فصل: تفسير الآية رقم (45):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (45):

قال الله تعالى: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)}.
لما جعل اليهود ديّة النضيري أكثر من دية القرظي، ومنعوا أن يقتل به، مخالفين في هذا ما في التوراة، وما حكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين سألوه، نزلت هذه الآية.
ومعنى (كتبنا) فرضنا. وقد أخذ أبو حنيفة من الآية أن يقتل المسلم بالذمي.
وقالت الشافعية: الآية خبر عن شرع من قبلنا، وشرعهم ليس شرعا لنا.
وقرأ البعض (النفس) وجميع ما عطف عليه منصوبا، ونصب فريق الكلّ ما عدا الجروح فقد رفعه على القطع، ورفع آخرون ما سوى (النفس) على جعل ذلك ابتداء الكلام.
وتدلّ الآية على جريان القصاص في جميع ما ذكر فيها، ويرى العلماء أنّ المراد بقوله: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} استيفاء ما يماثل فعل الجاني منه، فلا يجوز التعدي، وعليه فتؤخذ العين اليمنى باليمنى عند وجودها، ولا تؤخذ اليسرى باليمنى وإن رضي المقتص منه. وقالوا: إنما تؤخذ العين بالعين إذا فقأها الجاني متعمّدا، فإن أصابها خطأ ففيها نصف الدية، فإن أصاب العينين معا خطأ ففيهما الدية كاملة، ورأى البعض أن في عين الأعور الدية كلّها، لأنّ منفعته بها كمنفعة ذي العينين أو قريبة منها.
وإذا فقأ الأعور عين الصحيح فعليه القصاص عند أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية كاملة دية عين الأعور، وقال أحمد بن حنبل: لا قود عليه، وعليه الدية كاملة.
واختار ابن العربي الأول، لأنّ الله تعالى قال: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} والأخذ بعموم القرآن أولى، فإنّه أسلم عند الله، والقصاص بين صحيح العين والأعور كهيئته بين سائر الناس، ومتمسّك مالك أنّ الأدلة لما تعارضت خيّر المجني عليه. وحجة ابن حنبل أنّ في القصاص من الأعور أخذ جميع البصر ببعضه، وذلك ليس بمساواة.
والقصاص من الأنف إذا كانت الجناية عمدا كالقصاص من سائر الأعضاء، وكذلك يقتص من صالم الأذن وقالع السن.
وقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ} معناه أنها ذات مقاصة، وهو تعميم للحكم بعد ذكر بعض التفاصيل، والمراد منه: كل ما تمكن المساواة فيه من الأطراف كالقدمين واليدين، ومن الجراحات المضبوطة كالموضحة- مثلا- وهي التي توضح العظم، أي تكشفه. أما الذي لا يمكن القصاص فيه كرض في لحم، أو كسر في عظم ففيه حكومة.
وفي قوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} الضمير في (به) يعود إلى القصاص وقوله: {فَهُوَ} راجع إلى التصدق الدال عليه الفعل، والضمير في (له) يحتمل أن يعود إلى العافي المتصدق.
روى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تصدق من جسده بشيء كفّر الله تعالى عنه مثل ما تصدّق».
ويحتمل رجوعه إلى الجاني المعفوّ عنه، أي لا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو، وأما المتصدق فأجره على الله تعالى.
ثم ذيل الله تعالى هذه الأحكام بما يوجب العمل بها، وهو قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي ومن لم يحكم بما أنزل الله من الأحكام والشرائع فقد تعدّى حدود الله، ووضع الشيء في غير موضعه. قال الرازي: وفيه سؤال، وهو أنه تعالى قال أولا: {فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ} وثانيا {هُمُ الظَّالِمُونَ} والكفر أعظم من الظلم، فلما ذكر أعظم التهديدات أولا فأي فائدة في ذكر الأخف بعده.
وجوابه: أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى، وجحود لها، فهو كفر، ومن حيث إنه يقتضى إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس، ففي الآية الأولى ذكر الله ما يتعلق بتقصيره في حق الخالق سبحانه، وفي هذه الآية ذكر ما يتعلق بالتقصير في حق نفسه. اهـ.

.تفسير الآيات (87- 88):

قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)}.
قد أمر الله تعالى في أول السورة بإيفاء العقود، وقد قالوا في تفسيره: إنّ ذلك شامل للوقوف عند حدود الله، والتزام ما أحله الله، واجتناب ما حرمه، وعدم تعدّي تلك الحدود، وقد نص بعد ذلك على عدم إحلال ما حرم الله في قوله: {لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ} إلخ. وهو نوع من إيفاء العقود، وفي هذه الآية يقول الله تعالى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} وهو بيان للنوع المقابل لما ذكر أولا. أي كما نهيتكم عن إحلال ما حرّم الله أنهاكم عن تحريم ما أحل الله.
والطيبات اللذائذ التي تشتهيها النفوس، ولا تعافها الطباع، لاشتمالها على ما ينفع، وتجردها عما يضر.
وقد روي في سبب نزول هذه الآية أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم جلس إلى أصحابه يوما في بيت عثمان بن مظعون يعظهم، فوصف لهم يوم القيامة، وبالغ، وأشبع الكلام في الإنذار والتحذير، فعزموا على أن يرفضوا الدنيا، ويحرّموا على أنفسهم المطاعم الطيبة، والمشارب اللذيذة، وأن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، وأن لا يناموا في فراش النساء، بل لقد عزم بعضهم على أن يجبّ مذاكيره، ويلبسوا المسوح، ويسيحوا في الأرض فوصل خبرهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فسألهم فقالوا: ما أردنا إلا خيرا، فقال لهم: «إني لم أومر بذلك، إن لأنفسكم عليكم حقا، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
وليس في ذلك شيء من الحض على الاستزادة من أسباب الشهوات، بل ذلك نهي عن الرهبانية الموصلة إلى هدم الأجسام، وانحلال القوى، ومتى انهدمت الأجسام، وانحلت القوى، تسرب الخراب والاضمحلال إلى الأمة، قلا تقوى على العمل.
وأيضا فالناس مطالبون أن يعملوا عقولهم في مصلحة المجتمع، وأنّى لهم ذلك وقد انهدمت أجسامهم فضاعت عقولهم. والعقل السليم في الجسم السليم، ومع ذلك فالله لما نهانا عن تحريم الطيبات نهانا عن الاعتداء، وقال: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} فهو يأمرنا أن نكون وسطا، وأن نلتزم التوسط في الأمور.
وقد ذهب المفسرون مذاهب في المراد من قوله تعالى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} فمنهم من ذهب إلى أن المراد لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله.
ومنهم من قال: لا تظهروا باللسان تحريم ما أحل الله.
ومنهم من قال: لا تجتنبوا ما أحل الله اجتنابا يشبه اجتنابكم لما حرم الله.
ومنهم من قال: لا تحرّموا على غيركم بالتقوى ما أحل الله.
ومنهم من قال: لا تحرّموا على أنفسكم بنذر أو يمين، وهو حينئذ في معنى قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1].
ومنهم من يرى أن المراد النهي عن أن يغصب شيئا ويخلطه بماله فيحرم ماله، لعسر تمييزه عن المخلوط به.
وأنت ترى أنه لا مانع من إرادة كل هذه الوجوه من الآية، فهي تحتملها جميعا، ولا داعي لتخصيصها بالبعض.
{وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}. أي: لا تعتدوا بتحريم الطيبات، ويحتمل أن يكون المعنى لا يحملنكم النهي عن تحريم الطيبات إلى استعمالها على وجه الإسراف، على حد قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] ويحتمل أن يكون المراد: اقتصروا على ما أحل الله لكم من الطيبات، ولا تجاوزوها إلى ما حرّم عليكم.
{وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)} أي كلوا ما أحلّ لكم وطاب مما رزقكم الله. (فحلالا) مفعول (لكلوا) و(مما رزقكم الله) حال منه، وسوغ مجيئها من النكرة تقدّمها عليها.
ويستدل بالآية على أن الرزق اسم يتناول الحلال والحرام، ولو كان خاصا بالحلال لما كان لوصفه به كبير فضل.
وتذييل الآية بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} بعث على المحافظة على ما أوصاهم به، والمداومة عليه، وقد أمر الله بالتقوى عقب النهي عن تحريم الطيبات، والأمر بالأكل من الرزق الطيب الحلال، ليشعرنا أنه لا منافاة بين التلذذ بالطيبات من الرزق وبين. التقوى، غير أنّه يجب أن تكن تقوى الله رائدنا فيما نقدم عليه من عمل، فلا نسرف، ولا نقتر، ولا نضارّ أحدا.
والآية بعمومها دليل على حرمة الرهبانية.
وقد جاء النهي عنها صريحا في القرآن وفي السنة، فقد صرح القرآن بأن الرهبانية مبتدعة.
وجاء في السنة من طرق كثيرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من كان موسرا لأن ينكح فلم ينكح فليس مني».
والآية على هذا في معنى قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].