فصل: تفسير الآية رقم (31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (31):

قال الله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)}.
جرت عادة القرآن الكريم في التكاليف العامة والآداب التي تشمل نوعي الذكور والإناث أن يوجّه الأمر والنهي، ويصرف الخطاب إلى جماعة الذكور، وتكون النساء داخلات في الحكم بطريق تغليب الرجال عليهن، أو بطريق المقايسة.
وقد يكون للنساء حكم يخصّهنّ، فيفردن بالذكر من أجله. وعلى هذه الطريقة جاء قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ} الآية، لأنهن زدن عن الرجال أحكاما تخصهن، وهي النهي عن إبداء زينتهن إلا ما استثنى الله تعالى. والأمر بإرخاء خمرهن على جيوبهن، والنهي عن كل فعل يلفت النظر إلى زينتهن، وينبّه الناس عليها.
أمرت هذه الآية الكريمة المرأة بغضّ بصرها، ولم تعين ما يجب غض البصر عنه، كما أنّ الآية السابقة لم تعيّن ما يجب على الرجال غض أبصارهم عنه، وقد تكفّلت السنة ببيان ذلك، فحظرت على المرأة أن تنظر من غير زوجها إلى ما بين السرة والركبة، سواء في ذلك الرجال والنساء، وسواء أكان ذلك بشهوة أم بغير شهوة، حظرت عليها أيضا أن تنظر إلى شيء من بدن الرجل بشهوة. كلّ هذا محل اتفاق بين الفقهاء جميعا.
أما نظرها إلى ما تحت الركبة وفوق السرة فقد اختلفت الروايات فيه.
فأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه عن أم سلمة قالت: كنت عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم حتى دخل عليه، وذلك بعد أن أمر بالحجاب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «احتجبا منه» فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟
فقال: «أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه»؟.
وفي الموطأ عن عائشة أنّها احتجبت من أعمى فقيل لها: إنّه لا ينظر إليك، قالت: لكنّي انظر إليه.
فهاتان الروايتان بظاهرهما تحظران على المرأة أن تنظر إلى شيء من بدن الرجل الأجنبي، وهو قول أحمد، وأحد قولي الشافعي، وصححه النووي، وهو أيضا ظاهر قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ}.
وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يسترني بردائه وأنا انظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا الذي يسأم.
ولأحمد عنها أن الحبشة كانوا يلعبون عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يوم عيد قالت: فاطلعت من فوق عاتقه، فطأطأ لي منكبيه، فجعلت انظر إليهم من فوق عاتقه حتى شبعت، ثم انصرفت.
وقد صحّ أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم وقال: «إنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده».
ولا شكّ أن مساكنتها له تستلزم نظرها إليه.
وصحّ أيضا أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم مضى إلى النساء في المسجد يوم عيد، فذكّرهن ومعه بلال، وأمرهنّ بالصدقة. وبعيد ألا ينظرن إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وإلى بلال حين كن يسمعن الموعظة ويتصدقن، فدلّ مجموع ذلك على أنه يباح للمرأة أن تنظر من الرجل الأجنبي إلى ما عدا ما بين سرته وركبته. وبهذا قال جمع من فقهاء الأمصار، وهو أحد قولي الشافعي كما علمت.
وأجاب أصحاب هذا الرأي عن حديث أم سلمة، واحتجاب عائشة من الأعمى: بأنّ الأعمى قد يبدو من عورته المتفق على حرمة النظر إليها ما لا يشعر به فأمرن بالاحتجاب منه لذلك، فلا يلزم من ذلك عدم جواز النظر بإطلاق.
كما أجاب أصحاب الرأي الأول عن نظر عائشة إلى الحبشة وهم يلعبون بأنّ ذلك كان قبل نزول الحجاب، أو أنّها كانت يومئذ جارية صغيرة كما قالت هي عن نفسها. وعن سكنى فاطمة بنت قيس في بيت ابن أم مكتوم بأنه يمكن أن تساكنه وتغض بصرها عنه.
وكذلك يمكن أن يستمع النساء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مع غض أبصارهن عنه عليه الصلاة والسلام وعن بلال رضي الله عنه.
ولعل أولى ما جمع به بين هذه الأحاديث المتعارضة أن يحمل الأمر بالاحتجاب من ابن أم مكتوم على الندب، وكذلك احتجاب عائشة رضي الله عنها من الأعمى كان ورعا منها وعملا بما هو أجمل وأولى بالنساء، وحينئذ لا يكون حراما على المرأة أن تنظر من الأجنبي إلى ما عدا ما بين السرة والركبة، ويؤيد ذلك استمرار العمل على خروج النساء إلى الأسواق وإلى المساجد وفي الأسفار منتقبات حتى لا يراهن أحد من الرجال، ولم يؤمر الرجال بالانتقاب حتى لا يراهم النساء، فكان ذلك دليلا على المغايرة بين الرجال والنساء في الحكم. وليس بصحيح ما قيل من أن عائشة كانت صغيرة حينما كانت تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون، ولا أن ذلك كان قبل نزول الحجاب، لأنّ في بعض روايات الحديث تصريحا بأنّ هذه القصة كانت بعد قدوم وفد الحبشة، ومعلوم أنّ قدومهم كان سنة سبع وسن عائشة يومئذ ست عشرة سنة، وكانت هذه الحادثة بعد نزول الحجاب كما هو ظاهر.
وقوله تعالى: {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} يقال فيه ما قيل في نظيره في الآية السابقة، وحاصله أنّ المراد بحفظ الفروج البعد عن الزنى والسحاق، أو سترها حتى لا يراها أحد، أو أنّ المراد الأمران جميعا.
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها} الزينة في الأصل اسم لكل ما يتزين به ويتجمل من أنواع الحلي والخضاب وغيرها.
وقد اختلف العلماء في المراد بالزينة في الآية، فحملها بعضهم على معناها الحقيقي، إذ كان لا يصحّ العدول عنه متى أمكنت إرادته، وقال: إنّ الكلام دائر حول الزينة نفسها، والنهي منصبّ على إبدائها ذاتها، بدليل قوله تعالى فيما سيأتي {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} ومعلوم أن ليس المراد أنهن منهيات عن إبداء الزينة مطلقا، حتى ولو كانت معروضة في منديل للبيع في الأسواق، بل المراد أنهنّ منهيات عن إبداء الزينة حين التحلي بها، واستعمالها في مواقعها، وحينئذ يكون إبداء مواقع الزينة منهيا عنه من باب أولى، فإنّه ما نهي عن الزينة إلا لملابستها تلك المواقع، فكان إبداء المواقع نفسها متمكنا في الحظر، ثابت القدم في الحرمة.
ومنهم من قال: إن المراد من الزينة مواقعها من الأعضاء، إما بطريق تقدير مضاف، والأصل: ولا يبدين مواقع زينتهن. وإما بطريق إطلاق الزينة وإرادة مواقعها لقوة الملابسة بينهما. والصارف عن المعنى الحقيقي أنّ الزينة نفسها ليست مقصودة بالنهي، بدليل أنّ ما استنثني منها في قوله تعالى: {إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها} قد فسره كثير من الصحابة والتابعين بالوجه والكفين، وظاهر أنّ المستثنى من جنس المستثنى منه، فيكون المراد من الزينة مواقعها من البدن.
يؤيّد هذا ما رواه أبو داود عن عائشة أنّ أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها، وقال: «يا أسماء إنّ المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا» وأشار إلى وجهه وكفيه، فإنّ هذا الحديث الشريف في معنى الآية.
وظاهر قوله تعالى: {إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها} أنّ النساء منهيات عن إبداء الزينة إلا الزينة التي ظهرت، فلسن منهيات عن إبدائها، وهو معنى لا يكاد يستقيم، لأنّ ما ظهر بالفعل فقد بدا فلا يقال فيه: إنهن غير منهيات عن إبدائه، وحينئذ فلابد من تأويل في الكلام، وذلك بأحد وجوه ثلاثة:
الأول: أن الاستثناء هنا منقطع، والمعنى عليه: ولا يبدين زينتهن أبدا، لكن ما ظهر منها بنفسه ومن غير قصد فهو عفو، كأن كشفت الريح عن نحرها أو ساقها.
الثاني: أن المستثنى منه محذوف دل عليه النهي، فكأنه قيل: ولا يبدين زينتهن، وهنّ مؤاخذات على إبداء زينتهن، إلا ما ظهر منها بنفسه، فلسن مؤاخذات عليه.
وعلى هذين التأويلين لا يكون ما ظهر من الزينة شيئا معيّنا.
والثالث: أنّ معنى ما ظهر: ما جرت العادة وقضت الحاجة بظهوره، وكان في ستره حرج ومشقة في المتعارف بين الناس: أي ولا يبدين شيئا من زينتهن إلا شيئا جرت العادة بظهوره، فلسن منهيات عن إبدائه، وذلك هو الوجه والكفّين وما فيهما من زينة كالكحل والخضاب والخاتم، وعلى هذا التأويل تكون الزينة نوعين: ظاهرة وباطنة، فالله قد حظر إبداء شيء من الزينة الباطنة لغير من استثني فيما يأتي، ولم يحظر إبداء الزينة الظاهرة، لأنّ الحاجة تقضي بظهورها كما علمت. وتعميم النهي أولا، ثم الاستثناء منه ثانيا مشعر بأنّه ينبغي للنساء أن يحتطن في الستر، ولا يبدين من زينتهن الظاهرة إلا ما تدعو حاجتهن إلى إبدائه.
وعلى الاختلاف في تأويل الآية انبنى خلاف الأئمة في آرائهم ومذاهبهم في عورة المرأة، فالحنفية والمالكية على أنّ الوجه والكفين ليسا بعورة، وهو أحد قولي الشافعي، ويشهد لهم ما تقدم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أسماء إنّ المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا» وأشار إلى وجهه وكفيه.
وفي رواية عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أن القدمين ليستا من العورة أيضا. نظر في ذلك إلى أنّ الحرج في سترهما أشدّ منه في ستر الكفين، لاسيما بالنسبة إلى أكثر نساء القرى الفقيرات، اللاتي يمشين لقضاء مصالحهن في الطرقات.
وعن أبي يوسف أن الذراعين ليستا بعورة كذلك، لما في سترهما من الحرج، فأنت ترى أصحاب هذا القول قد نحوا في الآية منحى التأويل الأخير، وأنّ المراد أنهنّ منهيات عن إبداء زينتهن إلا ما دعت الحاجة إلى ظهوره وجرى عرف الناس في عصر التنزيل على أنه من الزينة الظاهرة التي لم يحظر إبداؤها.
وذهب الإمام أحمد إلى أن بدن الحرة كلّه عورة، فيحرم إبداء شيء منه للأجنبي، وهو أصحّ قولي الشافعي، وأصحاب هذا الرأي تأولوا الآية على أحد الوجهين: الأول والثاني، وأن المراد {ما ظَهَرَ}: ما ظهر بنفسه من غير قصد إلى إظهاره، ويشهد لذلك من السنة: ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن نظرة الفجأة فقال: «اصرف بصرك».
وما رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن بريدة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى، وليست لك الآخرة».
وما رواه البخاري عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه- وفيه قصة المرأة الوضيئة الخثعمية- فطفق الفضل ينظر إليها، فأخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم بذقن الفضل، فحوّل وجهه عن النظر إليها.
وقول الله تعالى: {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} [الأحزاب: 53] وهو- وإن كان السبب فيه أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم- فإنّ الحكم يتناول غيرهن بطريق القياس عليهن.
ولعلك إذا نظرت إلى أنّ الشريعة سهلة سمحة لا حرج فيها ولا مشقة، ترجّح القول بأنّ الوجه والكفين من الأجنبية ليسا من العورة، فإنّ في تكليف النساء ستر الوجه والكفين حرجا ومشقة عليهن، لاسيما الفقيرات اللاتي ليس لهن خدم، فيضطرون إلى قضاء حاجاتهن من الأسواق بأنفسهنّ.
وينبغي أن يكون القول بهذا خاصّا بالحالات التي تؤمن فيها الفتنة، أما في غيرها من الحالات التي نخشى فيها الفتنة، وفي الأوقات التي يكثر فيها الفساق في الأسواق والطرقات، فلا يجوز للمرأة أن تخرج سافرة عن وجهها، ولا أن تبدي شيئا من زينتها.
فأما قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لجرير بن عبد الله: «اصرف بصرك».
وقوله لعلي بن أبي طالب: «لا تتبع النظرة...».
فمعناها النهي عن تعمد النظر إلى شيء من بدن المرأة لغير حاجة، فإن تعمد النظر إليها حينئذ لا يخلو عن ريبة، وقد أمرنا بالبعد عن مظانّ التهم والريبة.
وأما صرف النبي صلّى الله عليه وسلّم وجه الفضل عن النظر إلى الخثعمية. فإنما كان ذلك لمخافة الفتنة، فقد أخرج الترمذي وصححه: أنّ العباس بن عبد المطلب قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لويت عنق ابن عمك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الفتنة».
فكان في ذلك دليل على جواز النظر عند أمن الفتنة، ولو لم يفهم العباس أنّ النظر جائز ما قال مقالته، ولو لم يكن ما فهمه صحيحا ما أقرّه عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وأما قوله تعالى: {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} فحكمه خاصّ بأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أنّ لهن من الحرمة ما ليس لغيرهن من النساء، فلا يقاس غيرهن عليهن في ذلك.
هذا وقد استثنت الشريعة حالات يباح فيها للأجنبي أن ينظر من بدن المرأة إلى ما تقضي الضرورة بالنظر إليه فللخاطب والشاهد والقاضي والعامل أن يرى الوجه، حتى على رأي القائلين بأن بدن المرأة كله عورة، وكذلك للطبيب أن يرى موضع العلاج، وللشاهد بالزنى أن يرى ما يصحح له الشهادة.
{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ}. والضرب: معناه السدل والإرخاء.
والخمر: جمع خمار، وهو ما تغطي به المرأة رأسها، مأخوذ من الخمر بمعنى الستر والتغطية.
والجيوب: جمع جيب. وهو فتحة في أعلى القميص يبدو منها بعض النحر.
في هذا الأمر إرشاد من الله، وتعليم للنساء كيف يسترن بعض مواضع الزينة الباطنة منهن، أمرهن أن يرخين الخمر على جيوبهن، ليسترن الصدور والنحور، ولا يكنّ كنساء الجاهلية، إذ كانت إحداهنّ تضع خمارها على رأسها، ثم تلقي أطرافه وجوانبه من خلفها. وكانت تمشي بين الرجال هكذا، يظهر منها نحرها وصدرها. وفي ذلك دليل على أن صدر المرأة ونحرها عورة. لا يجوز للأجنبي النظر إليهما منها.
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} قد تبين مما تقدّم أنّه لا يجوز للمرأة أن تبدي من زينتها خلاف ما استثناه الله تعالى بقوله: {إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها} فحرام عليها أن تبدي معصمها أو ساقها أو جيدها أو شيئا من مواقع الزينة الباطنة منها.
أما قوله سبحانه: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} إلخ فالمقصود منه استثناء البعولة ومن عطف عليهم من عموم من نهيت المرأة عن إبداء الزينة الباطنة له.
أما البعولة وهم الأزواج، ويلحق بهم من له حق التسرّي من السادة، فالأمر فيهم ظاهر. وأما سائر من استثنى الله فللحاجة إلى مخالطتهم مع أمن الفتنة.
استثنت الآية نوعين لأجل المصاهرة: آباء الأزواج وأبناء الأزواج، وليس وراء هذين النوعين من المحارم بالمصاهرة أحد.
واستثنت من المحارم بالنسب خمسة أنواع: هم آباء النساء، وأبناؤهن وإخوتهن، وأبناء إخوتهن وأبناء أخواتهن. ولم تذكر من المحارم الأعمام والأخوال، كما أنها لم تذكر المحارم بالرضاع. والفقهاء مجمعون على أنّ حكم هؤلاء كحكم المذكورين في الآية. أما عدم ذكر الأعمام والأخوال فلعلّ السر فيه أنّ العمومة والخئولة بمنزلة الأبوة، فكان ذكر الآباء مغنيا عن ذكر الأعمام والأخوال، وأما المحارم من الرضاع فعدم ذكرهم للاكتفاء ببيان السنة: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».
والأنواع الباقية: هي النساء، والمماليك، والتابعون غير أولي الأربعة، والأطفال.
فأما النساء والمماليك فقد قال الله تعالى فيهم: {أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ} وللعلماء خلاف في المراد بكل نوع من هذين النوعين، فذهبت طائفة إلى أنّ المراد بالنساء ما يعمّ الحرائر والإماء، وعليه يكون المراد بما ملكت أيمانهنّ خصوص العبيد، لأنّ الإماء قد دخلن في النساء. وحينئذ يحل للمرأة أن تبدي زينتها الباطنة للنساء الحرائر والإماء، ولمن تملكه من العبيد، لأنّهم في ذلك ملحقون بذوي المحارم. وبهذا قال ابن عباس وعائشة وأم سلمة وكثير من السلف وهو مذهب مالك، وأحد قولي الشافعي. ويؤيده ما رواه أحمد وأبو داود وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي الله عنه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أتى فاطمة رضي الله عنها بعبد قد وهبه لها، وعلى فاطمة ثوب إذا قنّعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم ما تلقى قال: «إنّه ليس عليه بأس، إنما هو أبوك وغلامك».
وذهبت طائفة إلى أنّ المراد بالنساء خصوص الحرائر، لأنّ المراد بما ملكت أيمانهن خصوص الإماء، وذلك لأنّ العبد فحل غير محرم ولا زوج، والشهوة فيه متحققة، والحاجة إلى الخلطة به قاصرة، فكان هو والحر الأجنبي في التحريم سواء، وحرمة النكاح بينه وبين سيدته عارضة كحرمة أخت الزوجة، وما زاد على الأربع والأمة المزوجة بالغير، فدلّ ذلك على أنّ قوله تعالى: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ} لا يشمل العبيد، وأنّه لبيان حكم الإماء لا غير، فوجب أن يكون قوله تعالى: {أَوْ نِسائِهِنَّ} مقصورا على الحرائر، لا يتناول الإماء، وإلا كان قوله تعالى: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ} لغوا. وعلى هذا لا يجوز للمرأة أن تبدي لعبدها من زينتها إلا ما يجوز أن تبديه للأجنبي، ولا يحلّ له أن ينظر من سيدته إلا ما يحل له أن ينظر إليه من الأجنبية، وبهذا قال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين، وكذا ابن المسيّب، فقد روي أنه رجع إليه وقال: لا تغرنّكم سورة النور فإنّها في الإناث لا في الذكور. وهو مذهب الحنفية وأحد قولي الشافعي، ويؤيده قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم».
والعبد ليس بذي محرم فلا يجوز لها أن تسافر معه.
وحينئذ لا يجوز لها أن تبدي له من زينتها ما تبديه لمحارمها.
وأجاب أصحاب هذا القول عن حديث أنس السابق بأنّ العبد كان صغيرا إذ إنّ الغلام حقيقة في غير البالغ.
هذا وللعلماء خلاف أيضا في المراد بالنساء مع ناحية أخرى هي ناحية الدين:
فقال جماعة: إنّ المراد بهنّ عموم النساء بلا فرق بين المسلمات والكافرات، وعلى هذا تكون الإضافة في قوله تعالى: {أَوْ نِسائِهِنَّ} للإتباع والمشاكلة، فيجوز للمرأة المسلمة أن تبدي من زينتها للمرأة الكافرة ما يحل لها أن تبديه للمسلمة، وهذا هو أحد قولين عند كل من الحنفية والشافعية، وصححه الغزالي من الشافعية، وأبو بكر بن العربي من المالكية، وقال آخرون: إنّ المراد بهن خصوص النساء المسلمات، فتكون الإضافة للاختصاص، أي النساء المختصات بهن في الصحبة والأخوة في الدين، وعلى هذا لا يحل للمسلمة أن تبدي شيئا من زينتها الباطنة للكافرة. واعتمده جمع من الشافعية.
وقال أبو السعود من الحنفية: إنّه يصح القولان في مذهبهم، هو قول أكثر السلف.
أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي عبيدة رضي الله عنه: أما بعد فإنّه بلغني أنّ نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك، فإنه من قبلك عن ذلك، فإنّه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تنظر إلى عورتها إلا من كانت من أهل ملتها.
وأما التابعون غير أولي الإربة فقد قال الله فيهم: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ} الإربة والأرب والمأربة: الحاجة. والمراد بالإربة هنا الحاجة إلى النساء. والمراد بالتابعين إلخ الذين يتبعون الناس لينالوا من فضل طعامهم، من غير أن تكون لهم حاجة في النساء، ولا ميل إليهن.
وفي تعيين المراد بغير أولي الأربة من الرجال أقوال كثيرة للسلف: فنقل عنهم أنّه الشيخ الذي فنيت شهوته، أو الأبله الذي لا يدري من أمر النساء شيئا، أو المجبوب، أو الخصي، أو الممسوح، أو خادم القوم للعيش، أو المخنّث. والذي عليه المعول: أن المراد به كل من ليس له حاجة إلى النساء، وأمنت من جهته الفتنة ونقل أوصاف النساء للأجانب، فتعيين نوع من الأنواع السابقة بخصوصه لا يؤدي الغرض المقصود، فربّما كان أحد هؤلاء أعرف بالنساء، وأقدر على وصفهن ممن ليس على مثل حاله.
أخرج مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم مخنّث، فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم يوما وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة قال: إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أرى هذا يعرف ما هاهنا لا يدخلنّ عليكنّ هذا» فحجبوه.
فأنت ترى أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حظر دخول ذلك المخنث على نسائه، لأنّه وصف امرأة أجنبية بحضرة الرجال الأجانب. وقد نهي الرجل أن يصف امرأته لغيره، فكيف إذا وصفها غيره من الرجال؟.
وأما الأطفال فقد قال الله فيهم: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ} قال الراغب: كلمة طفل تقع على الجمع كما تقع على المفرد، فهي مثل كلمة ضيف.
وقيل: هي مفرد، وصحح وصفه بالجمع أنّه محلى بأل الجنسية، فهو على حد قولهم: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض. فكأنه قيل: أو الأطفال الذين لم يظهروا... كما هو منقول عن مصحف حفصة. ويقال: ظهر على الشيء إذا طلع عليه. ويقال: ظهر على فلان إذا قوي عليه.
فعلى الأول يكون المعنى: أو الطفل الذين لم يطلعوا على عورات النساء. وهو كناية عن أنّهم لم يعرفوا ما العورة، ولم يميزوا بينها وبين غيرها.
وعلى الثاني يكون المعنى: أو الطفل الذين لم يقووا على النساء. أي لم يبلغوا حدّ الشهوة والقدرة على الجماع. والعورات جمع عورة، وأصلها ما يحترز من الاطلاع عليه، سواء أكان ذلك من بدن الإنسان أم من متاعه. وغلبت في سوأة الرجل أو المرأة. والمراد بها هنا سوأة المرأة.
استثنى الله ممن لا يصح أن تبدي لهم المرأة زينتها الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء. وقد علمت أنّ عدم الظهور على عورات النساء له معنيان: فعلى المعنى الأول لا ينبغي للمرأة أن تظهر شيئا من زينتها الباطنة للمراهق الذي لم يبلغ الحلم، لكنه يعرف عورة النساء، ويميز بين ما للرجل وما للمرأة، ويلحق به من كان قريبا من المراهقة إذا كان يميز بين العورة وغيرها، ويستطيع أن يحكي ما يراه، وعلى المعنى الثاني لا يحرم على المرأة أن تبدي زينتها لمن دون المراهقة، ولا للمراهق أيضا إلا إذا كان فيه تشوّق للنساء، والأمر على المعنى الثاني أوسع في الإباحة منه على المعنى الأول.
ويؤيد المعنى الأول أنّ الطفل مأمور بالاستئذان في أوقات ثلاثة بيّنها الله تعالى بقوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور: 58].
ولا شك أن المأمور بذلك من الأطفال إنما هو الطفل الذي يعرف عورات النساء، ويخشى من دخوله في هذه الأوقات التي هي مظنة اختلال التستر أن يحكي ما يراه، ويصف ما يقع عليه بصره، سواء أكان مراهقا أم لا، فالطفل المأمور بالاستئذان في الأوقات الثلاثة، هو الذي يعرف العورة وهو الذي ينبغي للمرأة ألا تبدي له شيئا من زينتها، وعليه يكون المراد بالأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء: الأطفال الذين لا يعرفون ما العورة لصغرهم.
{وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} الضرب بالأرجل الدقّ بها على الأرض في المشي، والزينة هنا الخلاخل: أي لا يجوز للمرأة أن تدقّ برجليها في مشيتها لتسمع الناس صوت خلاخلها، فإنّ ذلك يحرك في قلوب الرجال الشهوة، ويدفعهم إلى التطلع إليها، ويحملهم على أن يظنوا بها ميلا إلى الفسوق، وإذا كان السبب في تحريم هذا الفعل هو ما يؤدي إليه من الفتنة والفساد، كان كلّ ما في معناه مما يجر إلى الفتنة والفساد ملحقا به في التحريم، كتحريك الأيدي بالأساور، وتحريك الجلاجل في الشعر. فالتنصيص في الآية على الضرب بالأرجل ليس لقصر النهي عليه، بل لأنّ هذا هو ما كان عليه نساء الجاهلية، فقد كانت إحداهنّ تمشي في الطريق، حتى إذا مرت بمجلس من مجالس الرجال وفي رجلها خلخال ضربت برجلها الأرض، فصوّت الخلخال. فنهى الله سبحانه المؤمنات عن ذلك.
وظاهر الآية أنهنّ منهيات عن الضرب بأرجلهن، بقصد أن يعلم الناس ما يخفين من زينة، فيقتضي بمفهومه أنّه لا إثم على المرأة أن تضرب برجلها إذا لم تقصد بذلك تنبيه الناس على زينتها، ولعلّ هذا غير مراد، وإنّ تقييد النهي عن الضرب بحالة القصد إنما هو لموافقة سبب النزول، ومثل هذا لا يعتبر مفهومه.
ويصحّ أن تكون اللام في قوله تعالى: {لِيُعْلَمَ} لام العاقبة، ويكون المعنى على ذلك أنهنّ منهيات عن الضرب بأرجلهن أمام الرجال الأجانب مطلقا، سواء أقصدن إعلامهم أم لم يقصدن. فإنّ عاقبة الضرب بالأرجل وفيها الخلاخل أن يعلم الناس ما يخفين من الزينة فيفتتنوا بهن.
وبالقياس على ما تقدم قال الفقهاء: إنّه لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها متعطرة بحيث تشمّ منها الرائحة الطيبة، فقد أخرج أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يقبل صلاة امرأة تطيّبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة».
وروى أبو داود والنسائي عن أبي موسى رضي الله عنه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت، فمرّت بالمجلس، فهي كذا وكذا». يعني زانية.
واستدل الحنفية بهذا النهي على أنّ صوت المرأة عورة، فإنّها إذا كانت منهية عن فعل يسمع له صوت خلخالها، فهي منهية عن رفع صوتها بالطريق الأولى.
والظاهر أنّه إذا أمنت الفتنة لم يكن صوتهنّ عورة، فإنّ نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم كنّ يروين الأخبار للرجال، وفيهم الأجانب من غير نكير ولا تأثيم.
{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. ختم الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بأمر المؤمنين أن يتوبوا من التقصير الذي لا يخلو عنه أحد منهم، لاسيما ما يتعلّق بإبداء الزينة والنظر إليها. فالآية تشير بهذا الختام إلى أنّه قلّما يسلم أحد من الوقوع في بعض جرائم هذا الباب، ولهذا فهم محتاجون إلى عفو الله ومغفرته. فأرشدهم الله تعالى إلى طريق ذلك بقوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً} وخاطبهم بعنوان الإيمان، لينبههم إلى أن الإيمان الصحيح هو الذي يحمل صاحبه على الامتثال، وعلى التوبة والاستغفار مما يكون قد ارتكبه من هفوات، فإنّ التوبة سبب الفلاح والفوز بالسعادة.
هذا وعن ابن عباس أنّ المراد مما سبق منهم في الجاهلية من النظر وغيره، والآثام التي وقعت منهم في الجاهلية، وإن كان الإسلام قد جبّها فهم مأمورون بالتوبة منها كلما تذكّروا. قال بعض العلماء: وهذا هو الحال في كل معصية تاب منها صاحبها أنه يلزمه أن يكرر التوبة منها كلّما ذكرها.