فصل: تفسير الآية رقم (89):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (89):

قال الله تعالى: {لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)}.
قيل في سبب نزول هذه الآية ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم لما حرّموا الطيبات من المآكل والمناكح والملابس. حلفوا على ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
واللغو من القول الساقط الذي لا يعتدّ به، وهو في اليمين الذي لا يتعلق به حكم.
وقد اختلف السلف في تعيينه شرعا، فعن عائشة أنها قالت: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «هو كلام الرجل في بيته، لا والله، وبلى الله».
وروي عنها أنّها قالت: لغو اليمين لا والله، بلى والله.
روي عن ابن عباس في لغو اليمين أن يحلف على الأمر أنه كذلك.
وروي عنه أنه قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان.
وذهب بعض العلماء إلى أن اللغو في اليمين هو الغلط من غير قصد بسبق اللسان.
ويرى بعضهم أنّ اللغو أن تحلف على المعصية تفعلها، فينبغي ألا تفعلها، ولا كفارة فيه، واستدل له بحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها. فليتركها، فإنّ تركها كفارة».
واختلف فقهاء الأمصار فيها أيضا فذهب الحنفية إلى أن اللغو هو: الحلف على شيء مضى وأغلب ظنه الصدق. وحكى الجصاص أنّ ذلك مذهب مالك والليث والأوزاعي.
ونقل عن الربيع عن الشافعي أنّ من حلف على شيء أنّه وقع وهو يظنه كذلك فعليه كفارة، وكأن الشافعي رضي الله عنه لا يرى اليمين في مثل هذا المثال لغوا، بل يراها يمينا معقودة.
وقد تقدم الكلام في سورة البقرة في بيان مذاهب الفقهاء في اليمين اللغو والغموس والمنعقدة، وهي أيضا معروفة في الفقه، وكذلك أحكامها، حيث يجعل الحنفية الأقسام الثلاثة متباينة في الحكم، فاللغو لا شيء فيه، وكذلك يقول جميع الفقهاء.
إنما الكلام عندهم فيما هو حكم اللغو والغموس: يرى الحنفية أن جزاء الغموس الغمس في جهنم، وأنّها لا تكفر. والشافعية يقولون: إنّ الغموس تكفّر، لأنّ الله يقول: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، ومن تعمّد الكذب في يمينه فقد كسب بقلبه إثما، وهو مؤاخذ به، لأنّه عقد قلبه على الكذب في اليمين، وقد قال الله: {فَكَفَّارَتُهُ} إلخ.
والحنفية يقولون: إنّ اليمين الغموس هي المذكورة في قوله: {وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] والمؤاخذة بها هو عقاب الآخرة. ويدل له قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [آل عمران: 77] فذكر الوعيد فيها ولم يذكر الكفارة.
وقد روى جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من حلف بيمين آثمة على منبري هذا فليتبوأ مقعده من النار».
ولم يذكر الكفارة.
والمسألة مبسوطة في كتب الفروع. {وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ} يحتمل أن تكون (ما) مصدرية، أي بتعقيدكم الأيمان، وتوثيقها بالقصد والنية.
ويحتمل أن تكون (ما) موصولة، والعائد محذوف، أي بما عقدتم الأيمان عليه.
والمعنى: لكن يؤاخذكم بنكث ما عقدتم الأيمان عليه، أو بنكث تعقيدكم اليمين.
ويحتمل أن يكون المعنى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم اليمين إذ حنثتم، وحذف الشرط للعلم به، وقد عرفت أنّ الشافعية يدخلون الغموس في اليمين المعقودة، ففيها الكفارة عندهم، والحنفية يقولون: لا كفارة في الغموس.
{فَكَفَّارَتُهُ} أي فكفارة يمينكم إذا حنثتم، أو فكفارة نكثه {إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ} ذهب الشافعية إلى جواز إخراج الكفارة قبل الحنث إذا كانت مالا، وأما إذا كانت صوما فلا، حتى يتحقّق السبب بالحنث، واستدلوا بظاهر هذه الآية، حيث ذكر الكفارة مرتبة على اليمين، من غير ذكر الحنث، وقال الله تعالى: {ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ} وقاسوها أيضا على إخراج الزكاة قبل الحول. وأما الصوم فلا ينتقل إليه إلا بعد العجز عن الخصال الثلاثة قبله، ولا يتحقق العجز إلا بعد الحنث ووجوب التكفير.
والحنفية يرون أنّ الآية فيها إضمار الحنث، وهو متعيّن، إذ لم يقل أحد ولا الشافعية بوجوب الكفارة قبل الحنث، فالحنث وإن لم يذكر إلا أنه معلوم، فهي على حد قوله تعالى: {وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] حيث كان وجوب العدة مرتبا على الإفطار المقدّر.
ونحن نرى أنّ الآية لا تصلح شاهدا لواحد من الطرفين.
{مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} لا من جيده فيقع الحيف عليكم، ولا من رديئه فتبخسوا المسكين حقه، ويجوز أن يكون المراد من أوسطه في المقدار، أي: إذا كان فرد يأكل كثيرا، أو فرد يأكل قليلا فتوسطوا بين المقدارين، وأطعموا المسكين هذا الوسط. وقدّره الشافعية بمدّ لكل مسكين، والحنفية قدّروه بما يجب في صدقة الفطر.
والجار والمجرور {مِنْ أَوْسَطِ} متعلّق بمحذوف صفة لمصدر محذوف، أي إطعاما كائنا من أوسط.
{أَوْ كِسْوَتُهُمْ} عطف على (إطعام) إما باعتبار أن الكسوة مصدر، أو على إضمار مصدر.
{أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وقد اشترط الشافعية فيها الإيمان، لأنّ النص لم يقيّد هنا، وقيّد في مواضع أخر كالقتل مثلا، فدل ذلك على أنّ القيد حيث وجد فهو مقصود.
والحنفية لا يرون هذا.
إلى هنا نصّت الآية الكريمة على أنّ كفارة اليمين الإطعام، أو الكسوة، أو التحرير.
وقد اختلف العلماء في متعلّق خطاب التكليف، فذهب بعض المعتزلة إلى أنّ الواجب الجميع، ويسقط بالبعض.
وقيل: الواجب واحد بعينه عند الله، ويتعين بفعل المكلف، فيختلف بالنسبة للمكلفين.
وقيل غير هذا، والمسألة معروفة في علم الأصول، {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} واشترط الحنفية فيها التتابع، وهو مذهب ابن عباس ومجاهد، وأخرج الحاكم وابن جرير وغيرهم من طريق صحيح أنّ أبي بن كعب كان يقرأ الآية هكذا (ثلاثة أيام متتابعات) وروي هذا أيضا عن ابن مسعود، وقال سفيان: نظرت في مصحف الربيع فرأيت فيه: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات).
وأما الشافعي فلا يشترط التتابع، لأنه يرى أن هذه قراءات شاذّة لا يحتجّ بها، ولعلها لم تثبت عنده.
{ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ} وحنثتم. {وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ} أي احفظوا أنفسكم من الحنث فيها، أو لا تبذلوها وأقلوا من الحلف، فإنّ ذلك مسقط لهيبتكم، وهو حينئذ في معنى قوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ} [البقرة: 224] ومنه قول الشاعر:
قليل الألايا حافظ ليمينه ** إذا بدرت منه الأليّة برّت

وقيل: إنّ معنى ذلك راعوها حتى لا تحنثوا فيها، فتلزمكم الكفارة.
{كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي مثل هذا البيان الشافي بيّن الله لكم أحكامه، لتشكروه على ما أنعم عليكم.

.تفسير الآيات (90- 91):

قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)}.
الخمر: اسم لما خامر العقل وغطّاه من الأشربة، أيا كان نوعها، أو هو خاصّ بما كان من ماء العنب النيّئ الذي غلى واشتد وقذف بالزبد.
يرى الحنفية أنّ الخمر حرّمت، ولم يكن العرب يعرفون الخمر في غير المأخوذ من ماء العنب، فالخمر عندهم اسم لهذا النوع فقط، وما وجد فيه مخامرة العقل من غير هذا النوع لا يسمى خمرا، لأنّ اللغة لا تثبت من طريق القياس، والحرمة عندهم تتعدى إلى المسكر لأنها معلولة بالإسكار، لا لأن المسكر خمر.
ويرى غيرهم أنّ الخمر اسم لكل ما خامر العقل وغلبه، فغير ماء العنب حرام بالنص {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلخ.
والواقع: أنه قد وردت آثار مختلفة في معاني الخمر، فقد روي عن ابن عمر أنّه قال: «حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء».
ولقد كان بالمدينة من المسكرات نقيع التمر والبسر، فدل ذلك على أن ابن عمر وهو عربي ما كان يرى أنّ اسم الخمر يتناول هذين.
وفي مقابل هذا روى عكرمة عن ابن عباس قال: نزل تحريم الخمر وهو الفضيخ نقيع البسر، وهذا يدل على أنّ ابن عباس يرى أنّ غير العنب يسمى خمرا.
وروى ثابت عن أنس قال: حرمت علينا الخمر يوم حرّمت وما نجد خمور الأعناب إلا القليل، وعامة خمورنا البسر والتمر.
وروي عنه أنّه سئل عن الأشربة، فقال: حرّمت الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة، فكان عنده أنّ ما أسكر من هذه الأشربة فهو خمر.
وروي عن عمر أنه قال: إنّ الخمر حرّمت وهي من خمسة أشياء من: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل.
وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن من الحنطة خمرا، وإن من الشعير خمرا، وإن من الزبيب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا».
وروي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنب».
ولقد أطلنا بذكر هذه الآثار لمعرفة منشأ الخلاف، والحنفية يقولون فيما خالف مذهبهم من هذه الأخبار: إنها لبيان الحكم الشرعي، والحرمة بالقياس لتحقيق علة الحرمة، وهي الإسكار في القدر المسكر من هذه الأشياء.
وأنت تعلم أن النزاع لو اقتصر على هذا يكون نزاعا في التسمية، والكلام إنما هو في الحكم، والمسلمون جميعا بحمد الله متفقون في الحكم من حيث الحرمة إلا شيئا يروى عن أبي حنيفة في حل القليل من غير الأصناف الأربعة، وهو ما لم يبلغ حدّ الإسكار، وقد نص بعض المتأخرين من الحنفية على أنّ هذه الرواية لا يجوز العمل بها ولا الفتوى، حتى في خاصة النفس، وأنّ الحكم أنّ ما أسكر كثيره فقليله حرام.
غير أنّه يتبع الكلام في الحرمة كلام في الأحكام الأخرى كالنجاسة والحدّ، فمن يرى أنّ هذه الأشياء خمر، وأنها يشملها اسم الخمر يقول: إنها نجسة بقوله تعالى: {رِجْسٌ} وأنّ فيها الحد الذي ثبت بدليله المعروف في الفقه.
ومن يرى أنها حرام من طريق القياس لإسكارها. هل يرى أنّ النجاسة ووجوب الحد ثبت للخمر للإسكار ومخامرة العقل، فينقل الحكم، وهو النجاسة ووجوب الحد، كما نقل الحرمة بالقياس للإسكار، أم هو يرى أنّ الذي ثبت بعلة الإسكار إنما هو الحرمة فقط، فلا يعدي النجاسة ووجوب الحد إلى غير ماء العنب والأشربة المعدودة عنده.
وهل يورث الخلاف الذي رويناه فيما تقدم شبهة تسقط الحد؟ ذلك يجب الرجوع فيه إلى الفقه وقواعده، فإنّ ذلك لا ارتباط له بالآية التي معنا.
والميسر: أصله من تيسير أمر الجزور بالاجتماع على القمار في توزيعه. وقد بيّن ذلك عند تفسير قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219].
وقد روي عن الإمام علي أنّه الشطرنج.
وعن عثمان وجماعة أنّه النرد، وقال جماعة من أهل العلم: القمار كله من الميسر. ويراد منه: تمليك المال بالمخاطرة، فكل مخاطرة بالمال قمار، وهو من الميسر، وهو حرام.
{رِجْسٌ} أي قذر تعافه العقول. وعن الزجاج: الرجس كل ما استقذر من عمل قبيح، وقد يطلق الرجس على النجس.
{مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ} من تسويله وتزيينه. {فَاجْتَنِبُوهُ} أي اجتنبوا الرجس {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} راجين الفلاح بهذا الاجتناب.
ولقد شدد الله في الآية الكريمة أمر الخمر والميسر تشديدا يصرف النفوس عنه إلى غير عود، فصدّرت الجملة (بإنما) وقرنا بالأصنام والأزلام وهما ما هما من الشناعة، وسميا رجسا من عمل الشيطان، وذاك غاية القبح، ثم أمر باجتنابهما، وأضاف الاجتناب إلى أعيانهما، حتى كأنهم مما يفرّ منهما، ثم جعل اجتنابهما سببا للفلاح والفوز، فهل مع هذا كله يعود الناس إليهما، إن ذلك لحسرة؟! ولقد أردف الله ذلك ببيان المضار التي تنجم من جراء الخمر والميسر، عسى أن يكون في ذلك ذكرى لمن ألقى السمع فقال: {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} أي بسبب تعاطيهما، أما الخمر فإنّها تذهب العقل، ومتى ذهب العقل جاءت العربدة وأفعال المجانين، ولو كان مجنونا لغفر الناس له ما يكون منه من أذى، فيتأذى الناس منه ويبغضونه لما يلحقهم من شره، ولا عذر له، فيغرس في قلوبهم الغل والضغينة، وما جر عليه ذلك إلا الخمر. وأما الميسر فإنه في حال انشغاله بالقمار يكون فاقد الإحساس والشعور، لا يبالي بالمال يخرج من يده إلى غير رجعة، طمعا في أن ينال أكثر منه، فإذا رجع خاسرا أكل قلبه الحسد، وامتلأت نفسه حقدا وحفيظة، وربما أداه ذلك إلى قتل من ظن أنّه سبب خسارته إن أمكنته الفرصة، وإن لم تمكنه رجع إلى نفسه بالقتل، أو بالهم والاكتئاب، وإن صادفه الحظ وكان رابحا امتلأ قلب صاحبه عليه غلا وضغينة. والحوادث منا في السمع والبصر كل يوم أصدق شاهد. دع ما يتخذه كل المتقامرين من وسائل خسيسة، وأيمان كاذبة يستعملونها في سبيل تحقيق أطماعهم، وكثيرا ما أودت تلك الوسائل بأصحابها.
{وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} بعد أن بيّن الأضرار التي تعود على المتقامرين والمخمورين في الدنيا بيّن أنّ ضررهما ليس قاصرا على الدنيا فقط، بل هما ضارّان بالدين أيضا، فإنّهما يمنعان من الذكر ومن الصلاة، ومتى منعا من الذكر والصلاة فقد صار الشخص فاجرا، لا يرقب في الله إلا ولا ذمة، فهو مستهتر، لا يبالي ما يرتكب من الآثام، فماذا يمنعه، وقد بعد من الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.
{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} في هذه الجملة من الردع والزجر والتهديد ما بلغ الغاية، وأنّ الأمر من الشدة والهول بحيث لا يمنعه إلا انتظار الجواب (انتهينا) انظر كيف قال عمر حين سمعها، وقد كان طلب البيان الشافي بعد آية البقرة قولة الخائف الوجل: انتهينا يا رب. ولقد سبق القول في سورة البقرة أن آية الخمر [219] التي فيها، كانت أول ما نزل في الخمر، ثم نزلت آية النساء، ثم هذه.
وأخرج الربيع أنه لما نزلت آية البقرة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية النساء. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية المائدة فحرّمت الخمر عند ذلك.