فصل: تفسير الآية رقم (59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (59):

قال الله تعالى: {وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)}.
قد يتوهّم بعض الناس أنّ الصبي وقد اعتاد الدخول والتردد على أهل بيت معين إذا بلغ مبلغ الرجال فلا حرج في دخوله بغير استئذان، كسابق عادته، فجاءت هذه الآية لدفع هذا التوهم، وبيان أنّ الأطفال الذين قد رخّص لهم في ترك الاستئذان في غير العورات الثلاث إذا بلغوا الحلم وجب عليهم أن يستأذنوا، كما استأذن الذين ذكروا من قبلهم في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها} إلخ أي فعليهم أن يستأذنوا في كلّ الأوقات، ويرجعوا إذا قيل لهم ارجعوا.

.الكلام في بلوغ الصبي:

قال الله تعالى: {وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ}.
في القاموس الحلم بالضم والاحتلام: الجماع في النوم، والاسم منه الحلم كعنق. وقال الراغب: الحلم زمان البلوغ سمي بذلك لكون صاحبه جديرا بالحلم وضبط النفس عن هيجان الغضب.
والصّحيح أن الحلم هنا بمعنى الجماع في النوم، وهو الاحتلام المعروف. وأنّ الكلام كناية عن البلوغ والإدراك كما سبق.
جعلت الآية حدّ التكليف منوطا ببلوغ الصبي الحلم. ومثل الآية في ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «رفع القلم عن ثلاث... وعن الصبيّ حتّى يحتلم».
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «غسل الجمعة واجب على كلّ حالم».
وفي رواية «على كل محتلم».
وفي حديث معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا، يعني الجزية.
ومعنى هذه النصوص أنّ الصبي إذا بلغ أوان الاحتلام جرت عليه أحكام البالغين، سواء احتلم أم لم يحتلم وأجمع الفقهاء على أن الغلام إذا احتلم فقد بلغ، وكذلك الجارية إذا احتملت أو حاضت أو حملت.
لكنّهم اختلفوا في أمارات أخر تدل على البلوغ، ويناط بها التكليف من غير احتلام ولا حيض. فعن قوم من السلف أنّهم اعتبروا في البلوغ أن يبلغ الإنسان في طوله خمسة أشبار.
روى ابن سيرين عن أنس قال: أتي أبو بكر رضي الله عنه بغلام قد سرق فأمر به فشبّر فنقص أنملة، فخلّى عنه.
وعن علي كرم الله وجهه أنه قال: إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود، يقتص له ويقتص منه.
وفقهاء الأمصار لا يجعلون ذلك من أمارات البلوغ، فقد يكون دون البلوغ وهو طويل، وقد يكون فوق البلوغ وهو قصير.
وعن آخرين أنهم اعتبروا الإنبات من أمارات البلوغ، يقال: أنبت الغلام إذا نبت شعر عانته. ويقال: كناية عن ذلك: اخضرّ إزاره. والشافعي رضي الله عنه يجعل الإنبات دليلا على البلوغ في حق أطفال الكفار لإجراء أحكام الأسر والجزية والمعاهدة وغيرها عليهم. واحتجّ له بما روى عطية القرظي أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بقتل من أنبت من قريظة، واستحياء من لم ينبت، قال: فنظروا إليّ فلم أكن أنبت فاستبقاني صلّى الله عليه وسلّم.
وفي كتب المغازي والسير المعتمدة أنّ سعد بن معاذ رضي الله عنه لما حكم في بني قريظة أن تقتل الرجال، وتسبى الذرية، وتقسّم الأموال أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتل كل من جرت عليه الموسى منهم، ومن لم ينبت ألحق بالذرية.
وروى عثمان رضي الله عنه أنّه سئل عن غلام فقال: هل اخضرّ إزاره؟
وفقهاء الأمصار مجمعون على اعتبار السن في البلوغ، إلا أنهم مختلفون في التقدير.
فالمشهور عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه أن الغلام لا يبلغ إلا بعد أن يتم له ثماني عشرة سنة، وفي الجارية سبع عشرة سنة. وقال صاحباه والشافعي وأحمد: حدّ البلوغ بالسن في الغلام والجارية خمس عشرة سنة، وهو رواية عن الإمام أيضا وعليه الفتوى.
دليل المشهور عن الإمام قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] وأقل ما قيل في بلوغ الأشدّ ثماني عشرة سنة، فيبني الحكم عليه للتيقن، غير أنّ الإناث نشوءهن وإدراكهن أسرع، فنقص في حقهن سنة، لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة.
وللشافعي ومن معه أنّ العادة جارية ألا يتأخر البلوغ في الغلام والجارية عن خمس عشرة سنة، ولهم أيضا ما روى ابن عمر رضي الله عنهما أنه عرض على النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، وله أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه.
واعترض الجصاص عليهم بأنّ هذا الخبر لا دلالة فيه على المدعى، لأنّ الإجازة في القتال والرد يتبعان القوة والضعف، لا البلوغ وعدم البلوغ، فلعلّ عدم إجازته عليه الصلاة والسلام لابن عمر أولا إنما كان لضعفه، وإجازته إياه ثانيا إنما كانت لقوته وقدرته على حمل السلاح لا لبلوغه، ويشعر بذلك أنّه صلّى الله عليه وسلّم ما سأله عن الاحتلام والسن.

.تفسير الآية رقم (60):

قال الله تعالى: {وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)}.
القواعد: جمع قاعد بغير تاء، لأنه مختص بالنساء كحائض وطامث. قال ابن السكيت: امرأة قاعد: قعدت عن الحيض. وفي القاموس أنها هي التي قعدت عن الولد، وعن الحيض، وعن الزوج.
{لا يَرْجُونَ نِكاحاً} لا يطمعن في النكاح لكبر سنّهنّ {أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ} يخلعنها {غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ} أصل التبرج: التكلّف في إظهار ما يخفى. ومادة برج تدور على الظهور والانكشاف، ومن ذلك البرج بالتحريك سعة العين بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كله. والبرج بالضم: الحسن. والبارجة: السفينة الكبيرة للقتال، والمراد بالتبرج هنا: تكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها.
رخّص الله للنساء العجائز اللائي أيسن، ولم يبق لهن مطمع في الأزواج، أن يخلعن ثيابهن، من غير أن يقصدن بخلع الثياب التبرج والتكشف للرجال، ولم تبيّن الآية الثياب التي رخّص للقواعد أن يخلعنها. وللمفسرين في بيانها رأيان:
الأول: أن المراد بها الثياب الظاهرة التي لا يفضي وضعها إلى كشف العورة: كالجلباب السابغ: الذي يغطي البدن كله، كالرداء الذي يكون فوق الثياب، وكالقناع: الذي فوق الخمار.
وحجة أصحاب هذا الرأي ما أخرجه ابن جرير عن الشعبي أنّ أبي بن كعب قرأ: أن يضعن من ثيابهن.
وما أخرجه ابن المنذر عن ميمون بن مهران أنّه قال: في مصحف أبي بن كعب، ومصحف ابن مسعود أن يضعن جلابيبهن وهي قراءة ابن عباس أيضا.
قالوا: والجلباب ما تغطي به المرأة ثيابها من فوق كالملحفة، فلا حرج عليهن أن يضعن ذلك عند المحارم من الرجال وغير المحارم من الغرباء، غير متبرجات بزينة.
والرأي لثاني: أنهن يضعن خمرهن وأقنعتهن إذا كنّ في بيوتهن، أو من وراء الخدور والستور. ويضعّفه أنّ للشابة أن تفعل ذلك في خلوتها، فلا معنى لتخصيص القواعد بذلك.
وقد يقال: إذا كان وضع الثوب لا يترتب عليه كشف العورة فما معنى نفي الجناح فيه؟ وهل ينفى الجناح إلا في شيء قد كان يتوهّم حظره ومنعه؟
والجواب: أن الله تعالى ندب نساء المؤمنين إلى أن يبالغن في التستر والاستعفاف، بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، وجعل ذلك من الحشمة ومحاسن الآداب، فإنّه أبعد عن الريبة بهن، وأقطع لأطماع ذوي الأغراض الخبيثة، فكان إدناء الجلابيب من الآداب التي ندب إليها النساء جميعا، فرخص الله للقواعد من النساء أن يضعن جلابيبهن، ونفى عنهن الجناح في ذلك، وخيّرهن بين خلع الجلباب ولبسه، ولكن جعل لبسه استعفافا وخيرا لهن من حيث إنه أبعد عن التهمة، وأنفى للظنّة.
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وسيجازيهن على ما يجري بينهنّ وبين الرجال من قولهنّ وقصدهنّ.
وقد تخرّج الآية على معنى ثالث يقتضيه ظاهرها: وهو أنّ الله تعالى كما رخّص للنساء أن يبدين زينتهن لغير أولي الإربة من الرجال كذلك رخّص للنساء غير أولات الإربة أن يضعن ثيابهنّ التي كان يحرم عليهن خلعها بحضرة الرجال الأجانب، فلا حرج على العجوز أن تخلع خمارها وقناعها، ولو أدّى ذلك إلى كشف عنقها ونحرها للأجانب، ما دامت الفتنة مأمونة، وقد يساعد على ذلك أنّ نفي الحرج في خلعهنّ ثيابهنّ يدلّ على أنّ خلع هذه الثياب قد كان محظورا قبل أن يقعدن عن الحيض والولد، أيام كان لهنّ في الرجال مطمع، وللرجال فيهنّ رغبة. ولا شكّ أن المحظور حينئذ إنما هو خلع الثياب التي يفضي خلعها إلى كشف شيء من العورة، فما كان محظورا عليهن أيام صباهن هو الذي أبيح لهنّ حين كبرن، وانقطعت رغبتهن في الرجال.
ولقد كان معروفا في لسان العرب عصر التنزيل أن معنى وضع الرجل ثوبه، ووضع المرأة ثوبها، أنّ كلّا منهما يخلع من ثيابه ما يزيد على ما يلبسه في بيته، وأمام أهله ومحارمه.
ففي صحيح مسلم وغيره من حديث فاطمة بنت قيس أنها لما طلقها زوجها فبتّ طلاقها، أمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تعتدّ في بيت أمّ شريك ثم أرسل إليها أنّ أمّ شريك يغشاها أصحابي، فاعتدّي في بيت ابن عمك ابن أم مكتوم فإنّه ضرير البصر، تضعين ثيابك عنده.
وفي رواية: «فإنّك إذا وضعت خمارك لم يرك».
ظاهر أنّ المراد من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «تضعين ثيابك عنده».
أنّها تتحلل مما يجب عليها لبسه بحضرة الرجال الأجانب.