فصل: تفسير الآية رقم (196):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (196):

قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)}
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} اختلف العلماء في إتمام الحج والعمرة ما هو؟
فقيل: أداؤهما، والإتيان بهما من غير أن يفعل في أثنائهما شيئا من المحظورات، وقد يجيء الإتمام بمعنى أصل الفعل، كما في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} أي فعلها، وكما في قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} أي أدوه، وقد علمت ما فيه سابقا.
وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن تخرج لهما لا لغيرهما، وقيل: إتمامهما فعل كل واحد منهما منفردا، من غير تمتع ولا قران، قال ابن حبيب: وقيل إتمامهما أن لا يستحل فيهما ما لا ينبغي. وقيل: إتمامهما أن يحرم لهما من دويرة أهله. وقيل: أن ينفق في سفرهما الحلال الطيب.
وقد ذكر في أسباب النزول روايات كثيرة يرجع إليها هذا الخلاف، ويأخذ منها المختلفون ما يؤيّد مذهبهم، لا نريد الإطالة بذكرها، وقد اتفق العلماء على فرضية الحج، واختلفوا في العمرة، وذلك أن كثيرا من الآيات، بل كل الآيات التي طلب فيها الحجّ جاء ذكره فيها مجرّدا عن ذكر العمرة: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ} [الحج: 27].
والأحاديث الصحيحة التي بيّنت قواعد الإسلام لم يرد فيها ذكر العمرة، نعم جاء ذكر العمرة مع الحج عند بيان الكيفيات، كقوله: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما} وقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} إلى قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.
فقال بعض العلماء: إنّ ذلك يقتضي أن لا يكونا سواء في الحكم، فالعمرة سنّة والحجّ فريضة.
وذهب جماعة إلى أنّ العمرة واجبة كالحجّ وبه أخذ الشافعيّ وأحمد وابن الجهم من المالكية، وهو مذهب علي، وابن عمر وابن عباس، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وغيرهم.
وقال مالك، والنخعي، وأبو حنيفة: (وروي عنه الوجوب) إن: العمرة سنة، وهو مذهب ابن مسعود وجابر بن عبد الله، ولنذكر طرفا من جملة ما استدل به الفريقان:
استدل الأولون: بما روي في الصّحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لأصحابه «من كان معه هدي فليهلّ بحجّ وعمرة».
وفي الصّحيح أيضا قال صلّى الله عليه وسلّم: «دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة».
وأخرج الدّارقطني والحاكم من حديث زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الحجّ والعمرة فريضتان لا يضرّك بأيهما بدأت».
واستدلّ الآخرون بما أخرجه الشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن أبي صالح الحنفي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحج جهاد والعمرة تطوّع» وأخرج ابن ماجه مثله، وأخرج الترمذي وصحّحه، عن جابر أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن العمرة، أواجبة هي؟ قال: «لا. وأن تعتمروا خير لكم»، وأجاب هؤلاء عن الأحاديث التي صرّح فيها بلفظ الفريضة بأن ذلك بعد الشروع فيها، وهي حينئذ واجبة بلا خلاف، وهذا وإن كان فيه بعد، لكنه يجب المصير إليه جمعا بين الأدلة، قاله الشوكاني. وقال: وعلى هذا يحمل سائر ما فيه دلالة على وجوبها، كالذي أخرجه الشافعي في الأم: أنّ العمرة هي الحج الأصغر.
كذلك يجب حمل الأحاديث التي قرن فيها الحج والعمرة على أنهما من أفضل الأعمال، وأنهما كفارة لما بينهما، وأنهما يهدمان ما قبلهما ونحو ذلك. اهـ.
وأما الآية التي معنا فالتعبير بالإتمام مشعر بأنهما كان قد شرع فيهما، وقد علمت سابقا أنّ آيات القتال كانت في صلح الحديبية، وأنهم كانوا شرعوا في العمرة وصدّوا عنها، ولذلك تسمّى العمرة التي وقعت في سنة سبع عمرة القضاء، فالتعبير بالإتمام ظاهر النكتة، لا يحتاج إلى الحمل على أصل الفعل.
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.
الحصر: الحبس، قال أبو عبيدة والكسائي، والخليل: يقال أحصر بالمرض، وحصر بالعدو، وفي المجمل لابن فارس بالعكس، يقال: أحصر بالعدو وحصر بالمرض، ورجّح الأول ابن العربي وقال: رأي أكثر أهل اللغة، وقال الزجّاج: إنّه كذلك عند جميع أهل اللغة. وقال الفرّاء: هما بمعنى واحد في المرض والعدو، ووافقه على ذلك أبو عمرو الشيباني.
وبسبب هذا الاختلاف بين أهل اللغة اختلف أئمة الفقه، فذهب الحنفية إلى أنّ المحصر من يصير ممنوعا من دخول مكة بعد الإحرام بمرض، أو عدوّ، أو غيره، وذهب الشافعية إلى أن الإحصار معناه: المنع بالعدو.
وقال الفخر الرازي: وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة فقهية، وهي أنهم اتفقوا على أنّ حكم الإحصار في الحصر بالعدو ثابت، وهل يثبت بالمرض وسائر الموانع أو لا؟
قال أبو حنيفة: يثبت، وقال الشافعي: لا يثبت، وحجة أبي حنيفة ظاهرة على مذهب أهل اللغة، وذلك لأن أهل اللغة رجلان:
أحدهم: الذي قال: الإحصار مختصّ بالمرض. فتكون الآية نصّا فيه.
والثاني: الذي قال: إنّ الإحصار اسم لمطلق الحبس، سواء كان حاصلا بسبب المرض، أو بسبب العدو. وحجة أبي حنيفة على هذا ظاهرة أيضا، لأنّ الله تعالى علّق الحكم على مسمّى الإحصار، وهو عام، فتناول الكل.
نعم إنّ هناك قولا ثالثا، وهو أن الإحصار في الحصر بالعدو. قال الفخر: وهو باطل باتفاق أهل اللغة، وبتقدير ثبوته. فنحن نقيس المرض على العدو بجامع الحرج، وهو قياس جلي، وقد استدل الشافعية لمذهبهم بوجوه منها أنّ رأينا وإن كان يخالف روايات أهل اللغة إلا أنه مرويّ عن ابن عباس، وابن عمر، وهما أولى، لأنّهما من أهل اللغة. وأدرى بتفسير القرآن.
على أنا نقول: إنّ الحصر عبارة عن المنع، ولا يقال: إنّ الإنسان ممنوع عن كذا إلا إذا كان متمكّنا منه قادرا عليه، وذلك في العدو، لا في المرض، وأيضا {أُحْصِرْتُمْ} معناها: منعتم، والمنع لابدّ له من مانع، ولا يسند الفعل إلى المرض عقلا، لأنّه مرض لا يبقى زمانين، فكيف يقال: إنه مانع؟ وأنت ترى أنهم في هذا يستعملون القياس في اللغة.
وقالوا أيضا إن الله تعالى قال في الآية: {فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ولفظ الأمن إنما يستعمل في الخوف من العدو، لا في المرض، وقد أورد عليه أننا نمنع أن يكون الأمن قاصرا على الأمن من العدو، ولئن سلّم: فخصوص بعض أفراد العام بحكم ذكر في آخر الآية لا يذهب بعموم أولها في حكم غير هذا الخاص.
{اسْتَيْسَرَ} تيسر، كاستعظم تعظم، واستكبر تكبر.
{الْهَدْيِ} جمع هدية كما تقول: تمر وتمرة، وفي الهدي تشديد للياء وتخفيفها، والهدي ما يهدى إلى بيت الله عزّ وجلّ تقربا إلى الله، وقد روي عن علي، وابن عباس والحسن. وقتادة: الهدي أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة، فعليه ما تيسر من هذه الأجناس. وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وابن شبرمة، غير أنه جعل البدن خاصة بالإبل، وهم جعلوها في الإبل والبقر، والخلاف في السن المجزئ يعرف في الفقه، ثم إن حقيقة الحج والعمرة معروفة في الفقه، وقد ذكر المفسّرون هنا أقسام الحج: الإفراد، والقران، والتمتع، وحقائقها أيضا معروفة في الفقه.
وقد اختلف العلماء في أيها أفضل؟ فقال الشافعي: أفضلها الإفراد، ثم التمتع ثم القرآن، وعنه: إنّ التمتع أفضل من الإفراد، وهو مروي عن مالك رضي الله عنه.
إن التمتع جاء ذكره في القران. ولم يجئ القران.
وللشافعي قوله عليه الصلاة السلام: «القرآن رخصة».
ولأنّ في الإفراد زيادة التلبية والسفر، والحلق.
والحنفية احتجوا بما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «يا آل محمد! أهلّوا بحجّ وعمرة معا».
والذي يعنينا هو: هل في الآية ما يؤيّد واحدا من هذه المذاهب؟ ترى أن الآية ليس فيها ما يصلح حجة لواحد من الآراء. فليس فيها إلا الأمر بالإتمام، وهو لا يقتضي شيئا منها، فالمدار في إثبات المذاهب على السنة والترجيح فيها.
ثم إن الإحصار كما يكون عن الحج يكون عن العمرة، لأن الله تعالى يقول: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} ومعناه منعتم، وهو بإطلاقه ينصرف إلى المنع مما تقدم. والذي تقدم هو قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فيكون المنع منهما سواء.
{وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} قد اختلف السلف في المكان الذي يذبح فيه الهدي، فقال عبد الله بن مسعود وابن عباس وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين: هو الحرم، وهو مذهب الحنفية والثوري.
وقال مالك والشافعي: محله الموضع الذي أحصر فيه، فيذبحه ويحل، وذلك أنّ معنى قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} لا تحلوا من إحرامكم حتى تعلموا أنّ الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم قد بلغ محله، والكلام في هذا المحل، لأنه يحتمل أن يراد منه الوقت الذي يذبح فيه، ويحتمل أن يراد منه الموضع.
فذهب الشافعية وأهل المدينة إلى أن المراد منه الوقت الذي يذبح فيه، إذا جاء في موضع الإحصار، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذبح فيه حيث أحصر في عام الحديبية.
وذهب الحنفية إلى أنه الحرم، لأن المحل وإن كان يحتمل الوقت، ومنه محلّ الدّين: أي وقته، غير أن الله تعالى يقول: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فلو كان هدي الإحصار يذبح في موضع الإحصار لكان الهدي بالغا محله، وحينئذ يكون قوله حتى يبلغ الهدي محله لاغيا.
وقد قال الله تعالى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} إلى أن قال: {لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)} [الحج: 30- 33] والظاهر أنّ ذلك في كل الهدايا بلا فرق. وكأنّ الآية بيان للإجمال في قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فقد جعل الله محل الهدي البيت العتيق، فليس لأحد أن يجعله في غيره.
وأيضا فقد قال الله في جزاء الصيد: {هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] فبيّن أن الشرط في الهدي أن يكون على صفة بلوغ الكعبة، فلا يصح أن تغيّر هذه الصفة، كما لم يصح تغيير التتابع في صوم كفّارة الظهار. هذا مجمل أدلة الحنفية، وقد أجابوا عن فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في عام الحديبية فقالوا: إن الذبح في طرف الحرم من جهة الحديبية.
والشافعية وأهل المدينة استدلوا بفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأيضا قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} يدلّ عليه، بل إنه لو كان الذبح في الحرم لما قال: {مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} أي الحرم، فيكون النبي صلّى الله عليه وسلّم قد ذبح في الحل، لا في الحرم.
والحنفية يقولون: إنه يستحبّ أن يكون الذبح عند المروة بمنى، فلما منع المشركون الهدي أن يبلغ هذا المحل، كان الهدي معكوفا أن يبلغ المحل الأفضل، وإن كان الذبح واقعا في الحرم، هذا مجمل الأدلة والشبه من الفريقين.
ثم إنّ العلماء لم يختلفوا في أن هدي العمرة غير مؤقّت بزمن مخصوص، بل له أن يذبح متى شاء، ويحل، واختلفوا في هدي الإحصار في الحج، فقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: له أن يذبحه متى شاء ويحل. وقال أبو يوسف والثوري ومحمد: لا يذبحه قبل يوم النحر.
وجه الأولين أن قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} عام في كل الأوقات متى حصل الإحصار، فتخصيصه بوقت إخراج للعام عن عمومه من غير دليل، وأيضا فإن الاتفاق حاصل بين الجميع أن حكم الإحصار بالعمرة لا توقيت فيه، وهو مستفاد من قوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وهذا دم إحصار وذلك دم إحصار الفرق تحكّم.
على أن المعقول في دم الإحصار أن لا يتوقت بزمن غير زمن الإحصار لما قد ينشأ عن بقاء الإحرام- حتى يجيء يوم النحر- من الضرر. نعم قد يعقل أن يختص ذبح دم الإحصار بالمكان لمعنى في المكان: كسد حاجة فقراء الحرم، أو ما شاكل ذلك، ولا نجد هذا المعنى في التخصيص بالزمان بعد وجود الإحصار وعدم التمكن من الوصول إلى الحرم.
{فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}، المراد بالمرض هنا أدنى ما يصدق عليه اسم المرض. لأنّ المرض الشديد الذي يمنع من تمام النسك يثبت به الإحصار عند الحنفية، وهذا أحد الشبه التي للشافعية أن يستدلوا بها على أن المرض لا يثبت به الإحصار، لأنّه قد بيّن حكمه، هنا، وإن كان للحنفية أن يقولوا: إنّ وجود الصوم بين هذه الأشياء التي جبر فيها دالّ على أن هذا حكم المرض اليسير الذي يقدر صاحبه على الصوم معه، وهذا لا نقول له تحلل بالهدي، بل عليه إتمام النسك، ثم إن قوله: {أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} مشير إليه.
وفي الآية حذف تقديره: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} فحلق فالواجب فدية، وكأنّ هذا استثناء من قوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}، وعلى كل حال- فالمراد: بالمرض والأذى ما يحتاج معه إلى أن يفعل شيئا من محظورات الإحرام: كلبس المخيط، أو تغطية الرأس، أو الحلق. ولم تبين الآية مقدار الصيام، ولا مقدار الصدقة، ولا مقدار النسك. وإنّما ذلك نجده في السّنّة وكتب الفقه.
وقد ذهب الجمهور إلى أن الصوم ثلاثة أيام، وهو قول جماعة السلف: إلا ما يروى عن الحسن، وعكرمة: أن الصيام عشرة أيام كصوم التمتع، والعمدة في هذا الباب حديث كعب بن عجرة، وهو ما روي عن عبد الله بن مغفّل أن كعب بن عجرة حدّثه «أنه خرج مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم محرما فقمّل رأسه ولحيته، فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فدعا بحلاق فحلق رأسه»، وقال: «هل تجد نسكا»؟ فقال: ما أقدر عليه، فأمره أن يصوم ثلاثة أيام، أو أن يطعم ستّة مساكين، لكل مسكين صاعا.
واختلفت الروايات عنه في الصدقة، فمرّة روي عنه الصدقة بستة صيعان كما رأيت، على ستة مساكين، ومرة بثلاثة آصع، على ستة مساكين، فاضطر الجمهور إلى الجمع بينهما، فحملوا رواية الثلاثة آصع، على طعام القمح، لأنه المعهود فيه في سائر الصدقات، وحملوا رواية الستة آصع على التمر، وأما النسك فلا خلاف أنه تجزئ فيه الشاة، وقد ورد في أخبار كعب بعضها: أنسك نسيكة، وبعضها: شاة، فهو إن شاء ذبح شاة وإن شاء ذبح بدنة.
ولا خلاف أنه مخيّر بين فعل أي واحد من الثلاثة، يفعل أيها شاء. لأنّ هذا ما تقضيه (أو) من التخيير.
{فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.
بهذه تعلّق الشافعية أيضا فيما ذهبوا إليه من الإحصار هو من العدو فحسب، وقال الحنفية: إن الأمن كما يكون من العدو يكون من غيره، ثم إنّ قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} ينتظم معنيين:
أحدهما: الإحلال، والمتعة بالنساء.
والآخر: جمع الحج والعمرة في أشهر الحج، ومعناه حينئذ: الارتفاق بهما، وترك إنشاء سفرين لهما.
وقد كانت العرب تكره العمرة في أشهر الحج، وتعدّها من أفجر الفجور. روي عن ابن عباس أنه قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفر. ويقولون: إذا برأ الدّبر وعفى الأثر، وانسلخ صفر، حلّت العمرة لمن اعتمر.
فالمتعة بالحج تحتمل المعنيين:
استباحة التمتع بالنساء بالإحلال، والمعنى الثاني: الارتفاق بجمعهما في أشهر الحج، بعد أن كان ذلك ممنوعا.
وقد اختلف في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.
فقال ابن مسعود وعلقمة: هو عطف على قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} والمعنى: أنّ الحاجّ إذا أحصر فحلّ من إحرامه بهدي يذبحه: فعليه قضاء عمرة وحجة، فإن هو تمتع بهما، وجمع بينهما في أشهر الحج في سفر واحد: فعليه دم آخر للتمتع.
وإن اعتمر في أشهر الحج، ثم رجع إلى أهله. ثم حجّ من عامه، فلا دم عليه للتمتع.
قال عبد الله بن مسعود: هديان وسفر أو سفران وهدي، يعني أن من جمع بينهما في سفر واحد بعد الإحصار فعليه هديان: هدي الإحصار، وهدي التمتع، وإن فعلهما في سفرين فليس عليه إلا هدي الإحصار.
ويرى ابن عباس أنّ الآية تشمل كلّ جمع بينهما في سفر واحد. سواء أكان محصرا. أم لا. ويرى ابن مسعود أن الآية في المحصرين فقط. لمكان العطف، وإن كان الحكم واحدا فيمن جمع بينهما الإحصار، أو لغير الإحصار.
وقد روي عن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم روايات ظاهرها اختلاف في إباحة التمتع، بمعنى جمع العمرة والحج في أشهر الحج:
فمن روي عنه النهي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعثمان بن عفان رضي الله عنه. وروي أن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل حدّث أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحّاك بن قيس عام حج معاوية وهما يتذاكران التمتع بالعمرة إلى الحج. فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله تعالى. قال سعد: بئسما قلت يا ابن أخي! فقال الضحّاك: فإن عمر قد نهى عنه. قال سعد: صنعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصنعناها معه.
وروي عن قتادة أنه قال سمعت جريّر بن كليب يقول: رأيت عثمان ينهى عن المتعة. وعلي يأمر بها، فأتيت عليّا، فقلت: إن بينكما لشرّا، أنت تأمر بها، وعثمان ينهى عنها! فقال: ما بيننا إلا خير. ولكن خيرنا أتبعنا لهذا الدين.
وقد روي عن عثمان وعمر- أنهما ما كانا يقصدان النهي، وإنما كانا يقصدان تفريق النسكين، من أجل أن تستمر عمارة البلد الحرام في غير أشهر الحج، وأن يدوم نفع الفقراء طول العام باختلاف الناس إلى الحرم في أشهر الحج بالحج، وفي غيرها بالعمرة.
ولقد روي عن عمر رضي الله عنه اختيار المتعة على غيرها، فدلّ ذلك على أن النهي إنما كان لمعنى، خاصّ، لا لعدم الجواز.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ}.
أي: فمن لم يجد الهدي- إما لعدم المال، أو لعدم الحيوان- صام ثلاثة أيام في الحج: وهي من عند شروعه في الإحرام إلى يوم النحر، وقيل: يصوم قبل يوم التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة. وقيل: ما بين أن يحرم إلى يوم عرفة. وقيل: يصومها من أول عشر ذي الحجة، وقيل: ما دام بمكة، وقيل: غير ذلك.
{وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ} المراد بالرجوع الرجوع إلى الأهل، وقال أحمد وإسحاق: يجزئه أن يصوم في الطريق، ولا يتضيّق عليه الوجوب إلا بالرجوع إلى الوطن، وهو مذهب الشافعي.
وقال مالك: إذا رجع إلى منى فلا بأس أن يصوم.
وقال الشوكاني: والأول أرجح، فقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجع إلى أهله».
وإنما قال سبحانه: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ} مع أنّ كلّ أحد يعلم أنّ الثلاثة والسبعة عشرة كاملة لدفع أن يتوهم متوهم أنه مخيّر بين الثلاثة في الحج، وبين السبعة إذا رجع إلى أهله، قاله الزجّاج.
وقال المبرد: إنما قال ذلك ليدلّ على انقضاء العدد، حتى لا يتوهّم بقاء شيء وراء السبعة، وقيل: هو توكيد، كما تقول كتبت بيدي، وقد جاء مثل هذا في كلام العرب، قال الشاعر:
ثلاث واثنتان فهنّ خمس ** وسادسة تميل إلى شمام

وكذا قول الآخر:
ثلاث بالغداء وذاك حسبي ** وستّ حين يدركني العشاء

فذلك تسعة في اليوم ريّي ** وشرب المرء فوق الريّ داء

وقوله: {كامِلَةٌ} توكيد آخر، لزيادة العناية بشأنها، حتى لا ينقص منها شيء.
{ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} قيل: الإشارة إلى التمتع، وعلى ذلك فلا تمتع للمكيّ، وإن فعل فعليه دم جناية لا يأكل منه، وهو منقول عن الحنفية.
وقيل الإشارة إلى حكم الصوم، وما إليه، وعلى هذا يكون للمكيّ تمتع، ولا يكون منه إلا الهدي، ونقل عن الشافعي. والمراد بمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام: من لم يكن ساكنا في الحرم، ومن لم يكن ساكنا في المواقيت فما دونها فيه خلاف. قال عطاء ومكحول: حاضر المسجد الحرام هم من دون المواقيت إلى مكة، وهو مذهب الحنفية غير أنهم جعلوا من في المواقيت بمنزلة من دونها.
وقال ابن عباس، ومجاهد: هم أهل الحرم. وقال الحسن، وطاوس، ونافع، وعبد الرحمن الأعرج: هم أهل مكة. وهو قول مالك. وقال الشافعي فيما رواه الجصاص عنه: هم من كان أهلهم دون ليلتين، وهم حينئذ أقرب إلى المواقيت، والأدلة تعرف في الفروع.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} فيما فرضه عليكم في هذه الأحكام. وقيل: هو أمر بعموم التقوى، وتحذير من شدة عقاب الله سبحانه {أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ}.