فصل: تفسير الآية رقم (33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (33):

.مكاتبة الأرقاء:

{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ}.
الكتاب والمكاتبة: مصدرا كاتب كالعتاب والمعاتبة. والكتابة بمعنى العقد الذي يجري بين السيد وعبده على عتقه بعد أن يؤدي مالا يتفقان عليه، لفظة إسلامية لا تعرفها الجاهلية. وسمّي هذا العقد كتابة إما لأنّ العادة جارية بكتابته لتأجيل العوض فيه، وإمّا لأنّ السيد كتب على نفسه عتقه إذا أدى المال، وإما لأنّ العوض فيه يكون منجما بنجوم يضم بعضها إلى بعض {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} عامّ في العبيد والإماء {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} للعلماء في تفسير الخير هنا أقوال: منها أنّ المراد به الأمانة والقدرة على الكسب، وذكر البيضاوي أنّ هذا التفسير قد روي مرفوعا، وهو مروي عن ابن عباس، واختاره الشافعي، لأنّ مقصود الكتابة لا يحصل إلا بأمانة العبد، وقدرته على الكسب، وقد يرشّح هذا التفسير قوله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].
وفسّره بعضهم بالحرفة، وفي ذلك حديث مرفوع أخرجه أبو داود في المراسيل والبيهقي في السنن وتعقب هذا القول ابن حجر بأنّ العبد إذا لم يكن أمينا أضاع ما كسبه، فلم يحصل المقصود من كتابته.
وعن قتادة وإبراهيم وابن أبي صالح أنهم فسروه بالأمانة، وضعّفه ابن حجر أيضا بأنّ المكاتب إذا لم يكن قادرا على الكسب كان في مكاتبته ضرر على سيده، ولا وثوق بإعانته بنحو الصدقة والزكاة.
وروي عن علي وابن عباس في رواية ثانية، وابن جريج ومجاهد وعطاء أنهم فسّروا الخير بالمال، ولعلّ مرادهم القدرة على كسب المال، كما هو أحد الأقوال السابقة، وإلّا فهو ضعيف لفظا ومعنى، أمّا ضعفه من جهة اللفظ فلأنّه لا يقال: فيه مال، وإنما يقال: عنده مال أو له مال، وأما ضعفه من جهة المعنى فلأنّ العبد لا مال له، وفسّر الحسن الخير بالصلاح، وهو ضعيف، لأنّه يقتضي ألا يكاتب غير المسلم، وقريب منه تفسير بعض الحنفية إياه بألا يضر بالمسلمين بعد العتق.
بعد أن أمر الله سبحانه وتعالى بإنكاح الصالحين من العبيد والإماء أمر جلّ شأنه بكتابة من يطلب الكتابة منهم، ليكون حرا، فيتصرّف في نفسه.
وأخرج ابن السكن في سبب نزول هذه الآية عن عبد الله بن صبيح قال: كنت مملوكا لحويطب بن عبد العزى، فسألته الكتابة فأبى، فنزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ} إلخ.
وظاهر الأمر في قوله: {فَكاتِبُوهُمْ} أنّه للوجوب، وبه قال عطاء، وعمرو بن دينار، والضحاك، وابن سيرين، وداود، وحكاه بعض الناس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أخذا مما رواه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عن أنس بن مالك قال: سألني سيرين المكاتبة فأبيت عليه، فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأقبل علي بالدّرة، وتلا قوله تعالى: {فَكاتِبُوهُمْ} إلخ وفي رواية أنّه قال: كاتبه، أو لأضربنّك بالدّرة، وفي أخرى أنه حلف عليه ليكاتبنّه.
وجمهور العلماء على أنّ الأمر في قوله تعالى: {فَكاتِبُوهُمْ} للندب والاستحباب، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه».
ولأنّه لا فرق بين أن يطلب الكتابة، وأن يطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة، فكما لا يجب هذا البيع، كذلك لا تجب الكتابة، وهذه طريقة المعاوضات أجمع، مرجعها إلى رضا الطرفين واختيارهما. وما روي عن عمر في قصة سيرين لا يدلّ على الوجوب، لأنّها لو كانت واجبة لحكم بها عمر على أنس، ولم يكن يحتاج أن يحلف عليه ليكاتبنّه، ولم يكن أنس أيضا يمتنع من شيء واجب عليه. وأما تهديد عمر إيّاه فإنما كان من كمال شفقته على رعيته، وحبه الخير لهم، فكثيرا ما كان يأمر الناس بما لهم فيه الحظ في الدين، وإن لم يكن واجبا على وجه التأديب والمصلحة.
وذهب بعض العلماء إلى أنّ قوله تعالى: {فَكاتِبُوهُمْ} أمر ورد بعد الحظر، فهو للإباحة، لأنّ الكتابة من السيد بيع ماله بماله، وهذا محظور، فلما ورد الشرع بطلبه كان مباحا. وحينئذ يكون ندب الكتابة واستحبابها من دليل آخر، مثل قوله تعالى: {وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13)} [البلد: 12، 13] وقوله تعالى: {وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ} إلى قوله: {وَفِي الرِّقابِ} [البقرة: 177] إلى غير ذلك من العمومات التي تندب إلى عمل البر وفعل الخير.
وظاهر الإطلاق في قوله تعالى: {فَكاتِبُوهُمْ} جواز الكتابة، سواء أكان البدل حالّا أم مؤجلا بنجم واحد أو أكثر، وإلى ذلك ذهب الحنفية.
ومنع الشافعية الكتابة على بدل حالّ، قالوا: إنّ الكتابة تشعر بالتنجيم، فتغني عن التقييد. وأيضا لو عقدت الكتابة حالّة توجهت المطالبة على المكاتب في الحال، وليس له مال يؤدي منه، فيعجز عن الأداء، فيرد إلى الرق، ولا يحصل مقصود الكتابة.
ونظيره من أسلم فيما لا يوجد عند حلول الأجل فإنّه لا يجوز. وكذلك منع الشافعية الكتابة على أهل من نجمين، وسندهم في ذلك أنها عقد إرفاق، ومن تمام الإرفاق التنجيم، ومع أنّ هذا الرأي مروي عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر تراه خلاف ظاهر الآية، ومستند الشافعية فيه ليس بالقوي.
وقوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} شرط، ومشروطه الأمر بالكتابة، فإن لم يعلموا فيهم خيرا لم تجب، أو لم تندب مكاتبتهم، على الخلاف في مقتضى الأمر كما تقدم.
بل ربما تكون الكتابة حين انتفاء الشرط محرمة، كما إذا علمنا أنّ المكاتب يكتسب بطريق الفسق، أو يضيّع كسبه في الفسق، ولو استولى عليه السيد لامتنع من ذلك، ونظيره الصدقة والقرض إذا علم أنّ من أخذهما يصرفهما في محرم فإنهما يحرمان.
{وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ} قد اختلف أهل التأويل في المأمور بإعطاء المكاتب من هو؟ وفي المال أي الأموال هو؟ فقال أكثر العلماء: المأمور بالإعطاء هو مولى العبد المكاتب، والمال الذي أمر بإعطائه منه هو مال الكتابة.
ثم اختلفوا على أنّ الربع هو المراد بالآية. وعن ابن مسعود والحسن الثلث.
وعن ابن عمر السبع. وعن قتادة العشر.
وقال الشافعي: لم تقدّر الآية الشيء الذي يؤتيه المولى، فيكفي في الخروج من عهدة الطلب أن يؤتيه أقلّ متمول، وفي حكمه حط شيء من مال الكتابة، بل الحط أولى من الإيتاء، لأنّه المأثور عن الصحابة، ولأنه في تحقق المقصود من الكتابة أقرب من الإيتاء.
وأخرج ابن جرير عن ابن وهب قال: قال مالك: سمعت بعض أهل العلم يقول: إنّ ذلك أن يكاتب الرجل غلامه، ثم يضع عنه من آخر كتابه شيئا مسمّى. قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت، وعلى ذلك أهل العلم وعمل الناس عندنا.
ثم اختلف هؤلاء في الإيتاء: أهو على سبيل الفرض والتحتيم أم على سبيل الندب والاستحباب؟
فقال سفيان الثوري وطائفة من العلماء: إنّه ليس بواجب، وإن يفعل ذلك حسن.
وذهب الشافعي إلى أنّ الإيتاء واجب، وفي معناه الحط كما تقدم، لأنّ ظاهر الأمر في الآية الوجوب، ولا صارف عنه.
وقال جماعة من العلماء: إنما هذا أمر متوجه إلى الناس كافة أن يعطوا المكاتبين سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضة بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ} [التوبة: 60] وهذا هو مذهب الحنفية، وحكاه أبو بكر بن العربي عن مالك. وظاهر أنّ الأمر حينئذ يكون للوجوب.
وقيل: إنّه أمر ندب للمسلمين عامة بإعانة المكاتبين بالتصدق عليهم.
وقيل إنه أمر للموالي أن يقرضوا المكاتبين شيئا من أموالهم لاستثماره في التجارة ونحوها إعانة لهم على أداء مال الكتابة.

.الإكراه على البغاء:

قال الله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
الفتيات: جمع فتاة، وكلّ من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة في أيّ سن كانا.
والبغاء: زنى النساء.
والتحصن: التعفف عن الزنى.
والعرض: المتاع سريع الزوال. والمراد به هنا ما يعمّ أجورهنّ التي يأخذنها على الزنى بهن وأولادهن من الزنى.
أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه أنّ جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول يقال لها مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، كان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية.
وقيل: نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما على الزنى، أحدهما عبد الله بن أبي.
وقيل: كان له ست جوار أكرههن على البغاء، وضرب عليهن ضرائب، فشكت اثنتان منهن إلخ.
وعن علي وابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يكرهون إماءهم على الزنى، يأخذون أجورهن، فنهوا عن ذلك في الإسلام، ونزلت الآية.
وعلى جميع الروايات لا سبيل إلى تخصيص الآية بمن نزلت فيه، بل هي عامة في سائر المكلّفين، لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قد يقال: إنّ النهي عن الإكراه هنا مقيّد بأمرين: الأول: أنّهنّ يردن التحصن.
والثاني: أنّهم يبتغون عرض الحياة الدنيا، فيلزم القائلين بالمفهوم أنّ الإكراه على الزنى جائز إذا لم يردن التحصن، أو لم يقصدوا به عرض الحياة الدنيا، والإكراه على الزنى غير جائز بحال من الأحوال إجماعا.
والجواب عن ذلك من وجوه:
الأول: أنّ الشرط لم يقصد به تخصيص النهي بحالة وجوده، وإخراج ما عداها من حكمه، بل قصد به النص على عادة من نزلت فيهم الآية، حيث كانوا يكرهونهنّ على البغاء، وهن يردن التعفف عنه. ومعلوم أنّه لا يعمل بمفهوم القيد إلا حيث لا يكون له فائدة غير المفهوم، فإذا ظهر له فائدة غير المفهوم، فلا اعتبار بمفهومه.
وهنا قد ظهر للشرط فائدة، وهي أنّ في التنصيص على تعفف الإماء توبيخا لسادتهم، وتقبيحا لحالهم، حيث لم يبلغوا في محاسن الآداب والترفع عن الدنيا مبلغ الفتيات المبتذلات، مع وفور شهوتهن، ونقصان عقلهن، وقصور باعهن في معرفة محاسن الأمور. وكذلك قوله تعالى: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا} لم يقصد به التنصيص على هذه الحالة لإخراج ما عداها من الحكم، وإنما جيء به ليسجّل عليهم عادة كانت تجري فيما بينهم أيضا، زيادة في التشنيع عليهم، وتقبيحا لما كانوا عليه من احتمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير.
والوجه الثاني: أنّ قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} شرط في تصور الإكراه وتحققه، وليس شرطا للنهي، وهذا الوجه ضعيف، لأنّ الإكراه قد يتصوّر إذا لم يردن التحصن، بأن تكره على زنى غير الذي أرادته، ولو سلّم أن الإكراه لا يتصور إلا إذا أردن التحصن، فذكر الإكراه مغني عن هذا القيد.
والوجه الثالث: أن المفهوم اقتضى ذلك الحكم، وهو جواز الإكراه على الزنى عند عدم إرادتهن التحصن، لكن ذلك الذي اقتضاه المفهوم قد انتفى لمعارض أقوى منه وهو الإجماع.
وإيثار {إِنْ} في قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} على (إذا) لأنّ إرادة التحصن من الإماء كالشأن النادر، أو للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك، فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع.
{فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} اختلف أهل التأويل في المغفور له من هو، أهو المكرهون أم المكرهات؟ فأكثر العلماء من السلف والخلف على أنّ المعنى: فإنّ الله من بعد إكراههن غفور لهن رحيم بهن، ويؤيد هذا الرأي قراءة ابن مسعود: {مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ورويت هذه القراءة عن ابن عباس أيضا. وأورد على هذا الرأي اعتراضان:
أولهما: أنه يلزم عليه خلو جملة الجزاء من عائد على اسم الشرط.
وثانيهما: أنه لا إثم عليهن حال الإكراه، لأنهنّ غير مكلفات، ولا إثم دون تكليف، فكيف تعلّقت المغفرة بهن؟
والجواب عن الأول: أن خلو الجزاء عن ضمير اسم الشرط لا محذور فيه، لأن اللازم لانعقاد الشرطية كون الأول سببا للثاني، وهو هنا ظاهر، على أنّ التقدير: فإنّ الله من بعد إكراههم إياهن، ففاعل المصدر هو العائد، والمحذوف كالملفوظ.
والجواب عن الثاني: أن تعليق المغفرة بهن إما لأنهنّ وإن كن مكرهات لا يخلو عن شائبة مطاوعة بحكم الجبلّة البشرية، وإما لتشديد المعاقبة على المكرهين، لأنّ الإماء مع قيام عذرهن إذا كنّ بصدد المعاقبة، حتى احتجن إلى المغفرة، فما حال المكرهين؟
واختار بعض العلماء أنّ المعنى: أنّ الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهم، أي للمكرهين، وجعل ذلك مشروطا بالتوبة. وهو تأويل ضعيف لأنّ فيه تهوين أمر الإكراه على الزنى، والمقام مقام تهويل وتشنيع على المكرهين.