فصل: تفسير الآية رقم (10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (10):

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)}.
يقال: صلي النار كرضي يصلاها، إذا قاسى حرّها، سواء بالقرب منها أو بالدخول فيها، والمراد هنا سيدخلون سعيرا.
والسعير: فعيل، بمعنى مفعول، من سعّرت النار إذا أوقدتها وألهبتها.
والآية مسوقة لتأكيد الأوامر والنواهي فيما سبق وتقريرها. وفي تقييد الأكل بحالة الظّلم دلالة على أن مال اليتيم قد يؤكل على وجه الاستحقاق، كالأجرة والقرض مثلا، فلا يكون ذلك ظلما، ولا الآكل ظالما.
وذكر البطون مع أن الأكل لا يكون إلا فيها؛ إما لأنه قد شاع في استعمالهم أن يقولوا: أكل فلان في بطنه، يريدون ملء بطنه، فكأنه قيل: إنما يأكلون ملء بطونهم نارا، حتى يبشموا بها.
وإما للتأكيد والمبالغة كما في قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167] والقول لا يكون إلا بالفم، وقوله: {وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] والقلوب لا تكون إلا في الصدور، وقوله: {وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ} [الأنعام: 38] والطير لا يطير إلا بجناحين، فقد قالوا: إنّ الغرض من ذلك كله التأكيد والمبالغة، وفيه على كل حال تبشيع لأكل مال اليتيم في حالة الظلم، وتنفير منه.
اختلف المفسرون في كلمة ناراً أهي باقية على معناها، أم مجاز بمعنى ما يفضي إلى النار؟ ذهب إلى الأول عبيد الله بن أبي جعفر، فقد روي عنه أنه قال: من أكل مال اليتيم، فإنه يؤخذ بمشفره يوم القيامة فيملأ فمه جمرا، ويقال له: كل ما أكلته في الدنيا، ثم يدخل السّعير الكبرى.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: حدّثني النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ليلة أسري به، قال: «نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل، وقد وكّل بهم من يأخذ بمشافرهم، ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار، فيقذف في أفواههم حتّى يخرج من أسافلهم، ولهم خوار وصراخ، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما».
والجمهور من المفسرين على أنّ كلمة ناراً مجاز مرسل من ذكر المسبب وإرادة السبب، وحجتهم في ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً} الإشارة فيه إلى أكل واحد، فكان حمله على التوسع أولى.
وظاهر الآية أنّ هذا الحكم عامّ لكل من يأكل مال اليتيم، سواء كان مؤمنا أم كافرا، لكنّ ابن جرير أخرج عن زيد بن أسلم أنه قال: هذه الآية لأهل الشرك حين كانوا لا يوّرثون اليتامى، ويأكلون أموالهم، ولا يخفى أنّه إن أراد أنّ حكم الآية خاصّ بأهل الشرك فهو غير مسلم، وإن أراد أنها نزلت فيهم فلا بأس، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وفي بعض الأخبار أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس واحترزوا من مخالطة اليتامى حتى شقّ ذلك على اليتامى أنفسهم، فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ} [البقرة: 220].
وزعم بعض الجهال أن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى} إلخ منسوخ بقوله تعالى: {وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ} وهو قول باطل، لأنّ الآية التي معنا في النهي عن الظلم، وهذا لا يصير منسوخا بحال، بل المقصود أنّ مخالطة اليتامى، إن كانت على سبيل الظلم فهو من أعظم أبواب الإثم، كما في الآية التي معنا، وإن كانت على سبيل التربية والإحسان فهو من أعظم أبواب البرّ كما في قوله تعالى: {وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ}.
خاتمة:
علم الله أنّ اليتامى قد فقدوا بموت آبائهم من يعولهم، ويقوم بكفالتهم، وأنهم لصغرهم عاجزين عن القيام بمصالحهم، فكان من رحمته جلّ شأنه بهم، وكمال عنايته بأمرهم: أن أنزل فيهم تسع آيات تتلى متتابعات من أول سورة النساء إلى آخر الآية السابقة، قرّر فيها جميعا الأمر بحفظ مال اليتيم ورعايته، وأكّد فيها النهي عن أكل ماله، وتضييع حقه، كما أنه أنزل فيهم آيات متفرقات، كلها تدل على العناية بهم، وتحث على حفظ مالهم، وحسن القيام بشؤونهم: فمنها قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] وقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ} [النساء: 127] وقوله جلّ شأنه: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)} [الضحى: 9] وقوله سبحانه: {فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] وكذلك ورد التنويه بشأن من أحسن في كفالتهم بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا وكافل اليتيم كهاتين، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى».
فما أدلّ هذا على سعة رحمة الله بالضعفاء وعظيم فضله عليهم!
آيات المواريث:

.تفسير الآية رقم (11):

قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)}.
قد ذكرنا لك فيما تقدم بعض الروايات في أسباب نزول آيات المواريث، ونذكر لك رواية أخرى فنقول:
أخرج ابن جرير في سبب نزول آيات المواريث عن السدي: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} أنه قال: كان أهل الجاهلية لا يورّثون الجواري ولا الصغار من الغلمان، لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال، فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر، وترك امرأة يقال لها: أم كجّة، وترك خمس أخوات، فجاءت الورثة يأخذون ماله، فشكت أم كجّة ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية: {فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} ثم قال في أم كجّة: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ}.
من ذلك يعلم الباحث أنّ الشريعة الإسلامية جاءت والعرب تظلم النساء، ولا تعطيهن من ميراث أزواجهن وآبائهن شيئا، بدعوى أنهنّ لا يقاتلن العدوّ، ولا يحزن الغنيمة، فقرّرت الشريعة بهذه الآية لهن حقا في الميراث، وكبر ذلك على العرب، فكانوا يودّون أن ينسخ ذلك الحكم، أو ينسى، لما أنه كان يخالف ما ألفوه، فقد روى ابن جرير عن ابن عباس قال: إنه لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد، الذكر والأنثى والأبوين، كرهها الناس أو بعضهم، وقالوا: تعطى المرأة الربع والثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم، ولا يجوز الغنيمة، اسكتوا عن هذا الحديث لعلّ رسول الله ينساه، أو نقول له فيغيره، فقال بعضهم: يا رسول الله أنعطي الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفرس، ولا تقاتل القوم، ونعطي الصبيّ الميراث، وليس يغني شيئا؟ وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية لا يعطون الميراث إلا من قاتل، ويعطونه الأكبر فالأكبر.
هذا شأن الإسلام مع المرأة أخذ بضبعيها، وأناف بها على اليفاع. ورّثها بعد أن لم تكن ترث، وجعل لها نصيبا مفروضا على كره من الرجال، ولكن نبتت نابتة في هذا الزمان يقولون: إن الإسلام بخس المرأة حقها في الميراث، وجعلها على النصف من حظ الرجل، ويريدون تسوية المرأة بالرجل في الميراث.
ومن نظر وجد أنّ الشريعة عاملت المرأة بالرأفة، فهي حين أعطتها نصف حظ الرجل جعلت نفقتها ونفقة خدمها وأولادها على الرجل، وحين أعطت الرجل ضعف المرأة كلّفت الرجل بالنفقة على زوجته وأولادها، فنصيب الرجل يشركه فيه الكثير، ونصيبها لها خاصة، فأيّ برّ بالمرأة أعظم من هذا البر، وأيّ رفق بها أكثر من هذا الرفق، هذا إلى ما منحتها إياه من حق الميراث، وقد كانت محرومة هذا الحق.

.ميراث الأولاد:

يقول الله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} أي يعهد إليكم في ميراث أولادكم، وهذا إجمال بيانه ما بعده: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} إلخ أي إذا مات الميت، وترك أولادا ذكورا وإناثا، فللذكر مثل حظ الأنثيين، فيكون حظّ الذّكر ضعف حظّ المرأة {فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} أي وإن كان المتروكات نساء فوق اثنتين {فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ} يقول الله: فإن ترك النساء ليس معهن ذكور، فإن كن ثلاثا فأكثر فلهن الثلثان، وإن كانت واحدة، أي وإن كانت المتروكة واحدة فلها النصف.
وقد ذكر الله حكم البنت إذا لم يكن معها أخ ذكر، وحكم البنات إذا انفردن أيضا، ولم يذكر الله حكم البنتين إذا انفردتا عن أخ ذكر، وقد اختلف العلماء في حكمهما، فألحقهما ابن عباس بالبنت الواحدة، وأعطاهما النصف، ووجهه أنّ الله تعالى قال: {فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ} فجعل الثلثين للنساء إذا كن فوق اثنتين، فلا نعطيهما إذا كانتا اثنتين.
وقال الجمهور: البنتان لاحقتان بالبنات، فلهما الثلثان كما لهن الثلثان، وهذا أولى لأمور:
أولها: قياس البنتين على الأختين، وقد قال الله فيهما: {فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ}، والبنات أقرب للميت من الأختين، فإذا كان للأختين الثلثان فأولى أن يكونا للبنتين.
ثانيهما: أن البنت تأخذ مع أخيها الثلث، فأولى أن تأخذه مع أختها، ويكون لهما الثلثان.
ثالثها: أنه روي عن ابن مسعود في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قضى في بنت وبنت ابن وأخت: بالسدس لبنت الابن، والنصف للبنت تكملة الثلثين، فجعل لبنت الابن مع البنت الثلثين، فبالأحرى يكون للبنتين الثلثان.
وقد يجوز أن يكون معنى قوله: {فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} فإن كنّ نساء اثنتين فما فوق، كقوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ} [الأنفال: 12] أي اضربوا الأعناق فما فوقها.
وقد تحصّل أنّ الله ذكر للأولاد في الميراث ثلاث أحوال:
1- أن يترك الميت أولادا ذكورا وإناثا، فهم يرثون المال، للذكر ضعف الأنثى.
2- أن يترك الميت بنتين فما فوق، وليس معهما أخ ذكر، فلهما أو لهن الثلثان.
3- أن يترك الميت بنتا واحدة، وليس معها أخ ذكر، فلها النصف.
وقد ذكرت السنّة حالة أخرى، وهي: أن يترك الميت بنتا، وبنت ابن، فللبنت النصف، ولبنت الابن السدس.
وقال العلماء: إن أولاد الابن وأولادهم يقومون مقام الأولاد إذا عدموا، وإنّ الطبقة العليا تحجب الطبقة السفلى، فإن كان الولد الأعلى ذكرا سقط الأسفل، وإن كان الولد الأعلى أنثى أخذت الأنثى حقها، وبقي الباقي لولد الولد، إن كان ذكرا، وإن كان ولد الولد أنثى أعطيت العليا النصف، وأعطيت السفلى السدس، تكملة الثلثين، لأنا نقدرهما بنتين متفاوتتين في الرتبة، فاشتركتا في الثلثين بحكم البنتية، وتفاوتتا في القسمة بتفاوت الدرجة، وبهذه الحكمة جاءت السنة.
وإن كان الولد الأعلى بنتين أخذتا الثلثين، فإن كان الولد الأسفل أنثى لم يكن لها شيء إلا أن يكون بإزائها أو أسفل منها ذكر، فإنّها تأخذ معه ما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين.