فصل: تفسير الآية رقم (32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (32):

قال الله تعالى: {ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)}.
الشعائر: العلامات التي تعرف بها الأشياء، فهي تشعر بها وتدل عليها، وقد اختلف في المراد بها هنا: فقيل: إنها الدين كله أوامره ونواهيه، فهي شعائر الله، لأنّ امتثالها والوقوف عند حدودها يدل على الطاعة لله تعالى، والإخلاص له. وقد اضطر من يقول بهذا أن يفسّر البيت العتيق في قوله جلّ شأنه: {ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} بالجنة، وهو كما ترى بعيد.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما والإمام مالك والحسن: إنها عرفة، ومنى والصفا والمروة، والبيت الحرام، وغيرها من مواضع الحج، وهو لا يخلو من شيء، فإن الله تعالى قال في شأنها: {ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} والمحلّ في الحج قد اشتهر في المكان الذي تذبح فيه الهدايا كما سيأتي. فالظاهر أنّ المراد بالشعائر الأنعام التي تساق هديا للكعبة، كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما وسميت بذلك لأنّها تدل على الحج، أو على طاعة سائقيها لله تعالى، وتعظيمها يكون بأن تختار سمينة حسنة غالية الأثمان.
والتقوى هي الخشية التي تبعث على اتباع الأوامر واجتناب المناهي. ولا يخفى عليك أنّ الضمير في كلمة {فَإِنَّها} عائد على الشعائر، وهي لا تصلح أن تكون بعضا من التقوى إذا كانت (من) للتبعيض، ولا أن تكون ناشئة من التقوى إذا كانت (من) للابتداء، فلابد من تقدير يصلح لذلك. كما أنك تعلم أنه لابد من رابط في قوله: {فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} يعود على المبتدأ، وهو (من) فيكون مآل الكلام هكذا: ذلك ومن يعظّم شعائر الله فإنّ تعظيمه إياها من تقوى القلوب.
هذا ويصحّ في ضمير (فإنها) أن يكون راجعا إلى حالة المعظّم التي يدل عليها الفعل السابق في الآية، وعلى هذا فلا يحتاج إلا إلى الرابط فقط، والمعنى أنّ من يعظّم الأنعام التي يسوقها للحرم، فيختارها سمانا حسانا، فإن تعظيمه إياها لا محالة ناشئ من التقوى الحقيقية، ودليل على أنه يخشى الله خشية تمكّنت من قلبه، فهو بتعظيمها قد جمع بين مظهر الخشية وحقيقتها، فعمله هذا هو عمل المخلصين، وليس كعمل المنافقين، الذين يأتون بصور الأعمال من غير أن يكون في قلوبهم شيء من الإخلاص. يدل على هذا إضافة التقوى إلى القلوب.
ولا شك أن الإخلاص والتقوى والخشية هي غاية ما يتمنى الإنسان أن يدركه في هذه الدنيا، ليصل به إلى سعادة الآخرة.
وإخبار الله تعالى بثبوت التقوى لمن عظّم تلك الشعائر من شأنه أن يحرك الناس، ويبعثهم على الاهتمام بأمرها، والعناية بتخيرها، والفرح بسوقها.
ويؤكد هذا المعنى إضافة هذه الشعائر إليه تعالى.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم أهدى مئة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب أي حلقة من ذهب.
وروي أن عمر رضي الله عنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار. وكان قد سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يبيعها ويشترى بثمنها بدنا فنهاه عن ذلك، وقال: بل أهدها، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسوق البدن مجلّلة بالقباطي، فيتصدق بلحومها وجلالها.

.تفسير الآية رقم (33):

قال الله تعالى: {لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)}.
{مَنافِعُ} الظاهر أنّ المراد بها المنافع الدنيوية من الركوب والدّر والصوف والوبر، ليكون قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ} مفيدا معنى جديدا. فإنّ الخير ظاهر في ثواب الآخرة، فيكون في الأنعام التي تساق هديا إلى الكعبة منافع دنيوية ومنافع أخروية.
أما الأجل المسمى فقد اختلف في معناه، فقال الإمام الشافعي: إنّه وقت نحرها، وهو مروي عن عطاء.
وقال الحنفية: إنه وقت تعيينها وتسميتها هديا، كما روي عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد، وقتادة.
والمحل بالكسر من حلّ الشيء يحلّ بالكسر حلولا إذا وجب، أو انتهى أجله، وفي الحديث: «حلّت له شفاعتي».
وجبت. ويقال: حل الدين: انتهى أجله، فالمحل في الآية مكان الحلول، أي المكان الذي ينتهي فيه أجل تلك الأنعام، أو المكان الذي يجب ذبحها فيه.
ومعنى أن محلها إلى البيت العتيق أنّ المكان الذي تذبح فيه الهدايا منته إلى البيت العتيق، ومتصل به، إذ هو الحرم، ولا شك أن الأمر كذلك، فإنّه ليس نفي البيت، ولا ما حوله من المسجد، إذ لا يحل الذبح فيهما، والمحل بهذا المعنى هو المراد في الآيات الأخرى، منها قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وقوله جلّ شأنه: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] وهو المعين في قوله عزّ اسمه: {هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وعلى هذا يكون المعطوف بثم في الآية كلاما تاما أريد به بيان المكان الذي تذبح فيه الهدايا، بعد ما بين حكم تعظيمها والانتفاع بها إلى الأجل المعين، وقيل: إنّ المراد بالمحل نفس الحلول بمعنى الذبح، وقيل أيضا: إنّ المحل زمان الحلول. وعلى هذين القولين يكون محلها معطوفا على منافع، ويكون قوله تعالى: {إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} حالا من الضمير في محلها. والتقدير لكم فيها منافع دنيوية إلى أجل مسمى وبعده لكم منفعة دينية مقتضية للثواب الأخروي، وهو وجوب نحرها، أو وقت نحرها، وفي ذلك مبالغة، حيث جعل وقت النحر نفسه منفعة، والظاهر الأول.

.ما في الآية من الأحكام وأقوال العلماء في ذلك:

قد علمت أنّ الشافعية فسّروا الأجل المسمى في الآية بوقت نحر الهدي، وعلى هذا قالوا بجواز الانتفاع بالشعائر بعد سوقها حتى تنحر، وقالوا أيضا: إنما يجوز الانتفاع إذا كانت هناك حاجة تدعو إليه، ولو لم تصل لدرجة الاضطرار.
أما الانتفاع بغير حاجة فلا يجوز، فلو احتاج لشيء من لبنها ولو لم يصل إلى درجة المخمصة فله أن يشرب منه، وكذلك إذا كان يعلم أنّ صوفها أو وبرها يضرها، فله أن يجزّه وينتفع به، وليس عليه قيمته للفقراء، قالوا: والأولى أن يتصدق به عليهم. هذا هو المشهور من مذهبهم، وعندهم رواية أخرى عن الإمام الشافعي أنه لا يجوز الانتفاع إلا للمضطر.
أما الحنفية فإنهم يفسّرون الأجل المسمى في الآية بوقت سوقها. فلا يجيزون الانتفاع بها بعد السوق إلا في حالة الاضطرار.
وقال بعضهم: إنه يجوز الانتفاع بها مطلقا في حالتي الاختيار والاضطرار.
ونقل ابن عبد البر عن بعض أهل الظاهر القول بوجوب الركوب.
ولمن أجاز مطلقا حجج:
1- قد أثبتت الآية منافع في الشعائر، وأباحت الانتفاع بها، وهي لا تكون شعائر إلا بعد سوقها هدايا، وتعيينها لذلك، فيلزم أن يكون الانتفاع بها بعد السوق أيضا.
2- ثمّ إنّ الآية لم تقيّد جواز الانتفاع بحالة دون أخرى، فالتقييد بحالة الاضطرار كما يقول الحنفية، أو بالحاجة كما هو مشهور مذهب الشافعية زيادة ليست في الآية.
3- ثم إنّ الأحاديث الواردة في ذلك مطلقة أيضا، فقد روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا يسوق بدنة، فقال: «اركبها» قال: إنّها بدنة. قال: «اركبها» قال: إنّها بدنة قال: «اركبها» ثلاثا. متفق عليه.
وروي عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول- في البدنة-: «اركبها بالمعروف».
فالحديثان مطلقان كالآية فيجوز الانتفاع بالبدنة على كل حال، وإذا فلا يكون فرق بين البدنة والناقة التي لم يسقها، فليس عليه فيما ينتفع به من ذلك ضمان.
حجة الشافعية: استدلّ الشافعية بما أورده المجيزون في دليلهم الأول، وبأنّ إطلاق الآية يجب أن يقيّد بما ورد من الأحاديث التي تفيد أنّ الإباحة تثبت للحاجة: من ذلك: ما رواه أحمد والنسائي عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلا يسوق بدنة، وقد أجهده المشي فقال: «اركبها» قال: إنّها بدنة. قال: «اركبها، ولو كانت بدنة».
وروي عن جابر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرا».
فهذان الحديثان يدلان على أنّ الإباحة إنما كانت لمسيس الحاجة إلى الانتفاع. قالوا: وعلى هذا يجب أن تحمل الآية والأحاديث المطلقة جمعا بين الأدلة.
ثم إنه ليس في كل ذلك دليل على وجوب ضمان شيء من منافع الهدي، فلا يضمن المنتفع شيئا منها للفقراء، نعم إذا كان الركوب ينقص قيمتها نقصا بينا فعليه ضمان هذا النقص.
حجة الحنفية: قال الحنفية ينبغي أن تحمّل الشعائر في الآية على الأنعام التي يراد سوقها للكعبة، لا على البدن التي سيقت بالفعل، فهي مجاز بقرينة إيقاع التعظيم عليها، فإنّ الآية ندبت إلى تعظيمها. ولا شك أنّ من تعظيمها تخيّرها سمينة حسنة، وذلك إنما يكون قبل سوقها وتعيينها هديا وهذه الأنعام التي تكون هديا بالسوق هي التي أباح الله الانتفاع بها إلى الأجل المسمى.
ثم إنه ينبغي تفسير الأجل المسمى بوقت سوقها لا وقت نحرها، لأنّ صاحبها قد جعلها بالسوق خالصة لله تعالى، فقد خرجت عن ملكه بذلك فلا يجوز له حينئذ أن ينتفع بشيء منها إلا عند الضرورة، وما انتفع به كان حقا للفقراء يجب أن يعوضهم منه مقدار قيمته.
يشهد لهذا ما ورد من الأحاديث التي قيّدت جواز الانتفاع بحالة الضرورة، فيجب أن يحمل غيرها عليها جمعا بين الأدلة. من ذلك ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر: أنه سئل عن ركوب الهدي فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا».
فمن هذا يعلم أن الجواز خاصّ بحالة الضرورة، فإنّ الإلجاء إلى ركوبها هو الاضطرار إليه. وقالوا أيضا: إن ركوبها ينافي تعظيمها، إذ في الركوب امتهان واستهانة ظاهرة، مع أنّ تعظيمها مطلوب بنفس الآية، وإذا فلا يركبها إلا إذا ألجئ.
حجة القائلين بالوجوب: استدل القائلون بالوجوب بظاهر الأمر بالركوب فيما سبق من الأحاديث. وقالوا أيضا: إنّ في ركوبه مخالفة لما كان يصنعه أهل الجاهلية من مجانبة البحيرة والسائبة والوصيلة. وهو مردود بأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يركب هديه، ولم يركبه غيره، ولم يأمر الناس جميعا بركوب هداياهم، إلا ذلك المضطر، كما تقدم، فدل ذلك على عدم الوجوب.
أما المالكية فالمشهور من مذهبهم أنه يكره الانتفاع بالبدن بركوبها ووبرها ولبنها، ولو كان لبنها فاضلا عن حاجة أولادها، والوجه فيه ظاهر، ومذهبهم على هذا قريب من مذهب الحنفية.
وقال النووي من الشافعية والزيلعي من الحنفية: إنّ الإمام مالكا يقول بجواز ركوب البدن، ولو من غير حاجة، فلو صحّ هذا فالحجج المتقدمة ناطقة بخلافه.
هذا والظاهر من قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أنّ جميع الهدايا يجب أن تذبح في هذا المحل، سواء في ذلك ما تعلّق وجوبه بالإحرام، كما في جزاء الصيد والفدية ودم التمتع ودم الإحصار، وما التزمه الإنسان كما في الدم الذي يتطوّع به إلى الحرم، أو ينذره كذلك.