحي مرة، وكان جالسا واضعا فخذه على فخذ زيد بن ثابت، فكادت فخذه عليه الصلاة والسلام ترضّ فخذ زيد من شدّة الضغط.
قيل: معنى ثقله: أنه كلام رصين، فخم، له رجحان ووزن، ليس بالسفساف ولا بالهين الضعيف.
وقيل: إنّ ثقله كناية عن بقائه على وجه الدهر، لا يزول ولا يتبدل، فإنّ المعهود في الأجسام الثقيلة أنّها تثبت وتبقى في مكانها.