فصل: من سورة لقمان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.من سورة لقمان:

.تفسير الآيات (14- 15):

قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)}.
المختار عند أهل التأويل أنّ قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ} إلى آخر الآيتين كلام مستأنف من الله تعالى، جاء معترضا بين وصايا لقمان لابنه، ولهذا الاعتراض من البلاغة أحسن موقع، ذلك لأنّ الفائدة فيه توكيد ما تضمّنته أولى وصايا لقمان، وهو النهي عن الشرك، وتقرير أنّه ظلم عظيم، فإنه قيل: حقّا إنّ الشرك لمنهي عنه، وإنّه لظلم عظيم مهما كانت أسبابه، ومهما كان الحامل عليه، فمع أننا وصّينا الإنسان بوالديه أن يبرّهما، ويحسن إليهما، فقد نهيناه عن إطاعتهما في الشرك لو فرض أنهما طلباه منه بإلحاح وجهد.
{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ} هذا اعتراض أيضا بين قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ} وقوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ} لبيان العلة في الوصية، أو في وجوب امتثالها. وقوله تعالى: {وَهْناً عَلى وَهْنٍ} حال من فاعل {حَمَلَتْهُ} على التأويل بالمشتق، أي حملته أمه حال كونها ذات وهن على وهن، أي ذات ضعف على ضعف متتابع متزايد من حين الحمل إلى الوضع.
{وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ} الفصال الفطام، أي وفطامه يكون في انقضاء عامين، أي في أوّل زمان انقضائهما.
استدل العلماء غير أبي حنيفة بقوله تعالى: {وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ} على أنّ مدة الرضاع الذي يتعلق به التحريم عامان، ومثل هذه الآية في ذلك قوله في سورة البقرة: {وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ} [البقرة: 233]. وعلم من هذه الآية فائدة فقد استنبط علي وابن عباس وكثير غيرهما من قوله تعالى في سورة الأحقاف: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر.
روي أنّ عثمان أمر برجم امرأة قد ولدت لستة أشهر، فقال له علي كرّم الله وجهه: قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} وقال: {وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ}.
وروي أنّ عثمان رضي الله عنه سأل الناس عن ذلك فقال له ابن عباس مثل ذلك، وأنّ عثمان رجع إلى قول علي وابن عباس، وحكى الجصاص اتفاق أهل العلم على أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر.
وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن مدة الرضاع المحرّم ثلاثون شهرا. لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} وسنبينه إن شاء الله. ثم إنه رحمه الله يحمل الآية التي معنا على الكثير الغالب في الفطام، إذ إنه لا يتجاوز به في العادة عامين، ويقول في آية البقرة إنها لبيان المدة التي تستحق فيها المطلقة أجرا على الإرضاع، إذ إنها لا تستحق أجرا فيما وراء العامين، وذلك لا ينفي أن يكون ما بعد العامين إلى تمام الثلاثين شهرا من مدة الرضاع المحرّم.
وللحنفية في وجه الدلالة من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} على مذهب الإمام طريقتان:
الأولى: أنّه ذكر في الآية أمران متعاطفان أعقبا ببيان مدتهما، فتكون هذه المدة لكلّ من الأمرين استقلالا على ما يشهد به كلام الفقهاء في مثل قول المقرّ: عليّ لكلّ من فلان وفلان مئة إلى سنة أنّ السنة أجل كلّ من الدينين، فتكون الثلاثون شهرا مدة كل من الحمل والرضاع، غير أنّه قد ثبت في الحمل ما أوجب نقصه من الثلاثين شهرا، وهو ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّ الولد لا يبقى في بطن أمه أكثر من سنتين، ولو بقدر فلكة مغزل، ومثل هذا لا يقال بالرأي، فله حكم الحديث المرفوع، وإذا كان الأمر كذلك بقيت مدة الفصال على ظاهرها.
والطريقة الثانية: في معنى قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} هي أن ليس المراد بالحمل هنا حمل الجنين في البطن، بل حمل الولد بعد الولادة في مدة الرضاع، وحينئذ تكون المدة المضروبة في الآية إنما هي لشيء واحد، هو ذلك الحمل الذي ينتهي بالفصال.
وأنت تعلم أن العلماء ومنهم أبو حنيفة متفقون فيما حكى الجصاص على أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر، وأنهم استنبطوا ذلك من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} وقوله تعالى: {وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ}.
فتأويل الحنفية آية الأحقاف وحملهم لها على الوجهين المتقدمين ينافي ما اتفق عليه الفقهاء جميعا ويلزمهم حينئذ أحد أمرين: إما أن الإمام لم يوافق الجماعة في أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر، وإما أن يكون له دليل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر غير هاتين الآيتين، ولا أظن شيئا من هذين اللازمين منقولا عن أبي حنيفة رحمه الله.
{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ} {أَنِ} هنا على ما اختاره الزمخشري وغيره تفسيرية، فما بعدها بيان لفعل التوصية، إذ هو متضمّن معنى القول. أي قلنا له: اشكر لي ولوالديك، وإنما وسّط الأمر بشكر الله تعالى مع أنّ الوصية في الآية مخصوصة بالوالدين، لإفادة أنّ لا يقع شكر الوالدين موقعه إلا بعد الشكر لله.
فشكر الله تعالى حسن رعاية النّعم التي أنعم بها على الإنسان، وصرفها فيما خلقت له بالطاعة، وإخلاص العبادة لله، وفعل ما يرضيه. وشكر الوالدين إطاعتهما، وبرهما، والقيام بكل ما يرضيهما، إلا أنّ يكون فيه معصية لله.
وعن سفيان بن عيينة: من صلّى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا لوالديه في أدبارها فقد شكرهما. ولعل هذا بيان لبعض أفراد الشكر {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} أي إنّ مرجع الناس جميعا في الآخرة إلى الله وحده، فهو الذي يحاسب العباد، ويجازيهم على ما قدّموا من أعمال.
وهذا ظاهر في التهديد والتخويف من عاقبة المخالفة والعقوق والعصيان، كما هو وعد بالجزاء الحسن على امتثال أمر الله وطاعته وبر الوالدين وصلتهما.
{وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما} الجهاد والمجاهدة بذل الجهد، واستفراغ الوسع للوصول إلى الغرض. وهو هنا الإشراك بالله. وأراد سبحانه بنفي العلم نفي الشريك، أي لتشرك بي ما ليس بشيء، يريد الأصنام، كقوله سبحانه في شأنها: {ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [العنكبوت: 42].
{وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً} قيّد الصحبة بأنها في الدنيا. مع أنّ ذلك معروف، إذ الدنيا هي دار التكليف، لتهوين أمر الصحبة، والإشارة إلى أنّها في أيام قلائل، سريعة الانقضاء، فلا يضرّ تحمل مشقتها، لقلّة أيامها، ووشك انصرامها.
و(المعروف) هنا ما يعرفه الشرع ويرتضيه، وما يقضي به الكرم والمروءة في إطعامهما وكسوتهما، وعدم جفائهما وانتهارهما، وعيادتهما إذا مرضا، ومواراتهما إذا ماتا، إلى ما هو معروف من خصال البر بهما وصلتهما.
أبان قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ} إلى آخر الآيتين أنّ أمر الله بالإحسان إلى الوالدين عامّ في الوالدين المسلمين والكافرين، وأن طاعة الوالدين على أي دين كانا واجبة، إلّا إذا أمرا بمعصية، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وأنّ طلب الوالدين من ولدهما الإشراك بالله لا يسوّغ له الشرك، ولا يعتبر إكراها يبيح النطق بكلمة الكفر تقية.
ودلّ قوله تعالى: {وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً} على أنّ الولد لا يستحق القود على أحد والديه، وأنّه لا يحد له إذا قذفه، ولا يحبس له بدين عليه، وأن على الولد نفقة كلّ منهما إذا احتاجا إليه، إذ كان جميع ذلك من الصحبة بالمعروف، وفعل ضده ينافي مصاحبتهما بالمعروف.
{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ} أي اتبع سبيل من رجع إليّ بالتوحيد والإخلاص بالطاعة، لا سبيل والديك اللذين يأمرانك بالشرك.
أخرج الواحدي عن عطاء عن ابن عباس أنه قال: يريد بمن أناب أبا بكر رضي الله عنه. فإنّ قوله تعالى: {وَإِنْ جاهَداكَ} إلخ نزل في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وإسلام سعد كان بسبب إسلام أبي بكر رضي الله عنه. وذلك كما روي عن ابن عباس أنه حين أسلم أبو بكر رآه سعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، فقالوا لأبي بكر: آمنت وصدّقت محمدا صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال أبو بكر: نعم، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فآمنوا وصدّقوا، فأنزل الله تعالى يقول لسعد: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ} يعني أبا بكر رضي الله عنه.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه كان يقول: من أناب هو محمد صلّى الله عليه وسلّم، لكنّ جمهور المفسرين على أنّ المراد العموم، كما هو ظاهر اسم الموصول، ولذلك قالوا: إنّ قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ} يدل على صحة إجماع المسلمين، وأنّه حجة لأمر الله تعالى إيانا باتباعهم. وهو مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115].
{ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي إليّ مرجع من آمن منكم، ومن أشرك، ومن برّ، ومن عقّ، فأنبئكم عند رجوعكم بما كنتم تعملون بأن أجازي كلّا منكم بما صدر عنه من الخير والشر.
والجملة مقرّرة لما قبلها، ومؤكدة لوجوب الإحسان إلى الوالدين وبرهما وطاعتهما فيما يأمران به، ما دام ليس فيه معصية لله تعالى، فإذا أمرا بمعصية فلا طاعة لهما، لأنّه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».

.من سورة الأحزاب:

.تفسير الآيات (4- 5):

قال الله تعالى: {ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)}.
المراد بالقلب هنا: المضغة الصنوبرية في داخل التجويف الصدري، والجعل الخلق، وإذا كان الرجل لم يخلق له قلبان- والرجل أكمل النوع الإنساني حياة- فأولى ألا يكون للأنثى قلبان، وأما الصبيان فمآلهم أن يكونوا رجالا، فالمعنى حينئذ: ما خلق الله لأحد من الناس قلبين في جوفه، وكانت العرب تزعم أنّ كلّ لبيب أريب له قلبان، واشتهر أبو معمر الفهري بين أهل مكة بذي القلبين لقوة حفظه.
{تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ} نزل القرآن الكريم والعرب يعقلون من هذا التركيب (ظاهر من زوجته) أنه قال لها: أنت عليّ كظهر أمّي فهو نظير (لبّى) إذا قال: (لبيك) و(أفف) إذا قال: (أف) و(سبّح) إذا قال: (سبحان الله) و(كبّر) إذا قال: (الله أكبر). فجاء الشرع فألحق بهذه الصيغة- أنت عليّ كظهر أمّي- في الحكم كلّ ما يدلّ على تشبيه الرجل زوجته أو جزءا منها بأنثى محرّمة عليه على التأبيد.
وقد كان الظهار في الجاهلية طلاقا لا حلّ بعده برجعة ولا بعقد، لأنهم كانوا يجرون أحكام الأمومة على المظاهر منها، فأبطل الله هذه العادة، وجعل للظّهار أحكاما سوف يأتي بيانها في تفسير سورة المجادلة إن شاء الله.
{أَدْعِياءَكُمْ} الأدعياء جمع دعي، وهو الذي يدعى ابنا وليس بابن، وقد كان التبني عادة فاشية في الجاهلية وصدر الإسلام، يتبنّى الرجل ولد غيره، فتجري عليه أحكام البنوّة كلّها. وقد تبنّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة، وتبنّى حذيفة سالما مولاه، وتبنّى الخطاب- أبو عمر رضي الله عنه- عامر بن أبي ربيعة. وكثير من العرب تبنى ولد غيره، فجاء القرآن الكريم بإبطال هذا العمل وإلغائه.
بيّنت الآية أنّ هذه الأمور الثلاثة باطلة لا حقيقة لها، فكون الرجل له قلبان أمر لا حقيقة له في الواقع. وجعل المظاهر منها أمّا أو كالأم في الحرمة المؤبّدة من مخترعات أهل الجاهلية، التي لم يستندوا فيها إلى مستند شرعي. وجعل المتبنى ابنا في جميع الأحكام مما لا حقيقة له في شرع ظاهر.
ولما كان أظهر هذه الأمور في البعد عن الحقيقة كون الرجل له قلبان قدّم الله جل شأنه قوله: {ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} وضربه مثلا للظهار والتبني، أي كما لا يكون لرجل قلبان لا تكون المظاهر منها أما ولا المتبنّى ابنا.
وقوله عزّ وجلّ: {ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ} الإشارة فيه إلى ما يفهم من الجمل الثلاث من كون الرجل له قلبان، وكون المظاهر منها أما والدعيّ ابنا. وزيادة قوله تعالى: {بِأَفْواهِكُمْ} للتنبيه على أنه قول صادر من الأفواه فقط، من غير أن يكون له مصداق أو حقيقة في الواقع ونفس الأمر، فلا يستتبع أحكاما كما يزعمون.
{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} أي فدعوا قولكم، وخذوا بقوله عزّ وجلّ: {ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ}
أخرج الشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ زيد بن حارثة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن: {ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ} إلخ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنت زيد بن حارثة بن شراحيل».
وكان من أمره ما رواه ابن مردويه عن ابن عباس أنّه كان في أخواله بني معن من بني ثعل من طيئ، فأصيب في نهب من طيئ، فقدم به سوق عكاظ.
وانطلق حكيم بن حزام بن خويلد إلى عكاظ يتسوّق بها، فأوصته عمته خديجة أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا إن قدر عليه، فلما قدم وجد زيدا يباع فيها، فأعجبه ظرفه، فابتاعه، فقدم به عليها، وقال لها: إني قد ابتعت لك غلاما ظريفا عربيا، فإن أعجبك فخذيه، وإلا فدعيه، فإنه قد أعجبني، فلما رأته خديجة أعجبها، فأخذته.
فتزوجها الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو عندها، فأعجب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ظرفه، فاستوهبه منها، فقالت: أهبه لك، فإن أردت عتقه فالولاء لي، فأبى عليها الصلاة والسلام، فوهبته له إن شاء أعتق، وإن شاء أمسك.
قال: فشب عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم إنّه خرج في إبل لأبي طالب بأرض الشام، فمرّ بأرض قومه، فعرفه عمه، فقام إليه فقال: من أنت يا غلام؟ قال: غلام من أهل مكة.
قال: من أنفسهم؟ قال: لا. قال: فحرّ أنت أم مملوك؟ قال: بل مملوك.
قال: لمن؟
قال: لمحمد بن عبد المطلب. فقال له: أعرابي أنت أم أعجمي؟ قال: عربي.
قال: ممن أهلك؟.
قال: من كلب. قال: من أي كلب؟ قال: من بني عبدون. قال: ويحك ابن من أنت؟ قال: ابن حارثة بن شراحيل. قال: وأين أصبت؟ قال: في أخوالي. قال: ومن أخوالك؟ قال: طيئ. قال: ما اسم أمك؟ قال: سعدى. فالتزمه وقال: ابن حارثة! ودعا أباه قال: يا حارثة هذا ابنك، فأتاه حارثة، فلما نظر إليه عرفه، كيف صنع مولاك إليك؟ قال: يؤثرني على أهله وولده، ورزقت منه حبّا فلا أصنع إلّا ما شئت، فركب معه أبوه وعمه وأخوه حتى قدموا مكة، فلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له حارثة: يا محمد أنتم أهل حرم الله وجيرانه وعند بيته، تفكّون العاني، وتطعمون الأسير، ابني عبدك، فامنن علينا، وأحسن إلينا في فدائه، فإنّك ابن سيد قومه، وإنا سندفع إليك في الفداء ما أحببت.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أعطيكم خيرا من ذلك؟» قالوا: وما هو؟ قال: «أخيره، فإن اختاركم فخذوه بغير فداء، وإن اختارني فكفوا عنه».
فقالوا: جزاك الله خيرا فقد أحسنت.
فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا زيد أتعرف هؤلاء»؟ قال: نعم. هذا أبي وعمي وأخي.
فقال عليه الصلاة والسلام: «فهم من قد عرفتهم، فإن اخترتهم فاذهب معهم، وإن اخترتني فأنا من تعلم».
فقال زيد: ما أنا بمختار عليك أحدا أبدا، أنت معي بمكان الوالد والعم.
قال أبوه وعمه: أيا زيد أتختار العبودية؟ قال: ما أنا بمفارق هذا الرجل.
فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرصه عليه قال: «اشهدوا أنّه حر، وأنّه ابني يرثني وأرثه».
فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامة زيد عليه صلّى الله عليه وسلّم، فلم يزل في الجاهلية يدعى زيد بن محمد حتى نزل القرآن: {ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ} فدعي زيد بن حارثة.
{هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أي دعاؤهم لآبائهم، ونسبتهم إليهم بالغ في العدل والصدق، وزائد فيه في حكم الله تعالى وقضائه. فأفعل التفضيل ليس على بابه، بل قصد به الزيادة مطلقا، ويجوز أن يكون على بابه، جاريا على سبيل التهكم بهم.
{فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ} أي فهم إخوانكم في الدين {ومَوالِيكُمْ} أي وهم مواليكم في الدين أيضا، فليقل أحدكم: يا أخي أو يا مولاي، يقصد بذلك الأخوة والولاية في الدين.
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ظاهر السياق أن المراد نفي الجناح عنهم فيما أخطئوا به من التبني، وإثبات الجناح عليهم فيما تعمدت قلوبهم من التبني أيضا.
والقائلون بهذا الظاهر مختلفون في المراد بالخطأ ما هو؟
فأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنّ المراد بالخطأ الذي رفع عنهم فيه الإثم هو تسميتهم الأدعياء أبناء قبل ورود النهي. وأنّ العمد الذي ثبت فيه الإثم عليهم هو ما كان من ذلك بعد النهي، فالخطأ هنا معناه الجهل بالحكم.
وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: لو دعوت رجلا لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه، لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمّدت وقصدت دعاءه لغير أبيه.
أي فعليك فيه الإثم، فعلى رأي مقاتل يكون المراد بالخطأ مقابل العمد. وكلا الأمرين بعد ورود النهي.
وأجاز بعض المفسرين أن يراد العموم في {فِيما أَخْطَأْتُمْ} وفي {ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ويكون معنى قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ} إلخ نفي الجناح عنهم في الخطأ كله دون العمد، فيتناول ذلك لعمومه خطأ التبني وعمده. والكلام حينئذ وارد في العفو عن الخطأ، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس.
وكما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لست أخاف عليكم الخطأ، ولكن أخاف عليكم العمد» أخرجه ابن مردويه.
{وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً} فيغفر لمن تعمّد قلبه الإثم إذا تاب {رَحِيماً} من رحمته أنّه رفع الإثم عن المخطئ، ولم يؤاخذه على خطئه.
وظاهر الآية يدلّ على أنه يحرم على الإنسان أن يتعمّد دعوة الولد لغير أبيه، وذلك محمول على ما إذا كانت الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية. وأمّا إذا لم تكن كذلك، كما يقول الكبير للصغير على سبيل التحنن والشفقة: يا بني. وكثيرا ما يقع ذلك، فالظاهر عدم الحرمة.
ولكن أفتى بعض العلماء بكراهته سدا لباب التشبه بالكفار. ولا فرق في ذلك بين كون المدعو ذكرا أو كونه أنثى. وإن لم يعلم علم اليقين وقوع التبني للإناث في الجاهلية.
ومثل دعاء الولد لغير أبيه انتساب الشخص إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه، وعدّ ذلك كثير من العلماء في الكبائر. وهو محمول أيضا على ما إذا كان الانتساب على الوجه الذي كان في الجاهلية، فقد كان الرجل منهم ينتسب إلى غير أبيه وعشيرته، وقد ورد في هذا الادعاء الوعيد الشديد.
أخرج الشيخان وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنّه غير أبيه فالجنة عليه حرام».
وأخرج الشيخان أيضا: «من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا».
وأخرجا أيضا: «ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلم إلا كفر».
وأخرج الطبراني في الصغير عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كفر من تبرّأ من نسب وإن دقّ، أو ادعى نسبا لا يعرف».
قال العلماء في معنى «كفر» هنا أنّه إن كان يعتقد إباحة ذلك فقد كفر وخرج عن الإسلام. وإن لم يعتقد إباحته ففي معنى كفره وجهان:
أحدهما: أنه أشبه فعله فعل الكفار أهل الجاهلية.
والثاني: أنّه كافر نعمة الله والإسلام عليه.
وكذلك قوله في الحديث الآخر «فليس منا» أي إن اعتقد جوازه خرج عن الإسلام، وإن لم يعتقد جوازه فالمعنى: أنّه لم يتخلّق بأخلاقنا.
وليس الاستلحاق الذي أباحه الإسلام من التبني المنهي عنه في شيء، فإن من شرط الحل في الاستلحاق الشرعي أن يعلم المستلحق- بكسر الحاء- أن المستلحق- بفتحها- ابنه، أو يظن ذلك ظنا قويا، وحينئذ شرع له الإسلام استلحاقه، وأحلّه له، وأثبت نسبه منه بشروط مبيّنة في كتب الفروع.
أما التبنّي المنهي عنه، فهو دعوى الولد مع القطع بأنّه ليس ابنه، وأين هذا من ذاك؟
وظاهر الآية أيضا أنّه يباح أن يقال في دعاء من لم يعرف أبوه: يا أخي، أو يا مولاي، إذا قصد الأخوة في الدين، والولاية فيه، لكنّ بعض العلماء خصّ ذلك بما إذا لم يكن المدعو فاسقا، وكان دعاؤه بيا أخي أو يا مولاي تعظيما له، فإنه يكون حراما، لأننا نهينا عن تعظيم الفاسق، فمثل هذا يدعى باسمه، أو بيا عبد الله، أو يا هذا. مثلا.