فصل: تفسير الآية رقم (4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (4):

قال الله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)}.
كلمة (ماذا) يجوز أن تجعل اسما واحدا للاستفهام في محل رفع بالابتداء وجملة (أحلّ لكم) خبر.
ويجوز أن تجعل (ما) وحدها اسم استفهام مبتدأ ولفظ (ذا) بمعنى الذي خبر، وجملة (أحلّ لكم) صلة (لذا) وضمّن السؤال معنى القول، فصح أن ينصب الجملة في قوله (ماذا أحل لهم).
والطيبات جمع طيب، وهو في اللغة المستلذّ، ويسمى الحلال المأذون فيه طيّبا تشبيها له بما هو مستلذّ، لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرّة، ولكنّ المراد به هنا المستلذ لا الحلال، لأنّه لا معنى لأن يقولوا: ماذا أحل لهم؟ فيقال: أحل لكم الحلال، فإنّه غير مفيد.
والجوارح، جمع جارحة، وهي الكواسب من الطيور والسباع، من (جرح) إذا كسب كما قال تعالى: {وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ} [الأنعام: 60] أي كسبتم وقال: {الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ} [الجاثية: 21] أي اكتسبوا.
والمكلبون جمع مكلّب، وهو الذي يؤدّب الكلاب وغيرها، ويعلمها أن تصيد لأصحابها، وإنما اشتق الاسم من الكلب مع أنه يعلّم الكلاب والبزاة وغيرها، لأنّ التأديب أكثر ما يكون في الكلاب، فكلّ ما يصاد به من السبع والكلب والصقر والبازي يحل أكل صيوده، وإن لم تدرك ذكاتها، وهو مذهب الجمهور، وقيل: لا يحل إلا ما صاده الكلاب تمسّكا بقوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ}.
وتمسك الجمهور بعموم قوله تعالى: {وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ} فإنه يشمل الكلاب وغيرها، غاية الأمر أنه يحتاج إلى نكتة للتعبير بقوله: {مُكَلِّبِينَ} وقد علمت النكتة مما تقدم على أنّ كل سبع قد يسمّى كلبا، كما ورد أنه عليه الصلاة والسلام قال في ابن أبي لهب «اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك».
فأكله الأسد في طريقه إلى الشام.
هذه الآية وردت لذكر المحللات بعد ذكر المحرمات، كأنه لما تلا لهم ما حرّمه عليهم من خبيثات المآكل، سألوا عما أحلّ لهم فنزلت الآية، وروي أنه قدم عدي بن حاتم، وزيد بن المهلهل الطائيان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالا: إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فما يحل فنزلت الآية.
وروي أيضا عن أبي رافع أنه قال أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أقتل الكلاب. فقال الناس: يا رسول الله ما الذي أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت.
والمعنى: يقول لك قومك مع تعدّد فرقهم واختلاف مقاصدهم: ماذا أحلّ لنا، فقل لهم بالنسبة للطائفة الأولى: أحل لكم الطيبات، أي كل ما يستلذ وتشتهيه النفوس المعتدلة، فالمراد الاستطابة عند أهل المروءة والرزانة والأخلاق الجميلة الهادئة، لا ما يعم ممن سقطت مروءتهم وقست قلوبهم، وتمردوا في أفكارهم، فإنّ أهل البادية ومن سقطت مروءتهم يستطيبون أكل جميع الحيوانات، فلا عبرة بهم، والذي يستطاب عند أهل المروءة حلال متى اقترن بشرطه، كالذكاة وذكر اسم الله عليه، ولو زعم بعض الناس تحريمه كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام فهي مما يستطاب ويحل.
وقل لهم بالنسبة للطائفتين الثانية والثالثة: أحل لكم ما علّمتم من الجوارح، والحل هنا يتعلق بالحيوانات المعلّمة نفسها أي يحل لكم اقتناؤها، وبيعها، وهبتها يؤيد ذلك رواية أبي رافع، لكن يستثنى من الحل أكلها، فإنّ الدليل ورد بتحريمه.
ويتعلق أيضا بصيودها، يؤيد ذلك قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ورواية عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل المتقدمة.
وقوله: (مكلّبين) حال من فاعل علّمتم، أي وما علمتم من الجوارح حال كونكم معلمين ومؤدبين.
وقوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ} حال من فاعل علمتم، أو من الضمير في (مكلّبين) أي وحال كونكم تعلمونهن مما علمكم الله، فلابد من أمور ثلاث.
أن تكون الجوارح معلمة.
وأن يكون من يعلمها ماهرا في التعليم مدرّبا فيه.
وأن يعلم الجوارح مما علمه الله بأن تقصد الصيد بإرسال صاحبها، وأن تنزجر بزجره، وأن يمسك الصيد.
ولا يأكل منه إذا كان كلبا ونحوه، وأن يعود إلى صاحبه متى دعاه إذا كان مثل البازي، فإنّ الفقهاء يقولون: يعرف تعليم الكلب بترك الأكل ثلاثا. ويعرف تعليم البازي بالرجوع إلى صاحبه إذا دعاه. وبيّنوا الفرق بأنّ تعليم الحيوان يكون بترك ما يألفه ويعتاده، وعادة الكلب السلب والنهب، فإذا ترك الأكل ثلاثا عرف أنّه تعلم، وعادة البازي النفرة فإذا دعاه صاحبه فعاد إليه عرف أنّه تعلّم.
{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} يقال أمسك الكلب على صاحبه إذا أمسك الصيد ولم يأكل منه، أما إذا أكل منه فإنه لم يمسك على صاحبه، وكلمة (من) في قوله: (مما أمسكن) يحتمل أن تكون بيانية أي فكلوا الصيد، وهو ما أمسكن عليكم، والمراد ما جرحه الكلب مثلا ومات من جرحه، أو أدركه الصائد حيّا وذكّاه. ويحتمل أن تكون (من) للتبعيض أي كلوا بعض ما أمسكن عليكم، وهو ما جرحه ومات من جرحه، أو أدركه الصائد حيا وذكاه لا ما جرحه ولم يمت من جرحه ولكنه افترسه سبع فمات منه، وعلى هذا تكون البعضية في الجزئيات، ويجوز أن تكون البعضية في الأجزاء باعتبار أن المأكول هو البعض وهو اللحم دون الجلد والريش والدم والعظم.
{وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي على الكلب مثلا عند إرساله، فيكون الضمير عائدا إلى ما علمتم، أو اذكروا اسم الله على الصيد عند الإمساك أي إذا أدركتم ذكاته فيكون الضمير عائدا إلى ما أمسكن.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي احذروا مخالفة أمره فيما أرشدكم إليه، واتخذوا وقاية من عذابه بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه.
{إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} يحاسبكم على ما تعملون من غير توان ولا إمهال، ولما ذكر فيما سبق شيئا من المحرمات والمحللات ناسب هنا ذكر الحساب كأنّه يقول بعد بيان الحلال والحرام وما يرضيه وما يغضبه: ينبغي التنبه إلى أنه تعالى سيحاسب العاملين على أعمالهم من غير توان متى جاء يوم الحساب.
يؤخذ من الآية ما يأتي:
1- إباحة الطيبات أي المطعومات التي تستطيبها النفوس الكريمة دون الخبائث التي أرشدت الشريعة إلى تحريمها.
2- إباحة الصيد بالجوارح بشرط كونها معلمة، وكون معلمها مؤدبا (بكسر الدال) ماهرا، وكونه يعلمها مما علمه الله مما دوّنه الفقهاء وفصلوه تفصيلا.
3- إباحة ما جرحته الجوارح وقتلته وأدركه الصائد ميتا لإطلاق قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}.
4- وجوب ذكر الله عند الإرسال كما ورد من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله فكل».
أما عند إدراكه حيّا فتجب التسمية عند ذكاته على خلاف في ذلك.

.تفسير الآية رقم (5):

قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)}.
طعام الذين أوتوا الكتاب هو الذبائح، وقيل: الخبز والفاكهة، وقيل: جميع المطعومات، والمعوّل عليه الأول، والمحصنات جمع محصنة، وهي الحرة.
وقيل: العفيفة، والأجور جمع أجر، والمراد به المهر، وعبّر عنه بالأجر للدلالة على أنّ عين المحصنة لا تملك بالمهر.
محصنين بكسر الصاد أي متعففين بالزواج، يقال أحصن الرجل فهو محصن، أي تعفف فهو متعفف، وأحصن الزواج الرجل محصن بفتح الصاد، أي أعفّه الزواج، فهو معف بفتح العين.
مسافحين: جمع مسافح، يقال: سافح الرجل المرأة إذا جامعها في الزنى من غير تحرّي الأسرار، وسمي مسافحا لأنه سفح ماءه، أي صبّه ضائعا.
والأخدان: جمع خدن بكسر الخاء وسكون الدال، وهو الصديق، يطلق على الذكر والأنثى، والمراد بالخدن هنا البغيّ التي يخادنها الرجل، أي يصادقها ليفجر بها وحده سرّا.
أخبر الله تعالى في الآية السابقة بأنّه أحلّ الطيبات، وكان المقصود بيان الحكم والإخبار، وأعاده في هذه الآية للدلالة على أنّه تعالى كما أكمل الدين وأتمّ النعمة فيه أكمل النعمة فيما يتعلق بالدنيا التي منها إحلال الطيبات، وطعام أهل الكتاب، والمحصنات المؤمنات، والمحصنات الكتابيات.
والمراد بالطيبات ما يستطاب ويشتهى عند أهل النفوس الكريمة.
والمراد بطعام أهل الكتاب ذبائحهم عند الجمهور، وهو الراجح، لا الخبز والفاكهة، ولا جميع المطعومات، لأنّ الذبائح هي التي تصير طعاما بفعلهم، وأما الخبز والفاكهة والمطعومات فهي مباحة للمؤمنين قبل أن تكون لأهل الكتاب، وبعد أن تكون لهم فلا وجه لتخصيصها بأهل الكتاب.
وخصّ هذا الحكم بأهل الكتاب لأنّ المجوس لا يحل أكل ذبائحهم، ولا التزوج بنسائهم، وإنما قال: {وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} أي يحل لكم أن تطعموهم من طعامكم، للتنبيه على أنّ الحكم مختلف في الذبائح والمناكحة، فإنّ إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين، بخلاف إباحة المناكحات. فإنها في جانب واحد، والفرق واضح، لأنّه لو أبيح لأهل الكتاب التزوج بالمسلمات، لكان لأزواجهن الكفار ولاية شرعية عليهن، والله تعالى لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعيا، بخلاف إباحة الطعام من الجانبين فإنها لا تستلزم محظورا.
وأحل لكم المحصنات المؤمنات أي الحرائر أو العفائف، أو المراد المصونات، فيعم الحرائر والعفيفات، وتخصيصهن بالذكر للحث على ما هو الأولى في عقدة النكاح، لا لنفي ما عداهن، فإنّ نكاح الإماء لغير المالكين صحيح بشرطه، وكذا نكاح غير العفيفات.
وأحل لكم المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم من اليهود والنصارى، أي أحلّ لكم الحرائر والعفيفات من أهل الكتاب، سواء أكنّ ذميات أم حربيات، وتخصيص الحرائر العفيفات بالذكر للحث على ما هو الأولى، كما سبق، لا لنفي ما عداهن، وقيّد الحل بإيتاء المهور في قوله: {إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} للدلالة على تأكّد وجوب المهر حتى كأنّه إذا لم يؤدّ المهر لا تحل له الزوجة، وللحثّ على ما هو الأولى، وهو إيتاء الصداق قبل الدخول.
وقوله: {مُحْصِنِينَ} حال من فاعل {آتَيْتُمُوهُنَّ} أي أحل لكم محصنات أهل الكتاب إذا آتيتموهن أجورهن حال كونكم محصنين، أي متعففين بالزواج بهن (غير مسافحين) حال من ضمير {مُحْصِنِينَ} أو صفة لمحصنين، أي غير مجاهرين بالزنى، ولا متخذي أخدان، أي ولا مسرّين، وهو إما مجرور معطوف على {غَيْرَ مُسافِحِينَ} زيدت فيه (لا) لتأكيد النفي المستفاد من (غير) أو منصوب معطوف على {غَيْرَ مُسافِحِينَ}.
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} سيقت هذه الجملة للتحذير من المخالفات وللترغيب فيما تقدم من الأحكام، أي ومن يكفر بشرائع الله وتكاليفه فقد خاب في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فباعتبار أن جميع أعماله حابطة ولاغية، لا فائدة فيها، وهو في ذلك معرّض للإذلال بالسيف حتى يسلم، أو يعطي الجزية عن يد وهو صاغر، وأما في الآخرة فهو هالك بنيران حامية مشتعلة، لا طاقة لأحد بها.
أطلق الإيمان وأراد المؤمن به مجازا، وقيل: المراد ومن يكفر برب الإيمان، فهو مجاز بالحذف.

.الأحكام:

يؤخذ من الآية ما يأتي:
1- إباحة الطيبات من الرزق.
2- إباحة الأكل من ذبائح أهل الكتاب.
3- إباحة إطعام أهل الكتاب من طعام المسلمين.
4- إباحة نكاح المحصنات المؤمنات والمحصنات الكتابيات.
5- عدم الاعتداد بالأعمال إذا كان العامل جاحدا أحكام الله وشرائعه.