فصل: تفسير الآية رقم (28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (28):

قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)}.
الأكثرون على أن لفظ المشركين خاصّ بعباد الأوثان. وقال قوم: يتناول جميع الكفار، ويدل لهذا القول قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} [النساء: 48] أي لا يغفر أن يكفر به، وهذا هو الظاهر.
والنجس- بفتح الجيم- مصدر.
والعيلة: الفقر والفاقة.
نهى الله المؤمنين عن أن يقرب المشركون المسجد الحرام، أي عن تمكينهم من قربان المسجد الحرام، وعلّل هذا بأنهم نجس، إما لخبث باطنهم، أو لأن معهم الشرك المنزل منزلة النجس الذي يجب اجتنابه، أو لأنهم لا يتطهرون، ولا يغتسلون، ولا يجتنبون النجاسات.
وقوله: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ} هذا تفريع على نجاستهم، واختلف العلماء في المراد بالمسجد الحرام فقال عطاء: الحرم كله قبلة ومسجد، فليس المراد خصوص المسجد الحرام، وإنما المراد منعهم من دخول المسجد الحرام ومكة والحرام. وقيل: المراد خصوص المسجد الحرام وهو مذهب الشافعية أخذا بظاهر اللفظ، وقيل المراد المسجد الحرام بالنص، وبقية المساجد تقاس عليه، لأن العلّة، وهي النجاسة، موجودة في المشركين، والحرمة موجودة في كل مسجد- وهو مذهب المالكية- فلا يجوز تمكينهم من دخول المسجد الحرام والمساجد كلها.
وقيل: ليس المراد النهي عن دخول المسجد الحرام، وإنما المراد النهي عن أن يحج المشركون ويعتمروا كما كانوا يعملون في الجاهلية- وهو مذهب الحنفية- ويؤيد ذلك أمور:
1- قوله: {بَعْدَ عامِهِمْ هذا} فإنّ تقييد النهي بذلك يدل على اختصاص المنهي عنه بوقت من أوقات العام، أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا، وهو العام التاسع من الهجرة.
2- قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حين نادى بسورة براءة: ألا لا يحجّ بعد عامنا هذا مشرك.
3- قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ} فإنّ خشية العيلة تكون بسبب انقطاع تلك المواسم، لمنع المشركين من الحج والعمرة، لأن المؤمنين كانوا ينتفعون بالتجارات التي تروج في مواسم الحج.
4- إجماع المسلمين على منع المشركين من الحج والوقوف بعرفة والمزدلفة وسائر أعمال الحج، وإن لم تكن في المسجد.
وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي إن خفتم فقرأ بسبب منعهم من الحج وانقطاع ما كانوا يجلبونه إليكم من الأرزاق والمكاسب، فسوف يغنيكم الله.
وهذا الجزاء إخبار عن غيب في المستقبل وقد وقع الأمر مطابقا لهذا الخبر، فقد أسلم الناس من أهل جدة، وصنعاء وحنين وتبالة وجرش وكثر ترددهم على مكة بالتجارات وحمل الطعام وما يعاش به، وقد أرسل الله عليهم السماء مدرارا، فكثر خيرهم، واتسعت أرزاقهم، وتوجه الناس إليهم من أقطار الأرض.
والتعبير بالمشيئة في قوله: {إِنْ شاءَ} لتعليم رعاية الأدب مع الله تعالى كما في قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] وللإشارة إلى أنه لا ينبغي الاعتماد على أنّ المطلوب يحصل حتما، بل لابد من أن يتضرع المرء إلى الله تعالى في طلب الخيرات، وفي دفع الآفات {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} بأحوالكم و{حَكِيمٌ} يعطي ويمنع عن حكمة وصواب.
وهاهنا أمور:
1- أنه علم مما تقدم أنه لا يجوز تمكين المشرك من دخول المسجد الحرام فقط عند الشافعية، ومن دخول المسجد الحرام والمساجد كلها عند المالكية، ويستثنى من ذلك حالة العذر، كدخول الذمي المسجد للتقاضي أمام الحاكم المسلم.
وأباح الحنفية دخول الذمي المساجد كلها.
2- نقل صاحب الكشاف عن ابن عباس أنّ أعيان المشركين نجسة كالكلاب والخنازير تمسكا بهذه الآية، ولكن اتفق الفقهاء على خلاف ذلك، وأن أبدانهم طاهرة للإجماع على أنهم لو أسلموا كانت أجسامهم طاهرة، مع أنّه لم يوجد ما يطهرها من الماء أو النار أو التراب أو مثل ذلك. ويدل له أيضا أنّه عليه الصلاة والسلام كان يشرب من أواني المشركين.
3- قيل الفضل في قوله: {يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} هو حمل الطعام إلى مكة من البلاد التي أسلم أهلها كجدة وصنعاء كما تقدم، فإنّه سد حاجتهم وأغناهم عما في أيدي المشركين، وقيل: المراد به الجزية، وقيل: الفيء.

.تفسير الآية رقم (29):

قال الله تعالى: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29)}.
أمر الله المسلمين في الآيات السابقة بقتال أهل الشرك، وعدم تمكينهم من المسجد الحرام، وفي هذه الآية أمر الله بقتال أهل الكتاب- التوراة والإنجيل- إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية، وبيّن أن العلة في لزوم قتالهم أمور:
الأول: أنّهم لا يؤمنون بالله ما داموا على حالتهم التي هم عليها، فإنّ اليهود يعتقدون أنّ الإله جسم، مع أن الإله الحق منزه عن الجسمية والشبيه، فهم لا يؤمنون بوجود الإله الحق المنزه عن الجسمية.
والأنصاري يعتقدون أن الإله حلّ في عيسى، مع أنّ الإله الحق منزّه عن الحلول في غيره، فهم لا يؤمنون بوجود الإله الحق المنزه عن الحلول في غيره.
الثاني: أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر على الوجه الذي وردت به الآيات والنصوص، فإنهم يعتقدون بعث الأرواح دون الأجسام، ويرون أنّ أهل الجنة لا يأكلون ولا يشربون، ولا يتمتعون بالحور العين، ولا يرون وجود أنهار ولا أكواب ولا أشجار مما وردت به النصوص، ويقولون: إنّ نعيم الجنة وعذاب النار معان تتعلّق بالروح فقط، كالسرور والهم، فهم لا يؤمنون باليوم الآخر على الوجه الذي وردت به النصوص.
الثالث: أنّهم لا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله محمد عليه الصلاة والسلام في الكتاب والسنة. وقيل: المراد برسوله الذي يزعمون اتباعه، وهو موسى وعيسى عليهما السلام لليهود والنصارى، بل حرّفوا التوراة والإنجيل، وأتوا بأحكام من عند أنفسهم، فهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادا وعملا.
الرابع: أنهم لا يدينون دين الحق، أي لا يتخذون دين الحق دينا يعتقدون ويعملون بأحكامه، وهو الإسلام الناسخ لسائر الأديان بصريح قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} [آل عمران: 19] وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85].
والتعبير عن اليهود والنصارى بالاسم الموصول للدلالة على أن الصلة علّة في الحكم، فالعلة في وجوب قتالهم أنه لم يؤمنوا بالله واليوم الآخر إلخ، وقال: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} ليبيّن أنّ المراد بالذين لا يؤمنون بالله إلخ هم أهل الكتاب، والغرض تمييزهم عن المشركين في الحكم، لأنّ الواجب في المشركين القتال إلى أن يسلموا، وأما الواجب في أهل الكتاب فهو القتال أو الإسلام أو الجزية، وقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ} غاية لانتهاء القتال.
والجزية: اسم لما يعطيه المعاهد على هذه، مأخوذة من: جزى الرجل العامل أجره يجزيه، إذا أدّى ما وجب عليه للعامل من أجره، فكذلك إذا أدّى المعاهد الجزية فقد أدّى ما وجب عليه. وقوله: {عَنْ يَدٍ} يحتمل أن يراد باليد يد المعطي أو يد الآخذ. فإن أريد يد المعطي كان المعنى حتى يعطوا الجزية إعطاء لا تمتنع يدهم عن أنّ تمتد به، فيكونون منقادين طائعين، فإنّ من أبى وامتنع لا يعطي يده، ومن انقاد وأطاع أعطى يده.
ولهذا يقول: أعطى يده إذا انقاد وأطاع، ونزع يده إذا خرج عن الطاعة.
ويصح أن يكون المعنى: حتى يعطوا الجزية عن يد المعطي إلى يد الآخذ، والمراد حتى يعطوها بأيديهم نقدا لا نسيئة ولا مبعوثة على يد أحد.
وإن أريد يد الآخذ كان المعنى حتى يعطوا الجزية إعطاء ناشئا عن قهر يد قاهرة مستولية عليهم، وهي يد المسلمين، أو كان المعنى حتى يعطوا الجزية إعطاء ناشئا عن يد، أي عن إنعام عليهم، لأن قبول الجزية منهم، وترك أرواحهم نعمة عظمى تسدى إليهم.
وقوله: {وَهُمْ صاغِرُونَ} معناه أن يعطوا الجزية وهم بحالة الصّغار والذل، فلا يقبل منهم أن يتأففوا، أو يظهروا السخط على ولاية المسلمين، أو يرموهم بالظلم والاستبداد، ولا يعقل أن يعطى المعاهدون الجزية على هذه الحالة إلا إذا كان ولاة المسلمين على استعداد تام في أمر القوة المادية، بحسب ما يناسب الزمان والمكان، وفي القوة المعنوية، بحيث تكون التربية العامة لجماعة المسلمين مما تربي فيهم ملكة التيقظ والعزة والشجاعة والعصبية والتراحم فيما بين أفراد المسلمين بعضهم مع بعض، إلى آخر ما ورد في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

.تفسير الآية رقم (36):

قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)}.
عدّة القوم جماعتهم، وعدّة المرأة أقراؤها، وأيام إحدادها على زوجها. ومن الأول قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} أي جماعتها، والقيم الذي يتولى إصلاح غيره.
والمستقيم الذي لا عوج فيه. والدين الإسلامي قيم يصلح من تمسك بمبادئه وأحكامه، وهو في ذاته أحكام مستقيمة لا عوج فيها، صالحة لكل زمان ومكان.
كان اليهود والنصارى وغيرهم من الطوائف التي ليست عربية يعتمدون في معاملاتهم وأعيادهم على السنة الشمسية. وكانت السنة الشمسية ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم. وفي كل أربع سنوات يتكوّن من الكسر عندهم يوم كامل، فتكون السنة ثلاثمائة وستة وستين يوما، وفي كل مئة وعشرين سنة تزيد السنة شهرا كاملا، فتكون السنة ثلاثة عشر شهرا، وتسمى كبيسة.
وكانت الأمة العربية تعتمد في معاملاتها وعبادتها على السنة القمرية، وكانت السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وكسرا. ولم يكن للكسر حكم. وقد توارثوا التعامل بذلك عن إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام.
وقد وردت الشريعة الإسلامية بمراعاة السنة القمرية في آيات كثيرة منها هذه الآية التي معنا حيث يقول الله فيها: {مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} والأشهر الحرم من الشهور القمرية، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرّم. ومنها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ} [يونس: 5] فجعل تقدير القمر بالمنازل علة لمعرفة السنوات والحساب، وهو إنما يصح إذا كانت السنة معلقة بدورة القمر، ومنها قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] ولهذا كانت السنة القمرية وشهورها العربية هي التي يعتد بها عند المسلمين في صيامهم ومواقيت حجهم وأعيادهم ومعاملاتهم وأحكامهم.
وباعتبار نقصان السنة القمرية عن الشمسية أحد عشر يوما تقريبا تنتقل الشهور العربية من فصل إلى فصل، فيكون الحج واقعا في الشتاء مرة وفي الصيف مرة أخرى. وكان الأمر يشق على العرب أيام الجاهلية بهذا السبب، وكذلك كانوا إذا حضروا للحج حضروا للتجارة أيضا، وربما يكون الوقت غير مناسب لحضور التجارات من أطراف البلاد، فيختل بذلك نظام تجارتهم، وكان كثير من العرب يخالط الطوائف الأخرى فتعلموا منهم الاعتماد على السنة الشمسية، فأقدموا على الكبس بتكميل النقص الذي في السنة القمرية لتساوي السنة الشمسية، واعتبروا ذلك مبررا لاعتمادهم على السنة الشمسية، فاختاروا للحج وقتا معينا لمصلحتهم، لينتفعوا بتجاراتهم وعباداتهم ومصالحهم.
وكانوا مع هذا يجعلون شهر المحرم مثلا حلالا عام وحراما في عام آخر، بحسب رغباتهم، وكانوا يؤخّرون الشهور، ويقدمونها بحسب أسمائها تبعا لغايتهم.
فإذا كانوا في حرب، ودخل شهر رجب مثلا، قالوا: نسميه رمضان، ونطلق اسم رمضان على رجب. وهذا الأخير هو النسيء الذي اخترعوه. وهو وإن كان سببا لحصول مصالحهم الدنيوية إلا أنه يستلزم تغيير حكم الله تعالى فيما تعبدهم به.
كما أنهم اخترعوا الكبس بطريقة غير التي كانت عند غيرهم. فكانوا لتكميل النقص الذي في السنة القمرية عن الشمسية يزيدون في كل ثلاث سنوات شهرا، لتكون السنة قمرية شمسية. ولكل هذا استوجبوا الذم العظيم، ونزلت هذه الآية، أي {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} في علمه تعالى: {اثْنا عَشَرَ شَهْراً} لا أكثر ولا أقل، للرد على ما أقدم على الزيادة، فمن حكم على بعض السنوات بأنها صارت ثلاث عشر شهرا فقد جرى على خلاف حكم الله، وأبطل كثيرا من العبادات المؤقتة.
وهذه العدة للشهور ثابتة في علمه تعالى، و{فِي كِتابِ اللَّهِ} أي في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه ما كان وما يكون. أو فيما كتبه الله وأوجب على عباده الأخذ به، وكذلك هي ثابتة في اليوم الذي خلق الله فيه السموات والأرض.
وقوله: {مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}- جمع حرام- أي أربعة محرّمة حرّم فيها بعض ما كان مباحا في غيرها، أو هي ذات حرمة تمتاز بها عن بقية الشهور، فقد ورد أنّ المعصية فيها أشد عقابا، وأنّ الطاعة فيها أعظم ثوابا. ولله تعالى أن يعظّم من الأزمان والأمكنة والناس ما شاء لا معقب لحكمه، فقد ميّز البلد الحرام عن سائر البلاد، وميّز يوم الجمعة ويوم عرفة عن سائر الأيام، وميّز شهر رمضان عن بقية الشهور، وميّز بعض الليالي كليلة القدر، وبعض الأشخاص بإعطائه الرسالة. وهذا غير مستبعد، لأنه لا مانع من أن يعلم الله تعالى أنّ وقوع الطاعة في هذه الأوقات أكثر تأثيرا في طهارة النفوس وأنّ وقوع المعاصي فيها أقوى تأثيرا في خبث النفس.
وأجمع العلماء على أنّ ثلاثة من الأشهر الحرم متوالية وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب. وقد أشير إلى ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في خطبة طويلة في حجة الوداع: منها أربعة حرم أولهن رجب مضر، بين جمادى وشعبان، وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
وقوله: {ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} تحريم الأشهر الحرم هو الدين القيم. أي الحكم الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج، بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية. فمعنى كونه قيّما أنه قائم لا يبدل ولا يغير، ودائم لا يزول، فلا يجوز نقل تحريم المحرم مثلا إلى صفر. وذلك للرد على ما كان يعمله أهل الجاهلية من تقديم بعض أسماء الشهور، وتأخير البعض.
{فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ} أي في الأشهر الحرم {أَنْفُسَكُمْ} بأن تعملوا النسيء، فتنقلوا الحج من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه، إلى شهر آخر، وتغيّروا حكم الله تعالى.
أو المراد النهي عن جميع المعاصي بسبب ما لهذه الأشهر من مزيد الأثر في تعظيم الثواب والعقاب، كما أشير إلى ذلك بقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]. فهذه الأشياء لا تجوز في غير هذه الأشهر، إلا إنه أكّد في المنع منها فيها تنبيها على زيادتها في الشرف.
{وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} نهاهم الله تعالى عن أن يظلموا أنفسهم في الأشهر الحرم. وأمرهم بقتال المشركين من غير تقييد بزمن، فيدلّ النص بظاهره على أن القتال في الأشهر الحرم مباح، ولهذا نقل عن عطاء الخراساني أنه قال: أحلّت القتال في الأشهر الحرم {بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} يشير إلى ما فيها من قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ومن قوله: {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} وأما آيات البقرة الدالة على تحريم القتال في الأشهر الحرم فهي منسوخة بآيات التوبة، لأنّ سورة التوبة نزلت بعد سورة البقرة بسنتين. ويدل له أنه عليه الصلاة والسلام حارب هوازن بحنين وثقيفا بالطائف في شهر شوال وبعض ذي القعدة.
وسئل سعيد بن المسيب هل يصح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام؟ قال: نعم. وهو المنقول عن قتادة والزهري وسفيان الثوري، ولكل هذا كان القول بإباحة القتال في الأشهر الحرم هو الذي عليه المعوّل.
وقوله: {كَافَّةً} حال من الفاعل أو من المفعول، والمعنى على الأول: قاتلوا المشركين حال كونكم جميعا متعاونين غير متخاذلين، كما يقاتلونكم مجتمعين متعاونين غير متخاذلين.
والمعنى على الثاني: قاتلوا المشركين حال كونهم جميعا لا فرق بين طائفة وطائفة، ما يقاتلونكم جميعا من غير مراعاة فريق منكم دون فريق.
وكلمة {كَافَّةً} من الكلمات التي توحد وتؤنث بالهاء لا غير، فلا تثنّى ولا تجمع ولا تذكّر كالخاصة والعامة.
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي مع أوليائه الذين يخافون من غضبه، ويتخذون وقاية من مخالفة أمره. وهو معهم بالنصر والمعونة فيما يباشرونه من القتال وغيره. ووضع المظهر موضع المضمر للثناء عليهم بالتقوى، ولحثّ القاصرين عليها، وللإشعار بأنها المدار في الفوز والفلاح.