فصل: تفسير الآية رقم (35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (35):

قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)}.
المراد بالخوف هنا: العلم.
والشقاق: الخلاف والعداوة، وأصله من الشق، وهو الجانب، لأنّ كلّا من المتخالفين يكون في شق غير شق الآخر.
و(بين) من الظروف المكانية غير المتصرفة، وإضافة الشقاق إليها توسّع، والأصل شقاقا بينهما، فللملابسة بين الظرف والمظروف نزّل الظرف منزلة الفاعل أو المفعول، وشبه بأحدهما ثم عومل معاملته في الإضافة إليه، فقيل {شِقاقَ بَيْنِهِما}.
وقيل: الإضافة بمعنى (في) والضمير في (بينهما) للزوجين لدلالة النشوز- وهو عصيان المرأة زوجها- عليهما.
والخطاب هنا للحكام، فإنه تعالى لما ذكر نشوز المرأة، وأنّ للزوج أن يعظها، ويهجرها في المضجع، ويضربها، بيّن أنه لم يبق بعد الضرب إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم من الظالم منهما، ويتوجه حكمه عليهما.
وظاهر الأمر في قوله تعالى: {فَابْعَثُوا} أنه للوجوب، وبه قال الشافعي، لأنه من باب رفع الظلامات، وهو من الفروض العامة والمتأكدة على القاضي.
وظاهر وصف الحكمين بأن أحدهما يكون من أهله، والثاني يكون من أهلها أن ذلك شرط على سبيل الوجوب، لكنّ العلماء حملوه على وجه الاستحباب، وقالوا: إذا بعث القاضي حكمين من الأجانب جاز، وذلك لأنّ فائدة بعث الحكمين استطلاع حقيقة الحال بين الزوجين، وإجراء الصلح بينهما، والشهادة على الظالم منهما، وهذا الغرض يؤديه الأجنبي كما يؤديه القريب، إلا أن الأقارب أعرف بحال الزوجين من الأجانب، وأشدّ طلبا للإصلاح، وأبعد عن الظنّة بالميل إلى أحد الزوجين، وأقرب إلى أن تسكن إليهم النفس، فيطلعوا على ما في ضمير كلّ من حب وبغض، وإرادة صحبة أو فرقة، لذلك كان الأولى والأوفق أن يكون أحد الحكمين من أهل الزوج والثاني من أهل الزوجة.
واختلف العلماء فيما يليه الحكمان: أيليان الجمع والتفريق دون إذن الزوجين، أم ليس لهما تنفيذ أمر يلزم الزوجين دون إذن منهما؟ فذهب علي وابن عباس والشعبي ومالك إلى أن لهما أن يلزما الزوجين دون إذنهما ما يريان فيه المصلحة، مثل أن يطلق الرجل، أو تفتدي المرأة بشيء من مالها.
فهما عندهم حاكمان موليان من قبل الإمام.
وقال الحسن وأبو حنيفة وأصحابه: ليس للحكمين أن يفرّقا إلا برضا الزوجين، فهما عندهم وكيلان للزوجين.
وللشافعي في المسألة قولان.
وليس في الآية ما يرجح أحد الرأيين على الآخر، بل فيها ما يشهد لكلّ من الرأيين: فالشهادة للرأي الأول أنّ الله تعالى سمّى كلا منهما حكما، والحكم هو الحاكم، وإذا جعلهما الله حاكمين فقد مكّنهما من الحكم.
والشهادة للرأي الثاني أنه تعالى لم يضف إليهما إلا الإصلاح، وهذا يقتضي أن يكون ما وراء الإصلاح غير مفوّض إليهما، ولما كانت الآية محتملة للرأيين، ولم يصحّ في المسألة شيء عنه صلّى الله عليه وسلّم كانت المسألة اجتهادية، وكلام أحد المجتهدين لا يقوم حجة على الآخر، فالترجيح للرأي والقياس، والذي يظهر لنا أنّ القياس يقتضي ترجيح الرأي الثاني، لأنه لا خلاف أنّ الزوج لو أقر قبل التحكيم بالإساءة إليها لم يجبرها الحاكم على الطلاق، وأنّ الزوجة لو أقرت كذلك قبل التحكيم بالنشوز لم يجبرها الحاكم على الافتداء، فإذا كان ذلك حكمهما قبل بعث الحكمين، فكذلك يكون الحكم بعد بعثهما، لا يجوز إيقاع الطلاق من غير رضا الزوج وتوكيله، ولا إخراج المال عن ملكها من غير رضاها.
والضمير في قوله تعالى: {إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً} يجوز أن يكون للحكمين، ويجوز أن يكون للزوجين، وكذلك الضمير في قوله تعالى: {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما} والأوفق جعل الضمير الأول للحكمين، والثاني للزوجين، أي إن يقصد الحكمان إصلاح ذات البين بنية صحيحة، مع إخلاص النصيحة لوجه الله تعالى، إن يقصدا ذلك يوفق الله بين الزوجين بالألفة والمحبة، ويلقي في نفسيهما الموافقة وحسن العشرة.
{إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً} المراد منه الوعيد للزوجين وللحكمين في سلوك ما يخالف طريق الحق، فإنه سبحانه عليم بظواهر الأمور وبواطنها، فيعلم ما يريده كلّ واحد منهم، وسيجازيهم على حسب ما علم.

.تفسير الآية رقم (36):

قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً (36)}.
لما أرشد الله كلا من الزوجين إلى المعاملة الحسنة، وندب الحكّام إلى إزالة ما بينهما من الخصومة، أرشد الناس جميعا إلى طائفة من خلال الخير، وبيّن لهم أنواعا من الأخلاق الحسنة التي تعلمهم كيف يعامل بعضهم بعضا، وقد ذكر من ذلك في هذه الآية ثلاثة عشر نوعا ما بين مأمور به ومنهي عنه:
1- أمرنا أن نعبده، والعبادة: المبالغة في الخضوع، ويكون ذلك بفعل ما أمر الله به لمجرد أنه أمر به، وترك ما نهى عنه لمجرد أنه نهى عنه، سواء في ذلك أعمال القلوب- ومنها التوحيد- وأعمال الجوارح.
2- ونهانا أن نشرك به شيئا: والإشراك ضد التوحيد، فيفهم من النهي عن الإشراك الأمر بالتوحيد، فالعطف من قبيل عطف الخاص على العام، وقدم في هذه التكاليف ما يتعلّق بحقه تعالى لأمرين:
الأول: أنّ هذا الذي تعلق بحقه تعالى وهو العبادة والإخلاص فيها أساس الدين، ومداره الأعظم، ومن دونه لا يقبل الله من العبد عملا ما.
والثاني: أن في ذلك إيماء إلى ارتفاع شأن الأمور الآتية وإن كانت متعلقة بحقوق العباد، لأن قرنها بالعبادة والتوحيد يكسبها رفعة شأن وعظم قدر عند الله.
3- وأمرنا بالإحسان إلى الوالدين: وقد قرن الله تعالى إلزام برّ الوالدين بعبادته وتوحيده في مواضع من القرآن منها هذه الآية، ومنها قوله تعالى: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} [الإسراء: 23] وقوله جلّ شأنه: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] وكفى بهذا دلالة على تعظيم حقهما، ووجوب برهما، والإحسان إليهما.
وقد ورد في وجوب بر الوالدين آيات كثيرة، وأحاديث مشهورة، وبر الوالدين طاعتهما في معروف، والقيام بخدمتهما، والسعي في تحصيل مطالبهما، والبعد عن كل ما يؤذيهما.
4- وإلى ذي القربى: وهو صلة الرحم، على نحو ما ذكر في أول السورة: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ} والإحسان إلى الأقارب يكون بمودتهم ومواساتهم.
5- وإلى اليتامى: كما وصّى في أول السورة وفي غيرها، قال ابن عباس: يرفق بهم يربيهم، وإن كان وصيا فليبالغ في حفظ أموالهم.
6- وإلى المساكين: والإحسان إلى المسكين إما بالتصدق عليه، وإما برده ردا جميلا، كما قال تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10)} [الضحى: 10].
7- وإلى الجار ذي القربى: وهو الذي قرب جواره، أو من له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين.
8- وإلى الجار الجنب: وهو الذي بعد جواره، أو من ليس له مع الجوار قرابة.
أخرج البخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن عمرو أنه ذبحت له شاة، فجعل يقول لغلامه: أهديت لجارنا اليهودي، أهديت لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه».
وأخرج الشيخان أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره».
وتحديد الجوار موكول إلى العرف، والإحسان إلى الجار يكون من وجوه: منها مواساته إن كان فقيرا، ومنها حسن العشرة، وكف الأذى عنه، والمحاماة دونه ممن يحاول ظلمه، وقد عد بعض العلماء من حق الجوار الشفعة لمن بيعت دار إلى جنبه.
9- وإلى الصاحب بالجنب: وهو الرفيق في كل أمر حسن كالتعلم والسفر والصناعة، وكمن جلس بجنبك في مسجد، أو مجلس، وغير ذلك.
وعن علي كرم الله وجهه: الصاحب بالجنب المرأة.
10- وإلى ابن السبيل: وهو المنقطع عن ماله، أو الضعيف، ومعنى ابن السبيل صاحب الطريق، كما يقال لطير الماء ابن ماء، فالمسافر للزومه الطريق سمّي ابن السبيل، والضيف كالمجتاز غير المقيم، فسمّي ابن السبيل تشبيها بالمسافر.
11- وإلى ما ملكت أيماننا: قال قتادة: هم العبيد والإماء، أخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال: «كانت عامة وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين حضره الموت الصلاة، وما ملكت أيمانكم، حتى جعل يغرغر بها في صدره، وما يفيض بها لسانه».
وقال بعض العلماء: كلّ حيوان فهو مملوك، والإحسان إلى الكل بما يليق به طاعة عظيمة.
12- ونهانا عن الاختيال: فإنّ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً} معناه: أنه يكره المختال الفخور، أي أنه يعاقبه على خيلائه وفخره، والمختال: ذو الخيلاء والكبر، قال الزجاج: إنما ذكر الاختيال هاهنا لأن المختال أنف من أقاربه إذا كانوا فقراء، ومن جيرانه إذا كانوا ضعفاء، فلا يحسن عشرتهم.
13- ونهانا عن الفخر: والفخور هو الذي يعدّد مناقبه على الناس تطاولا وتعاظما.
أخرج الطبراني عن ثابت بن قيس بن شماس قال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ} إلخ، فذكر الكبر، وعظّمه، فبكى ثابت. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما يبكيك»؟ فقال: يا رسول الله إني لأحبّ الجمال حتى إنه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي.
قال: «فأنت من أهل الجنة، إنه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك، ولكن الكبر من سفه الحقّ، وغمط الناس».

.تفسير الآية رقم (43):

قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)}.
اختلف في سبب نزول الآية، فأخرج أبو داود والترمذي وحسّنه والنسائي والحاكم وصححه، عن علي كرم الله وجهه قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه طعاما، فدعانا، وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني، فقرأت: {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1)} [الكافرون: 1] أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون فنزلت.
وفي رواية ابن جرير وابن المنذر عن علي كرم الله وجهه أن إمام القوم يومئذ هو عبد الرحمن بن عوف، وكانت الصلاة صلاة المغرب، كان ذلك لما كانت الخمر مباحة.
وقد فهم الصحابة من النهي في أول الأمر أن الممنوع هو قربان الصلاة في حال السّكر، فكانوا لا يتناولون مسكرا حتى إذا صلّوا العشاء شربوا، فقال عمر رضي الله عنه: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت آية المائدة فتركوا الشراب كله.
وقيل: إنّ سبب النزول هو ما رواه ابن جريج عن إبراهيم النخعي قال: نال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جراحة، ففشت فيهم، ثم ابتلوا بالجنابة، فشكوا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت، والجمهور على أنها نزلت في غزوة المريسيع حين عرّس النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة، فسقطت عن عائشة قلادة كانت لأسماء، فبعث رجلين في طلبها، فنزلوا ينتظرونهما، فأصبحوا وليس معهم ماء، فأغلظ أبو بكر على عائشة وقال: حبست رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين على غير ماء فنزلت.
فلما صلوا بالتيمم جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة، فجعل يقول: ما هي بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر، وفي رواية: يرحمك الله يا عائشة، ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله فيه للمسلمين فرجا، وهذا يدلّ على أن سبب النزول كان في فقد الماء في السفر.
والسكر المذكور في الآية هو السكر من الشراب، بدليل ما ورد في سبب النزول، وبدهي أن النهي موجه إلى جماعة المؤمنين أن يقربوا الصلاة، وهم على هذا الحال، فإنها قد تجرهم إلى ما يضرهم في دينهم من حيث لا يشعرون، ولقد أثّر فيهم النهي أثره، فكانوا يمتنعون من الشراب إلى ما بعد صلاة العشاء، ولا معنى لا دعاء نسخ الآية، إذ المؤمنون ما زالوا منهيين أن يقربوا الصلاة وهم سكارى. ولم تؤثر آية المائدة في هذا النهي شيئا حتى يقال: إنها نسخته.
وقد اختلف العلماء في معنى الصلاة في قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى} فذهب جماعة إلى أن المراد منها موضعها وهو المسجد، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود والحسن، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه، والكلام إذا على حذف مضاف، وهو مجاز شائع، وقد عهد استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى في القرآن، كما في قوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ} [الحج: 40] فقد فسرها ابن عباس بأنها كنائس اليهود.
ويؤيد حمل الصلاة على هذا المعنى أن الله تعالى يقول: {لا تَقْرَبُوا} والقرب والبعد أولى به أن يكون في المحسات، فحملناه على المسجد، ولأنّا لو حملناه على الصلاة لم يصح الاستثناء في قوله: {إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ} حتى لو حملنا عابر السبيل على المسافر، لأنّ هذا الحكم حينئذ ليس خاصا بالمسافر، لأنّ كل من عجز عن استعمال الماء، سواء لفقده، أو عدم القدرة على استعماله كذلك، وأيضا فإنّ ظاهر النهي يدلّ على أنّ عابر السبيل ليس له أن يقرب الصلاة جنبا إلا بعد اغتسال، وهو إذا لم يجد الماء يقرب الصلاة كغيره بالتيمم.
وأيضا فقد ذكر الله في الآية حكم المسافر في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ} إلخ. فيكون ذلك تكرارا، فمن أجل ذلك حملنا لفظ الصلاة على المسجد.
وذهب الأكثرون إلى أن الصلاة باقية على حقيقتها، والمعنى: لا تصلوا وأنتم سكارى، ولا أنتم جنب، إلا في حال كونكم مسافرين حتى تغتسلوا، ويكون ذكر هذا الحكم قبل قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى} تشويقا إلى بيان الحكم عند فقد الماء، فكأنه قيل: فإن لم تقدروا على استعمال الماء فإني مبيّن حكم ذلك بقولي: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى} إلى آخره.
ويقرب لهؤلاء ما ذهبوا إليه أن الله يقول: {حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ} فإنّه يدل على أنّ المراد لا تقربوا نفس الصلاة، إذ المسجد ليس فيه قول مشروع يمنع السكر منه، أما الصلاة ففيها أقوال مشروعة يمنع السكر منها، وهي القراءة والدعاء والذكر، فكان حملها على ما يقتضيه ظاهر اللفظ أولى.
وقد ترتب على هذا خلافهم في حكم اجتياز المسجد للجنب، فمن ذهب إلى أن المراد من الصلاة موضعها، وهو المسجد، أخذ من الاستثناء أن الجنب ممنوع من المسجد إلا في حال العبور، فإنه يجوز له أن يعبر دون أن يمكث.
وأما على القول الثاني فيكون معنى الآية لا تقربوا الصلاة في حال السكر، ولا في حال الجنابة حتى تغتسلوا، إلا إذا كنتم مسافرين، وحكم ذلك سأقصه عليكم، أما حرمة دخول المسجد للجنب فيستدل عليها بمثل ما روت عائشة رضي الله عنها قالت جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: «وجّهوا هذه البيوت عن المسجد، ثم دخل ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة، فخرج إليهم بعد وقال: وجّهوا هذه البيوت فإني لا أحلّ المسجد لجنب ولا حائض».
وغير هذا من الأدلة.
بقي أنّ بعض المفسرين يريد أن يأخذ من قوله: {حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ} وجوب القراءة في الصلاة، لأن الآية تنهى عن قرب الصلاة في حال السكر حتى يعلم المصلّي ما يقول: فلابد أن يكون الذي يقول شيئا يمنع منه السكر، ولا شيء سوى القراءة.
ولكنا إذا عرفنا أنّ الصلاة مناجاة ووقوف بين يدي مالك يوم الدين، العزيز القهار، كان معنى النهي لا تصلحوا حتى تكونوا على درجة من العلم والفهم تمكّنكم وتؤهّلكم للوقوف بين يدي ملك الملوك، وليس بنا حاجة لأن نلتمس دليلا على وجوب القراءة في الصلاة، لأن ذلك أمر متفق عليه، وأدلته كثيرة.
والجنب: اسم يستوي في الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، وأصل الجنابة البعد، ويقال للذي يجب عليه الغسل من حدث الجنابة: جنب، لأنّ جنابته تبعده عن الصلاة وعن المسجد وقراءة القرآن حتى يتطّهر.
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً}.
ذكرت هذه الآية والآية التي في المائدة: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية للتيمم أسبابا أربعة: المرض، والسفر، والمجيء من الغائط، وملامسة النساء، ورتبت عليها تيمم الصعيد الطيّب عند عدم وجود الماء فهما بظاهرهما تفيدان أنّ كلا من هذه الأسباب بمجرده يبيح التيمم عند عدم الماء.
فالسفر عند عدم الماء مبيح للتيمم، والمرض أيا كان نوعه مبيح للتيمم عند عدم الماء، وكذلك ملامسة النساء، والمجيء من الغائط، وقد جاء بيان السنة العملية كذلك موافقا لما يفيده النظم الكريم، حيث أجاز التيمم عند فقد الماء حقيقة لكل هؤلاء، غير أنّه زاد أن المريض إذا كان مرضه يمنعه من استعمال الماء جاز له التيمم، كما روي في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه تيمم مع وجود الماء لخوف البرد فأجازه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولم ينكر، وقد اتفقوا على جوازه.
بقي أنه ما الفائدة إذا في ذكر السفر والمرض في جملة الأسباب ما دام المسافر والمريض والمقيم والصحيح سواء، لا يباح لهم التيمم إلا عند فقد الماء؟
قال المفسرون في هذا: أما المسافر فلما كان غالب حاله عدم وجود الماء جاء ذكره كأنه فاقد الماء وأما المريض فإنّ تعليق الحكم به مشعر بأن مرضه له مدخل في السببية، ولذلك ترى ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة من التابعين يقولون في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى} أنه المجدور، ومن يضره الماء، وذلك أنّ المريض الذي لا يضره الماء لا معنى للترخيص له في التيمم، فذكر ليدل على أن مرضه حينئذ يقوم مقام عدم وجود الماء حقيقة، فلم يبق حينئذ إلا الجنب وما في معناه، والجائي من الغائط وما في معناه من غير المسافرين والمرضى، فهو إنما يباح لهم التيمم إذا فقدوا الماء.
وعلى هذا يكون قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا} راجعا إلى الأخيرين فقط، وهما المجيء من الغائط، وملامسة النساء، وتكون أسباب التيمم المذكورة في الآية ثلاثة على الحقيقة: المرض، والسفر، وفقد الماء في حال الإقامة والصحة.
غير أنّ عطف هذه الأسباب بعضها على بعض بأو يقتضي أنها متقابلة، ومن قضية تقابلها أن يكون المسافر غير المريض، وكل منهما غير الجائي من الغائط والملامس، وذلك يقتضي أنّ السفر مبيح للتيمم، ولو من غير حدث، وكذلك المرض، مع أن التيمم لا يطلب إلا من المحدث.
وأجاب عن ذلك بعض العلماء بأن السبب في عدم ذكر الحدث مع المرض والسفر أنّ الكلام في الجنابة في السفر، حيث قال: {وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} فحال الجنابة معهما ملحوظ، حيث هذا بيان للحكم إذا لم يتيسر الغسل من الجنابة لفقد الماء، وأما الحدث الأصغر فيهما فيعلم حكمه من حكم الجنابة لدلالة النص.
ومن العلماء من اختار في تأويل الآية رأيا آخر: فذهب إلى أنّ {أَوْ} في قوله: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} بمعنى الواو، ويكون المعنى عليه: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا} ويكون ذلك في معنى قولك: إن كنتم مرضى أو مسافرين محدثين حدثا أصغر أو أكبر، وفقدتم الماء حقيقة أو حكما، بأن لم تقدروا على استعماله مع وجوده، فتيمموا صعيدا طيبا.
وقد جاءت {أَوْ} بمعنى الواو كثيرا كما في قوله تعالى: {وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)} [الصافات: 147] فإن معناه ويزيدون، وكقوله: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما} [النساء: 135] معناه إن يكن غنيا وفقيرا فالله أولى بهما.
ونقل صاحب روح المعاني عن بعضهم أن في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، ولا جنبا ولا جائيا أحد منكم من الغائط أو لامسا، يعني ولا محدثين، ثم قيل: وإن كنتم مرضى أو على سفر: فتيمموا وفيه الفصل بين الشرط والجزاء والمعطوف عليه من غير نكتة.
وأقرب هذه التأويلات هو ما حملنا عليه الآية في أول الأمر، وما ورد عليه- من أن ذلك يقتضي أن السفر بنفسه سبب، وكذا المرض ولو من غير حدث- يندفع متى روعي الكلام في أمر الطهارة من الأحداث، وأنها الغسل، انظر إلى قوله تعالى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} فأمر الحدث أمر مقرّر مفروغ منه، إنما الكلام في الأعذار المبيحة للتيمم، ولا سبب في الحقيقة إلا فقد الماء، وفقد الماء له مظاهر، فمن مظاهره السفر، وعدم الماء فيه غالب، وإن وجد فأغلب أمره أن يكون محتاجا إليه، ومن مظاهره المرض، وجعل المرض من أسباب التيمم مشعر بأن ذلك إنما يكون في مرض لا يمكن معه استعمال الماء، والمظهر الحقيقي لفقد الماء أن يكون خاليا من هذه الأعذار، ثم لا تجد الماء وأنت محدث حدثا أصغر أو أكبر.
على هذا الوجه يصح أن تفهم الآية، ولا شيء في فهمها حينئذ من التكلف، ويليه أن تكون {أَوْ} في قوله: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} بمعنى الواو، والمعنى عليه قد عرفته.
ولنرجع إلى تفسير مفردات الآية:
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى} تفصيل لما أجمل في قوله تعالى: {إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} فإن المعنى أنه لا يحل لكم القرب من الصلاة وأنتم جنب إلا بأن تكونوا عابري سبيل، وإلا أن تغتسلوا، ولما كان الغسل قد لا يمكن، شرع في بيان الطهارة الواجبة حينئذ، والأعذار التي تبيحها.
وفسر بعضهم قوله تعالى: {إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ} بمعنى إلا معذورين بعذر شرعي، وقد تقدم أن المراد بالمرض ما يمنع من استعمال الماء مطلقا، سواء كان لتعذر الوصول إليه أم لتعذر استعماله.
وقد أخرج ابن جريج عن ابن مسعود أنه قال: المريض الذي رخص له في التيمم الكسير والجريح، فإذا أصابته الجنابة لا يحل جراحته إلا جراحة لا يخشى عليها.
{أَوْ عَلى سَفَرٍ} أو مسافرين، والسفر الطويل هنا كالقصير، فإنّك عرفت أن ذكر السفر هنا لا دلالة له على شيء، إذ المدار على فقد الماء، وإنما ذكر لأن فقد الماء معه غالب.
وبذكر المسافر هنا يستدلّ من ذهب إلى أنّ المراد بالصلاة المسجد، وقد تقدم، وهو ظاهر، ومن ذهب إلى أن المراد الصلاة بحقيقتها الشرعية يقول: إنه إنما ذكر هنا مع فهمه مما تقدم لبناء الحكم الشرعي عليه، وبيان أن المريض مثله ومساو له في ذلك.
{أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} الغائط هو المكان المطمئن من الأرض، والمجيء منه كناية عن الحدث، لأنّ العادة كانت أنّ من يريد قضاء الحاجة يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس.
{أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ} اختلف السلف رضوان الله عليهم أجمعين في المراد من الملامسة هنا، فقال علي وابن عباس وأبو موسى والحسن وعبيدة والشعبي: هي كناية عن الجماع، وكانوا لا يوجبون الوضوء ولا التيمم لمن مس امرأة.
وقال عمر وابن مسعود: المراد من الملامسة المسّ باليد، وكانا يوجبان على من مس امرأة الوضوء.
وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر والثوري والأوزاعي: لا وضوء على من مسّ امرأة، سواء أكان المس بشهوة، أو بغير شهوة.
وقال مالك: إن مسها بشهوة تلذّذا فعليه الوضوء، وكذا إن مسته بشهوة تلذذا.
وقال الحسن بن صالح: إن قبل بشهوة فعليه الوضوء، وإن كان بغير شهوة فلا وضوء عليه.
وقال الشافعي: إذا مس جسدها فعليه الوضوء، سواء أكان المس لشهوة أو لغير شهوة.
استدل القائلون بأنّ المسّ ليس بحدث بما روي عن عائشة من طرق مختلفة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقبل نساءه ثم يصلي ولا يتوضأ. وكان يقبلهن وهو صائم.
ومن ذلك حديث عائشة أنها طلبت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة. قالت: فوقعت يدي على أخمص قدمه وهو ساجد، يقول: «أعوذ بعفوك من عقوبتك وبرضاك من سخطك».
فثبت بذلك أن المس ليس بحدث.
ثم إن ظاهر مادة المفاعلة فيما يكون فيه الفعل من الجانبين مقصودا، وذلك في الجماع دون اللمس باليد، وأيضا فإنّ اللمس وإن كان حقيقة في اللمس باليد، إلا أنه قد عهد في القرآن إطلاقه كناية عن الجماع، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] بل هذا اللفظ قد اشتهر في هذا المعنى، تسمعهم يقولون في المرأة البغي، لا تردّ يد لا مس، يريدون أنها ليست عفيفة.
وأيضا فالظاهر أن المراد في هذه الآية من الملامسة أو اللمس في القراءة الأخرى الجماع، لأجل أن تكون شاملة للحدثين الأصغر في قوله: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} والأكبر في قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ} أما إذا أريد منه اللمس باليد مثلا، فإنه يكون قليل الفائدة، إذ المجيء من الغائط واللمس حينئذ من واد واحد.
وأما من يرى أن الملامسة هي لمس البدن فهو يقول: إنّ اللمس حقيقة في المس باليد، والملامسة مفاعلة، وهو في الجماع مجاز أو كناية، ولا يعدل عن الحقيقة إلى غيرها إلا عند تعذر الحقيقة.
والواقع أنّ اللمس حقيقة في المس باليد كما في قوله:
لمست بكفي كفّه أبتغي الغنى

ولكنه قد تعورف عند إضافته إلى النساء في معنى الجماع، ويكاد يكون ظاهرا فيه، كما أن الوطء حقيقته المشي بالقدم، فإذا أضيف إلى النساء لم يفهم منه غير الجماع.
وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: ذكروا اللمس، فقال ناس من الموالي ليس الجماع، وقال ناس من العرب: اللمس الجماع، قال: فأتيت ابن عباس، فقلت: إن ناسا من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس، فقالت الموالي: ليس بالجماع، وقالت العرب: الجماع! فقال: من أي فريق كنت؟
فقال: كنت من الموالي، قال: غلب فريق الموالي إن المسّ واللمس والمباشرة الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء. وفي رواية، ولكنّ الله يكني ويعفّ.
وقد اختار ابن جرير أن الملامسة في الجماع، وإليك نصّ عبارته، قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ} الجماع دون غيره من معاني اللمس، لصحة الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قبل بعض نسائه ثم صلّى ولم يتوضأ، وساق في ذلك أخبارا كثيرة بنحو ما قلناه آنفا.
{فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} أي إذا أصابكم ما تقدّم من موجبات الطهارة، فطلبتم الماء لتتطهروا به فلم تجدوه، بأن عدمتموه، أو وجدتموه ولكن بثمن لا تقدرون على دفعه، أو وجدتموه ولكنكم تحتاجون إليه، ولا تقدرون على استعماله فتيمموا: أي اقصدوا صعيدا طيبا.
وقد اختلف العلماء في المراد بالصعيد ما هو؟ فقال بعضهم: هو الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا غراس، وقال بعضهم: إنه الأرض المستوية، وقال بعضهم: بل الصعيد التراب، وقال آخرون: هو وجه الأرض، وقال بعضهم: هو الأرض ذات التراب والغبار.
ومعنى الطيب: الحلال الطاهر.
ومعنى الآية: وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لا مستم النساء فأردتم أن تصلّوا، ففقدتم الماء، فاعمدوا إلى الأرض الطاهرة، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم.
وظاهر الآية يفيد أنّ وجود ماء أي ماء لا يصح معه التيمم، إذ قد رتبت الآية الأمر بالتيمم على نفي وجود ماء.
وذلك يقتضي أنه لو وجد ماء، وكان في حاجة شديدة إليه، أو لا يقدر على استعماله أنه لا يتيمم، ولكن لما قاله الله تعالى: {ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] فهم منه أن الغرض من شرع التيمم هو التيسير على الناس، والتيسير على الناس لا يكون بإلزامهم أن يفقدوا ما معهم من الماء في الطهارة ليقعوا في العطب من جرّاء العطش أو الجوع.
وكذلك فهم من ترتيب التيمم على عدم الماء أن المراد ماء يكفي للطهارة، وأما ما لا يكفي لها فوجوده غير معتدّ به.
وقد اختلف فقهاء الأمصار في جواز التيمم بالحجر وما ماثله من كل ما كان من الأرض، فجوّزه أبو حنيفة، واشترط أبو يوسف أن يكون المتيمم به ترابا أو رملا وقال مالك: يتيمّم بالحصا والجبل: وحكي عن أصحابه عنه أنه أجاز التيمم بالزرنيخ والنّورة ونحوهما، وروى أشهب عنه أنه يجيز التيمم بالثلج.
وقال الشافعي رضي الله عنه: إنما التيمم من التراب.
ومنشأ الخلاف في فهم الطيّب، فمن حمله على الطاهر قال: المراد كلّ ما كان من جنس الأرض، بشرط الطهارة.
وقد أطلق الطيب وأريد به الحلال الطاهر، كما في قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ} [البقرة: 57].
ومن فهم أنه ينبت قال: إنّ المراد الأرض الصالحة للإنبات، وهي ذات التراب، وقد أطلق الطيب وأريد منه ذلك كما في قوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58]، للأولين أن يقولوا: إنّ هذا الإطلاق غير مراد هنا، لأنّ المراد بالطيّب في قوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} البلد الذي ليست أرضه سبخة، ونحن مجمعون على جواز التيمم بتراب الأرض السبخة، فعلمنا أنّ الطيّب بهذا المعنى غير مراد هنا.
وهذا وظاهر قوله تعالى في سورة المائدة: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] يدلّ على أنّ المراد بالصعيد: شيء يصل أثر منه إلى الوجه واليدين عند المسح.
وهل المسّ على الحجر الأملس يصل منه شيء إلى الوجه واليدين؟
فنحن نرى أنّ الظاهر قول من قال: بأن المراد بالصعيد تراب الأرض، والسنة تؤيّد هذا، فقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من طرق صحيحة، جعلت لي الأرض مسجدا، وتربتها طهورا، وروي و«ترابها طهورا».
نعم قد ورد في هذا المعنى «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا».
ولكنّ هذا يجب أن يحمل على ما جاء في الروايتين الأخريين جمعا بين الروايات.
{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً}.
هذا بيان لكيفية التيمم، وقد اختلف فيها فقهاء الأمصار، فذهب الحنفية والمالكية والشافعية والثوري والليث إلى أن التيمم ضربتان، ضربة للوجه يمسحه بها، وضربة لليدين يمسحهما بها إلى المرفقين، وهو مرويّ عن جابر وابن عمر.
وقال الأوزاعي: تجزئ ضربة واحدة للوجه والكوعين.
وقال الزهري: ويمسح يديه إلى الإبط.
وقال ابن أبي ليلى والحسن بن صالح: يتيمم بضربتين، يمسح بكل واحدة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه، وقد نقل أبو جعفر الطحاوي فيما رواه الجصاص عنه أنّ هذا الرأي لم يعرف عن غيرهما.
وقد جاء في السنة ما يؤيد ما ذهب إليه الجمهور، فقد روي عن ابن عمر وابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في صفة التيمم أنه ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين.
وقد يقال: إنّ ظاهر قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} يقتضي مسح البعض كما دلّ على ذلك قوله في الوضوء: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] إذ الباء تقتضي التبعيض، إلا أن الفقهاء قد اتفقوا على أنه لا يجوز له الاقتصار على القليل، وأن عليه مسح الكثير، بل ذكر الكرخي من الحنفية أنه إن ترك شيئا قليلا أو كثيرا لم يجزئه، وقد جاءت الباء في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ولا يجوز الاقتصار في الطواف على بعض البيت فما هنا من هذا القبيل.
هذا وقد عرض المفسرون هنا إلى أنّ التيمم هل يكفي لصلوات متعددة ما دام فاقدا للماء أم لا؟
ونحن نرى أنّ الآية التي نحن بصدد تفسيرها لا يستفاد منها شيء من هذا لا نفيا ولا إثباتا، وإنما ذلك يستفاد من أدلة أخرى تطلب في كتب الفقه.
{إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً} يعفو عما كان منكم من قيامكم للصلاة وأنتم سكارى، ويستر ذنوبكم، فلا تعودوا لمثلها فيعود عليكم إثمه وعذابه.