فصل: تفسير الآية رقم (130):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (130):

قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)}.
المراد من أكل الربا أخذه، وعبّر به لما أنّه معظم ما يقصد به، ولشيوعه في المأكولات، والأضعاف جمع ضعف، وضعف الشيء مثله معه، وضعفاه مثلاه معه. فإذا قيل: ضعف العشرة لزم أن تجعلها عشرين، لأنّ العشرين أول مراتب تضعيفها. ولو قال: له عندي ضعف درهم لزمه درهمان، وله عندي ضعفا درهم لزمه ثلاثة دراهم.
كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل، فإذا حل الأجل، ولم يكن المدين واجدا لذلك المال، قال: زد في المال وأزيدك في الأجل، فربما جعله مائتين، ثم إذا حل الأجل الثاني، فعل مثل ذلك، إلى آجال كثيرة، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها. فهذا هو المراد من قوله تعالى: {أَضْعافاً مُضاعَفَةً} وليست هذه الحال لتقييد المنهيّ عنه: حتى يكون أصل الربا غير منهي عنه، بل لمراعاة الواقع، وللتشنيع عليهم، بأن في هذه المعاملة ظلما صارخا، وعدوانا مبينا، واحتجّ بهذا نفاة مفهوم المخالفة، القائلون بأن المخصوص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه.
وأجيب بأنّ من شرط مفهوم المخالفة ألا يكون للمذكور فائدة غير التخصيص بالحكم، ومتى ظهرت له فائدة سوى التخصيص بالحكم بطل وجه دلالته عليه، والوصف بالتضعيف قد ذكر هنا لبيان الواقع كما تقدم، فظهرت له فائدة غير التخصيص بالحكم، فانتفى شرط العمل بمفهوم المخالفة هنا لذلك.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} فيما نهيتم عنه، ومن جملته أكل الربا {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لكي تفلحوا، أو راجين الفلاح، فمن أكل الربا ولم يتق الله لا يرجى فلاحه، وهذا تنصيص على أن الربا من الكبائر لا من الصغائر.
{وَاتَّقُوا النَّارَ} أي احذروها بالتحرّز عن أكل الربا المفضي إلى دخول النار، {الَّتِي أُعِدَّتْ} هيئت {لِلْكافِرِينَ} النار مخلوقة للكافرين معدّة لهم أولا وبالذات وغيرهم من عصاة المؤمنين يدخلها على وجه التبع، وفي ذلك إشارة إلى أن أكلة الربا على شفا حفرة الكافرين. روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كان يقول: إن هذه الآية هي أخوف آية في القرآن، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه.
وتدل هذه الآية على أن النار مخلوقة الآن، لأنّ قوله تعالى: {أُعِدَّتْ} إخبار عن الماضي، فلابد أن يكون ذلك الشيء المعدّ قد دخل في الوجود.
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)} لمّا ذكر الوعيد ذكر الوعد بعده على ما هو العادة المستمرّة في القرآن الكريم.

.من سورة النساء:

.تفسير الآية رقم (1):

قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)}.
قوله جلّ شأنه: {وَبَثَّ مِنْهُما} معناه: نشر، وفرّق منهما على سبيل التناسل والتوالد. وقوله: {تَسائَلُونَ بِهِ} معناه: يسأل بعضكم بعضا به، مثل: أسألك بالله، وأنشدك الله، والمفاعلة على ظاهرها، أو بمعنى تسألون كثيرا. الرقيب: الحفيظ المطلع العالم.
يأمر الله المكلّفين جميعا بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، مما يتعلّق بحقوقه، وحقوق عباده، ويتناول ذلك بعمومه ما سيذكر في السورة بعد من صلة الأرحام، ورعاية حال الأيتام والعدل في النكاح والميراث، إلى غير ذلك.
ولقد أكّد الله الأمر بالتقوى بما يحمل المخاطبين على الامتثال، فذكر اسمه بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين، ووصف نفسه بأنه خالقهم، وأنّ مبدأ خلقهم نفس واحدة، وأنه خلق منها زوجها، ونشر من الزوجين رجالا كثيرا ونساء، كلّ ذلك بما يؤيد الأمر، ويؤكّد إيجاب الامتثال، فإنّ الاستعمال جار على أن الوصف الذي علّق به الحكم علة موجبة له، وداعية إليه، ولا شك أنّ ما ذكر يدلّ على القدرة القاهرة، والنعمة الجسيمة، والمنة العظيمة، والقدرة توجب التقوى حذرا من العقاب، والنعمة تدعو إليها طلبا للمزيد، ووفاء بالشكر الواجب.
وفي الامتنان بخلقنا من نفس واحدة ما يوجب الحرص على امتثال الأوامر الآتية، فإنه جلّ شأنه ذكر عقيب الأمر بالتقوى الأمر بالإحسان إلى اليتامى والنساء والضعفاء، وكون الناس بأسرهم مخلوقين من نفس واحدة له أثر في هذا المعنى بليغ، ذلك لأنّ الأقارب لابد أن يكون بينهم نوع مواصلة ومخالطة توجب مزيد المحبة، ألا ترى أن الإنسان يفرح بمدح أقاربه وأسلافه، ويحزن بذمهم والطعن فيهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إنما فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها، وينصبني ما أنصبها» وإذا كان الأمر كذلك فلا جرم إن كان ذكر هذا المعنى سببا في زيادة الشفقة والحنوّ على اليتامى والنساء وذوي الأرحام.
والمراد من النفس الواحدة آدم عليه السلام، والذي عليه الجماعة من الفقهاء والمحدثين أنه ليس سوى آدم واحد، وهو أبو البشر، والمراد من الزوج حوّاء، وقد خلقت من ضلع آدم عليه السلام، وأنكر أبو مسلم خلقها من الضلع، لأنه سبحانه وتعالى قادر على خلقها من التراب، فأي فائدة في خلقها من الضلع، وزعم أنّ معنى {مِنْها} من جنسها، على حد قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً} [الشورى: 11] وهو باطل، إذ لو كان الأمر كما قال. لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة، وهو خلاف النص.
وهو أيضا خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، روى الشيخان: «استوصوا بالنساء خيرا، فإنهنّ خلقن من ضلع، وإنّ أعوج شيء من الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنّساء خيرا».
وقدرة الله على خلق حواء من تراب لا تمنع عن خلقها من غيره. فقد خلق الناس بعضهم من بعض، مع القدرة على خلقهم كآدم من تراب، ولعلّ الفائدة في خلق حواء من ضلع آدم- سوى الحكمة التي خفيت علينا- إظهار أنه سبحانه قادر على أن يخلق حيا من حي، لا على سبيل التوالد، كما أنه قادر على أن يخلق حيا من جماد كذلك، والله أعلم.
ثم أكد الله الأمر بالتقوى، وكرّره بقوله جل شأنه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ} وفي تعليق الحكم بما في حيز الصلة إشارة إلى نوع آخر من موجبات الامتثال، فإنّ قول الرجل لصاحبه أسألك بالله على سبيل الاستعطاف يقتضي الاتقاء والحذر من مخالفة أوامره ونواهيه.
قرأ غير حمزة من السبعة {وَالْأَرْحامَ} بالنصب، والمعنى على هذه القراءة، واتقوا الله تعالى واتقوا الأرحام وصلوها ولا تقطعوها، فإن قطعها مما يجب أن يتّقى.
وقرأ حمزة {وَالْأَرْحامَ} بالجر، وخرّجت في المشهور على العطف على الضمير المجرور، والعطف على الضمير المجرور دون إعادة الجارّ أجازه جماعة من النحاة وأنشد سيبويه في ذلك:
فاليوم قد بتّ تهجونا وتشتمنا ** فاذهب فما بك والأيام من عجب

{إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} في موضع التعليل للأمر ووجوب الامتثال يؤخذ من هذه الآية جواز المسألة بالله تعالى، وقد روى الليث عن مجاهد عن ابن عمر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سأل بالله فأعطوه وإن شئتم فدعوه».
ويؤخذ منها أيضا تعظيم حقّ الرّحم، وتأكيد النهي عن قطعها، إذ قرن الله الأرحام باسمه سبحانه، وقال في موضع آخر: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22)} [محمد: 22] فقرن قطع الرحم إلى الفساد في الأرض، وأخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله تعالى خلق الخلق حتّى إذا فرغ منهم، قامت الرّحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أنّ أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك».
وتدل الآية أيضا على تقدير التساؤل بالأرحام، لاسيما على قراءة حمزة.
واعترض على ذلك ابن عطية، وزعم أن الحديث الصحيح يردّه، فقد أخرج الشيخان عنه صلّى الله عليه وسلّم: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت».
وأنت تعلم أنّ قول الرجل لصاحبه: أسألك بالرحم أن تفعل كذا، ليس الغرض منه سوى الاستعطاف والتأكيد، فهو إذا ليس بيمين، فلا يكون من متعلّق النهي الذي تضمّنه الأمر «فليحلف بالله» في شيء.

.تفسير الآية رقم (2):

قال الله تعالى: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)}.
هذا شروع في تفصيل ما تجب تقوى الله فيه، والخطاب للأوصياء، ما دام المال بأيديهم، واليتامى في حجورهم، واليتيم من الإنسان من مات أبوه، من اليتم وهو الانفراد، والاشتقاق يقتضي صحة إطلاقه على الصغار والكبار، لكنّ الشرع والعرف خصصاه بالصغار، روى علي كرم الله وجهه وجابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يتم بعد احتلام».
لا خلاف بين أهل العلم في أنّ اليتيم لا يعطى ماله قبل البلوغ، لكنّ ظاهر قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ} يوجب إعطاءهم أموالهم قبل البلوغ، فكان ذلك مشكلا، وللعلماء فيه محملان:
الأول: أن يجعل إيتاء الأموال مجازا عن تركها سالمة من غير أن يتعرّض لها بسوء، فالإيتاء مستعمل في لازم معناه، وتبقى كلمة {الْيَتامى} على حقيقتها، كما هو المتبادر منها شرعا وعرفا.
والمحمل الثاني: أن يكون الإيتاء مستعملا في حقيقته بمعنى الإعطاء بالفعل، وتكون كلمة {الْيَتامى} مجازا باعتبار ما كان، وأوثر التعبير عن الكبار باليتامى لقرب العهد بالصّغر، وللإشارة إلى وجوب المسارعة والمبادرة بدفع أموالهم إليهم، حتى كأنّ اسم اليتم باق غير زائل، وهذا المعنى يسمى في الأصول بإشارة النص.
ولكل من المحملين ما يؤيده:
فحجة الأول: قوله تعالى بعد آيات {وَابْتَلُوا الْيَتامى} إلخ فإنه كالدليل على الآية الأولى في الحث على حفظ أموال اليتامى، لتدفع إليهم عند بلوغهم ورشدهم، وأنّ الآية الثانية في الحث على الدفع الحقيقي عند حصول البلوغ والرشد، ولو كان الإيتاء في الآية الأولى باقيا على حقيقته لكان مؤدى الآيتين كالشيء الواحد.
وحجة المحمل الثاني: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه، فخاصمه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. فنزلت {وَآتُوا الْيَتامى} إلخ فإن ذلك يدلّ على أن المراد بالإيتاء الإعطاء بالفعل، ولاسيما أنه قد روى الثعلبي والواحدي عن مقاتل والكلبي أن العمّ لما سمعها قال: أطعنا الله ورسوله، نعوذ بالله من الحوب الكبير.
{وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} تبدّل الشيء بالشيء، واستبدله، إذا أخذ الأوّل بدل الثاني، بعد أن كان حاصلا له، أو على شرف الحصول، ويتعدّيان أبدا إلى الزائل بالباء، وإلى بدله بأنفسهما كما هنا، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ} [البقرة: 108] وقوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61].
وأما التبديل أو الإبدال فهو التغيير مطلقا، وقد يتعدّى إلى مفعول واحد، {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ} [البقرة: 181] وإلى مفعولين بنفسه: {فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ} [الفرقان: 70] {فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ} [الكهف: 81] وإلى أحد المفعولين بنفسه والثاني بالباء سواء في ذلك الزائل وبدله، {وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 16].
وقال طفيل الغنوي لما أسلم:
وبدل طالعي نحسي بسعدي

والمراد بالخبيث والطيب: الحرام والحلال، أي لا تتركوا مالكم الحلال، وتأكلوا الحرام من أموالهم، أو لا تتركوا العمل الحلال، وهو حفظ أموالهم، وتركبوا الحرام، وهو أكل أموالهم، والعمل على اختزالها، وأيا ما كان الأمر فالتعبير عن الحرام والحلال بالخبيث والطيب للتنفير من أكل أموال اليتامى، والترغيب في حفظها وإنمائها.
وقد قال بعض المفسرين: المراد بالخبيث والطيب الرديء والجيّد، وإلى ذلك ذهب النخعي، والزهري، وابن المسيب، والسدي: فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل مكانها الشاة المهزولة ويقول: شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجيد، ويضع مكانه الزائف، ويقول: درهم بدرهم. وتخصيص هذه المعاملة بالنهي لخروجها مخرج العادة، لا لإباحة ما عداها، فلا مفهوم لعدم توفّر شرطه عند القائل به.
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ} والمراد من الأكل مطلق الانتفاع، وعبّر عنه بالأكل لأنه أغلب أحواله.
والمعنى: ولا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم، أي لا تسوّوا بينهما، وتنفقوهما معا، وهذا حلال وذاك حرام، وورد النهي على هذا الأسلوب يدل على تقبيح فعلهم، والتشنيع عليهم، حيث كانوا يأكلون أموال اليتامى مع الغنى عنها.
وإذا لا يلزم القائل بمفهوم المخالفة جواز أكل أموالهم وحدها، وظاهر النهي عدم جواز أكل شيء من أموال اليتامى، وقد خص من ذلك مقدار أجر المثل إذا كان الوصيّ فقيرا، لقوله تعالى: {وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] وسيأتي الكلام فيه.
والضمير في قوله تعالى: {إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً} للأكل المفهوم من قوله جل شأنه: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ}، وقيل: للتبدل، وقيل: لهما، ويكون حينئذ منزّلا منزلة اسم الإشارة، والحوب: الإثم، وفي تنوينه ووصفه بأنه كبير تهويل لأمره المنهيّ عنه، والتنصيص على أنه من كبائر الذنوب العظيمة.
واحتجّ الجصاص بقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ} على وجوب دفع المال إلى اليتيم إذا بلغ خمسا وعشرين سنة، قال: لم يشترط في هذه الآية إيناس الرشد في دفع المال إليهم، وظاهره يقتضي وجوب دفعه إليهم بعد البلوغ، سواء آنسنا منهم الرشد، أو لم نأنس، إلا أنه قد شرطه في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ} [النساء: 6] فكان ذلك مستعملا عند أبي حنيفة ما بين بلوغ الحلم وبين خمس وعشرين سنة، فإذا بلغها، ولم يأنس منه رشد، وجب دفع المال إليه، لقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ} فيستعمله بعد خمس وعشرين سنة على مقتضاه وظاهره، وفيما قبل ذلك لا يدفعه إلا مع إيناس الرشد، لاتّفاق أهل العلم على أنّ إيناس الرشد قبل بلوغ هذه السن شرط وجوب دفع المال إليه، يعني ولا إجماع على هذا الشرط بعد بلوغ هذه السن، ثم قال: وهذا وجه سائغ من قبل أنّ فيه استعمال كلّ واحدة من الآيتين على فائدتها، ومقتضى ظاهرها، ولو اعتبرنا إيناس الرشد على سائر الأحوال لكان فيه إسقاط حكم الآية الأخرى رأسا، ومعلوم أنّه متى أمكننا استعمال الآيتين على فائدتهما لم يجز الاقتصار بهما على إحداهما وإسقاط فائدة الأخرى.
وأنت تعلم أنّ هذا الاستدلال متوقف على أنّ المراد بالإيتاء الإعطاء والدفع بالفعل، وأنّ المراد باليتامى اليتامى باعتبار ما كان، وهو أحد احتمالين في الآية على ما سبق، ونحن نقول: لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية الاحتمال الثاني، وهو أنّ الإيتاء مستعمل في الحفظ والصيانة، واليتامى باق على حقيقته، وحينئذ يكون في هذا التأويل إعمال كلّ من الآيتين على فائدتها، ولو سلمنا قصر الآية على الاحتمال الأول، فالتعارض بينها وبين قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتامى} إلخ وقوله جل شأنه: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ} تعارض الخاصّ مع العام، لأنّ الآية الأولى توجب دفع المال إلى اليتامى كلهم، والآيتان بعدها تحرّمان دفع المال إليهم إذا كانوا سفهاء، ولا شكّ أنّ الخاص مقدّم على العامّ، وسيأتي الكلام في وجه اختيار هذه السن عند قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ} [النساء: 6].