فصل: تفسير الآية رقم (6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (6):

قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)}.
لعلّك ترى زيدا قد تصيبه وحشة من أنّه صار لا يدعى بعد الآن زيد بن محمد، خصوصا بعد أن كان من أمر أبيه وعمه في النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنّه قد يرى في تخلّي النبي عن أبوته حطّا من قدره بين الناس، وقد كان هو يعتز بهذه الدعوة، لأنها تكسبه جاها عريضا ينفعه في الدنيا والآخرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية تسلية لزيد، ولبيان أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم إن تخلى عن أبوة زيد فإلى الولاية العامة، والرأفة الشاملة التي تعم المسلمين جميعا لا تفريق بين ابن الصلب وغيره، فهو يرعاهم حق الرعاية، ويهديهم طريقا إن اتبعوه لن يضلوا بعده أبدا. وما كانت أبوته لزيد أو لأحد غيره بزائدة في ذلك شيئا، ولن ينقص زيد بتخلّي النبي عن أبوته شيئا فالرسول أولى وأحق بكل المؤمنين من أنفسهم، فهو الآمر الناهي بما يحقّق للناس سعادتهم في الدنيا والآخرة، والحفيظ على مصالحهم، لا يضيّع شيئا، وقد تأمر النفس بالسوء؟ أما الرسول فهو الذي يوحى إليه، لا ينطق عن هوى، ولا يهدي إلا إلى الخير.
ولم يذكر في الآية ما تكون فيه الأولوية، بل أطلقت إطلاقا ليفيد ذلك أولويته في جميع الأمور، ثم إنّه ما دام أولى من النفس، فهو ولى من جميع الناس بطريق الأولى.
وقد روى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيّما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني، فأنا مولاه».
وقوله تعالى: {وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ} أي منزلات منزلة الأمهات في تحريم نكاحهن، واستحقاق تعظيمهن، وأما في غير ذلك، فهنّ أجنبيات، فلا يقال لبناتهم أخوات المؤمنين، ولا يحرمن على المؤمنين.
ومن أجل هذا قالت السيدة عائشة لمن قالت لها يا أمه: أنا أمّ رجالكم لا أم نسائكم.
ثم الظاهر، أنّ المراد من أزواجه كل من وقع عليها اسم الزوج، سواء من طلّقها ومن لم يطلقها، فيثبت الحكم للجميع، فلا يحل نكاح أحد منهنّ حتى المطلقة، وقيل لا يثبت هذا الحكم لمن فارقها عليه الصلاة والسلام في الحياة، كالمستعيذة، وصحح إمام الحرمين وغيره قصر التحريم على المدخول بها فقط.
وقد روي أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله عنه فهم برجمه فأخبره أنها لم تكن مدخولا بها فكف عنه. وفي رواية أنّه همّ برجمها، فقالت: ولم هذا؟ وما ضرب عليّ حجاب، ولا سميت للمسلمين أمّا، فكفّ عنها.
وأما التي اختارت الدنيا منهنّ حين نزلت آية التخيير الآتية فقد ذكر بعض العلماء أنّ الخلاف الذي سمعت يجري فيها كذلك.
واختار الرازي والغزالي القطع بالحل.
{وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ} الظاهر أنّ المراد بأولي الأرحام ذوو القرابات مطلقا، سواء كانوا أصحاب فروض أم عصبات أم ذوي أرحام. فالمراد من الآية الكريمة أنّ أصحاب القرابة أيّا كان نوعها أولى من غيرهم بمنافع بعض، أو بميراث بعض، على ما سيأتي من القول فيه.
وقوله: {فِي كِتابِ اللَّهِ} المراد منه ما كتبه في اللوح المحفوظ، أو ما أنزله في القرآن من آية المواريث وغيرها، كآية الأنفال، أو المراد بكتاب الله ما كتبه وفرضه وقدّره، سواء أكان ذلك الفرض في القرآن أو في غيره.
قوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ} يحتمل أن يكون راجعا إلى أولي الأرحام والمعنى: وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض في النفع أو في الميراث، وقد قال بجواز هذا صاحب الكشاف. ويحتمل أن يكون قوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ} متعلقا بأولي، والمعنى: وأولو الأرحام بعضهم أولى من المؤمنين والمهاجرين بنفع بعض، أو بميراث بعض، ويكون هذا إبطالا لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والنصرة، على نحو ما جاء في آخر سورة الأنفال من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)} [الأنفال: 72- 75].
فأنت ترى أنّه كان هناك توارث بالهجرة والنصرة، ثم نسخ، وتأكّد النسخ بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية».
وظاهر أنّ النفي لا يراد منه نفي حقيقة الهجرة، وترك بلد إلى آخر، فذلك موجود بعد الفتح، ويوجد كل يوم، بل المراد نفي الأحكام التي كانت تترتب على الهجرة كالتوارث بها، وحينئذ يكون معنى قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ} أنّ التوارث الذي كان سبب الهجرة قد بطل، وصار التوارث بالرحم.
{إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً} يحتمل أن يكون الاستثناء هنا متصلا، ويحتمل أن يكون منقطعا.
فعلى الأول: يكون استثناء من أعم الأحوال التي تقدر الأولوية فيها كالنفع، فإنّه يتنوع إلى ميراث وصدقة وهدية ووصية، وغير ذلك، ويكون المعنى: أن أولي الأرحام أولى بجميع وجوه النفع من غيرهم من المؤمنين والمهاجرين، إلّا أن يكون لكم في هؤلاء ولي تريدون أن توصوا إليه، وتسدوا إليه معروفا، فذلك جائز، ويكون هو أولى بذلك المعروف من ذوي الأرحام، فإنّ الوصية لا تجوز لهم إلا برضاء الورثة.
وعلى الثاني: وهو أن الاستثناء منقطع فتجعل ما فيه الأولوية هو الميراث فقط، وهو المستثنى منه، ويكون فعل المعروف وهو المستثنى الوصية.
ولا شك أنّهما جنسان، وتخصيص ما فيه الأولوية بالميراث مفهوم من الكلام، إذ المسلمون جميعا بعضهم أولى ببعض في التناصر والتواصل والتراحم، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
وقد يكون بعض وجوه النفع الأجانب فيها أولى من ذي الرحم، فإنّ الصدقات يأخذها الفقراء وإن كانوا أجانب، ويحرم منها الأغنياء وإن كانوا أقارب.
والشيء الوحيد الذي يكون فيه ذو الرحم أولى من غيره هو الميراث، ويكون المعنى على هذا كأنه قيل: لا تورثوا غير ذي رحم، لكن أن تسدوا إلى أوليائكم المؤمنين والمهاجرين معروفا، فذلك جائز: بل هم أحق بالوصية من ذوي الأرحام.
وترى أنّا قد فسرنا الأولياء في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً} بالأولياء من المؤمنين والمهاجرين، وذلك جريا على ما ذهب إليه كثير من المفسرين من أن الآية في ترك التوارث بالهجرة والمؤاخاة، ويكون هذا تمشيا مع ما أسلفناه من أنّ (من) في قوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ} داخلة في المفضل عليه.
وروي عن بعضهم أن الآية نزلت في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني، ويكون معنى الآية أولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى بميراث بعض، إلا إذا كان لكم أولياء من غيرهم، فيجوز أن توصوا إليهم، وهذا الوجه مروي عن محمد بن الحنفية وغيره.
{كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً} كان هذا الحكم الذي دلت عليه الآيتان مثبتا بالأسطار في القرآن، أو حقا مثبتا عند الله لا يمحى.
ترى مما تقدم أنّا قد فسرنا (أولي الأرحام) بذوي القرابة مطلقا، أيا كان نوعهم، وقد نقل الفخر الرازي أنّ الإمام الشافعي رضي الله عنه فسّرها بذلك، وتبعه في هذا أبو بكر الرازي من الحنفية. ثم هو بعد ذلك يردّ فيها دليلا للحنفية على توريث ذوي الأرحام من حيث إنّ الآية قد أريد منها هذا النوع الخاص من الوارثين، بل من حيث إنّ الآية اقتضت أنّ ذا القرابة مطلقا أولى من غيره. وأما تقديم بعض ذوي القرابة على بعض فهذا به أدلته الخاصة، ويقتضي ذلك أن يكون ذو الرحم وهو الصنف الذي يدلي إلى الميت بواسطة الأنثى أولى من بيت المال، فتكون الآية حجة على من قدّم بيت المال عليهم.
وقد اختلف العلماء في تقديم ذوي الأرحام على مولى العتاقة. فذهب بعضهم إلى أنّ ذا الرحم أولى، وهو يروى عن ابن مسعود، وظاهر الآية يساعده.
ويرى بعضهم أنّ مولى العتاقة مقدم على ذوي الأرحام، وهو مرويّ عن كثير من الصحابة، بل زعم الجصاص أنّه مذهب سائر الصحابة، وقد روي عن ابنه حمزة أعتقت عبدا ومات، وترك بنتا، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم نصف ميراثه لابنته، ونصفه لابنة حمزة، ولم يقل لنا الرواة هل كان للميت ذو رحم حتى يتم الدليل؟
وهذا إن صح يدلّ أيضا على أن مولى العتاقة أولى من الرد، وهذا لا يكون إلا إذا كان مولى العتاقة محسوبا من العصبات، والعصبات أولى بالميراث من غيرهم، وقد روي أنّ النبي جعل ابنة حمزة عصبة لمولاها، وقد ورد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الولاء لحمة كلحمة النّسب».
وللمخالف أن يقول: إن التشبيه يقتضي مطلق الاستحقاق، فأين تقديمه على غيره.

.تفسير الآية رقم (49):

قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (49)}.
لا خلاف بين العلماء في أنّ المراد بالنكاح هنا العقد، ولا خلاف بينهم أيضا في أنّ قيد الإيمان هنا ليس للاحتراز، بل لمراعاة الغالب من حال المؤمنين أنّهم لا يتزوجون إلا بمؤمنات، وللإشارة إلى أنه ينبغي أن يقع اختيارهم في الزواج على المؤمنات.
وكذلك اتفقوا على أنّه ليس المراد بالمس هنا حقيقته، وهي إلصاق اليد بالجسم، وإلا لزمت العدة فيما لو طلقها بعد أن مسها بيده من غير جماع ولا خلوة.
ولم يقل بذلك أحد. بل المراد بالمس الجماع، لشهرة الكناية به وبالمماسة والملامسة ونحوها عن الجماع في لسان الشرع.
والعدة شرعا المدة التي تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها من الحمل، أو للتعبّد، أو للتفجّع على زوج مات.
ومعنى {تَعْتَدُّونَها} تعدونها عليهن، أو تستوفون عددها عليهن.
والمتعة في الأصل الاستمتاع، وما يتمتع به، وفي لسان أهل الشرع ما يعطيه الزوج لمطلقته إرضاء لها، وتخفيفا من شدة وقع الطلاق عليها. وبيان مقدار المتعة ونوعها قد تكفّلت به كتب الفروع.
وأصل التسريح إرسال الماشية لترعى السرح، وهو شجر عظيم ذو ثمر. ثم توسع في التسريح، فجعل لكل إرسال في الرعي، ثم لكل إرسال وإخراج. والمراد به هنا تركهن وعدم حبسهن في منزل الزوجية، إذ لا سبيل للرجال عليهن بعد طلاقهن.
والسراح الجميل يكون بمجاملتهن بالقول اللين، وترك أذاهن، وعدم حرمانهن مما وجب لهن من حقوق.
أخذ بعض العلماء من قوله تعالى: {إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} أنّه لا طلاق قبل النكاح، فقول الرجل: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، أو إن تزوجت فلانة فهي طالق، لا يعدّ طلاقا، فإذا تزوج لم تطلق زوجته بهذه الصيغة التي صدرت منه قبل النكاح، سواء أخصّ أم عمّ، وسواء أنجز أم علّق.
وقد أخرج جماعة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن ذلك فقال: هو ليس بشيء، فقيل له: إنّ ابن مسعود كان يقول: إن طلق ما لم ينكح فهو جائز، فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن، لو كان كما قال لقال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن ولكن إنما قال: {إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ}.
وقد ذكر في الدر المنثور وغيره من رواية علي وجابر ومعاذ وغيرهم رضي الله عنهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا طلاق قبل نكاح».
وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين، وهو مذهب الشافعي وأحمد.
وقال الحنفية: الطلاق يعتمد الملك أو الإضافة إليه، لكنه في حال الإضافة إلى الملك يبقى معلّقا، حتى يحصل شرطه الذي هو الملك، فإذا قال للأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق، كان هذا تعليقا صحيحا للطلاق على شرط النكاح، فإذا حصل هذا الشرط وقع الطلاق على فوره، وكان طلاقا في الملك بالضرورة، فكأنّه أنجزه عليها حينذاك.
والفرق واضح بين تنجيز الطلاق على الأجنبية، وبين تعليق طلاقها على نكاحها، فإنّ الأول طلاق لم يحصل في الملك، ولم يكن مضافا إليه. أما الثاني فإنّ وقوعه لابد أن يصادف الملك حيث كان معلقا عليه. والحنفية لا يشترطون في التعليق على الملك أن يكون صريحا بصيغة من الصيغ المعهودة في التعليق، بل المعوّل عليه عندهم أن يكون المعنى على التعليق، فلا فرق عندهم بين التعليق اللفظي كأن يقال: إن تزوجت فلانة فهي طالق. والتعليق المعنوي مثل: كل امرأة أتزوجها طالق. غير أنّهم يشترطون في التعليق المعنوي ألا تكون المرأة معيّنة بالاسم أو بالإشارة مثل: فلانة التي أتزوجها طالق، وهذه المرأة الحاضرة التي أتزوجها طالق، فإنّ تعيين المرأة بالاسم أو بالإشارة يضعف معنى التعليق، فتلتحق هاتان الصورتان وما أشبههما بالطلاق الناجز، والطلاق الناجز لا يقع في غير الملك بالاتفاق.
وقد حكي عن مالك رضي الله عنه أنّه إن عمّ لم يقع، وإن سمّى شيئا بعينه امرأة أو جامعة إلى أجل وقع.
وحكي عنه أيضا أنه إذا ضرب لذلك أجلا يعلم أنه لا يبلغه كأن قال: إن تزوجت امرأة إلى مئة سنة لم يلزمه شيء، وهذا الذي حكيناه عن الحنفية والمالكية منقول عن كثير من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، على اختلاف في التفصيل، ليس هذا محل ذكره.
ويقول أصحاب هذا الرأي: إنّ قوله تعالى: {إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} لا ينافي ما ذهبنا إليه، بل إنه ظاهر الدلالة على صحة قولنا، لأنّ الآية حكمت بصحة وقوع الطلاق بعد النكاح. ومن قال لأجنبية: إذا تزوجتك فأنت مطلّقة، فهي طالق بعد النكاح، فوجب بظاهر الآية إيقاع طلاقه، وإثبات حكم لفظه.
وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا طلاق قبل نكاح».
- فبعد تسليم صحته- لا ينافي ما ذهبنا إليه، لأنّ من ذكرنا مطلّق بعد النكاح.
وقد روي عن الزهري في هذا الحديث إنما هو أن يذكر للرجل المرأة، فيقال له: تزوجها. فيقول: هي طالق البتة، فهذا ليس بشيء. فأمّا من قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق البتة فإنما طلقها حين تزوجها.
ثم إنّ عطف الطلاق في الآية على النكاح بـ {ثُمَّ} لا يدل على أنّ الحكم خاص بالحالة التي يتراخى فيها الطلاق عن النكاح، فإنه لا فرق بين أن يقع متراخيا، وأن يقع على الفور، بل عدم الاعتداد في صورة الفورية أولى منه في صورة التراخي.
وعلى هذا يكون التعبير بـ {ثُمَّ} للتنصيص على الحكم في الصورة التي قد يتوهم فيها وجوب العدة، لطول المدة التي هي مظنة الملاقاة والمباشرة. وهذا ظاهر إذا كانت كلمة {ثُمَّ} باقية على معناها الوضعي، مفيدة للتراخي الزماني.
ويصحّ أن يراد منها التراخي في الرتبة وبعد المنزلة، فيستفاد منها أنّ مرتبة الطلاق بعيدة عن مرتبة النكاح، إذ إنّ النكاح تترتب عليه منافع كثيرة، ويثمر ثمرات طيبة. فأما الطلاق فإنّه يحل العقدة، ويفصم العروة، ويبطل ما بين الزوجين وأقاربهما من روابط وصلات. ولهذا قال بعض الفقهاء: إنّ الآية ترشد إلى أنّ الأصل في الطلاق الحظر، وأنّه لا يباح إلا إذا فسدت الزوجية، ولم تفلح وسائل الإصلاح بين الزوجين.
وظاهر التقييد بعدم المس- الذي عرفت أنّه كناية عن الجماع- أنّ الخلوة ولو كانت صحيحة لا توجب ما يوجبه الجماع من العدة بعد الطلاق، وهو قول الشافعي في الجديد. أما الحنفية والمالكية الذين يقولون بأنّ الخلوة الصحيحة كالجماع فمن العسير جدّا أن تحمل الآية على محمل يساعدهم. وقد حاول بعضهم أن يجعل المس كناية عن الخلوة أو عما يشمل الخلوة والجماع، ولكنّ ذلك بعيد، إذ لم يعرف، ولم يشتهر إطلاق المس على الخلوة.
وإذا فوجوب العدة بالخلوة عند من يقول بذلك لابد له من دليل آخر، وذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الدارقطني والرازي في أحكام القرآن: «من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق، دخل بها أو لم يدخل».
وقال ابن المنذر: إنّ هذا قول عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وجابر، ومعاذ، وروي عن زرارة بن أبي أوفى أنّه قال: قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه إذا أرخى الستور، وأغلق الباب، فلها الصداق كاملا، وعليها العدة، دخل بها أو لم يدخل.
هذا وقد اختلف علماء الحنفية بعد الاتفاق على وجوب العدة بالخلوة، فمنهم من يقول: إنّها واجبة قضاء وديانة، وإنّه لا يحل للمرأة أن تتزوج بزوج آخر قبل أن تعتدّ ما دامت الخلوة بالأول صحيحة، ولو من غير وقاع. ومنهم من يقول: إنّه يحل لها ذلك متى كان الزوج لم يواقعها، فأما في القضاء فلا اعتبار إلا بالظاهر.
وظاهر الآية أيضا أنه لا عدة على المرأة المدخول بها إذا طلّقها زوجها رجعيا، أو أبانها بينونة صغرى ثم راجعها، أو عقد عليها قبل انقضاء عدتها، ثم طلقها قبل أن يمسها، إذ إنّ هذا الطلاق الثاني يصدق عليه أنه طلاق قبل المس، وبذلك قال أهل الظاهر. فليس عليها عدة جديدة للطلاق الثاني لأنّه طلاق قبل المس، كما أنّه ليس عليها أن تكمّل العدة الأولى، لأنّ الطلاق الثاني قد أبطل الطلاق الأول. ثم يكون لها نصف الصداق في صورة البينونة، والوجه فيه ظاهر.
وقال بعض الفقهاء ومنهم عطاء والشافعي في أحد قوليه: إنّه يجب على المرأة في الصورتين أن تبني على عدة الطلاق الأول، وليس عليها أن تستأنف عدة جديدة، إذ الطلاق الثاني لا عدة له، ولكن لا ينبغي أن يبطل ما وجب بالطلاق الأول، فإنّه طلاق بعد دخول، يجب أن تراعى فيه حكمة الشارع في إيجاب الاعتداد، وعلى الزوج نصف الصداق في صورة البينونة، كما يقول أهل الظاهر.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والثوري والأوزاعي: أنّه يجب على المرأة أن تستأنف عدة جديدة في الصورتين، لأنّ الطلاق الثاني- وإن كان لم يفصل بينه وبين الرجعة أو العقد الثاني مسّ ولا خلوة- لا يصدق عليه أنه قد حصل قبل الدخول على الإطلاق، إذ المفروض أنّ المرأة كان مدخولا بها من قبل، وعلى الرجل في صورة البينونة مهر كامل لهذا الاعتبار.
وأما المالكية فإنّهم يفرقون بين صورتي الرجعيّ والبائن.
فيقولون في الأولى: إنّه يجب على المرأة أن تستأنف عدة كاملة، إذ أنّها في حكم الموطوءة بعد المراجعة.
أما في صورة البائن فإنّ النكاح بعد البينونة عقدة جديدة، فالطلاق بعدها يصدق عليه أنه طلاق قبل الدخول، فلا يوجب عدة، لكنّه لا يصحّ أن يهدم ما وجب على المرأة بالطلاق، فعليها أن تكمل العدة الأولى، ولها على المطلّق نصف المهر. فهم يوافقون أبا حنيفة في صورة الطلاق الرجعي، فيوجبون عدة كاملة، ويخالفونه في صورة البائن فيوجبون نصف المهر، وإكمال عدة الطلاق الأول.
وظاهر قوله تعالى: {فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها} أنّ العدة حيث تجب تكون حقا للمطلّق، وقد يقول بعض من يسير مع الظواهر: إنّ العدة حقّ خالص للمطلق، فإنّه يغار على ولده، ويعنيه ألا يسقى زرعه بماء غيره، وكون العدة لا تسقط إذا أسقطها المطلّق لا يدل على أنها لسيت حقه، إذ قد عهد في الشريعة حقوق لا يملك أصحابها إسقاطها كحق الإرث وحق الرجوع في الهبة وحق خيار الرؤية.
لكن المشهور عند الفقهاء أنّ العدة ليست حقا خالصا للعبد، فإنّ منع الفساد باختلاط الأنساب من حقّ الشارع أيضا.
فالراجح أن العدة تعلّق بها حقّ الله وحقّ العبد ولما كانت منفعتها عائدة على العبد، وكانت غيرة الرجل مظنة أن تدفعه إلى أن يحول بين المرأة وحريتها في أن تلتمس غيره من الأزواج، حتى في هذه الحالة التي لم يحصل فيها خلوة ولا وقاع، لما كان ذلك كذلك خاطبه الله سبحانه وتعالى بأنه لا سبيل له على هذه المرأة، وأنه يجب عليه أن يخلي سبيلها بالمعروف، فلا يكون في الآية دلالة على أنّ العدة حق خالص للمطلق.
وظاهر أنّ الضمير في قوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ} راجع إلى المؤمنات اللاتي طلّقن قبل أن يمسسن، سواء أكن مفروضا لهنّ أم لا. فيكون ظاهر قوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ} إيجاب المتعة للمطلقة قبل الدخول، سواء أفرض لها مهر أم لم يفرض، وبهذا الظاهر كان يقول الحسن وأبو العالية.
وقد أخرج عبد بن حميد عن الحسن أيضا أنّ لكل مطلقة متاعا، سواء أدخل بها أم لم يدخل، وسواء أفرض لها أم لم يفرض.
وظاهر هذه الرواية الوجوب في الكلّ عملا بظاهر قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)} [البقرة: 241]. ولكنّ قوله تعالى في سورة البقرة: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] لم يجعل للتي طلقت قبل الدخول وقد فرض لها مهر إلا نصف ما فرض لها، ولم يجعل لها متعة، لأنّ وروده في مقابلة قوله تعالى: {لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)} [البقرة: 236] يجعله كالبيان لمفهوم القيد الذي هو عدم الفرض، فيكون كالصريح في أنّ التي طلقت قبل الدخول ولم يفرض لها مهر ليس لها متعة.
وقد علمت أنّ ظاهر الآية التي معنا يوجب لها المتعة، فكان بين الآيتين تعارض في ظاهرهما: وللعلماء في دفع هذا التعارض طرق: فمنهم من جعل آية البقرة مخصّصة لآية الأحزاب التي معنا، أو ناسخة لعمومها، ويكون المعنى: فمتعوهن إن لم يكن مفروضا لهم مهر عند عقد النكاح.
فوجوب المتعة المستفاد من قوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ} خاصّ بمن لم يفرض لها من المطلقات قبل الدخول، دون من فرض لها، وبهذا قال ابن عباس، وهو مذهب الحنفية والشافعية. ويؤيّد ذلك أن المتعة إنما وجبت للمطلقة، لإيحاش الزوج إياها بالطلاق، فإذا وجب للمطلقة قبل الدخول نصف المهر كان ذلك جابرا للإيحاش، فلم تجب لها المتعة.
ومنهم من حمل المتعة في آية الأحزاب على العطاء مطلقا، فيعم نصف المفروض والمتعة المعروفة في الفقه، وتكون الآية قد تعرّضت لحكم المطلقة قبل الدخول في صورتيها، فأوجبت لها على المطلّق شيئا تتمتّع به، وتزول به وحشتها، إلا أن ذلك الشيء في صورة الفرض مقدّر بنصف المفروض بالنص، وفي صورة عدم الفرض غير مقدّر، فإن اتفقا على شيء فذاك، وإلا قدّرها القاضي بنظره واجتهاده، معتبرا حالهما إيسارا وإعسارا، وما يليق بنسب المرأة وكرامتها.
ومنه من حمل الأمر في قوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ} على الإذن الشامل للوجوب والندب، مع بقاء المتعة على معناها المعروف، فتكون الآية قد تعرّضت لحكم المطلقة قبل الدخول في صورتيها أيضا، إلا أنّه في صورة عدم الفرض يكون التمتيع واجبا، لقوله تعالى في هذه الصورة بخصوصها: {لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ...} وفي صورة الفرض الصحيح يكون التمتيع مستحبّا، لأنّه من الفضل المندوب إليه بقوله تعالى في هذه الصورة بخصوصها: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} وقد تقدّم لك ما في ذلك في تفسير سورة البقرة.