فصل: تفسير الآيات (4- 5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآيات (4- 5):

.حد القذف:

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}.
أصل الرمي: القذف بشيء صلب، يقال: رمى فلانا بالحجر ونحوه: قذفه به، ورمى الحجر: ألقاه، واستعمال الرمي في الشتم مجاز، وهو المراد هنا، والقرينة قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ} لأنّ الإتيان بالشهادة هنا في مصلحة الرامين، وليس من المعقول أن يكون من مصلحتهم الإتيان بأربعة يشهدون بأنهم رموا المحصنات بالحجر أو نحوه، فتعيّن أن يكون المراد أنّهم يشتمون المحصنات ويرمونهم بالعيب، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يشهدون على صدقهم فيما رموا به المحصنات من العيب. ثم المراد بذلك العيب الزنى، ويدلّ عليه إيراد الجملة عقيب الكلام في الزنى وأحكامه.
والتعبير عن المفعول بالمحصنات، وأشهر معاني الكلمة العفيفات المنزّهات عن الزنى، فكأنه قيل: يرمون المنزهات عن الزنى، ويكاد هذا يكون صريحا في أنّ المراد يرمونهم بالزنى، ثم اشتراط أربعة من الشهود مع العلم بأنه لا شيء يتوقف ثبوته على شهادة أربعة إلا الزنى يقوّي أنّ المراد الرمي بالزنى.
وأصل الإحصان: المنع، والمحصن بالفتح يكون بمعنى الفاعل والمفعول، وهو أحد الكلمات الثلاث التي جاءت نوادر يقال: أحصن فهو محصن، وأسهب فهو مسهب، وأفلح- إذا افتقر- فهو مفلح، والفاعل والمفعول في هذه الأحرف الثلاثة سواء.
والمفهومات التي يطلق عليها لفظ الإحصان أربعة: فالمرأة تكون محصنة: بالعفاف والإسلام، وبالحرية، وبالتزوج. وكذلك الرجل.
والصور التي يتحقق بها القذف أربع: فقد يكون القاذف والمقذوف رجلين، وقد يكونان امرأتين، وقد يكون القاذف رجلا والمقذوف امرأة، وقد يكون القاذف امرأة والمقذوف رجلا. فهل نستطيع أن نأخذ من الآية أحكام الصور الأربع؟ لا شك أنّ الآية جعلت الرامي من جنس الرجال، والظاهر أنّ المراد من المحصنات النساء المحصنات، وحينئذ تكون الآية تعرّضت بالنص لصورة واحدة من الصور الأربع، وهي أن يكون القاذف رجلا والمقذوف امرأة.
أما حكم الصور الثلاث الباقية فإنما يثبت بدلالة النص، للقطع بإلغاء الفارق، وهو صفة الأنوثة في المقذوف، وصفة الذكورة في القاذف، واستقلال دفع العار بالتأثير في شرع الحكم، وحينئذ يكون تخصيص الذكور في جانب القاذف، والإناث في جانب المقذوف لخصوص الحادثة.
وقد أخرج البخاري أنّ الآية نزلت في عويمر وامرأته، وعن سعيد بن جبير أنّها نزلت في قصة الإفك. ومن قال: إنّ المراد بالمحصنات في الآية الفروج المحصنات، أو الأنفس المحصنات، لم يخل قوله عن وهن وضعف.
ولم تشرط الآية في القاذف أكثر من عجزه عن الإتيان بأربعة شهداء، لكنّ قواعد الشرع تقتضي بأنّ المخاطب بمثل هذا الحكم إنما هو أهل التكليف: البالغ العاقل المختار العالم بالتحريم حقيقة أو حكما الملتزم بالأحكام إلى آخر ما هو مبيّن في كتب الفروع.
وكذلك لم تشرط في المقذوف أكثر من أن يكون محصنا، وقد كان يكفي في تحقق الشرط أن يكون المرمي محصنا بأي معنى من معاني الإحصان الأربعة، إلا أنه لما كان ثبوت الحد يجب فيه الاحتياط، فلا يثبت إلا عن يقين: وجب اعتبار سائر المفهومات التي يطلق عليها لفظ الإحصان إلا ما أجمع على عدم اعتباره هنا، وهو كون المرمي زوجا أو زوجة.
وأشهر معاني الإحصان: العفّة عن الزنى، فمن أجل ذلك كانت العفة عن الزنى، معتبرة في تحقق الإحصان هنا قطعا، لا نعلم في ذلك خلافا لأحد، فمن قذف شخصا غير عفيف لا يحدّ باتفاق.
واشتراط العفة عن الزنى في تحقق الإحصان يستتبع اشتراط البلوغ والعقل في تحققه أيضا، إذ إن الصبي لا يقال فيه عفّ عن الزنى، وكذلك المجنون لا يقال فيه: عفّ عن الزنى، كما لا يقال للمجبوب: عفّ عن الزنى، وكما لا يقال للأعمى: عفّ عن النظر إلى المحرمات، إنما يقال عفّ عن الزنى لمن كان يتصوّر الزنى منه، ثم كفّ عنه، وذلك البالغ العاقل الفحل.
ولا بد من اعتبار الحرية، لأنّها من معاني الإحصان- على ما علمت- والرقيق ليس بمحصن بهذا المعنى، وإذا كان محصنا من جهة أخرى، فغاية ما فيه أنّه محصن من وجه، وغير محصن من وجه، وذلك شبهة في إحصانه، فوجب درء الحد عن قاذفه.
وكذلك لابد من اعتبار الإسلام أيضا في تحقيق الإحصان، فالكافر ليس بمحصن بهذا المعنى، وإذا كان محصنا من جهة أخرى، فغايته أنه محصن من وجه وغير محصن من وجه، فيكون ذلك شبهة في إحصانه، فيجب درء الحد عن قاذفه.
ولولا أنّ الإجماع قائم على عدم اعتبار الإحصان بمعنى التزوج لكان عدم التزوج شبهة في إحصان المقذوف، فلا يحد قاذفه.
والحاصل أنّه يعتبر في تحقق إحصان المقذوف العفة عن الزنى، والحرية والإسلام، وأما البلوغ والعقل فإنّهما من لوازم العفة- كما علمت- وهذا الذي ذكرناه لك هو رأي الجمهور من العلماء وفقهاء الأمصار، وأصحّ الروايتين عن أحمد، ولبعض الفقهاء خلاف في شيء من ذلك: فداود الظاهري لا يشترط الحرية في المقذوف، ويرى أنّ قاذف العبد يحد، فإن كان يكتفي في الإحصان بالعفة لشهرته فيها لزمه القول بحد من قذف كافرا عفيفا.
وروي عن ابن أبي ليلى أنّ من قذف ذميّة لها ولد مسلم يحدّ. قال بعضهم: وكذلك يحد قاذفها إذا كانت تحت مسلم. ذهبوا إلى ذلك دفعا للعار الذي يلحق ابنها أو زوجها المسلم.
وعن أحمد في إحدى الروايتين القول بحدّ قاذف الصبي الذي يجامع مثله.
وقال مالك في الصبية التي يجامع مثلها: يحدّ قاذفها، ألحق مالك وأحمد في هذه الرواية دور المراهقة بالبلوغ، ونظرهما في ذلك إلى أنّ المراهق يلحقه العار كما يلحق البالغ، فوجب الحدّ لدفع العار. وكذلك يقول مالك والليث: يحدّ قاذف المجنون لدفع العار الذي يلحقه.
والجمهور يمنعون لحوق العار للصبي والمجنون إذا نسبا إلى الزنى، ولو فرضنا لحوق العار فليس ذلك على الكمال، فيندرئ الحد عن قاذفهما، وليس معنى ذلك أنه لا عقوبة على قاذفهما، بل يجب على الإمام تعزيره للإيذاء.
وقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ} قد شرط في تحقق القذف المستوجب للعقوبة عجز القاذف عن الإتيان بأربعة يشهدون أنهم قد رأوا المقذوف يزني، والتاء في {بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ} في ظاهرها تفيد اعتبار كونهم من الرجال، والحكم كذلك، لأنّه لا مدخل لشهادة النساء في الحدود باتفاق. ولم يستفد من الآية في صفة هؤلاء الشهداء أكثر من أنهم أربعة رجال من أهل الشهادة. وللعلماء خلاف في أهل الشهادة من هو فالشافعية يقولون: لابد في أهل الشهادة أن يكون عدلا، والحنفية يقولون: الفاسق من أهل الشهادة، فإذا شهد أربعة فسّاق فهم قذفة عند الشافعية يحدون كما يحد القاذف الأول، إذ لم يأت بأربعة من أهل الشهادة. والحنفية يقولون: لا حد عليه، لأنه أتى بأربعة من أهل الشهادة، إلا أنّ الشرع لم يعتبر شهادتهم لقصور في الفاسق، فثبتت بشهادتهم شبهة الزنى، فيسقط الحد عنهم وعن القاذف، وكذلك عن المقذوف لاعتبار العدالة في ثبوت الزنى.
وظاهر العموم في الآية أنه يكفي أن يكون أحد الأربعة زوج المقذوفة، وبهذا الظاهر قال أبو حنيفة وأصحابه.
وقال مالك والشافعي: يلاعن الزوج، ويحدّ الثلاثة، وحجتهم في ذلك أنّ الشهادة بالزنى قذف، بدليل أنّ الشاهد يحدّ إذا لم يكمل النصاب، ولفظ الآية وإن كان عاما إلا أن آية اللعان جعلت للزوج حكما يخصه، وآية اللعان أخصّ من الآية التي معنا، والخاصّ مقدّم على العام.
وظاهر الإطلاق في الآية أنّه إذا أتى بأربعة شهداء كيفما اتفق مجيئهم مجتمعين أو متفرقين فهو آت بمقتضى النص، واجتماعهم أمر زائد لا إشعار به في الآية، وبهذا الظاهر قال مالك والشافعي، وأيدا قولهما بالقياس على الشهادة في سائر الأحكام، بل تفريقهم أولى، لأنه أبعد عن التهمة والتواطؤ.
وأيضا فليس من الممكن أن يشهدوا معا في وقت واحد، فلابد أن يسمع القاضي شهادتهم واحدا بعد آخر، فكذلك إذا اجتمعوا عند بابه، ثم دخلوا عليه واحدا بعد آخر.
وقال أبو حنيفة: إذا جاؤوا متفرقين لم يسقط الحد عن القاذف، وعليهم حد القذف، وحجته في ذلك أن الشاهد الواحد لما شهد صار قاذفا ولم يأت بأربعة شهداء، فوجب عليه الحد، وخرج عن كونه شاهدا، ولا عبرة بتسميته شاهدا إذا فقد المسمى، فلا خلاص من هذا الإشكال إلا باشتراط الاجتماع.
وظاهر الآية أيضا أنه إذا لم يأت القاذف بتمام العدة، بأن أتى باثنين أو ثلاثة منها جلد، ولم تتعرّض الآية لحكم الشهود إذا لم يكملوا النصاب، والمأثور أنّهم يحدون، فقد صحّ أنه رفع إلى عمر بن الخطاب حادثة شهد فيها على المغيرة بن شعبة بالزنى: شبل بن معبد وأبو بكرة وأخوه نافع وكان رابعهم زيادا، فلم يجزم بالشهادة بحقيقة الزنى، فحد الثلاثة عمر بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، ولم ينكروا عليه.
وقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً} المخاطب فيه هم أولياء الأمر من الحكام.
وقد سبق الكلام آنفا فيمن يلي الحدّ في تفسير قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ} وظاهر العموم في اسم الموصول في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} إلخ أنّ الزوج وغيره في هذا الحكم سواء، وأن الزوج إذا قذف زوجته، وعجز عن البينة فعليه الحد.
لكن آية اللعان قد جعلت للزوج مخرجا إذا هو عجز عن البينة، فشرعت له اللعان كما يأتي، فتكون آية اللعان مخصّصة للعموم في الموصول هنا، وظاهر العموم أيضا أنّ الرقيق والحر في ذلك الحكم سواء، وأنّ كلا منهما يجلد ثمانين جلدة إذا وقع القذف منه بشرطه، وبهذا الظاهر قال ابن مسعود والأوزاعي، وهو أيضا مذهب الشيعة.
لكنّ فقهاء الأمصار مجمعون على أنّ حد الرقيق في القذف أربعون جلدة على النصف من حد الحر، كما في الزنى، وعلى ذلك تكون الآية خاصة بالأحرار.
وظاهر قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ} أنّ الإمام يقيم الحدّ ولو من غير طلب المقذوف، وبهذا قال ابن أبي ليلى.
وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي: لا يحد إلا بمطالبة المقذوف.
وقال مالك: إذا سمعه الإمام يقذف حده ولو لم يطلب المقذوف، إذا كان مع الإمام شهود عدول.
ولا يخفى أنّ القول بتوقف استيفاء الحد على المطالبة ظاهر في أنّ الحد حق العبد، كما أنّ تنصيفه على الرقيق ظاهر في أنّه حق لله، ومما لا شكّ فيه أن في القذف تعديا على حقوق الله تعالى، وانتهاكا لحرمة المقذوف، فكان في شرع الحد صيانة لحق الله ولحق العبد. هذا المقدار لا خلاف فيه لأحد، إنما الخلاف بين الشافعية والحنفية في الذي يغلب من الحقين على الآخر. فالشافعية يغلّبون حق العبد باعتبار حاجته وغنى الله جلّ شأنه. والحنفية يغلبون حق الله تعالى، لأنّ ما للعبد من الحقوق يتولى استيفاءه مولاه، فيصير حق العبد تابعا لحق الله تعالى، فإذا غلّبنا حق الله تعالى كان حقّ العبد مستوفى لا مهدرا، وليس العكس كذلك. فما لا تعارض فيه من الصور بين حقّ الله وحق العبد فأمره ظاهر، وكذلك ما اتفق فيه الفريقان على تغليب أحد الحقين.
فمثال ما لا تعارض فيه أن يقذف الحرّ، ويعجز عن البينة، ويطلب المقذوف إقامة الحد عليه، فيستوفيه الإمام.
ومن أمثلة ما اتفقا فيه على تغليب حق الله تعالى حدّ العبد إذا قذف، فلولا تغليب حق الله فيه ما تنصف، ومما اتفقا فيه على تغليب حق العبد أنه إذا لم يطلب المقذوف إقامة الحد فليس للإمام أن يستوفيه.
أما ما تعارض فيه الحقان واختلف الشافعية والحنفية في حكمه فمن أمثلته أنه إذا مات المقذوف قبل استيفاء الحد، فالحنفية يقولون بسقوطه تغليبا لحق الله تعالى، ولأنّه ليس مالا، ولا بمنزلة المال، بل هو حق محض كخيار الشرط وحق الشفعة.
وقال الشافعية: لا يسقط الحد بموت المقذوف، بل يقوم ورثته مقامه في المطالبة به، ويرثونه عنه تغليبا لحق العبد.
ومنها: أنّه إذا قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات متعددة فالحنفية يقولون بتداخل الحد، وعليه للجميع حدّ واحد تغليبا لحق الله تعالى، كمن زنى مرارا أو سرق أو شرب الخمر كذلك، وقال الشافعية: لا يتداخل الحد، فعليه لكل منهم حد تغليبا لحق العباد.
ومنها: إذا عفا المقذوف عن الحد، فإنه يصحّ العفو عند الشافعية، ويسقط الحد تغليبا لحق العبد. وقال الحنفية: لا يسقط الحد بعفو المقذوف بعد طلبه إقامته.
{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} هذه ثلاث عقوبات ترتبت على القذف بشرطه، وليس في الآية ما يدلّ على أن بعض هذه العقوبات مرتب على بعض، لأنّ العطف فيها بالواو. بل غاية ما أفادته الآية أنّ المجموع مرتب على القذف بشرط، فكأنه قيل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ} فاجمعوا لهم هذه العقوبات الثلاث: جلدهم ثمانين جلدة، ورد شهادتهم، وتفسيقهم.
فظاهر الآية أنه متى قذف وعجز عن البينة استحق العقوبات الثلاث، ولا يتوقف رد شهادته على جلده. وبهذا الظاهر قال الشافعي والليث. وقال أبو حنيفة ومالك: لا ترد شهادته إلا بعد جلده، فما لم يجلد يكون مقبول الشهادة، وحجتهما في ذلك أنّ الواو، وإن لم تقتض الترتيب، لكنّ الظاهر من الترتيب في الذكر أنه على وفق الترتيب في الحكم، وأنّ الأصل قبول شهادته ما لم يطرأ مانع، وأنّ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف».
صريح في شهادة القاذف لا ترد إلا بعد حده.
والخطاب في قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً} لأولياء الأمر من الحكام، لأنّه على نسق الخطاب في قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً} والمراد بالشهادة الإخبار بحق للغير على الغير أمام الحاكم، ولفظ (شهادة) نكرة واقعة في سياق النهي، فيكون عاما، وظاهر العموم فيه يقتضي أنّ شهادة القاذف مردودة سواء أكانت واقعة منه قبل القذف أم بعد القذف، وكذلك شهادة من قذف وهو كافر، ثم أسلم. ومن قذف وهو عبد، ثم أعتق: كل هؤلاء لا تقبل شهادتهم بمقتضى العموم في اللفظ. إلا أنّ الحنفية استثنوا الكافر إذا حدّ في القذف ثم أسلم، فإنّ شهادته بعد إسلامه تكون مقبولة.
نظروا في ذلك إلى أن الكافر الذي أسلم قد استفاد بالإسلام عدالة لم تكن موجودة من قبل، فلم تدخل تحت الرد، والذي دخل تحت الرد إنما هو شهادته التي كان أهلا لها عند القذف، وهي شهادته على أهل دينه.
واختلف العلماء في ردّ شهادة القاذف: أهو من تمام الحد أم ذلك عقوبة زائدة على الحد؟
فذهب الحنفية إلى أن ردّ شهادته من تمام حده، ويشهد لهم ظاهر الآية، فقد رتّبت على القذف بشرطه عقوبتين، وأوجبت على الإمام استيفاءهما من القاذف، فكأنّ الظاهر أن مجموعهما حد القذف، ألا ترى أن الشافعية قد فهموا من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «البكر بالبكر جلد مئة وتغريب سنة».
أنّ مجموع الجلد والتغريب حد الزاني البكر. وقال مالك والشافعي: الحد هو جلد ثمانين فقط، وأما رد الشهادة فهو عقوبة زائدة على الحد، وحجتهم في ذلك أنّ المعروف في الحدود أنها عقوبات بدنية، ورد الشهادة عقوبة معنوية، والحدود التي شرعت لحفظ الأرواح والدين والعرض والعقل والمال كلها عقوبات بدنية محسوسة، وحد القذف شرع لصيانة العرض، فكان إلحاقه بالأعم الأغلب أولى.
وأيضا فقوله صلّى الله عليه وسلّم لهلال بن أمية: «البينة أو حدّ في ظهرك».
يدلّ على أنّ الجلد هو تمام الحد، إذ لو كان رد الشهادة من تمام الحد لما صحّ بأن يقول: «أو حد في ظهرك» لأن رد الشهادة لا يكون في ظهره، بل ولا في سائر جسمه، واتفاق الصحابة على أنّ حد السكران ثمانون جلدة، وعلى أنّه مثل حد المفتري يدل على أن حدّ المفتري هو الجلد فقط، إذ لو كان ردّ الشهادة من الحد في القذف لكان من الحد في السكر، ولوجب رد شهادة من سكر، ولم يقل بذلك أحد.
وقد عرّفوا الحد بأنه فعل يلزم الإمام إقامته، وليس الردّ فعلا يلزم الإمام إقامته، لأنه عمل سلبي.
ويترتب على هذا الخلاف أنّ من قال بأنّ ردّ الشهادة من تمام الحد يلزمه القول بأنّ الحاكم لا يرد شهادة القاذف إلا بطلب المقذوف، فما لم يطلب المقذوف رد شهادة قاذفه لا ينبغي للحاكم أن يردها، إذ كانت من الحد، والحد لا يستوفيه الحاكم إلا بطلب المقذوف، فهل مذهب الحنفية كذلك؟ ومن قال بأن رد الشهادة ليس من الحد لا يرى رد الشهادة موقوفا على طلب المقذوف.
وقوله تعالى: {وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} معناه على ما قال بعضهم الإخبار بأنّهم عند الله وفي حكمه فاسقون خارجون عن طاعته، سواء أكانوا كاذبين في قذفهم- وذلك ظاهر- أم كانوا صادقين فيه. فإنّهم هتكوا عرض المؤمن، وأوقعوا السامع في الشك والريبة من غير مصلحة دينية. فكانوا فسقة لذلك. ويؤخذ من ذلك أنّ القذف مع العجز عن البينة معصية عظيمة، سواء أكان القاذف كاذبا أم صادقا.
واختار الزمخشري أنّ الجملة إنشائية في المعنى وإن كانت خبرية في اللفظ، فمعنى {وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} فسّقوهم. ولعل مراده اعتبروهم فسقة، واحكموا بفسقهم، وعاملوهم معاملة الفساق لأنّ الله أخبر بأنهم فاسقون. والأمر قريب.
{إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} قال الشافعي: توبة القاذف إكذابه نفسه، وفسّره الإصطخري من أصحاب الشافعي بأن يقول كذبت فيما قلت فلا أعود إلى مثله، وقال أبو إسحاق المروزي من أصحاب الشافعي: لا يقول كذبت، لأنه ربما يكون صادقا، فيكون قوله كذبت كذبا، والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل، وندمت على ما قلت، ورجعت عنه ولا أعود إليه.
وقال بعض العلماء: توبة القاذف كتوبة غيره، أمر بينه وبين ربه، ومرجعها إلى الندم على ما قال، والعزم على ألا يعود.
والسر في أنّ الشافعي أدخل في معنى التوبة التلفظ باللسان، مع أن التوبة من عمل القلب، أنه يرتب عليها حكما شرعيا، وهو قبول شهادة المحدود إذا تاب، فلابدّ أن يعلم الحاكم توبته حتى يقبل شهادته.
والحنفية لا يقبلون شهادة المحدود في قذف وإن تاب وأصلح، لذلك كانت التوبة عندهم عملا قلبيا بين العبد وربه، ليس من الضروري اطلاعنا عليه، لأنّه ليس هناك حكم عملي يترتب على هذه التوبة، ومنشأ الخلاف في ذلك خلافهم في الاستثناء في الآية وإلام يرجع.
ومسألة رجوع الاستثناء بعد الجمل المتعاطفة بالواو مسألة أصولية ذكر الأصوليون الخلاف فيها بين العلماء.
والمشهور عند الأصوليين أنّ أصحاب الشافعي يقولون برجوعه إلى جميع الجمل، وأنّ أصحاب أبي حنيفة يقولون برجوعه إلى الجملة الأخيرة، وجماعة من المعتزلة يقولون بالتفصيل، وآخرون يقولون بالاشتراك، وآخرون يقولون بالوقف، وليس هذا محل ذكر الحجج للمختلفين.
والذي ينبغي ذكره هنا أنّ الخلاف بين الشافعية والحنفية إنما هو في الكلام إذا خلا عن دليل يدل على أحد الرأيين، أما إذا كان في الكلام دليل على أحد الرأيين فإنّه يجب المصير إليه بلا خلاف. فقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] قد اشتمل على قرينة تعيّن أنّ الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة وحدها. وتلك القرينة هي امتناع عود الاستثناء إلى تحرير الرقبة، لأنّه حقّ الله تعالى، وتصدق الولي لا يكون مسقطا لحق الله تعالى.
وكذلك قوله تعالى في المحاربين: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] إلى قوله سبحانه وتعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] فيه دليل على رجوع الاستثناء إلى الجمل كلها، فإنّ التقييد بقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} يمنع عود الاستثناء الأخيرة وحدها، أعني قوله سبحانه: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114] إذ لو عاد إليها وحدها لم يبق لهذا القيد فائدة، إذ من المعلوم أنّ التوبة من الذنب تسقط العذاب الأخروي سواء أكانت قبل القدرة عليهم أم بعدها، فلم يكن للتقييد بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} فائدة إلا سقوط الحدّ.
ونعود إلى الآية التي معنا قول الله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} فيه ثلاث جمل متعاطفة بالواو، ومعقبة بالاستثناء، ولا خلاف بين الفريقين أنّ الاستثناء غير راجع إلى الجملة الأولى، أما على رأي الحنفية فظاهر، وأما على رأي الشافعية فلأنّ المحافظة على حقّ العبد قرينة على عدم رجوع الاستثناء إلى الجلد، فإنّ حق العبد لا يسقط بتوبة الجاني، فلم يبق إلا الجملتان الأخيرتان: رد الشهادة، والفسق، وإذ لا قرينة تعين أحد الأمرين فقد وقع الخلاف، ووجب التحاكم إلى الحجة والدليل، وأنت إذا رجعت إلى أدلة الفريقين- وهي كثيرة في كتب الأصول- فإنّك لا تجد فيها- على كثرتها- دليلا سلم من نقد.
وقد حاول بعض أجلاء الحنفية الانتصار لمذهبه فقال: إنّ في الآية قرينة تدل على أنّ الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة وحدها. وبيان ذلك أن قوله تعالى: {وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} جملة مستأنفة بصيغة الإخبار، منقطعة عما قبلها، جيء بها لدفع ما عساه يخطر بالبال من أن القذف لا يصلح أن يكون سببا لهذه العقوبة، لأنّه خبر يحتمل الصدق، وربما يكون حسبة، فكان ذلك الاحتمال شبهة فيه، والشبهة تدرأ الحد، فكان قوله تعالى: {وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} دفعا لذلك الوهم، ومعناه أنّهم- مع قيام هذا الاحتمال- قد فسقوا بهتك عرض المؤمن بلا فائدة، حيث عجزوا عن الإثبات، فمن أجل ذلك استحقوا هذه العقوبة، وإذا كانت الجملة الأخيرة مستأنفة توجّه الاستثناء إليها وحدها.
وأنت خبير بأنّ مآل هذا التأويل أنّ العلة في هذه العقوبة فسقهم، وإذا كان الفسق الذي هو علة في ردّ الشهادة قد أثرت فيه التوبة فرفعته، ومحت أثره، فإنّه يلزم من ذلك أن يرتفع ردّ الشهادة الذي هو معلولة، وينمحي أثره، لضرورة زوال الحكم بزوال علته.
وكذلك حاول بعض أجلّاء الشافعية الانتصار لمذهبه، فجعل جملة {تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً} مستأنفة منقطعة عن الجملة التي قبلها، لأنّها ليس من تتمة الحدّ لما علمت آنفا، ويكون قوله تعالى: {وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} اعتراضا جاريا مجرى التعليل لعدم قبول الشهادة، غير منقطع عما قبله، ولهذا جاز توسطه بين المستثنى والمستثنى منه، ولا تعلّق للاستثناء به.
ولكنك تعلم أنّ القول باستئناف جملة {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ} إلخ بعيد كل البعد.
ولعلّ الأولى في الاستثناء ما ذهب إليه الزمخشري حيث قال: الذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط، والمعنى: ومن قذف فاجمعوا لهم بين الأجزية الثلاثة إلا الذين تابوا منهم، فيعودون غير مجلودين، ولا مردودي الشهادة، ولا مفسقين اهـ. أي لكن هذا الظاهر لم يعمل به في خصوص الجلد للإجماع على أنه لا يسقط بالتوبة لما فيه من حق العبد، فبقي الاستثناء في ظاهره عائدا إلى ردّ الشهادة والتفسيق.
هذا وقد سبق أبا حنيفة إلى القول بعدم قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب كثير من علماء التابعين منهم الحسن، وابن سيرين، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير.
وإلى ما ذهب إليه الشافعي من قبول شهادته إذا تاب ذهب أكثر التابعين وجميع فقهاء الأمصار غير الحنفية. وفي صحيح البخاري أنّ عمر رضي الله عنه جلد أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعا بقذف المغيرة بن شعبة. ثم استتابهم وقال: من تاب قبلت شهادته.
وقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تعليل لما يفيده الاستثناء: أي إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم، ولا تفسّقوهم، لأنّ الله غفور رحيم، أو فلا تفسوقهم لأنّ الله غفور رحيم.