فصل: تفسير الآية رقم (230):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (230):

قال الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}.
يعلمون الحقائق. ويعلمون المصالح المترتبة على العمل بها.
وقد اختلف في ذلك النكاح الذي اشترط لحل المطلقة ثلاثا، فذهب سعيد بن المسيب إلى أنه العقد، فتحل المطلقة ثلاثا للأوّل بمجرد العقد على الثاني.
وذهب سائر العلماء إلى أن المراد به الوطء، واحتجوا بأن النكاح قد ورد في القرآن بالمعنيين، واحتمل أن يكون المراد هنا العقد أو الوطء، فجاءت السنة، وبينت أن المراد به الوطء وذلك ما رواه ابن جرير عن عائشة، قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالت: كنت عند رفاعة، فطلقني، فبتّ طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وإن ما معه مثل هدبة الثّوب. فقال: «لعلّك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك».
وقال بعضهم: إن الآية نفسها فيها دلالة على أن المراد به الوطء، وبيانه أنّ أبا الفتح عثمان بن جني قال: سألت أبا علي الفارسي عن قولهم: نكح المرأة، فقال: فرّقت العرب بالاستعمال، فإذا قالوا: نكح فلان فلانة. أرادوا أنّه عقد عليها، وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته، أرادوا به المجامعة. وهنا قد قال الله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فالمراد منه المجامعة.
وقد اختلف النّاس في نكاح المحلّل، وهو الذي يتزوّج المبتوتة بقصد أن يحلها للزوج الأول، فذهب مالك، وأحمد، والثوري، وأهل الظاهر، وغيرهم: إلى أنّ ذلك النكاح باطل، لا تحلّ به للأوّل ولا للثاني، ولا تحلّ حتى ينكحها الثاني نكاح رغبة يقصد به ما يقصد من كل نكاح من الدوام والبقاء، ودليلهم ما روي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم بالتّيس المستعار؟».
قالوا: بلى يا رسول الله قال: «هو المحلّل، لعن الله المحلّل والمحلّل له».
قال الترمذي: والعمل على ذلك عند أهل العلم، منهم: عمر، وابنه، وعثمان رضي الله عنهم، وهو قول الفقهاء من التابعين.
وروى أبو إسحاق الجوزجاني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المحلّل، فقال: «لا: إلا نكاح رغبة، لا دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عزّ وجلّ ثم تذوق العسيلة».
وروى ابن المنذر وابن أبي شيبة عن عمر رضي الله عنه: لا أوتى بمحلّل ولا بمحلّل له إلا رجمتهما، فسئل ابنه عن ذلك قال: كلاهما زان، وسئل ابن عباس عمّن طلّق امرأته ثلاثا ثم ندم، فقال: هو رجل عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا، فقيل له: فكيف ترى في رجل يحلّها له؟ فقال: من يخادع الله يخدعه.
هذا وفي التحليل مفاسد كثيرة عقد ابن القيم في إعلام الموقعين فصولا في بيانها.
وقد طعن قوم في الشريعة الإسلامية لأنّها أجازته، وقد علمت ما قاله النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه، وعلمت رأي الصحابة والتابعين فيه. فالصواب ألا ينسب إليها حلّه.

.تفسير الآية رقم (231):

قال الله تعالى: {وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)}.
الأجل يطلق على المدة كلها، وعلى آخرها، يقال لعمر الإنسان أجل، وللموت الذي ينتهي به أجل. والمراد هنا: آخر عدتهن، ومعنى بلغن أجلهنّ- هنا- شارفن منتهاها، لأنّه يتجوّز في البلوغ. فيقال: بلغ البلد إذا شارفه وداناه، وإنما حملناه على المجاز، لأن الله قال: {وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وهي إذا انقضت عدتها فلا سبيل له عليها.
{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}: إما أن يراجعها من غير طلب ضرر بالمراجعة، وإما أن يتركها حتّى تنقضي عدتها من غير إضرار بها {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا لتظلموهنّ}.
عن السدي قال: نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلّق امرأته، حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها، ثم طلقها، ففعل بها ذلك حتى مضت لها تسعة أشهر: مضارّة يضارها، فأنزل الله تعالى ذكره: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ} أي إمساك المرأة ضرارا {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} إذ عرضها لعذاب الله.
{وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً} أي جدوا في الأخذ بها، والعمل بما فيها، وإن لم تفعلوا فقد اتخذتموها هزوا، ويقال لمن لم يجد في الأمر: إنما أنت هازل.
وقال الحسن: كان الناس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطلّق الرجل أو يعتق فيقال: ما صنعت؟ فيقول: إنما كنت لا عبا، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من طلّق لاعبا أو أعتق لاعبا فقد جاز عليه» قال الحسن: وفيه نزلت {وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً}.
وروى أبو موسى الأشعري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «لم يقول أحدكم لامرأته: قد طلّقتك، قد راجعتك، ليس هذا بطلاق المسلمين، طلّقوا المرأة قبل عدّتها».
{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ}.
{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بالإسلام وسائر نعمه، واذكروا ما أنزل عليكم من {الْكِتابِ} القرآن {يَعِظُكُمْ} و{وَالْحِكْمَةِ} السنن التي علمكموها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم {يَعِظُكُمْ بِهِ} أي بما أنزل عليكم {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي خافوه {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فيعلم ما علمتم من تعدّي حدوده، وتضييع أوامره، فيجازيكم على ما عملتم.

.تفسير الآية رقم (232):

قال الله تعالى: {وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)}.
{فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} العضل: الحبس والتضييق، ومنه عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج، ومنه قول عمر: وقد أعضل في أهل العراق، لا يرضون عن وال ولا يرضى عنهم وال، يعني بذلك، حملوني على أمر ضيّق شديد. قال أوس:
وليس أخوك الدائم العهد بالّذي ** يذمّك إن ولّى ويرضيك مقبلا

ولكنّه النّائي إذا كنت آمنا ** وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا

وبلوغ الأجل هنا على الحقيقة، قال الشافعي: دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين.
وهذه الآية نهت أولياء المرأة على أن يعضلوها. أي يمنعوها حقّ الزواج إذا خطبها الكفء، وتراضت المرأة والخاطب به.
نزلت في معقل بن يسار. روى ابن جرير عن الحسن، عن معقل بن يسار أن أخته طلّقها زوجها، ثم أراد أن يراجعها، فمنعها معقل، فأنزل الله تعالى ذكره: {وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ}.
وفي هذه الآية دلالة على صحة قول من قال: لا نكاح إلا بولي، لأنه لو كان للمرأة أن تتزوج دون رضا وليها، ولم يكن للولي شأن لما كان معنى لنهي الأولياء عن أن يعضلوا النساء.
كان مقتضى الظاهر أن يقال: (ذلكم يوعظ به)، لأنه يخاطب الجماعة، وإنما قال: {ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ} لكثرة جري ذلك على ألسن العرب في منطقها وكلامها، حتى صارت الكاف بمنزلة حرف من حروف الكلمة. أي ما ذكرته من نهي الأولياء عن عضل النساء عظة مني لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر {ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} من أدناس الآثام. وقيل: {أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ}: أفضل وأطيب، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} ما في ذلك من الزكاة والطّهر {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.

.تفسير الآية رقم (233):

قال الله تعالى: {وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)}.
لما ذكر الله الطلاق، وبيّن أن به الفراق، ولما كانت المطلّقات قد يكون لهن أولاد رضّع، وربما ضاعوا بين كراهة الأزواج وعنت المطلقات، احتاط الله للأولاد فأوصى بهم الوالدات، فجعلهنّ يرضعنهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وجعل على الآباء كسوة الوالدات ونفقتهنّ مدّة الرضاع بالمعروف لا يكلف الآباء إلا وسعهم، ونهى أن تضارّ الوالدة الوالد بسبب ولدها، وهو أن تعنته به، وتطلب منه ما ليس من النفقة والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول بعد ما ألفها الصبيّ: اطلب له ظئرا، وما إلى ذلك.
ونهى أيضا أن يضارّ الوالد الوالدة بسبب ولده، وذلك أن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها، وأن يأخذه منها، وهي تريد إرضاعه، وأن يكرهها على الإرضاع.
واحتاط، فجعل أقرباء الصبي يقومون مقام الوالد عند فقد الوالد في العناية بشأن الصبي.
ثم بيّن أنّ الوالدين إن أرادا فطام الصبي قبل العامين عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما، بعد أن يكون ذلك نظرا لمصلحة الصبي. ثم أجاز أن يسترضعوا أولادهم المرضعات، ولما كانت حالة الفراق مع وجود الأولاد الرضّع حالة يكثر فيها النزاع والشقاق، أمر بتقوى الله، وأعلمهم أنّ الله بصير بما يعملون، فيجازيهم عليهم.
وهذا كله نظر من الله للصبيّ، لأنه عاجز عن تحصيل النفع لنفسه، ودفع الضرر عنها. وهذا من تمام لطف الله ورحمته، وقد اخترنا أن تكون الوالدات مرادا بهن المطلقات، لأن الله قال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} ولو كانت الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بالزوجية لا بالرضاع، وأيضا فهذه الآية ذكرت عقب آيات الطلاق، فهي من تتمتها.
وذكر بعضهم أن المراد بالوالدات كل والدة مطلّقة أو زوجة، وقد تعلّق بعموم اللفظ، وذهب الواحديّ إلى أن المراد بهنّ الزوجات، لأنّه جعل لهنّ رزقهنّ وكسوتهنّ، ولو كنّ مطلقات لكان لهن أجرة.
واختلف العلماء في قوله: {وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} أذلك حقّ لها أم حقّ عليها؟
والآية محتملة.
وذهب مالك إلى أنه حقّ عليها إذا كانت زوجة أو إذا لم يقبل الصبي ثدي غيرها، أو إذا عدم الأب، واستثنوا من ذلك الشريفة، فلم يجعلوه حقا عليها، فكأنهنّ فهموا من الوالدات كلّ والدة زوجة أو غيرها، وجعلوه حقا عليها، واستثنوا من ذلك الشريفة بالعرف.
وذهب كثير إلى أن ذلك مندوب، إلا عند الضرورة، إلا أن يقبل غيرها، بدليل قوله تعالى في آية أخرى: {وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى} [الطلاق: 6] وإنما ندب ذلك، لأن لبن الأم أصلح للطفل، وشفقة الأم عليه أكثر.
والحول: من حال الشيء يحول: إذا انقلب، فالحول من الوقت الأول إلى الثاني، وإنّما قال الله: {حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ} لئلا يتوهّم أنّه أراد حولا وبعض الثاني، فقد يقولون يومين، وهم يريدون ذلك توسّعا والمقصود من تحديد مدّة الرضاع بحولين كاملين ليس وجوب ذلك، لأنه قال: {فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما} وإنّما المقصود بيان المدة التي يرجعان إليها عند الاختلاف.
وقد أخذ الشافعيّ وأحمد من ذلك أن مدّة الرضاع التي يحرّم الرضاع فيها هي حولان. فالرضاع ما لم يقع فيهما لا يحرّم.
وذهب أبو حنيفة إلى أن مدة الرضاع ثلاثون شهرا، وقال زفر: ثلاث سنين، وذهب المالكية إلى أن ذلك كله تحكّم، وأن الصحيح أن ما قرب من زمن الفطام عرفا لحق به، وما بعد عنه خرج عنه، من غير تقدير. فلم يعتبروا هم ولا الحنفية أنّ الآية جاءت لتحديد مدة الرضاع المحرّم.
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي على قدر حال الأب من السّعة والضيق، كما قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] وأخذ من ذلك وجوب نفقة الولد على الوالد، لأنّ الله أوجب نفقة المطلّقة على الوالد في زمن الرضاع لأجل الولد، وإنما وجبت لضعف الولد واحتياجه، والوالد أقرب الناس إليه.
{لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} يحتمل أن يكون كلا الفعلين مبنيا للفاعل، ومبنيا للمفعول، والمعنى قريب بعضه من بعض {وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} المراد بالوارث وارث الأب، وعليه مثل ذلك من رزقهن وكسوتهن وترك الضرار، وفي ذلك دليل على أنّ أقارب الصبي تجب عليهم نفقته عند عدم الوالد، وهو أصل في وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، وهو مذهب أبي حنيفة.
أما مالك والشافعيّ، فيريان أنّ نفقة الولد على أبيه، فإن مات، ففي مال الصبي إن كان له مال، وإلا فعلى الأم، وليسا يوجبان نفقة إلا على الوالدين، والآية ترد عليهما. إلا أن يحمل {وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} على ترك الإضرار فقط، أو يريدان من الوارث الولد نفسه، وقد ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين {فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما}.
الفصل: الفطام، وسمي بذلك لأن الولد ينفصل عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات.
التّشاور: استجماع الرأي، وقد أجاز الله أن يفطم الصبيّ قبل الحولين إن اتفقا على ذلك، وشاورا أهل المعرفة فيه، ولم يكن في ذلك ضرر بالصبي {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ}.
استرضع: قال الزمخشري: فعل، من أرضع. يقال أرضعت المرأة الصبيّ واسترضعتها الصبيّ. فتعديه إلى مفعولين كما تقول: أنجح الحاجة. واستنجحه الحاجة.
والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم، حذف أحد المفعولين، للاستغناء عنه؛ كما نقول: استنجحت الحاجة، ولا تذكر من استنجحته، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأول. وقد أجاز الله أن يسترضع الآباء المراضع أولادهم.
وهذا عند أبي حنيفة لخوف الضيعة على الولد عند الأم، والتقصير أو الإضرار بالوالد في اشتغال الأم عن حقه بولدها، أو الإضرار بالولد في الغيل ونحوه. فإن اختلفوا- نظر للصبيّ: فإن أوجب أن يسترضع له استرضع.
وقوله: {إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أي ما أردتم إيتاءه، وليس هذا شرطا لجواز الاسترضاع، وإنما هو ندب إلى الأولى، لتكون المرضع طيبة النفس راضية، فيعود ذلك على الصبي بالنفع. وبقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} متعلق بسلمتم: أمروا بأن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشري الوجوه، ناطقين بالقول الجميل، حتى يؤمن تفريطهنّ.