فصل: تفسير الآية رقم (92):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (92):

قال الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)}.
أمر بالطاعة في كل ما جاء عن الله والرسول صلّى الله عليه وسلّم ويدخل فيه ما جاء في الخمر والميسر دخولا أوليا، وتحذير عن المخالفة، فإنّها موقعة في المهالك {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم ولم تعملوا بما أمرتم به {فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وقد بلّغكم فانقطعت حجتكم، وانسد أمامكم سبيل الاعتذار، ولم يعد لكم مطمع في التعلّة، وإن ذلك لتهديد شديد.

.تفسير الآية رقم (93):

قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)}.
روي عن ابن عباس وجابر والبراء بن عازب وأنس بن مالك وغيرهم في سبب نزول هذه الآية: أنه لما حرّمت الخمر قالت الصحابة: كيف بمن ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقد فهم عمر بن الخطاب هذا المعنى من الآية. وقد أراد أن يقيم الحد على قدامة بن مظعون حين شهد عليه الشهود بأنه شربها. روى الزهري أن الجارود سيد بني عبد القيس وأبا هريرة شهدا على قدامة بن مظعون أنه شرب الخمر، وأراد عمر أن يجلده.
فقال قدامة: ليس لك ذلك، لأن الله يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا} فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت اجتنبت ما حرّم الله.
والطعم يطلق في اللغة على التذوق والتلذذ بما يؤكل ويشرب وهو هنا بهذا المعنى.
وبحسب ما ذكرنا من سبب النزول يكون معنى الآية: ليس على من آمن بالله واتقاه وعمل صالحا جناح فيما تناوله من المحرمات قبل تحريمها إذا ما اتقى الله في محارمه، وآمن به، وعمل صالحا، ثم استمر على هذه التقوى وهذا الإيمان في المستقبل، ثم اتقى الله فيما أحل له، وأحسن في استعماله.
ومن هذا الذي قلنا تعرف معنى التقوى والإيمان المكرّرين في الآية، وتعرف معنى الإحسان الذي زيد فيها، وهو وجه من وجوه كثيرة أوردها المفسّرون لبيان أنه لا تكرار في الآية، ولنذكر بعضا منها، فقد قال بعضهم: إن التقوى والإيمان الأولين يراد بهما حصول أصل التقوى، وأصل الإيمان، والثانيين يراد منهما الثبات والدوام، والتقوى الثالثة اتقاء ظلم العباد مع ضم الإحسان إليه.
وذهب بعضهم إلى أن التقوى الأولى تقوى المحرمات قبل نزول هذه الآية، والثانية: اتقاء الخمر والميسر، والثالثة اتقاء ما يحدث بعد هذه الآية.
وذهب بعضهم إلى أنّ التقوى الأولى اتقاء الكفر، والثانية اتقاء الكبائر، والثالثة اتقاء الصغائر.
وذهب بعضهم إلى أنّ المراد من هذا التأكيد في الحثّ على الإيمان والتقوى.
يبقى أن يقال: كيف شرط الله في رفع الجناح عن المطعومات والمشروبات الإيمان والتقوى مع أنّ الجناح مرفوع عن المباح من المطعومات حتى عن الكافرين، ولكن متى عرف أن ذلك كان جوابا عن سؤال بشأن مؤمنين خيف أن ينالهم شيء من الإثم على ما تناولوا من المحرمات قبل التحريم، وأن الآية بصدد طمأنة السائل على أصحابه، وأنهم ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وأنّها مثل قول الله تعالى في شأن من مات قبل الصلاة إلى الكعبة: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} [البقرة: 143] متى عرف ذلك ظهرت فائدة الشرط وتذييل الآية بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} للإشادة بشأن الإحسان في ذاته، وشأن هؤلاء الذين نزلت الآية فيهم.

.تفسير الآية رقم (94):

قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)}.
تقدّم الكلام غير مرة في معنى الابتلاء، وأنّ المراد منه في مثل هذا المقام أن يعامل العباد معاملة المبتلي المختبر، ليتعرف حالهم وهل يثبتون على المحن والشدائد أو لا يثبتون.
أخرج ابن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية عن مقاتل أنها نزلت في عمرة الحديبية حيث ابتلاهم الله بالصيد وهم محرمون، فكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم، وكانوا متمكنين من صيدها أخذا بأيديهم، وطعنا، برماحهم، وذلك قوله تعالى: {تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ} فهموا بأخذها، فنزلت هذه الآية، وخص الأيدي والرماح، لأن الصيد يكون بهما غالبا.
والتنكير في قوله تعالى: {بِشَيْءٍ} للتحقير، وإنما امتحنوا بهذا الشيء الحقير تنبيها على أنّ من لم يثبت أمام هذه الأشياء التافهة كيف يثبت عند شدائد المحن، ويمكن أن يقال: إنّ التنوين للتعظيم، باعتبار جزاء الاعتداء عليه فإنّه عظيم، و(من) في قوله: {مِنَ الصَّيْدِ} للتبعيض، إما باعتبار أن المراد صيد البر لا صيد البحر، أو صيد الحرم دون صيد الحل.
{لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ} أي ليظهر ما علمه أزلا من أهل طاعته ومعصيته حاصلا منهم فيما لا يزال {فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ} أي فمن تجاوز حدّ الله في الصيد بعد هذا التنبيه فله عذاب أليم، لأنّ المخالفة بعد الإنذار مكابرة وعدم مبالاة، والمراد بالعذاب عذاب الآخرة، وقيل: بل وعذاب الدنيا، فقد روي عن ابن عباس. قال: هو أن يوسع ظهره وبطنه جلدا، ويسلب ثيابه.

.تفسير الآية رقم (95):

قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95)}.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} النهي عن القتل يدلّ على تحريم إزهاق روح الصيد مطلقا، سواء كان من طريق الفعل أو من طريق التسبب، كالإشارة والدلالة مثلا، ويؤيد هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسالم لبعض أصحابه: «هل أشرتم، هل دللتم»، قالوا: لا. قال: «إذن فكلوا».
فدل هذا على أنّ للإشارة والدلالة مدخلا في التحريم، وأنّهما مما يتناوله النهي في قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} فكان النهي متناولا للقتل من طريق المباشرة والتسبب. والمراد بالصيد المصيد، وقد اختلف في المراد بمدلوله، فذهب بعضهم إلى أنّ المراد منه الحيوان المتوحش مطلقا سواء أكان مأكولا أم غير مأكول، وخصّه بعضهم بالمأكول، وبالأوّل قال الحنفية، وبالثاني قال الشافعية، وانبنى على هذا الخلاف أن من قتل سبعا وهو محرم فهل يجب عليه الجزاء أو لا يجب، قال الحنفية: يجب، وقال الشافعية: لا يجب.
استدل الحنفية لمذهبهم بأن الصيد اسم عام يتناول كل ما يصاد من المأكول ومن غير المأكول، وهو اسم عربي واضح الدلالة على معناه، وقد كانت العرب تصطاد، وتطلق اسم الصيد على كل ما تناولته أيديهم ورماحهم.
ولم تنحصر فائدة حل الاصطياد في الأكل، بل قد تكون الفوائد التي هي غير الأكل أجدى من الأكل، ومغرية بالصيد أكثر منه، كصيد الفيلة للانتفاع بسنها مثلا، فيبقى اسم الصيد عاما في الحلال والحرام، لا يخرج منه شيء إلا ما أخرجه الدليل.
وقد فهم الصحابة هذا فامتنعوا من فعله مطلقا، حتى أذن لهم صلّى الله عليه وسلّم في الخمس الفواسق، فهي خارجة من هذا العام بهذا الإذن.
وقد قال الإمام علي رضي الله عنه:
صيد الملوك أرانب وثعالب ** وإذا ركبت فصيدي الأبطال

فسمى الثعلب، صيدا، وهو مما لا يؤكل، إذ هو من السباع ذات الناب.
وذكر الفخر الرازي حجة الشافعية فقال: حجة الشافعي القرآن والخبر. أما القرآن فهو أنّ الذي يحرم أكله ليس بصيد، فوجب أن لا يضمن. إنما قلنا: إنه ليس بصيد، لأن الصيد ما يحل أكله لقوله تعالى: بعد هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً} فهذا يقتضي حل صيد البحر بالكلية، وحل صيد البر خارج وقت الإحرام، فثبت أنّ الصيد ما يحل أكله، والسبع لا يحل أكله، فوجب أن لا يكون صيدا، وإذا ثبت أنه ليس بصيد، وجب أن لا يكون مضمونا، لأنّ الأصل عدم الضمان. تركنا العمل به في ضمان الصيد بحكم هذه الآية.
فبقي ما ليس بصيد على وفق الأصل.
هذه عبارة الفخر الرازي أوردناها بنصها. ونحن لا نظن أن الإمام الشافعي وهو من هو يسلك هذا الطريق في الحجاج، فإنه يقال: ما الذي تدل عليه آية: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} إنها إن دلت على شيء فليس الذي تدل عليه أن الصيد هو المأكول. إذ هي قد أحلت شيئين صيدا وطعاما، فهما شيئان عامّ وخاصّ، فالأول الصيد مطلقا، والثاني طعامه، فهي تبيح الصيد انتفاعا وطعاما.
انظر إلى: {مَتاعاً لَكُمْ} أي نفعا، وهو أعمّ من أن يكون من طريق الأكل أو طريق الحلية مثلا، وأما قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً} فهو كقوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فإن دلت هذه على حل صيد غير المأكول دلت الأخرى، فنحن نرى أنّ هذه الآية التي ساقها الفخر دليلا لا تنهض دليلا على الدعوى.
قال الفخر بعد ذلك: وأما الخبر فهو الحديث المشهور، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «خمس فواسق لا جناح على المحرم أن يقتلهنّ في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والحية، والعقرب، والكلب العقور».
وفي رواية أخرى: «السبع العادي».
قال والاستدلال به من وجوه:
أحدها: أن قوله: «والسبع العادي» نص في المسألة.
ثانيها: أنه عليه الصلاة والسلام وصفها بكونها فواسق، ثم حكم بحلّ قتلها، والحكم المذكور عقيب الوصف المناسب مشعر بكون الحكم معلّلا بذلك الوصف.
وهذا يدل على أنّ كونها فواسق علة لحل قتلها، ولا معنى لكونها فواسق إلا كونها مؤذية، وصفة الإيذاء في السباع أقوى، فوجب جواز قتلها.
ثم أتى بوجه ثالث لا يخرج في المعنى عن الثاني وهو أن الشارع خصها بهذا الحكم لاختصاصها بمزيد الإيذاء، وصفة الإيذاء في السباع أتم، فوجب القول بجواز قتلها، وإذا ثبت جواز قتلها وجب أن لا تكون مضمونة.
وما ندري إذا أراد الفخر أن يستدل للحنفية فماذا يقول: إنه لا يقول ولا يفعل أكثر من أن يقول: وحجة الحنفية، ثم يذكر هذا الدليل، فإنك قد عرفت أن الحنفية يقولون: إن الصيد اسم عام يتناول المأكول وغير المأكول لا يخرج عنه شيء إلا ما أخرج الدليل، وقد أخرج الدليل الخمس الفواسق، لأنها فواسق، لا لأنها ليست بصيد، أو لأنها غير مأكولة، فهذا دليل للحنفية لا عليهم. وأما ما ذكر من الرواية الأخرى التي صرح فيها باسم «السبع العادي» فالحنفية لهم أن يقولوا: بل هم قد قالوا فعلا: إن صح هذا الحديث فنحن نقول بموجبه، فقد جاء في الحديث وصف السبع بالعادي، والعادي معناه الضاري، وهم يقولون بقتل كل ما يكون منه عدوان دفعا لعدوانه، وإضافة هذا الوصف دليل على أنه من غير الفواسق، وفي ذلك دليل على أنه إنما يحل قتله في حال ضراوته وعدوانه. والحنفية يقولون: إن السبع لو قتل في هذه الحال لا جزاء فيه، فأنت ترى أنّ هذه الحجة التي ساقها الفخر الرازي للتدليل على مذهب الشافعية لا تصلح دليلا على الدعوى.
وإنما يصلح دليلا لهم أن يقوم الدليل على أنّ الصيد خاصّ بالمأكول، فإن ثبت هذا كانت الآية حجة لهم، وإلا فهي ظاهرة في العموم حتى يقوم الدليل على الخصوص، وقد قال الفخر الرازي في الرد على بيت الإمام علي الذي استدل به الحنفية: إنه غير وارد، لأن الثعلب مأكول، فهو صيد، ونحن نقول به، والرد من هذه الجهة مقبول له أنه ثبت أنه إنما سماه صيدا لأنه مأكول، وهذه هي محل النزاع.
وعلى أي حال فالآية ظاهرها العموم حتى يقوم الدليل على الخصوص.
{وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} حرم جمع حرام، وقد قيل: إن المراد وأنتم محرمون بالحج، وقيل: بل المراد وقد دخلتم بالحرم، وقيل: هما مرادان بالآية، وعلى هذا المعنى الأخير فهذه الآية تدلّ على أنّ المحرم ممنوع من الصيد مطلقا داخل الحرم وخارجه، وعلى أنّ الحلال ممنوع من الصيد داخل الحرم.
{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ظاهر الآية ترتيب الجزاء المخصوص على القتل العمد، وقد اختلف السلف في ذلك على ثلاثة أقوال: فالجمهور على أنّ الجزاء يترتب على قتل الصيد مطلقا، سواء تعمّد القاتل قتله أو أخطأ فيه، وسواء كان ذاكرا لإحرامه أو ناسيا.
وإنما خصّ العمد بالذكر لأجل أن يرتّب عليه الانتقام عند العود، لأنّ العمد هو الذي يترتب عليه ذلك، دون الخطأ.
بقي أن يقال: هذا حكم العمد قد عرف من الآية وأنّ فيه الجزاء، فمن أين الجزاء في الخطأ.
قيل: إن جزاء الخطأ معروف من الدليل الذي يقرّر التسوية في ضمان المتلفات. إذ إنّ من قتل صيد إنسان عمدا أو خطأ في غير الحرم، أو أتلف مالا مملوكا لإنسان عمدا أو خطأ فعليه جزاؤه، فهذا حكم عام في جميع المتلفات. بل قد عرف في باب جنايات الإحرام بوجه خاص أنه لا فرق بين معذور وغير معذور في وجوب الفدية، وما الخطأ إلا عذر من الأعذار، غاية ما يؤثر في العقوبة الأخروية فيسقطها.
وإذا ثبت أن جناية الإحرام يستوي فيها المعذور وغير المعذور علمنا أن القتل العمد والخطأ في وجوب الجزاء سواء، وليس ذلك إثباتا للكفّارة بالقياس، بل بما ثبت به أن ضمان المتلفات يستوي فيه العمد والخطأ.
وذهب ابن عباس فيما رواه قتادة عنه: أنه لا شيء في الخطأ، وهو قول طاوس وعطاء ومجاهد في إحدى الروايتين عنه.
والرواية الأخرى أنّه إن قتله عامدا ناسيا لإحرامه، أو قتله خطأ ذاكرا لإحرامه فهذا الذي يحكم عليه بالجزاء. أما من قتله عامدا ذاكرا لإحرامه فهذا لا ينفعه الجزاء.
فقد أخرج ابن جرير عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمدا غير ناس لحرمه، ولا مريد غيره، فقد حل، وليس له رخصة، ومن قتله ناسيا إحرامه، أو أراد غيره، فذلك العمد المكفر.
وروى ابن أبي نجيح عنه أيضا في هذا المعنى قال: من قتله ناسيا لإحرامه متعمّدا لقتله، فذلك الذي يحكم عليه، فإن قتله ذاكرا لإحرامه متعمّدا قتله لا يحكم عليه، ولا حجّ له.
وفي رواية: هذا لا يحكم عليه. هذا أجلّ من أن يحكم عليه. وقال ابن زيد: أما الذي يتعمّد فيه، وهو ناس لحرمه، أو جاهل أن قتله غير محرّم، فهؤلاء الذين يحكم عليهم. فأما من قتله متعمدا بعد نهي الله، وهو يعلم أنّه محرم، وأنه حرام، فذلك يوكل إلى نقمة الله.
فهذه أقوال ثلاثة في قتل الصيد، وقد علمت أن الجمهور على الأوّل وعلمت وجهه. {فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} قرئ {فَجَزاءٌ} بالرفع والتنوين، والمعنى على هذه القراءة فالواجب جزاء مماثل للمقتول.
وقرئ: {فجزاء مثل} برفع جزاء مضافا إلى {مِثْلُ ما قَتَلَ} وظاهر هذه القراءة أنّ الجزاء إنما هو جزاء مثل المقتول لا جزاء المقتول.
قالوا: إن ذلك خارج مخرج: مثلك جدير بالإكرام، والمعنى أنت جدير بالإكرام، ومن ذلك قوله تعالى: {أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ} [الأنعام: 122] إذ المعنى كمن هو في الظلمات، ويجوز أن تكون الإضافة على معنى (من) والمعنى فجزاء من مثل ما قتل.
و{مِنَ النَّعَمِ} يحتمل أن يكون حالا من الجزاء، والمعنى فجزاء مماثل للمقتول حال كون الجزاء من النعم، وجوّز بعضهم أن يكون بيانا لما في قوله: {ما قَتَلَ} والمعنى عليه: فجزاء مماثل للمقتول حال كون المقتول من النعم، وأنت تعلم أن ذلك إنما يتم على رأي أبي عبيد والأصمعي اللذين يقولان: إن النعم كما يكون من الأهلي يكون من الوحشي، وهو خلاف المشهور، إذ إنّ المشهور أن النعم يطلق على الإبل وحدها، وعلى البقر والغنم مضمومة إلى الإبل، ويصح أن يكون حالا من الضمير في (قتل) وهو قريب من هذا المعنى.
وقد اختلف العلماء في المراد بالمثل، فقد روي عن ابن عباس أن المثل النظير، ففي الظبية شاة، وفي النعامة بعير، وكذا كل صيد قتل يجب فيه نظيره في المنظر، وهو مذهب محمد بن الحسن والشافعي ومالك والإمامية، وحجتهم أن الله أوجب مثل المقتول مقيّدا بكونه من النعم، فلابد أن يكون الجزاء مثلا من النعم، وذلك لا يكون إلا بأن يكون من الحيوانات التي تماثل المقتول، فلا تجب القيمة لأنّها ليست من النعم.
وقد أوجب الصحابة رضوان الله عليهم كعلي وعمر وعبد الله بن مسعود وغيرهم في النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، إلى غير ذلك. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أن الواجب هو قيمة الصيد المقتول باعتبار كونه صيدا قبل الصيد، يقوّم في المكان الذي صيد فيه، أو في أقرب الأماكن إليه، وفي زمان الصيد، لأنّ القيمة تتفاوت باعتبار المكان والزمان، وخلاف محمد إنما هو فيما له مثل، أما ما لا مثل له فالواجب القيمة عنده كما هي عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وأما الشافعي فقد روي عنه أنه يعتبر المماثلة ولو في الصفات، فأوجب في الحمامة شاة، لأنّ الحمامة تشبه الشاة في عب الماء وفي الهدير.
احتج أبو حنيفة وأبو يوسف: بأن الله أوجب مثل المقتول مطلقا، والمطلق ينصرف إلى الفرد الكامل منه، وذلك يكون فيما هو مماثل في الصورة والمعنى، وذلك إنما هو من المشارك في النوع، وإيجاب ذلك متعذر، لأنّ نوع الصيد صيد، وهو محذور، فننتقل منه إلى ما يقاربه، وهو المثل في المعنى، فوجب المصير إليه، وذلك لأنّه قد عهد في الشرع عند إطلاق المثل أن يراد المشارك في النوع أو القيمة، فقد قال الله تعالى في ضمان العدوان: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} والمراد من المثل النظير بالنوع في المثليات، والقيمة في القيميات، فهو مشترك معنوي، والحيوانات قد اعتبرها الشارع من القيميات للاختلاف الباطني في أبناء النوع الواحد، فأولى أن يراد بالمثل القيمة فيما اختلف نوعه.
وقد أهدر الشارع في ضمان المتلفات المماثلة الحاصلة في الصورة الظاهرة في أبناء النوع الواحد، فعدم اعتبارها فيما اختلف نوعه أظهر، ولسنا نقول إننا نعتبر القيمة ونصرفها نقدا، بل نحن نعتبرها معيارا تعرف بها قيمة الصيد، ثم يشترى بها ما يساويها من النعم إن بلغت هديا، وإلا أطعم بها مساكين، أو صام بمقدارها. فالمدار في الجزاء على المثل الذي هو القيمة، ليمكن أن يلجأ الحكمان إليها في تعيين الواجب من النعم.
ويستشهد الحنفية لمذهبهم بقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فإن الالتجاء إلى حكمين اثنين من عدول المسلمين إنما يكون في شيء تختلف أنظار الناس فيه، وذلك ليس إلا القيمة. فإنّ مقابلة الصفات الظاهرة من العبّ والهدير قد لا تخفى على أحد.
وللشافعي ومحمد رضي الله عنهما أن يقولا: بل الأمر على العكس، فلم يوجب الله في ضمان سائر المتلفات غير الصيد الالتجاء إلى الحكمين، لأنّ الوقوف على القيمة سهل، فأما الوقوف على المضاهاة والمشاكلة في صفات الحيوانات وهيئاتها وطبائعها مما لا يهتدي إليه إلا الخبير بهذه الصفات والطبائع، والخبير بهذه الأشياء في الناس قليل. وما نظن أحدا يشعر أنّ بين الحمامة والشاة شبها في العب والهدير إلا من درس طبائع الحيوان وخواصه، فمن أجل ذلك احتجنا إلى الحكمين.
{يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ} أي أنّ الجزاء الواجب يحكم به حكمان عدلان من المسلمين حال كون المحكوم به هديا بالغ الكعبة. {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ} أي من قتل صيدا فالواجب عليه جزاء مثله من النعم يبينه الحكمان، أو كفارة هي طعام مساكين {أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً} أو ما يساوي ذلك، أي الجزاء المماثل صياما يقدر لكل ما يساوي طعام مسكين صوم يوم، وما قل عن طعام المسكين يصوم عنه يوما، لأنّ الصيام لم يعهد في أقل من يوم.
وأنت ترى في الآية (أو) التي للتخيير، فأين التخيير يا ترى: أهو لمن وجب عليه الجزاء، أم هو للحكمين، ومتى حكما بشيء التزمه قاتل الصيد لا يتعداه.
قال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن الحكمين يقدران قيمة الجزاء، وأنه يساوي كذا من الهدي، وكذا من طعام المساكين، وكذا من الصيام، وقاتل الصيد مخيّر بين أيّها يفعل.
وقال محمد وهو محكيّ عن الشافعي أيضا: بل الخيار للحكمين، ومتى حكما بشيء والتزمه القاتل لا يتعداه.
ويريد أبو حنيفة: أن يأخذ من قوله: (هديا) دليلا على أنّ الواجب في الجزاء القيمة، لأن الهدي لم يعرف إلا فيما تجوز به الضحايا، وهو الجذع من الضأن، والثني من غيره، لأنّ مطلق اسم الهدي ينصرف إليه، كما في هدي المتعة والقران.
ولمحمد والشافعي أن يقولا: إن اسم الهدي قد يطلق على كل ما يهدى، وقد تأيّد هذا المعنى عندهما بما روي من أن الصحابة أوجبوا عناقا وجفرة.
وأبو حنيفة يجيب عما ورد من فعل الصحابة: بأنهم إنما أوجبوه طعاما لا هديا، وأبو حنيفة يجيز أن يكون الإطعام من الصغار التي لا تصلح للضحايا على أنها طعام لا هدي.
هذا وقد دلت الآية الكريمة على أنّه إذا كان الجزاء هديا فلابدّ أن يبلغ الكعبة، فيذبح هناك.
قال العلماء: والمراد من الكعبة الحرم، وإنما خصّت بالذكر للتعظيم، فلو ذبحه في غير الحرم كان إطعاما. والإطعام كما يكون في الحرم يكون في غيره، وقد نقل عن الشافعي أنّ الإطعام كذلك اعتبارا بالهدي.
ومحلّ إثبات ذلك أو نفيه في الفقه، لأنّ الآية لم تقيّد الإطعام بكونه بالغ الكعبة.
{لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ} أي شرعنا ما شرعنا من الجزاء على قتل الصيد ليذوق القاتل وبال أمره.
والوبال في الأصل الثقل، ومنه الوابل للمطر الكثير، والوبيل للطعام الثقيل الذي يعسر هضمه، والمرعى الوخيم.
والمعنى شرعنا ذلك ليذوق من قتل الصيد ثقل فعله وسوء عاقبته.
{عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} لكم من الصيد وأنتم محرمون، فلم يجعل فيه إثما، ولم يوجب فيه جزاء، ولم يؤاخذكم على ما كان منكم في الجاهلية من ذلك، مع أنه ذنب عظيم، حيث كنتم على شريعة إسماعيل، وقد كان الصيد فيها محرّما.
{وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ} أي ومن عاد إلى قتل الصيد بعد ورود النهي فالله ينتقم منه، وهو العزيز الذي لا يغالب، المنتقم الذي لا يدفع انتقامه.
والمراد بالانتقام الانتقام في الآخرة.
وأما الكفارة فقد أوجبها الجمهور على العائد، فيتكرر الجزاء عندهم بتكرر القتل، وهو مذهب عطاء والنخعي والحسن وابن جبير.
وروي عن ابن عباس وشريح أنه إن عاد لم يحكم عليه بكفارة، حتى إنهما كانا يسألان المستفتي هل أصبت شيئا قبله؟ فإن قال: نعم، لم يحكم عليه، وإن قال: لا، حكم عليه. وهم في هذا الذي ذهبوا إليه يتمسكون بظاهر الآية.
والجمهور يقولون: إن عذابه والانتقام منه في الآخرة لا ينافي وجوب الجزاء عليه، وإنما لم ينصّ عليه لعلمه مما تقدم.