فصل: تفسير الآية رقم (22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (22):

.ما يحرم من النساء:

قال الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا (22)}.
كانوا في الجاهلية يخلفون آباءهم على نسائهم، فنهاهم الله عن ذلك، وعفا لهم عما قد سلف قبل التحريم، فلا يؤاخذهم، ووصفه بأنه فاحشة، لأن امرأة الأب تشبه الأم، وبأنه مقت، والمقت بغض مقرون باستحقار، ووصف به العقد لأنّه سبب إلى المقت، وكانت العرب تسمي هذا النكاح المقت، وتسمي ولد الرجل من امرأة أبيه مقيتا.
وقال: {وَساءَ سَبِيلًا} وهو معطوف على الخبر، بتقدير مقولا فيه، لأنه إنشاء.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرّمون ما يحرم إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فأنزل الله: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ}، {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ}.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ} استثناء منقطع، والمعنى: لكن ما قد سلف فلا تثريب عليكم فيه، كقوله: لا تلق فلانا إلا ما لقيت، أو هو استثناء متصل مما يستلزمه النهي، ويستوجبه مباشرة المنهي عنه، كأنه قيل: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء، فإنه معاقب عليه إلا ما قد سلف.
وقيل: إن {إِلَّا} هنا بمعنى (بعد) كقوله: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى} [الدخان: 56] أي بعد الموتة الأولى.
و{كانَ} هنا قيل: إنها زائدة، وقيل: ليست زائدة ولكنها منسلخة عن خصوص الماضي، كقوله: {وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء: 96].
وقد علمت مما تقدّم أن ما هنا عبارة عن النساء، فقد وقعت على العاقل، وقيل: إنها مصدرية، والمعنى: ولا تنكحوا نكاحا مثل ما نكح آباؤكم من أنكحة الجاهلية الفاسدة.
وقد اختلف العلماء فيمن زنى بها الأب أتحرم على ولده كما حرمت عليه زوجته، أم لا تحرم، فيكون الوطء الحرام غير ناشر للحرمة كالوطء الحلال، وكذلك اختلفوا في الزنى بأم الزوجة أو بنتها: أيحرّم الزوجية أم لا يحرمها، وإلى الأول ذهب أبو حنيفة والصاحبان والثوري والأوزاعي وقتادة والحسن، وإلى الثاني ذهب الشافعي والليث والزهري وربيعة.
واختلفت الرواية عن مالك، ففي الموطأ عنه مثل قول الشافعي، وروى عنه ابن القاسم مثل أبي حنيفة، وقال سحنون: أصحاب مالك يخالفون ابن القاسم فيها ويذهبون إلى ما في الموطأ.
وسبب الخلاف الاشتراك في اسم النكاح، فهو يطلق على الوطء، وعلى العقد، فمن قال: إنّ المراد به في الآية الوطء حرّم من وطئت ولو بزنى، ومن قال: المراد به العقد لم يحرّم بالزنى.
ونحن سنشرح المسألة بعض الشرح فنقول: نقل الجصاص عن أبي عمر غلام ثعلب قال: الذي حصّلناه عن ثعلب عن الكوفيين والمبرّد عن البصريين أنّ النكاح في أصل اللغة هو اسم للجمع بين الشيئين، تقول العرب: أنكحنا الفرا فسنرى، هو مثل ضربوه للأمر، يتشاورون فيه، ويجتمعون عليه، ثم ينظر عماذا يصدرون فيه، معناه جمعنا بين الحمار وأتانه، وسمّى الوطء نكاحا، لأنّه جمع بين الرجل والمرأة، وأطلق على العقد نكاح، لأنّه سبب له.
وليس يختلف أنه قد أطلق في القرآن ولسان العرب على الوطء مرة، وعلى العقد أخرى، فمن إطلاقه على الوطء، قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] إذ لو كان العقد للزم الكذب.
وقوله: {وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ} [النساء: 6].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ناكح اليد ملعون».
وقول الأعشى:
ومنكوحة غير ممهورة ** وأخرى يقال له فادها

يقصد المسبية الموطوءة بغير مهر ولا عقد.
وقول الآخر:
ومن أيّم قد أنكحتها رماحنا ** وأخرى على عمّ وخال تلهّف

ومن إطلاقه على العقد قوله تعالى: {إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] وقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ} [النور: 32] وقوله: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ} [النساء: 3].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «النكاح من سنّتي».
أي العقد، وقوله: «أنا من نكاح ولست من سفاح».
وإنما الخلاف فيما هو الراجح، أهو الوطء أم العقد؟
أن يكون المراد بالنكاح في الآية الوطء، قالوا: لأنه فيه حقيقة، وفي العقد مجاز، والحمل على الحقيقة أولى، حتى يقوم الدليل على الحمل على المجاز، وإذا كان المراد به الوطء فلا فرق بين الوطء الحلال والوطء الحرام.
قالوا: ويدلّ عليه من جهة النظر أنّ الوطء آكد في إيجاب التحريم من العقد، لأنّا لم نجد وطأ مباحا إلا وهو موجب للتحريم، كالوطء بملك اليمين، ونكاح الشبهة، وقد وجدنا عقدا صحيحا لا يوجب التحريم، وهو العقد على الأم لا يوجب تحريم البنت، ولو وطئها حرمت، فعلمنا أنّ وجود الوطء، لأنّ التحريم لم يخرجه من أن يكون وطأ صحيحا.
وللشافعية أن يقولوا النكاح، وإن كان مجازا في العقد: ولكنه اشتهر فيه حتى صار حقيقة، كالعقيقة، كانت اسما لشعر المولود، ثم أطلقت على الشاة التي تذبح عند حلقه مجازا، واشتهر ذلك، حتى صارت حقيقة فيها، تفهم منها عند الإطلاق.
وقد عبّر الله بجانب هذه المحرمات بما يفيد الزوجية كقوله: {وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ}.
ويدلّ لهم من جهة النظر أنّ الله جعلها محرما بالمصاهرة تكريما لها، كما جعلها محرما من النسب تكريما للنسب، فكيف يجعل هذه الحرم للزنى وهو فاحشة ومقت، وإنما جعل زوجة الأب محرما، وكذلك زوجة الابن وأم الزوجة وبنتها لشدة الاختلاط بين الأصهار، فجعلن محارم، لتنقطع طماعية المرء منهن، فيقل الفساد، لأنّ الطمع داعية الفساد، وبذلك تسهل الخلطة على الأصهار، ويأمنون مغبتها، وهذا المعنى ليس موجودا في الزنى، وهذا الذي ذكرناه يفهم من كلام الشافعي في الأم فقد قال: فإن زنى بامرأة أبيه وابنه أو أم امرأته فقد عصى الله، ولا تحرم عليه امرأته، ولا على أبيه، ولا على ابنه امرأته، لو زنى بواحدة منهما، لأن الله عزّ وجلّ إنما حرّم بحرمة الحلال تعزيزا لحلاله، وزيادة في نعمته بما أباح منه، بأن أثبت به الحرمة التي لم تكن قبله، وأوجب بها الحقوق، والحرام خلاف الحلال.
والظاهر ما ذهب إليه الشافعية والقول الراجح عند المالكية عن عدم التحريم بالزنى للعلة التي ذكرت، ويكون مقيسا على النسب، فكما أن النسب لا يثبت بالزنى، كذلك التحريم لا يثبت بالزنى.

.تفسير الآية رقم (23):

قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)}
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ} أي حرّم نكاحهن، وحذف لدلالة الكلام عليه، كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها، ومن تحريم الميتة تحريم أكلها، ولأنّ قوله: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ} يدل عليه.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: يحرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع، ثم قرأ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ} إلى قوله: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}.
وأخرج أيضا عنه قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع، ثم قرأ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ حتى بلغ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ} قال: والسابعة: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ}.

.السبع اللاتي حرّمن من النسب:

1- الأم: وهي كل امرأة لها عليك ولادة، ويرتفع نسبك إليها بالبنوة، سواء أكانت منك على عمود الأب أو على عمود الأم، فتحرم عليك أمك وجداتك وإن علون من جهة الأب، أو من جهة الأم.
2- البنت: وهي كل امرأة لك عليها ولادة سواء أكانت بنتا مباشرة أو بواسطة، فتشمل البنات، وبنات الأولاد وإن سفلن.
3- الأخت: وهي كل امرأة شاركتك في أصليك أبيك وأمك، أو في أحدهما، ولا تحرم أخت أختك إذا لم تكن أختا لك، كأن تكون لك أخت من أبيك لها أخت لأمها من رجل آخر.
4- العمة: كل امرأة شاركت أباك ما علا في أصليه أو في أحدهما.
5- الخالة: كل امرأة شاركت أمك مهما علت في أصليها أو في أحدهما.
6- بنت الأخ: كل امرأة لأخيك عليها ولادة.
7- بنت الأخت: كل امرأة لأختك عليها ولادة.
فإن قيل: تحريم الجدّات وبنات الأولاد، هل أخذ من الآية أم من دليل آخر؟ قلنا: إن الأم إذا كانت حقيقة في الأم المباشرة مجازا في الأم غير المباشرة فتحريم الأم من الآية، والجدات من الإجماع.
وقال بعضهم: إنّ إطلاق الأم على الأم المباشرة والجدة من باب المشترك المعنوي، وعلى ذلك يكون تحريم الجدات من الآية، وكذا القول فيما ماثله.
وقد اختلف في البنت من الزنى أهي داخلة في قوله: {وَبَناتُكُمْ} فتكون حراما، ولها حرمة البنت الشرعية، أم ليست داخلة، فلا تكون حراما، وليس لها حرمة البنت الشرعية؟
بالأول قال أبو حنيفة، وبالثاني قال الشافعي.
ولعل أبا حنيفة نظر إلى الحقيقة، وأنها مختلقة من مائه، وبضعة منه فحرمها عليه.
أما الشافعي فنظر إلى أن الشارع لم يعطها حكم البنتية، فلم يورّثها منه، ولم يبح الخلوة بها، ولم يجعل له عليها ولاية، وليس له أن يستلحقها، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر».
والوجه ما ذهب إليه أبو حنيفة من الحرمة قياسا على ولد الزنى، فإنّه تحرم عليه أمه، وليس بينهما إلا أنه متخلق منها، وبضعة منها، فكذلك بنت الزنى مع أبيها، ونفي بعض لوازم البنت عنها للعقوبة لا يقتضي نفي البقية، وجواز نكاحها.

.السبع المحرمات بغير النسب:

1- الأم من الرضاع: وهي كل امرأة أرضعتك، وكذلك كل امرأة انتسبت إلى تلك المرضعة بالأمومة، إما من جهة النسب، أو من جهة الرضاع.
2- الأخت من الرضاع: وهي ثلاث:
أخت لأبيك وأمك، وهي المرأة التي رضعت من أمك بلبن أبيك.
أخت لأبيك، وهي المرأة التي أرضعتها امرأة أبيك رضاعا بلبنه.
أخت لأمك، وهي المرأة التي أرضعتها أمك بلبن غير لبن أبيك.
ولم يذكر من المحرّم بالرضاع في القرآن سوى الأمهات والأخوات، والأم أصل، والأخت فرع، فنبه بذلك على جميع الأصول والفروع.
وأيضا لما سمى المرضعة أما، والمرضعة أختا، فقد نبه بذلك على أنه أجرى الرضاع مجرى النسب، وقد جاءت السنّة مؤكدة بصريح العبارة لهذا المفهوم، فقد ثبت أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب».
وثبت في الصحاح عن علي أنه قال: قلت يا رسول الله مالك تنوّق في قريش وتدعنا؟
قال: «وعندكم شيء»؟
قلت: نعم، ابنة حمزة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها لا تحلّ لي إنّها ابنة أخي من الرضاعة» وذلك لأنّ ثويبة أرضعت حمزة والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وظاهر قوله: {وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ} يقتضي أنّ مطلق الرضاع محرّم، وبذلك قال مالك وأبو حنيفة.
وذهب الشافعي إلى أنه لا تحرّم إلا خمس رضعات، واستدل بما رواه مسلم وغيره أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تحرّم المصة ولا المصتان»، «لا تحرّم الإملاجة ولا الإملاجتان».
وبما رواه مالك وغيره عن عائشة قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهنّ مما يقرأ من القرآن.
وهذا الحديث الأخير لا يصحّ الاستدلال به، لاتفاق الجميع أنه لا يجوز نسخ تلاوة شيء من القرآن بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولا إسقاط شيء منه، وهذا الحديث يفيد أنه سقط شيء من القرآن بعد وفاته.
وأما الحديث الأول، فكان مقتضى مذهب الشافعي أن يحرّم بما زاد على الرضعتين، لأنه يقول بالمفهوم.
وقد رأى الحنفية أنه لا يجوز تخصيص آية التحريم هذه بخبر الواحد، لأنها محكمة، ظاهرة المعنى، بينة المراد، لم يثبت خصوصها بالاتفاق، وما كان هذا وصفه، فغير جائز تخصيصه بخبر الواحد ولا بالقياس.
وقد أخرج أبو بكر الرازي عن طاووس عن ابن عباس أنه سئل عن الرضاع فقلت: إن الناس يقولون: لا تحرّم الرضعة ولا الرضعتان، قال: قد كان ذاك، أما اليوم فالرضعة الواحدة تحرم.
فقد عرف ابن عباس خبر العدد في الرضاع، وأنه منسوخ بالتحريم بالرضعة الواحدة.
اختلف العلماء في لبن الفحل أيحرّم أم لا يحرّم؟ وصورته: أن يتزوج رجل امرأتين، فتلدا منه، وترضع إحداهما صبية، والأخرى غلاما، فمن ذهب إلى أن لبن الفحل يحرّم حرّم الصبية على الغلام، لأنهما أخوان من الرضاع لأب، وهذا هو المتصوّر، لما ثبت في البخاري عن عائشة أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن على عائشة بعد أن نزل الحجاب، فقالت عائشة: والله لا آذن لأفلح حتى أسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن أبا القعيس ليس هو الذي أرضعني، إنما أرضعتني المرأة، قالت عائشة: فلما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلت: يا رسول الله! إن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليّ فأبيت أن آذن له حتى أستأذنك، فقال: «إنه عمك فليلج عليك».
وهو مذهب أكثر الأئمة.
يقتضي قوله تعالى: {وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} أنّ الرضاع يحرّم ولو في سن الكبر، إلا أن قوله تعالى: {وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ} [البقرة: 233] بيّن زمن الرضاعة، فذهب العلماء إلى أنّ من أرضع خارج الحولين لا يكون ابنا من الرضاعة، وأكد هذا ما روي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء من الثدي، وكان قبل الفطام» رواه الترمذي والنسائي.
وقد رأت عائشة أنّ رضاع الكبير محرّم، للحديث الصحيح عنها قالت: جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا، وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فضلا، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى فيهم ما علمت، فكيف ترى يا رسول الله فيهم؟
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أرضعيه خمس رضعات يحرم بها، فكانت تراه ابنا من الرضاعة، فبذلك كانت عائشة تأخذ.
وأباه سائر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وقلن: والله ما نرى ذلك إلا رخصة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسهلة.
3- أمهات نسائكم: وهنّ أمهات الزوجات.
4- ربائبكم: اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن.
والرائب جمع ربيبة، فعيلة بمعنى مفعولة، من قولك ربّها يربّها، إذا تولّى أمرها، وهي بنت الزوجة من غيرك، وسميت بذلك لأنّ زوج أمها في الغالب يتولّى أمرها. ومقتضى ظاهر التلاوة أن الربيبة لا تحرم على زوج أمها إلا بشرطين:
أولهما: كونها في حجره.
ثانيهما: أن يكون دخل بأمها.
أما الأول: فلم يشترطه جمهرة العلماء، قالوا: إنه خرج مخرج الغالب، لا أنه قيد في التحريم.
والربيبة حرام على زوج أمها سواء أكانت في حجره أو لم تكن في حجره.
وروى مالك بن أوس عن علي أنها لا تحرم حتى تكون في حجره، أخذا بظاهر القرآن.
ولكنّ سائر الصحابة وعامة الفقهاء على القول الأول.
وأما الثاني فهو متفق عليه، إلا أنهم اختلفوا في الدخول فقال الطبري والشافعي: إنه الجماع، وقال مالك وأبو حنيفة: هو التمتع من اللمس والقبلة، وقال عطاء وعبد الملك بن مروان: هو النظر إليها بشهوة.
وقد اختلف العلماء في الدخول: أهو شرط في تحريم أمهات النساء، كما هو شرط في الربيبة، أم ليس شرطا فيهن؟
فروي عن علي، وجابر، وابن الزبير، وزيد بن ثابت، ومجاهد، أنه شرط فيهن، فلا تحرم أمّ الزوجة بالعقد، بل بالدخول بها.
قال سائر العلماء: إنه ليس شرطا فيهن.
وسبب الخلاف اختلافهم في قوله: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} أهو وصف لنسائكم من قوله: {مِنْ نِسائِكُمُ} فقط أم هو وصف لها ولنسائكم من قوله: {وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ}.
وقد احتجّ الأولون بأنه لو كان لهما للزم أن يكون وصفا لمعمولي عاملين مختلفين، لأنّ إحداهما العامل فيها الإضافة، والأخرى العامل فيها حرف الجر، وذلك منعه البصريون كالعطف على معمولي عاملين مختلفين، وهذا الاستدلال لا يصح، لأنّ هذا أجازه الكوفيون.
والأولى أن يقال: إنه يحتمل أن يكون ذلك شرطا في تحريم الربيبة فقط، وأن يكون شرطا في تحريم أمهات النساء أيضا، ولا تحلّ الفروج بالاحتمال، فالاحتياط يقضي أن يجعل شرطا في الربيبة فقط.
5- حلائل أبنائكم الذين من أصلابكم: الحلائل جمع حليلة، فعيلة بمعنى مفعلة أي محلة.
حرم الله على الأب زوجة ابنه، كما حرم على الابن زوجة أبيه {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ}.
وقد أرسلها الله فلم يقيدها بالدخول، فيعلم أنها تحرم على الأب بمجرد عقد الابن عليها، وقيد الله الأبناء بالذين من أصلابكم ليخرج الابن الدعيّ، فهذا تحل حليلته لمن تبناه، وذلك فائدة التقييد.
وقد كانت العرب تحرّم زوجة الابن بالتبني على من تبنّاه، فأحلّها الإسلام، وتزوّج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش زوج زيد بن حارثة الذي تبناه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تزوجها بعد أن طلقها زيد، فقالت العرب: تزوّج محمد امرأة ابنه، فنزل: {فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ} [الأحزاب: 37] وقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] ونزل في ذلك أيضا: {وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ}.
فإن قيل: إنّ هذا القيد يخرج الابن من الرضاع كما يخرج الابن بالتبني.
قيل: إن الابن بالرضاع حرمت حليلته بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب».
وقد رأى الفخر الرازي أنّ اسم الحليلة كما يشمل الزوجة يشمل الأمة، لأنها أيضا تحلّ، فقوله: {وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ} يفيد حرمة أمة الابن أيضا.
وذهب الحنفية إلى أن اسم الحليلة خصّ عرفا بالزوجة، فلا تكون داخلة في الآية، ولا تحرم على الأب بمجرد ملك الابن إياها، بل بالوطء.
6- وأن تجمعوا بين الأختين: حرّم الله أن يجمع الرجل بين الأختين في النكاح، وقوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا...} في تأويل مصدر معطوف على {أُمَّهاتُكُمْ}.
وقد رأى علي في بعض الروايات عنه أنه يحرم الجمع بينهما بملك اليمين أو إحداهما بنكاح والأخرى بملك اليمين، وحجته أن الله حرم الجمع بين الأختين، وهذا يشمل الجمع بينهما بملك اليمين.
وذهب الفقهاء إلى جواز الجمع بينهما بملك اليمين، أو بزواج من إحداهما وملك الأخرى، ولا يجوز له إلا وطء إحداهما، فإذا وطئها حرمت عليه الأخرى، وحجتهم أنّ الجمع المذكور هنا هو الجمع في النكاح.
ذهب مالك والشافعي إلى أنه إذا طلّق الأخت طلاقا بائنا حلّت له أختها، ولو لم تخرج من عدتها، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا تحلّ له أختها حتى تخرج الأولى من عدتها.
ودليل الأولين أنّ الله قد حرم الجمع، ولا جمع إذا أبان الأولى، لأنها بإبانتها انتفت الزوجية، بدليل أنه لا يصح له وطؤها، وإذا وطئها حدّ.
ودليل أبي حنيفة أن الأولى محبوسة عليه للعدة، والثانية محبوسة عليه أيضا بالزوجية، فقد جمع بينهما في الحبس.
والظاهر ما ذهب إليه الإمامان مالك والشافعي، لأنّ الله حرّم الجمع في الزوجية، ولا زوجية للبائن.
وقوله: {إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ} يقال فيه ما قلناه في مثلها قريبا.
{إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً} ولذلك لم يؤاخذهم بما كان منهم من الجمع بين الأختين فيما سلف في الجاهلية، وحكمة تحريم من حرّمن وأبّد تحريمهنّ. إما من النسب، فإنّه لما اقتضت طبيعة الوجود تكوين الأسرة، وكانت الأسرة محتاجة إلى الخلطة والمعاشرة، فلو أبيح من ذكرنا من المحارم، لتطلعت إليهنّ نفوس محارمهنّ، وكان فيهنّ طمع، والخلطة تسهل السبيل، فيكثر الوقوع في الفاحشة، والطبائع جبلت على الغيرة، فيغار الرجل من ابنه على أمه وأخته، ووقوع الفاحشة يدعو للمنازعات والمخاصمات والشغب وحدوث القتل، وحجز بعض المحارم عن بعض فيه مشقة وغير متيسر، فأبّد الله تحريم الزواج بالمحرمات من النسب ليسد باب الطمع، وإذا سدّ باب الطمع انتفت خواطر السوء، فلا يقع الفسوق الداعي إلى النزاع والخصام.
ولمثل هذه العلة حرّمت المحرمات من الصهر، فإنّ المرأة تحتاج أمّها وبنتها أن تزورها في بيت الزواج، لو لم يجعلا محارم لتطلعت إليهنّ نفس الزوج وكان ما يترتب على ذلك من المفاسد.
وأيضا الضرورة داعية إلى أن يتزوج الأباعد من الأباعد، لأنّه ليس لكل امرأة قريب ذكر يتزوج بها، فلو لم تكن هذه الحرمة مؤبدة لشغلت الخطيب الوساوس أن يكون أبوها أو أخوها هتك عفتها، ولهذه الحرمة المؤبدة يتزوج الرجل امرأة وهو مطمئن إلى عفافها، وآمن من أن يكون أبوها أو أخوها أو من هو شديد الخلطة بها من أبناء إخوتها سلب عفتها.
وإنما حرّم الجمع بين الأختين لأنّ الضرائر يكون بينهن من الكراهة والبغضاء ما هو معلوم، فلم يشأ الله أن يعرّض أرحام الأختين للقطيعة بتجويز كونهما ضرتين، يتغايران ويتباغضان، وكذلك القول في المرأة والخالة، والمرأة والعمة، وكذلك كل امرأتين لو جعلت إحداهما ذكرا حرّمت على الأخرى.