فصل: تفسير الآية رقم (41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏انْفِرُواْ‏}‏ تجريد للأمر بالنفور بعد التوبيخ على تركه والإنكار على المساهلة فيه، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏خِفَافًا وَثِقَالاً‏}‏ حالان من ضمير المخاطبين أيعلى كل حال من يسر أو عسر حاصلين بأي سبب كان من الصحة والمرض أو الغنى والفقر أو قلة العيال وكثرتهم أو الكبر والحداثة أو السمن والهزال أو غير ذلك مما ينتظم في مساعدة الأسباب وعدمها بعد الامكان والقدرة في الجملة‏.‏ أخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وأبو الشيخ عن أبي يزيد المديني قال‏:‏ كان أبو أيوب الأنصاري‏.‏ والمقداد بن الأسود يقولان‏:‏ أمرنا أن ننفر على كل حال ويتأولان الآية‏.‏ وأخرجا عن مجاهد قال‏:‏ قالوا إن فينا الثقيل وذا الحاجة‏.‏ والصنعة، والشغل‏.‏ والمنتشر به أمره فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً‏}‏ وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا خفافاً وثقالاً وعلى ما كان منهم، فما روي في تفسيرهما من قولهم‏:‏ خفافاً من السلاح وثقالا منه أو ركباناً ومشاة أو شباناً وشيوخاً أو أصحاء ومراضا إلى غير ذلك ليس تخصيصاً للأمرين المتقابلين بالإرادة من غير مقارنة للباقي‏.‏ وعن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أعلى أن أنفر‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ حتى نزل‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏ وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وغيره عن السدى قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية اشتد على الناس شأنها فنسخها الله تعالى فقال‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏ الآية‏.‏ وقيل‏:‏ إنها منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 122‏]‏ وهو خلاف الظاهر، ويفهم من بعض الروايات أن لا نسخ فقد أخرج ابن جرير‏.‏ والطبراني‏.‏ والحاكم وصححه عن أبي راشد قال‏:‏ رأيت المقداد فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص يريد الغزو فقلت‏:‏ لقد أعذر الله تعالى إليك قال‏:‏ أبت علينا سورة البحوث يعني هذه الآية منها‏.‏

‏{‏وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ أي بما أمكن لكم منهما كليهما أو أحدهما والجهاد بالمال انفاقه على السلاح وتزويد الغزاة ونحو ذلك ‏{‏ذلكم‏}‏ أي ما ذكر من النفير والجهاد، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ عظيم في نفسه ‏{‏لَكُمْ‏}‏ في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، ويجوز أن يكون المراد خير لكم مما يبتغي بتركه من الراحة‏.‏ والدعة‏.‏ وسعة العيش‏.‏ والتمتع بالأموال والأولد‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي إن كنتم تعلمون الخير علمتم أنه خير أو إن كنتم تعلمون أنه خير إذ لا احتمال لغير الصدق في أخباره تعالى فبادروا إليه، فجواب إن مقدر‏.‏ وعلم اما متعدية لواحد بمعنى عرف تقليلاً للتقدير أو متعدية لاثنين على بابها هذا‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات أن قوله سبحانه

‏{‏لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 25‏]‏ الخ اشارة إلى أنه لا ينبغي للعبد أن يحتجب بشيء عن مشاهدة الله تعالى والتوكل عليه ومن احتجب بشيء وكل إليه، ومن هنا قالوا‏:‏ استجلاب النصر في الذلة والافتقار والعجز، ولما رأى سبحانه ندم القوم على عجبهم بكثرتهم ردهم إلى ساحة جوده وألبسهم أنوار قربه وأمدهم بجنوده وإليه الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 26‏]‏ الآية، وكانت سكينته عليه الصلاة والسلام كما قال بعض العارفين من مشاهدة الذات وسكينة المؤمنين من معاينة الصفات، ولهم في تعريف السكينة عبارات كثيرة متقاربة المعنى فقيل‏:‏ هي استحكام القلب عند جريان حكم الرب بنعت الطمأنينة بخمود آثار البشرية بالكلية والرضا بالبادي من الغيب من غير معارضة واختيار، وقيل‏:‏ هي القرار على بساط الشهود وبشواهد الصحو والتأدب بإقامة صفاء العبودية من غير لحوق مشقة ولا تحرك عرق بمعارضة حكمد وقيل‏:‏ هي المقام مع الله تعالى بفناء الحظوظ‏.‏ والحنود روادف آثار قوة تجلي الحق سبحانه، ويقال‏:‏ هي وفود اليقين وزوائد الاستبصار‏.‏

والإشارة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏ الخ إلى أن من تدنس بالميل إلى السوى وأشرك بعبادة الهوى لا يصلح للحضرة وهل يصلح لبساط القدس الا المقدس‏.‏ وذكر أبو صالح حمدون أن المشرك في عمله من يحسن ظاهره لملاقاة الناس ومخالطتهم ويظهر للخلق أحسن ما عنده وينظر إلى نفسه بعين الرضا عنها وينجس باطنه بنحو الرياء‏.‏ والسمعة‏.‏ والعجب‏.‏ والحقد‏.‏ ونحو ذلك فالحرم الإلهي حرام على هذا وهيهات هيهات أن يلج الملكوت أو لج الجمل في سم الخياط، وقال بعض العارفين‏:‏ من فقد طهارة الإسراء بماء التوحيد وبقي في قاذورات الظنون والأوهام فذلك هو المشرك وهو ممنوع عن قربان المساجد التي هي مشاهد القرب‏.‏ وفي الآية إشارة إلى منع الاختلاط مع المشركين، وقاس الصوفية أهل الدنيا بهم، ومن هنا قال الجنيد‏:‏ الصوفية أهل غيب لا يدخل فيهم غيرهم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ من بقي في قلبه نظر إلى غير خالقه لا يجوز أن يدنو إلى مجالس الأولياء غير مستشف بهم فإن صحبته تشوش خواطرهم وينجس بنفسه أنفاسهم، وصحبة المنكر على أولياء الله تعالى تورث فتقا يصعب على الخياط رتقه وتؤثر خرقا يعيي الواعظ رقعه، ومن الغريب ما يحكى أن الجنيد قدس سره جلس يوماً مع خاصة أصحابه وقد أغلق باب المجلس حذراً من الاغيار وشرعوا يذكرون الله تعالى فلم يتم لهم الحضور ولافتح لهم باب التجلي الذي يعهدونه عند الذكر فتعجبوا من ذلك فقال الجنيد‏.‏ هل معكم منكر حرمنا بسببه‏؟‏ فقالوا‏:‏ لا‏.‏ ثم اجتهدوا في معرفة المانع فلم يجدوا الا نعلا لمنكر فقال الجنيد‏:‏ من هنا أوتينا، فانظر يرحمك الله تعالى إذا كان هذا حال نعل المنكر فما ظنك به إذا حضر بلحيته‏؟‏

ثم إنه سبحانه ذم أهل الكتابين بالاحتجاب عن رؤية الحق سبحانه حيث قال جل شأنه‏:‏

‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 31‏]‏ وفيه إشارة إلى ذم التقليد الصرف وذم البخلاء بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏ الآية، ولعمري انهم أحقاء بالذم، وقد قال بعضهم‏:‏ من بخل بالقليل من ملكه فقد سد على نفسه باب نجاته وفتح عليها طريق هلاكه‏.‏

ولا يخفى أن جمع المال وكنزه وعدم الإنفاق لا يكون الا لاستحكام رذيلة الشح وكل رذيلة كية يعذب بها صاحبها في الآخرة ويخزى بها في الدنيا‏.‏ ولما كانت مادة رسوخ تلك الرذيلة واستحكامها هي ذلك المال كان هو الذي يحمى عليه في نار جهنم الطبيعة وهاوية الهوى فيكوى صاحبه به، وخصت هذه الأعضاى لأن الشح مركوز في النفس تغلب القلب من هذه الجهات لا من جهة العلو التي هي جهة استيلاء الروح وممد الحقائق والأنوار ولا من جهة السفلى التيهي جهة الطبيعة الجسمانية لعدم تمكن الطبيعة من ذلك فبقيت سائر الجهات فيؤذى بذلك من الجهات الأربع ويعذب، وهذا كما تراه يعاب في الدنيا ويخزي من هذه الجهات فيواجه بالذم جهراً فيفضح أو يسار في جنبه أو يغتاب من وراء ظهره قاله بعض العارفين‏.‏ ولهم في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏ تأويل بعيد يطلب من محله، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ تَنصُرُوهُ‏}‏ الخ عتاب للمتثاقلين أو لأهل الأرض كافة وارشاد إلى أنه عليه الصلاة والسلام مستغن بنصرة الله عن نصرة المخلوقين‏.‏ وفيه إشارة إلى رتبة الصديق رضي الله تعالى عنه فقد انفرد برسول الله صلى الله عليه وسلم انفراده عليه الصلاة والسلام بربه سبحانه في مقام قاب قوسين، ومعنى ‏{‏إِنَّ الله مَعَنَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏ على ما قال ابن عطاء إنه معنا في الازل حيث وصل بيننا بوصلة الصحبة وأثر هذه المعية قد ظهر في الدنيا والآخرة فلم يفارقه حياً ولا ميتاً، وقيل‏:‏ معنا بظهور عنايته ومشاهدته وقربه الذي لا يكيف، ولله تعالى در من قال‏:‏

يا طالب الله في العرش الرفيع به *** لا تطلب العرش أن المجد للغار

ولا يخفى ما بين قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله مَعَنَا‏}‏ وقول موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَعِىَ رَبّى‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 62‏]‏ من الفرق الظاهر لأرباب الأذواق حيثقدم نبينا صلى الله عليه وسلم اسمه تعالى عليه وعكس موسى عليه السلام، وأتى صلى الله عليه وسلم بالاسم الجامع وأتى الكليم باسم الرب، وأتى عليه الصلاة والسلام بنا في ‏{‏مَعَنَا‏}‏ وأتى موسى عليه السلام بياء المتكلم لأن نبينا صلى الله عليه وسلم على خلق لم يكن عليه موسى عليه الصلاة والسلام‏.‏

والضمير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏ إن كان للصاحب فالأمر ظاهر وإن كان للنبي عليه الصلاة والسلام فيقال‏:‏ في ذلك إشارة إلى مقام الفناء في الشيخ إذ ذاك‏.‏

وقال بعض الأكابر‏:‏ أنزلت السكينة عليه عليه الصلاة والسلام لتسكين قلب الصديق رضي الله تعالى عنه وإذهاب الحزن عنه بطريق الانعكاس والإشراق ولو أنزلت على الصديق بغير واسطة لذاب لها ولعظمها فكأنه قيل‏:‏ أنزل سكينة صاحبه عليه‏.‏ ‏{‏انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً‏}‏ أي انفروا إلى طاعة مولاكم خفافاً بالأرواح ثقالاً بالقلوب، أو خفافاً بالقلوب وثقالاً بالأجسام بأن يطيعوه بالأعمال القلبية والقالبية، أو خفافاً بأنوار المودة وثقالاً بأمانات المعرفة، أو خفافاً بالبسط وثقالاً بالقبض، وقيل‏:‏ خفافاً بالطاعة وثقالاً عن المخالفة‏.‏ وقيل غير ذلك ‏{‏وجاهدوا بأموالكم‏}‏ بأن تنفقوها للفقراء ‏{‏وأَنفُسَكُمْ‏}‏ بأن تجودوا بها لله تعالى ‏{‏ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ في الدارين ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 41‏]‏ ذلك والله تعالى الموفق للرشاد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏لَّوْ كَانَ‏}‏ أي ما دعوا إليه كما يدل عليه ما تقدم ‏{‏عَرَضًا قَرِيبًا‏}‏ أي غنماً سهل المأخذ قريب المنال، وأصل العرض ما عرض لك من منافع الدنيا ومتاعها‏.‏ وفي الحديث «الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر» ‏{‏وَسَفَرًا قَاصِدًا‏}‏ أي متوسطاً بين القرب والبعد وهو من باب تامر ولابن ‏{‏لاَّتَّبَعُوكَ‏}‏ أي لوافقوك في النفير طمعاً في الفوز بالغنيمة، وهذا شروع في تعيدي ما صدر عنهم من الهنات قولاً وفعلاً وبيان قصور همهم وما هم عليه من غير ذلك، وقيل‏:‏ هو تقرير لكونهم متثاقلين مائلين إلى الإقامة بأرضهم، وتعليق الاتباع بكلا الأمرين يدل على عدم تحققه عند توسط السفر فقط ‏{‏ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة‏}‏ أي المسافة التي تقطع بمشقة‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر ‏{‏بَعِدَتْ‏}‏ بكسر العين ‏{‏والشقة‏}‏ بكسر الشين، وبعد يبعد كعلم يعلم لغة واختص ببعد الموت غالباً، وجاء لا تبعد للتفجع والتحسر في المصائب كما قال‏:‏

لا يبعد الله إخواناً لنا ذهبوا *** أفناهم حدثان الدهر والأبد

‏{‏وَسَيَحْلِفُونَ‏}‏ أي المتهلفون عن الغزو ‏{‏بالله‏}‏ متعلق بسيحلفون، وجوز أن يكون من جمة كلامهم ولا بد من تقدير القول في الوجهين أي سيحلفون عند رجوعك من غزوة تبوك بالله قائلين ‏{‏لَوِ استطعنا‏}‏ أو سيحلفون قائلين بالله لو استطعنا الخ، وقيل‏:‏ لا حاجة إلى تقدير القول لأن الحلف من جنس القول وهو أحد المذهبين المشهورين، والمعنى لو كان لنا استطاعة من جهة العدة أو من جهة الصحة أو من جهتيهما معاً حسبما عن لهم من التعلل والكذب ‏{‏لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ‏}‏ لما دعوتمونا إليه وهذا جواب القسم وجواب لو محذوف على قاعدة اجتماع القسم والشرط إذا تقدم القسم وهو اختيار ابن عصفور، واختار ابن مالك أنه جواب ‏{‏لَوْ‏}‏ ولو وجوابها جواب القسم، وقيل‏:‏ إنه ساد مسد جوابي القسم والشرط جميعاً، والقسم على الاحتمال الأول ظاهر وأما على الثاني فلأن ‏{‏لَوِ استطعنا‏}‏ في قوة بالله لو استطعنا لأنه بيان لسيحلفون بالله وتصديق له كما قيل‏.‏

واعترض القول الأخير بأنه لم يذهب إليه أحد من أهل العربية‏.‏ وأجيب بأن مراد القائل أنه لما حذف جواب ‏{‏لَوْ‏}‏ دل عليه جواب القسم جعل كأنه ساد مسد الجوابين‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ والأعمش ‏{‏لَوِ استطعنا‏}‏ بضم الواو تشبيهاً لها بواو الجمع كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَمَنَّوُاْ الموت‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 6‏]‏ و‏{‏اشتروا الضلالة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 16‏]‏ وقرىء بالفتح أيضاً ‏{‏يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ‏}‏ بايقاعها في العذاب، قيل‏:‏ وهو بدل من ‏{‏سَيَحْلِفُونَ‏}‏ واعترض بأن الهلاك ليس مرادفاً للحلف ولا هو نوع منه، ولا يجوز أن يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفاً له أو نوعاً منه‏.‏

وأجيب بأن الحلف الكاذب إهلاك للنفس ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع» وحاصله أنهما ترادفان ادعاء فيكون بدل كل من كل، وقيل إنه بدل اشتمال إذ الحلف سبب للاهلاك والمسبب يبدل من السبب لاشتماله عليه، وجوز أن يكون حالاً من فاعله أن سيحلفون مهلكين أنفسهم، وأن يكون حالاً من فاعل ‏{‏لَخَرَجْنَا‏}‏ جيء به على طريقة الأخبار عنهم كأنه قيل‏:‏ نهلك أنفسنا أي لخرجنا مهلكين أنفسنا كما في قولك‏:‏ حلف ليفعلن مكان لأفعلن ولكن فيه بعد‏.‏ وجوز أبو البقاء الاستئناف ‏{‏والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ في مضمون الشرطية وفيما ادعوا ضمنا من انتفاء تحقق المقدم حيث كانوا مستطيعين للخروج ولم يخرجوا‏.‏

واستدل بالآية على أن القدرة قبل الفعل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ‏}‏ أي لأي سبب أذنت لهؤلاء الحالفين المتخلفين في التخلف حين استأذنوا فيه معتذرين بعدم الاستطاعة، وهذا عتاب لطيف من اللطيف الخبير سبحانه لحبيبه صلى الله عليه وسلم على ترك الأولى وهو التوقف عن الاذن إلى انجلاء الأمر وانكشاف الحال المشار إليه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ‏}‏ أي فيما أخبروا به عند الاعتذار من عدم الاستطاعة ‏{‏وَتَعْلَمَ الكاذبين‏}‏ أي في ذلك‏.‏ فحق سواء كانت بمعنى اللام أو إلى متعلقة بما يدل عليه ‏{‏لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ‏}‏ كؤنه قيل‏:‏ لم سارعت إلى الاذن لهم ولم تتوقف حتى ينجلي الأمر كما هو قضية الحزم اللائق بشأنك الرفيع يا سيد أولي العزم‏.‏

ولا يجوز أن تتعلق بالمذكور نفسه مطلقاً لاستلزامه أن يكون أذنه عليه الصلاة والسلام لهم معللا أو مغيا بالتبين والعلم ويكون توجه الاستفهام إليه من تلك الحيثية وهو بين الفساد، وكلتا اللامين متعلقة بالاذن وهما مختلفتان معنى فإن الأولى للتعليل والثانية للتبليغ والضمير المجرور لجميع من أشير إليه‏.‏

وتوجيه الإنكار إلى الاذن باعتبار شموله للكل لا باعتبار تعلقه بكل فرد فرد لتحقق عدم استطاعة البعض على ما ينبىء عنه ما في حيز ‏{‏حتى‏}‏ والتعبير عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دال على الحدوث وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام للايدان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين وأن ما صدر من الآخرين وإن كان كذباً جادثاً متعلقاً بأمر خاص لكنه جار على عادتهم المستمرة ناشىء عن رسوخهم في الكذب، والتعبير عن ظهور الصدق بالتبين وعما يتعلق بالكذب بالعلم لما اشتهر من أن مدلول الخبر هو الصدق والكذب احتمال عقلي وإسناد علم له صلى الله عليه وسلم دون المعلومين بأن يبنى الفعل للمفعول مع إسناد التبين للأولين لما أن المقصود ههنا علمه عليه الصلاة والسلام بهم ومؤاخذتهم بموجبه بخلاف الأولين حيث لا مؤاخذة عليهم؛ وإسناد التبين إليهم وتعليف العلم بالآخرين من أن مدار الإسناد والتعلق أولا وبالذات هو وصف الصدق والكذب كما أشير إليه لما أن القصد هو العلم بكلا الفريقين باعتبار اتصافهما بوفيهما المذكورين ومعاملتهما بحسب استحقاقهما لا العلم بالوصفين بذاتيهما أو باعتبار قيامهما بموصوفيهما قاله شيخ الإسلام ولا يخفى حسنه‏.‏ وفي تصدير الخطاب بما صدر به تعظيم لقدر النبي صلى الله عليه وسلم وتوقير له وتوفير لحرمته عليه الصلاة والسلام، وكثيراً ما يصدر الخطاب بنحو ما ذكر لتعظيم المخاطب فيقال‏:‏ عفا الله تعالى عنك ما صنعت في أمرى‏؟‏ ورضي الله سبحانه عنك ما جوابك عن كلامي‏؟‏ والغرض التعظيم، ومن ذلك قول علي بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه‏:‏

عفا الله عنك ألا حرمة *** تجود بفضلك يا ابن العلا

ألم تر عبداً عدا طوره *** ومولى عفا ورشدا

هدى أقلني أقالك من لم يزل *** يقيك ويصرف عنك الردي

ومما ينظم في هذا السلك ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لقد عجبت من يوسف عليه السلام وكرمه وصبره والله تعالى يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترط أن يخرجوني»‏.‏ وأخرج ابن المنذر‏.‏ وغيره عن عون بن عبد الله قال‏:‏ سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا بدأ بالعفو قبل المعاتبة‏.‏ وقال السجاوندي‏:‏ إن فيه تعليم تعظيم النبي صلوات الله سبحانه عليه وسلامه ولولا تصدير العفو في العتاب لما قام بصولة الخطاب‏.‏ وعن سفيان بن عيينة أنه قال‏:‏ انظروا إلى هذا اللطف بدأ بالعفو قبل ذكر المعفو‏.‏ ولقد أخطأ وأساء الأدب وبئسما فعل فيما قال وكتب صاحب الكشاف كشف الله تعالى عنه ستره ولا أذن له ليذكر عذره حيث زعم أن الكلام كناية عن الجناية وأن معناه أخطأت وبئسما فعلت‏.‏ وفي الانتصاف ليس له أن يفسر هذه الآية بهذا التفسير وهو بين أحد الأمرين إما أن لا يكون هو المراد أو يكون ولكن قد أجل الله تعالى نبيه الكريم عن مخاطبته بذلك ولطف به في الكناية عنه أفلا يتأدب بآداب الله خصوصاً في حق المصطفى صلى الله عليه وسلم، فعلى التقديرين هو ذاهل عما يجب من حقه عليه الصلاة والسلام‏.‏

ويا سبحان الله من أين أخذ عامله الله تعالى بعد له ما عبر عنه ببئسما، والعفو لو سلم مستلزم للخطأ فهو غير مستلزم لكونه من القبح واستتباع اللائمة بحيث يصحح هذه المرتبة من المشافهة بالسوء ويسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة بئسما المنبئة عن بلوغ القبح إلى رتبة يتعجب منها، واعتذر عنه صاحب الكشف حيث قال‏:‏ أراد أن الأصل ذلك وأبدل بالعفو تعظيماً لشأنه صلى الله عليه وسلم وتنبيهاً على لطف مكانه ولذلك قدم العفو على ذكر ما يوجب الجناية، وليس تفسيره هذا بناءاً على أن العدول إلى عفا الله لا للتعظيم حتى يخطأ‏.‏

وأما المستعمل لمجرد التعظيم فهو إذا كان دعاء لا خبراً، على أن الدعاء قد يستعمل للتعريض بالاستقصاء كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رحم الله تعالى أخي لوطاً لقد كان يأوى إلى ركن شديد» وتحقيقه أنه لا يخلو عن حقارة بشأن المخاطب أو الغائب حسب اختلاف الصيغة، وأما التعظيم أو التعريض فقد وقد انتهى، ولا يخفى ما فيه فهو اعتذار غير مقبول عند ذوي العقول، وكم لهذه السقطة في الكشاف نظائر، ولذلك امتنع من إقرائه بعض الأكابر كالإمام السبكي عليه الرحمة، وليت العلامة البيضاوي لم يتابعه في شيء من ذلك، هذا واستدل بالآية من زعم صدور الذنب منه عليه الصلاة والسلام، وذلك من وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن العفو يستدعي سابقة الذنب‏.‏

الثاني‏:‏ أن الاستفهام الانكاري بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِمَ أَذِنتَ‏}‏ يدل على أن ذلك الاذن كان معصية، والمحققون على أنها خارجة مخرج العتاب كما علمت على ترك الأولى والأكمل قالوا‏:‏ لا يخفى أنه لم يكن كما في خروجهم مصلحة للدين أو منفعة للمسلمين بل كان فيه فساد وخبال حسبما نطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ خَرَجُواْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 47‏]‏ الخ، وقد كرهه سبحانه وتعالى كما يفصح عنه قوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 46‏]‏ الآية، نعم كان الأولى تأخير الاذن حتى يظهر كذبهم ويفتضحوا على رؤوس الأشهاد، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعة ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم بأنهم غروه صلى الله عليه وسلم وأرضوه بالأكاذيب على أنهم لم يهنأ لهم عيش ولا قرت لهم عين إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان‏.‏

ومن الناس من ضعف الاستدلال بالآية على ما ذكر بأنا لو نسلم أن ‏{‏عَفَا الله‏}‏ يستدعي سابقة الذنب والسند ما أشرنا إليه فيما مر سلمنا لكن لا تسلم أن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ‏}‏ مقول على سبيل الإنكار عليه عليه الصلاة والسلام لأنه لا يخلو إما أن يكون صدر منه صلى الله عليه وسلم ذنب في هذه الواقعة أو لم يصدر وعلى التقديرين يمتنع أن يكون ما ذكر إنكاراً، أما على الأول فلأنه إذا لم يصدر عنه ذنب فكيف يتأتى الإنكار عليه، وأما على الثاني فلأن صدر الآية يدل على حصول العفو وبعد حصوله يستحيل توجه الإنكار فافهم‏.‏

واستدل بها جمع على أن له صلى الله عليه وسلم اجتهاداً وأنه قد يناله منه أجر واحد والوجه فيه ظاهر، وما فعله صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة أحد أمرين فعلهما ولم يؤمر بفعلهما كما أخرج ابن جرير‏.‏ وغيره عن عمرو بن ميمون، ثانيهما أخذه صلى الله عليه وسلم الفداء من الاسارى وقد تقدم‏.‏ وادعى بعضهم الحصر في هذين الأمرين، واعترض بأنه غير صحيح فإن لهما ثالثا وهو المذكور في سورة التحريم وغير ذلك كالمذكور في سورة عبس، وأجيب بأنه يمكن تقييد الأمرين بما يتعلق بأمر الجهاد والله تعالى ولي الرشاد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏لا يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر‏}‏ تنبيه على أنه ينبغي أن يستدل عليه الصلاة والسلام باستئذانهم على حالهم ولا يأذن لهم أي ليس من شأن المؤمنين وعادتهم أن يستأذنوك في ‏{‏أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ‏}‏ فإن الخلص منهم يبادرون إليه من غير توقف على الاذن فضلاً عن أن يستأذنوك في التخلف عنه، أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من خير معاش الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعا طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانه» ونفى العادة مستفاد من نفي الفعل المستقبل الدال على الاستمرار نحو فلان يقرى الضيف ويحمى الحريم، فالكلام محمول على نفي الاستمرار، ولو حمل على استمرار النفي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فيكون المعنى عادتهم عدم الاستئذان لم يبعد، ومثل هذا قول الحماسي‏:‏

لا يسألون أخاهم حين يندبهم *** في النائبات على ما قال برهانا

قيل‏:‏ وهذا الأدب يجب أنيقتفي مطلقاً فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدي إليه معروفاً ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاماً فإن الاستئذان في مثل هذه المواطن أمارة التكلف والتكره، ولقد بلغ من كرم الخليل صلوات الله تعالى وسلامه عليه وأدبه مع ضيوفه أنه لا يتعاطى شيئاً من أسباب التهيىء للضيافة بمرأى منهم فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام بهذه الخلة الجميلة والآداب الجليلة فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ‏}‏ ‏[‏الذريات‏:‏ 26‏]‏ أي ذهب على خفاء منهم كيلا يشعروا به، وجوز أن يكون متعلق الاستئذان محذوفاً و‏{‏أَن يجاهدوا‏}‏ بتقدير كراهة أن يجاهدوا، والمحذوف فيل‏:‏ التخلف عليه، والمعنى لا يستأذنك المؤمنون في التخلف كراهة الجهاد، والنفي متوجه للاستئذان والكراهة معا، وقال بعض‏:‏ إنه متوجه إلى القيد وبه ويمتاز المؤمن من المنافق وهو وإن كان في نفسه أمراً خفيا لا يوقف عليه بادىء الأمر لكن عامة أحوالهم لما كانت منبئة عن ذلك جعل أمراً ظاهراً مقرراً‏.‏

وقيل‏:‏ الجهاد أي لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد كراهة أن يجاهدوا، وتعقب بأنه مبني على أن الاستئذان في الجهاد بما يكون لكراهة، ولا يخفى أن الاستئذان في الشيء لكراهته مما لا يقع بل لا يعقل، ولو سلم وقوعه فالاستئذان لعلة الكراهة مما لا يمتاز بحسب الظاهر من الاستئذان لعلة الرغبة، لو سلم فالذي نفى عن المؤمنين يجب أن يثبت للمنافقين وظاهر أنهم لم يستأذنوا في الجهاد لكراهتهم له بل إنما استأذنوا في التخلف فتدبر ‏{‏والله عَلِيمٌ بالمتقين‏}‏ شهادة لهم بالتقوى لوضع المظهر فيه موضع المضمر أو إرادة جنس المتقين ودخولهم فيه دخولاً أولياً وعدة لهم بالثواب الجزيل، فإن قولنا‏:‏ أحسنت إلى فانا أعلم بالمحسن وعد بأجزل الثواب وأسأت إلى فانا أعلم بالمسيء وعيد باشد العقاب، قيل‏:‏ وفي ذلك تقرير لمضمون ما سبق كأنه قيل‏:‏ والله عليم بأنهم كذلك وإشعار بأن ما صدر عنهم معلل بالتقوى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ‏}‏ أي في التخلف ‏{‏الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر‏}‏ تخصيص الإيمان بهما في الموضعين للايذان بأن الباعث على الجهاد والمانع عنه الإيمان بهما وعدم الإيمان بهما فمن آمن بهما قاتل في سبيل دينه وتوحيده وهان عليه القتل فيه لما يرجوه في اليوم الآخر من النعيم المقيم ومن لم يؤمن بمعزل عن ذلك، على أن الإيمان بهما مستلزم للإيمان بسائر ما يجب الإيمان به ‏{‏وارتابت قُلُوبُهُمْ‏}‏ عطف على الصلة، وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق الريب وتقرره ‏{‏فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ‏}‏ وشكهم المستمر في قلوبهم ‏{‏يَتَرَدَّدُونَ‏}‏ أي يتحيرون، وأصل معنى التردد الذهاب والمجيء وأريد به هنا التحير مجازاً أو كناية لأن المتحير لا يقر في مكان‏.‏ والآية نزلت كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في المنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد بغير عذر وكانوا على ما في بعض الروايات تسعة وثلاثين رجلاً‏.‏ وأخرج أبو عبيد‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وغيرهما عنه أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَأْذِنُكَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 44‏]‏ الخ نسخته الآية التي في النور ‏{‏إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ إلى ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ فجعل الله النبي صلى الله عليه وسلم باعلى النظرين في ذلك من غزا غزا في فضيلة ومن قعد قعد في غير حرج إن شاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لاعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً‏}‏ أي أهبة من الزاد والراحلة وسائر ما يحتاج إليه المسافر في السفر الذي يريده‏.‏

وقرىء ‏{‏عده‏}‏ بضم العين وتشديد الدال والإضافة إلى ضمير الخروج، قال ابن جنى‏:‏ سمع محمد بن عبد الملك يقرأ بها، وخرجت على أن الأصل عدته إلا أن التاء سقطت كما في إقام الصلاة وهو سماعي وإلى هذا ذهب الفراء، والضمير على ما صرح به غير واحد عوض عن التاء المحذوفة، قيل‏:‏ ولا تحذف بغير عوض وقد فعلوا مثل ذلك في عدة بالتخفيف بمعنى الوعد كما في قول زهير‏:‏

إن الخليط أجدوا البين فانجردوا *** وأخلفوك عدى الأمر الذي وعدوا

وقرىء ‏{‏عده‏}‏ بكسر العين بإضافة وغيرها ‏{‏عُدَّةً ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم‏}‏ أي خروجهم كما روي عن الضحاك أو نهوضهم للخروج كما قال غير واحد ‏{‏فَثَبَّطَهُمْ‏}‏ أي حبسهم وعوقهم عن ذلك‏:‏ والاستدراك قيل عما يفهم من مقدم الشرطية فإن انتفاء إرادة الخروج يستلزم انتفاء خروجهم وكراهة الله تعالى انبعاثهم يستلزم تثبطهم عن الخروج فكأنه قيل‏:‏ ما خرجوا لكن تثبطوا عن الخروج، فهو استدراك نفي الشيء بإثبات ضده كما يستدرك نفي الاحسان بإثبات الإساءة في قولك‏:‏ ما أحسن إلى لكن أساء، والاتفاق في المعنى لا يمنع الوقوع بين طرفي لكن بعد تحقق الاختلاف نفياً وإثباتاً في اللفظ، وبحث فيه بعضهم بأن ‏{‏لَكِنِ‏}‏ تقع بين ضدين أو نقيضين أو مختلفين على قول وقعت فيما نحن فيه بين متفقين على هذا التقرير فالظاهر أنها للتأكيد كما أثبتوا مجيئها لذلك وفيه نظر‏:‏ واستظهر بعض المحققين كون الاستدراك من نفس المقدم على نهج ما في الأقيسة الاستثنائية، والمعنى لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن ما أرادوه لما أنه تعالى كره انبعاثهم من المفاسد فحبسهم بالجبن والكسل فتثبطوا عنه ولم يستعدوا له‏.‏

‏{‏وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين‏}‏ تمثيل لخلق الله تعالى داعية القعود فيهم والقائه سبحانه كراهة الخروج في قلوبهم بالأمر بالقعود أو تمثيل لوسوسة الشيطان بذلك فليس هناك قول حقيقة، ونظير ذلك قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أحياهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 243‏]‏ أي أماتهم، ويجوز أن يكون حكاية قول بعضهم لبعض أو أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في العقود فالقول على حقيقته، والمراد بالقاعدين الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت كالنساء والصبيان والزمنى أو الرجال الذين يكون لهم عذر يمنعهم عن الخروج، وفيه على بعض الاحتمالات من الذم ما لا يخفى فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم‏}‏ بيان لكراهة الله تعالى انبعاثهم أي لو خرجوا مخالطين لكم ‏{‏مَّا زَادُوكُمْ‏}‏ شيئاً من الأشياء ‏{‏إِلاَّ خَبَالاً‏}‏ أي شراً وفساداً‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عجزاً وجبناً‏.‏ وعن الضحاك غدراً ومكراً، وأصل الخبال كما قال الخازن‏:‏ اضطراب ومرض يؤثر في العقل كالجنون، وفي مجمع البيان أنه الاضطراب في الرأي، والاستثناء مفرغ متصل والمستثنى منه ما علمت ولا يستلزم أن يكون لهم خبال حتى لو خرجوا زادوه لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ توهماً منه لزوم ما ذكر هو مفرغ منقطع والتقدير ما زادوكم قوة وخيراً لكن شراً وخبالاً

واعترض بأن المنقطع لا يكون مفرغاً وفيه بحث لأنه مانه منه إذا دلت القرينة عليه كما إذا قيل‏:‏ ما أنيسك في البادية فقلت‏:‏ ما لي بها إلا اليعافير أي ما لي بها أنيس إلا ذلك، وأنت تعلم أن في وجود القرينة ههنا مقالاً‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ إنه كان في تلك الغزوة منافقون لهم خبال فلو خرج هؤلاء أيضاً واجتمعوا بهم زاد الخبال فلا فساد في ذلك الاستلزام لو ترب ‏{‏ولاَوْضَعُواْ خلالكم‏}‏ الايضاع سير الابل يقال‏:‏ أوضعت الناقة تضع إذا أسرعت وأوضعتها أنا إذا حملتها على الإسراع، والخلال جمع خلل وهو الفرجة استعمل ظرفاً بمعنى بين ومفعول الإيضاع مقدر أي النمائم بقرينة السياق، وفي الكلام استعارة مكنية حيث شبهت النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها وأثبت لها الأيضاع على سبيل التخييل، والمعنى ولسعوا بينكم بالنميمة وإفساد ذات البين‏.‏

وقال العلامة الطيبي‏:‏ فيه استعارة تبعية حيثي شبه سرعة افسادهم ذات البين بالنمائم بسرعة سير الراكب ثم استعير لها الإيضاع وهو للابل والأصل ولأوضعوا ركائب نمائمهم خلالكم ثم حذف النمائم وأقيم المضاف إليه مقامه فقيل لأوضعوا اركائبهم ثم حذفت الركائب‏.‏ ومنع الأخفش في كتاب الغايات أن يقال‏:‏ أوضعت الركائب ووضع البعير بمعنى أسرع وإنما يستعمل ذلك بدون قيد، وجوز ذلك غيره واستدل له بقوله‏:‏

فلم أر سعدى بعد يوم لقيتها *** غداة بها أجمالها صاح توضع

وقرىء ‏{‏ولأرقصوا‏}‏ من رقصت الناقة إذا أسرعت وأرقصتها ومنه قوله‏:‏

يا عام لو قدرت عليك رماحنا *** والراقصات إلى منى فالغبغب

وقرىء ‏{‏لأوفضوا‏}‏ والمراد لأسرعوا أيضاً يقال‏:‏ أوفض واستوفض إذا استعجل وأسرع والوفض العجلة، وكتب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأوضعوا‏}‏ في الامام بألفين الثانية منهما هي فتحة الهمزة والفتحة ترسم لها ألف كما ذكره الداني، وفي الكشاف كانت الفتحة تكتب ألفا قبل الخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفاً وفتحتها ألفاً أخرى ومثل ذلك

‏{‏أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 21‏]‏ ‏{‏يَبْغُونَكُمُ الفتنة‏}‏ أي يطلبون أن يفتنوكم بايقاع الخلاف فيما بينكم وتهويل أمر العدو عليكم وإلقاء الرعب في قلوبكم وهذا هو المروى عن الضحاك‏.‏ وعن الحسن أن الفتنة بمعنى الشرك أي يريدون أن تكونوا مشركين، والجملة في موضع الحال من ضمير أوضعوا أي باغين لكم الفتنة، ويجوز أن تكون استئنافاً ‏{‏وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ‏}‏ أي نمامون يسمعون حديثكم لأجل نقله إليهم كما روي عن مجاهد‏.‏ وابن زيد أو فيكم أناس من المسلمين ضعفة يسمعون قولهم ويطيعونهم كما روي عن قتادة‏.‏ وابن اسحق‏.‏ وجماعة‏.‏

واللام على التفسير الأول للتعليل وعلى الثاني للتقوية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 16‏]‏، والجملة حال من مفعول ‏{‏يَبْغُونَكُمُ‏}‏ أو من فاعله لاشتمالها على ضميرهما أو مستأنفة‏.‏

قال بعض المحققين‏:‏ ولعل هؤلاء لم يكونوا في كمية العدد وكيفية الفساد بحيث يخل مكانهم فيما بين المؤمنين بأمر الجهاد اخلالاً عظيماً ولم يكن فساد خروجهم معادلاً لمنفعته ولذلك لم تقتض الحكمة عدم خروجهم فخرجوا مع المؤمنين، ولكن حيث كان انضمان المنافقين القاعدين إليهم مستتبعاً لخل كلي كره الله تعالى انبعاثهم فلم يتسن اجتماعهم فاندفع فسادهم انتهى، والاحتجياج إليه على التفسير الأول أظهر منه على التفسير الثاني لأن الظاهر عليه أن القوم لم يكونوا منافقين، ووجه العتاب على الاذن في قعودهم مع ما قص الله تعالى فيهم أنهم لو قعدوا بغير إذن منه عليه الصلاة والسلام لظهر نفاقهم فيما بين المسلمين من أول الأمر ولم يقدروا على مخالطتهم والسعي فيما بينهم بالاراجيف ولم يتسن لهم التمتع بالعيش إلى أن يظهر حالهم بقوارع الآيات النازلة ‏{‏والله عَلِيمٌ بالظالمين‏}‏ علماً محيطاً بظواهرهم وبواطنهم وأفعالهم الماضية والمستقبلة فيجازيهم على ذلك، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والتشديد في الوعيد والاشعار بترتبه على الظلم، ويجوز أن يراد بالظالمين الجنس ويدخل المذكورون دخولاً أولياً، والمراد منهم إما القاعدون أو هم والسماعون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَد ابْتَغُوُا الْفتْنَةَ‏}‏ تشتيت شملك وتفرق أصحابك ‏{‏من قبل‏}‏ تشتيت شملك وتفرق أصحابك ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبل هذه الغزوة، وذلك كما روي عن الحسن يوم أحد حين انصرف عبد الله بن أبي بن سلول بأصحابه المنافقين، وقد تخلف بهم عن هذه الغزوة أياً بعد أن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريب من ثنية الوداع، وروي عن سعيد بن جبير، وابن جريج‏.‏ أن المراد بالفتنة الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وذلك أنه اجتمع اثنا عشر رجلاً من المنافقين ووقفوا على الثنية ليفتكوا به عليه الصلاة والسلام فردهم الله تعالى خاسئين ‏{‏وَقَلَّبُواْ لَكَ الامور‏}‏ أي المكايد تقليبها مجاز عن تدبيرها أو الآراء وهو مجاز عن تفتيشها، أي دبروا لك المكايد والحيل أو دوروا الآراء في إبطال أمرك‏.‏ وقرىء ‏{‏وَقَلَّبُواْ‏}‏ بالتخفيف ‏{‏حتى جَاء الحق‏}‏ أي النصر والظفر الذي وعده الله تعالى ‏{‏وَظَهَرَ أَمْرُ الله‏}‏ أي غلب دينه وعلا شرعه سبحانه ‏{‏وَهُمْ كارهون‏}‏ أي في حال كراهتهم لذلك أي على رغم منهم، والاتيان كما قالوا لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن تخلف المتخلفين وبيان ما ثبطهم الله تعالى لأجله وهتك أستارهم وإزاهة أعذارهن تداركا لما عسى يفوت بالمبادرة إلى الاذن وإيذناً بأن ما فات بها ليس مما لا يمكن تلافيه تهويلاً للخطب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏وَمنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائذن لِّي‏}‏ في القعود عن الجهاد ‏{‏وَلاَ تَفْتِنّى‏}‏ أي لا توقعني في الفتنة بنساء الروم‏.‏

أخرج ابن المنذر‏.‏ والطبراني‏.‏ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال لجد بن قيس‏:‏ يا جد بن قيس ما تقول في مجاهدة بني الاصفر‏؟‏ فقال‏:‏ يا رسول الله إني امرأ صاحب نساء ومتى أرى نساء بني الاصفر أفتتن فائذن لي ولا تفتني فنزلت، وروي نحوه عن عائشة‏.‏ وجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، أولا توقعني في المعصية والاثم بمخالفة أمرك في الخروج إلى الجهاد، وروي هذا عن الحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ واختاره الجبائي، وفي الكلام على هذا إشعار بأنه لا محالة متخلف أذن له صلى الله عليه وسلم أو لم يأذن‏.‏ وفسر بعضهم الفتنة بالضرر أي لا توقعني في ذلك فاني إن خرجت معك هلك مالي وعيالي لعدم من يقوم بمصالحهم، وقال أبو مسلم‏:‏ أي لا تعذبني بتكليف الخروج في شدة الحر، وقرىء ‏{‏وَلاَ تَفْتِنّى‏}‏ من أفتنه بمعنى فتنة ‏{‏أَلا فِى الفتنة‏}‏ أي في نفسها وعينها وأكمل أفرادها الغنى عن الوصف بالكمال الحقيق باختصاص اسم الجنس به ‏{‏سَقَطُواْ‏}‏ لا في شيء مغاير لها فضلاً عن أن يكون مهرباً ومخلصاً عنها، وذلك بما فعلوا من العزيمة على التخلف والجراءة على هذا الاستئذان والقعود بالإذن المبني عليه وعلى الاعتذارات الكاذبة، وفي مصحف أبي ‏{‏سُقِطَ‏}‏ بالافراد مراعاة للفظ ‏{‏مِنْ‏}‏ ولا يخفى ما في تصدير الجملة بأداة التنبيه من التحقيق، وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة عن ترديهم في دركات الردي أسفل سافلين، وتقديم الجار والمجرور لا يخفى وجهه ‏{‏وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين‏}‏ وعيد لهم على ما فعلوا وهو عطف على الجملة السابقة داخل تحت التنبيه، أي جامعة لهم من كل جانب لا محالة وذلك يوم القيامة، فالمجاز في اسم الفاعل حيث استعمل في الاستقبال بناء على أنه حقيقة في الحال، ويحتمل أن يكون المراد أنها حيطة بهم الآن بأن يراد من جهنم أسبابها من الكفر والفتنة التي سقطوا فيها ونحو ذلك مجازاً‏.‏

وقد يجعل الكلام تمثيلاً بأن تشبه حالهم في إحاطة الأسباب بحالهم عند إحاطة النار، وكون الأعمال التي هم فيها هي النار بعينها لكنها ظهرت بصورة الأعمال في هذه النشأة وتظهر بالصورة النارية في النشأة الأخرى كما قيل نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏ منزع صوفي، والمراد بالكافرين إما المنافقون المبحوث عنهم، وإيثار وضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالكفر والاشعار بأنه معظم أسباب الإحاطة المذكورة وإما جميع الكافرين ويدخل هؤلاء دخولاً أولياً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏إِن تُصِبْكَ‏}‏ في بعض مغازيك ‏{‏حَسَنَةٌ‏}‏ من الظفر والغنيمة ‏{‏تَسُؤْهُمْ‏}‏ تلك الحسنة أي تورثهم مساءة وحزناً لفرط حسدهم لعنهم الله تعالى وعداوتهم ‏{‏وَإِن تُصِبْكَ‏}‏ في بعضها ‏{‏مُّصِيبَةٍ‏}‏ كانكسار جيش وشدة ‏{‏يَقُولُواْ‏}‏ متبجحين بما صنعوا حامدين لآرائهم ‏{‏قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا‏}‏ أي تلا فينا ما يهمنا من الأمير يعنون به التخلف والقعود عن الحرب والمداراة مع الكفرة وغير ذلك من أمو الكفر والنفاق قولاً وفعلاً ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبل إصابة المصيبة حيث ينفع التدارك، يشيرون بذلك إلى أن نحو ما صنعوه إنما يروج عند الكفرة بوقوعه حال قوة الإسلام لا بعد إصابة المصيبة ‏{‏وَيَتَوَلَّواْ‏}‏ أي وينصرفوا عن متحدثهم ومحل اجتماعهم إلى أهليهم وخاصتهم أو يتفرقوا وينصرفوا عنك يا رسول الله ‏{‏وَّهُمْ فَرِحُونَ‏}‏ بما صنعوا وبما أصابك من السيئة، والجملة في موضع الحال من الضمير في ‏{‏يَقُولُواْ وَيَتَوَلَّواْ‏}‏ فإن الفرح مقارن للأمرين معاً، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على دوام السرور، وإنما لم يؤت بالشرطية الثانية على طرز الأولى بأن يقال‏:‏ وإن تصبك مصيبة تسرهم بل أقيم ما يدل على ذلك مقامه مبالغة في فرط سرورهم مع الايذان بأنهم في معزل عن إدراك سوء صنيعهم لاقتضاء المقام ذلك، وقل‏:‏ إن إسناد المساءة إلى الحسنة والمسرة إلى أنفسهم للايذان باختلاف حالهم حالتي عروض المساءة والمسرة بأنهم في الأولى مضطرون وفي الثانية مختارون، وقوبل هنا الحسنة بالمصيبة ولم تقابل بالسيئة كما قال سبحانه في سورة آل عمران‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 120‏]‏ لأن الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو هناك للمؤمنين وفرق بين المخاطبين فإن الشدة لا تزيده صلى الله عليه وسلم إلا ثواباً فإنه المعصوم في جميع أحواله عليه الصلاة والسلام، وتقييد الإصابة في بعض الغزوات لدلالة السياق عليه، وليس المراد به بعضاً معيناً هو هذه الغزوة التي استأذنوا في التخلف عنها وهو ظاهر‏.‏ نعم سبب النزول يوهم ذلك، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ جعل المنافقون الذين تخلفوا في المدينة يخبرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار السوء يقولون‏:‏ إن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا فبلغهم تكذيب حديثهم وعافية النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه فأنزل الله تعالى الآية فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ تبكيتا لهم ‏{‏لَّن يُصِيبَنَا‏}‏ أبدا ‏{‏إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا‏}‏ أي ما اختصنا بإثباته وإيجابه من المصلحة الدنيوية أو الأخروية الكنصرة أو الشهادة المؤدية للنعيم الدائم، فالكتب بمعنى التقدير، واللام للاختصاص، وجوز أن يكون المراد بالكتب الخط في اللوح واللام للتعليل والأجل، أي لن يصيبنا إلا ما خط الله تعالى لأجلنا في اللوح ولا يتغير بموافقتكم ومخالفتكم، فتدل الآية على أن الحوادث كلها بقضاء الله تعالى وروي هذا عن الحسن‏.‏ وادعى بعضهم أنه غير مناسب للمقام وأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ‏}‏ أي ناصرنا ومتولى أمورنا يعين الأول لأنه يبين أن معنى اللام الاختصاص ويخصص الموصول بالنصر والشهادة أي لن يصيبنا إلا ذلك دون الخذلان والشقاوة كما هو مصير حالكم لأنا مؤمنون وأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم، وقد يقال‏:‏ هو تعليل لما يستفاد من القول السابق من الرضا أي لن يصيبنا إلا ما كتب من خير أو شر فلا يضرنا ما أنتم عليه ونحن بما فعل الله تعالى راضون لأنه سبحانه مالكنا ونحن عبيده‏.‏ وقرأ ابن مسعود ‏{‏هَلُ يُصِيبَنَا‏}‏ وطلحة ‏{‏هَلُ يُصِيبَنَا‏}‏ بتشديد الياء من صيب الذي وزنه فيعل لا فعل بالتضعيف لأن قياسه صوب لأنه من الواوي فلا وجه لقلبها ياء بخلاف ما إذا كان صيوب على وزن فيعل لأنه إذا اجتمعت الواو والياء والأول منهما ساكن قلبت الواو ياءاً وهو قياس مطرد، وجوز الزمخشري كونه من التفعيل على لغة من قال صاب يصيب، ومنه قول الكميت‏:‏

واستبى الكاعب العقيلة إذ *** أسهمي الصائبات والصيب

‏{‏وَعَلَى الله‏}‏ وحده ‏{‏فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون‏}‏ بأن يفوضوا الأمر إليه سبحانه، ولا ينافي ذلك التشبث بالأسباب العادية إذا لم يعتمد عليها، وظاهر كلام جمع أن الجملة من تمام الكلام المأمور به، وتقديم المعمول لإفادة التخصيص كما أشرنا إليه، وإظهار الاسم الجليل في مقام الاضمار لإظهار التبرك والاستلذاذ به‏.‏

ووضع المؤمنين موضع ضمير المتكلم ليؤذن بأن شأن المؤمنين اختصاص التوكل بالله تعالى، وجيء بالفاء الجزائية لتشعر بالترتب أي إذا كان لن يصيبنا إلا ما كتب الله أي خصنا الله سبحانه به من النصر أو الشهادة وأنه متولى أمرنا فلنفعل ما هو حقنا من اختصاصبه جل شأنه بالتوكل، قال الطيبي‏:‏ وكأنه قوبل قول المنافقين ‏[‏التوبة‏:‏ 50‏]‏ بهذه الفاصلة، والمعنى دأب المؤمنين أن لا يتكلوا على حزمهم وتيقظ أنفسهم كما أن دأب المنافقين ذلك بل أن يتكلوا على الله تعالى وحده ويفوضوا أمورهم إليه، ولا يبعد تفرع الكلام على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هُوَ مولانا‏}‏ كما لا يخفى، ويجوز أن تكون هذه الجملة مسوقة من قبله تعالى أمراً للمؤمنين بالتوكل إثر أمره صلى الله عليه وسلم بما ذكر، وأمر وضع الظاهر موضع الضمير في الموضعين حينئذ ظاهر وكذا إعادة الأمر

‏[‏بم في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا‏}‏ لانقطاع حكم الأمر الأول بالثاني وإن كان أمراً لغائب، وأما على كلام الجماعة فالاعادة لإبراز كمال العناية بشأن المأمور به، والتربص الانتظار والتمهل واحدى التاءين محذوفة، والباء للتعدية أي ما تنتظرون بها ‏{‏إِلا إِحْدَى الحسنيين‏}‏ أي إحدى العاقبتين اللتين كل منهما أحسن من جميع العواقب غير الأخرى أو أحسن من جميع عواقب الكفرة أو كل منهما أحسن مما عداه من جهة، والمراد بهما النصرة والشهادة، والحاصل أن ما تنتظرونه لا يخلو من أحد هذين الأمرين وكل منهما عاقبته حسنى لا كما تزعمون من أن ما يصيبنا من القتل في الغزو سوء ولذلك سررتم به‏.‏

وصح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «تكفل الله تعالى لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة» ‏{‏وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ‏}‏ إحدى السوأيين من العواقب إما ‏{‏أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ‏}‏ فيهلككم كما فعل بالأمم الخالية قبلكم، والظرف صفة ‏{‏عَذَابِ‏}‏ وكونه من عنده تعالى كناية عن كونه منه جل شأنه بلا مباشرة البشر، ويظهر ذلك المقابلة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوْ بِأَيْدِينَا‏}‏ أي أو بعذاب كائن بأيدينا كالقتل بكونه على الكفر لأنه بدونه شهادة، وفيه إشارة إلى أنهم لا يقتلون حتى يظهروا الكفر ويصروا عليه لأنهم منافقون والمنافق لا يقتل ابتداء ‏{‏فَتَرَبَّصُواْ‏}‏ الفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كذلك فتربصوا بنا ما هو عاقبتنا ‏{‏إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ‏}‏ ما هو عاقبتكم فإذا لقي كل منا ومنكم ما يتربصه لا نشاهد إلا ما يسؤوكم ولا تشاهدون إلا ما يسرنا، وما ذكرناه من مفعول التربص هو الظاهر، ولعله يرجع إليه ما روي عن الحسن أي فتربصوا مواعيد الشيطان إنا متربصون مواعد الله تعالى من إظهار دينه واستئصال من خالفه، والمراد من الأمر التهديد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَنْفقُواْ‏}‏ أموالكم في مصالح الغزاة ‏{‏طَوْعاً أوْ كَرْهاً‏}‏ أموالكم في مصالح الغزاة ‏{‏طَوْعاً أَوْ كَرْهاً‏}‏ أي طائعين أو كارهين، فهما مصدران وقعا موقع الحال وصيغة ‏{‏أَنفَقُواْ‏}‏ وإن كانت للأمر إلا أن المراد به الخبر، وكثيراً ما يستعمل الأمر بمعنى الخبر كعكسه، ومنه قول كثير عزة‏:‏

أسيئى بنا أو أحسني لا ملومة *** لدينا ولا مقيلة ان تقلت

وهو كما قال الفراء والزجاج في معنى الشرط أي إن أنفقتم على أي حال فـ ‏{‏لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ‏}‏‏.‏

وأخرج الكلام مخرج الأمر للمبالغة في تساوي الأمرين في عدم القبول، كأنهم أمروا أن يجربوا فينفقوا في الحالين فينظروا هل يتقبل منهم فيشاهدوا عدم القبول، وفيه كما قال بعض المحققين‏:‏ استعارة تمثيلية شبهت حالهم في النفقة وعدم قبولها بوجه من الوجوه بحال من يؤمر بفعل ليجربه فيظهر له عدم جدواه، فلا يتوهم أنه إذا أمر بالإنفاق كيف لا يقبل‏.‏ والآية نزلت كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما جواباً عما في قول الجد بن قيس حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هل لك في جلاد بني الأصفر‏؟‏ إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن لكن أعينك بمالي» ونفي التقبل يحتمل أن يكون بمعنى عدم الأخذ منهم، ويحتمل أن يكون بمعنى عدم الإثابة عليه، وكل من المعنيين واقع في الاستعمال، فقبول الناس له أخذخ وقبول الله تعالى ثوابه عليه ويجوز الجمع بينهما، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فاسقين‏}‏ تعليل لرد انفاقهم، والمراد بالفسق العتو التمرد فلا يقال‏:‏ كيف علل مع الكفر بالفسق الذي هو دونه وكيف صح ذلك مع التصريح بتعليله بالكفر

في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نفقاتهم إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ‏}‏ وقد يراد به ما هو الكامل وهو الكفر ويكون هذا منه تعالى بياناً وتقريراً لذلك، والاستثناء من أعم الأشياء أي ما منعهم أن تقبل نفقاتهم شيء من الأشياء إلا كفرهم، ومنه يتعدى إلى مفعولين بنفسه وقد يتعدى إلى الثاني بحرف الجبر وهو من أو عن، وإذا عدى بحرف صح أن يقال‏:‏ منعه من حقه ومنه حقه منه لأنه يكون بمعنى الحيلولة بينهما والحماية، ولا قلب فيه كما يتوهم، وجاز فيما نحن فيه أن يكون متعدياً للثاني بنفسه وأن يقدر حرف وحذف حرف الجر مع إن وأن مقيس مطرد‏.‏

وجوز أبو البقاء أن يكون ‏{‏أَن تُقْبَلَ‏}‏ بدل اشتمال من هم في ‏{‏مَنَعَهُمْ‏}‏ وهو خلاف الظاهر، وفاعل منع ما في حيز الاستثناء، وجوز أن يكون ضمير الله تعالى ‏{‏وَإِنَّهُمْ كَفَرُواْ‏}‏ بتقدير لأنهم كفروا‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏يَقْبَلُ‏}‏ بالتحتانية لأنه تأنيت النفقات غير حقيقي مع كونه مفصولاً عن الفعل بالجار والمجرور‏.‏ وقرىء ‏{‏نفقاتهم‏}‏ على التوحيد‏.‏

وقرأ السلمى ‏{‏ءانٍ يَقْبَلُ مِنْهُمْ نفقاتهم‏}‏ ببناء ‏{‏يَقْبَلُ‏}‏ للفاعل ونصب النفقات؛ والفاعل إما ضمير الله تعالى أو ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام بناء على أن القبول بمعنى الأخذ ‏{‏وَلاَ يَأتونَ الصلاة‏}‏ المفروضة في حال من الأحوال ‏{‏إِلاَّ وَهُمْ كسالى‏}‏ أي إلا حال كونهم متثاقلين ‏{‏وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارهون‏}‏ الانفاق لأنهم لا يرجون بهما ثواباً ولا يخافون على تركهما عقاباً، وهاتان الجملتان داخلتان في حيز التعليل‏.‏ واستشكل بأن الكفر سبب مستقل لعدم القبول فما وجه التعليل بمجموع الأمور الثلاثة وعند حصول السبب المستقل لا يبقى لغيره أثر‏.‏ وأجاب الإمام بأنه إنما يتوجه على المعتزلة القائلين بأن الكفر لكونه كفراً يؤثر في هذا الحكم وأما على أهل السنة فلا لأنهم يقولون‏:‏ هذه الأسباب معرفات غير موجبة للثواب ولا للعقاب واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد جائز، والقول بأنه إنما جيء بهما لمجرد الذم وليستا داخلتين في حيز التعليل وإن كان يندفع به الاشكال على رأي المعتزلة خلاف الظاهر كما لا يخفى‏.‏

‏{‏فَانٍ قِيلَ‏}‏ الكراهية خلاف الطواعية وقد جعل هؤلاء المنافقون فيما تقدم طائعين ووصفوا ههنا بأنهم لا ينفقون إلا وهم كارهون وظاهر ذلك المنافاة‏.‏ أجيب بأن المراد بطوعهم أنهم يبذلون من غير الزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أنهم يبذلون رغبة فلا منافاة‏.‏ وقال بعض المحققين في ذلك‏:‏ إن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 53‏]‏ لا يدل على أنهم ينفقون طائعين بل غايته أنه ردد حالهم بين الأمرين وكون الترديد ينافي القطع محل نظر، كما إذا قلت‏:‏ إن أحسنت أو أسأت لا أزورك مع أنه لا يحسن قطعاً، ويكون الترديد لتوسع الدائرة وهو متسع الدائرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم‏}‏ أي لا يروقك شيء من ذلك فإنه استدراج لهم ووبال عليهم حسبما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله‏}‏ والخطاب يحتمل أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم وأن يكون لكل من يصلح له على حد ما قيل في نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تُشْرِكْ بالله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏ ومفعول الإرادة قيل‏:‏ التعذيب واللام زائدة وقيل‏:‏ محذوف واللام تعليلية، أي يريد إعطاءهم لتعذيبهم، وتعذيبهم بالأموال والأولاد في الدنيا لما أنهم يكابدون بجمعها وحفظها المتاعب ويقاسون فيها الشدائد والمصائب وليس عندهم من الاعتقاد بثواب الله تعالى ما يهون عليهم ما يجدونه، وقيل‏:‏ تعذيبهم في الدنيا بالأموال لأخذ الزكاة منهم والنفقة في سبيل الله تعالى مع عدم اعتقادهم الثواب على ذلك، وتعذيبهم فيها بالأولاد أنهم قد يقتلون في الغزو فيجزعون لذلك أشد الجزع حيث لا يعتقدون شهادتهم وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون وأن الاجتماع بهم فريب ولا كذلك المؤمنون فيما ذكر، وقيل‏:‏ تعذيبهم بالأموال بأن تكون غنيمة للمسلمين وبالأولاد بأن يكونوا سبباً لهم إذا أظهروا الكفر وتمكنوا منهم‏.‏

وأخرج ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وأبو الشيخ عن قتادة أن في الآية تقديماً وتأخيراً أي لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة ‏{‏وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ‏}‏ أي يموتون وأصل الزهوق الخروج بصعوبة ‏{‏وَهُمْ كافرون‏}‏ في موضع الحال أي حال كونهم كافرين، والفعل عطف على ما قبله داخل معه في حيز الإرادة‏.‏ واستدل بتعليق الموت على الكفر بإرادته تعالى على أن كفر الكافر بإرادته سبحانه وفي ذلك رد على المعتزلة‏.‏

وأجاب الزمخشري بأن المراد إنما هو إمهالهم وإدامة النعم عليهم إلى أن يموتوا على الكفر مشتغلين بما هم فيه عن النظر في العاقبة، والامهال والإدامة المذكورة مما يصح أن يكون مراداً له تعالى‏.‏ واعترضه الطيبي بأن ذلك لا يجديه شيئاً لأن سبب السبب سبب في الحقيقة، وحاصله أن ما يؤدي إلى القبح ويكون سبباً له حكمه حكمه في القبح وهو في حيز المنع، وأجاب الجبائي بأن معنى الآية أن الله تعالى أراد زهوق أنفسهم في حال الكفر وهو لا يقتضي كونه سبحانه مريداً للكفر فإن المريض يريد المعالجة في وقت المرض ولا يريد المرض والسلطان يقول لعسكره‏:‏ اقتلوا البغاة حال هجومهم ولا يريد هجومهم‏.‏ ورده الإمام بأنه لا معنى لما ذكر من المثال إلا إرادة إزالة المرض وطلب إزالة هجوم البغاة وإذا كان المراد إعدام الشيء امتنع أن يكون وجوده مراداً بخلاف أرادة زهوق نفس الكافر فإنها ليست عبارة عن إرادة إزالة الكفر فلما أراد الله تعالى زهوق أنفسهم حال كونهم كافرين وجب أن يكون مريداً لكفرهم، وكيف لا يكون كذلك والزهوق حال الكفر يمتنع حصوله إلا حال حصول الكفر، وأرادة الشيء تقتضي أرادة ما هو من ضرورياته فيلزم كونه تعالى مريداً للكفر‏.‏

وفيه أن الظاهر أن إرادة المعالجة شيء غير إرادة إزالة المرض وكذا أرادة القتل غير إرادة إزالة الهجوم ولهذا يعلل إحدى الإرادتين بالأخرى فكيف تكون نفسها، وأما أن كون إرادة ضروريات الشيء من لوازم إرادته فغير مسلم؛ فكم من ضروري لشيء لا يخطر بالبال عند أرادته فضلاً عما ادعاه، فالاستدلال بالآية على ما ذكر غير تام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ‏}‏ أي في الدين والمراد أنهم يحلفون أنهم مؤمنون مثلكم ‏{‏وَمَا هُم مّنكُمْ‏}‏ في ذلك لكفر قلوبهم ‏{‏ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ‏}‏ أي يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلوا بالمشركين فيظهرون الإسلام تقية ويؤيدونه بالأيمان الفاجرة، وأصل الفرق انزعاج النفس بتوقع الضرر، قيل‏:‏ وهو من مفارقة الأمن إلى حال الخوف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأَ‏}‏ أي حصنا يلجأون إليه كما قال قتادة ‏{‏أَوْ مغارات‏}‏ أي غير أن يخفون فيها أنفسهم وهو جمع مغارة بمعنى الغار، ومنهم من فرق بينهما بأن الغار في الجبل والمغارة في الأرض‏.‏ وقرىء ‏{‏مغارات‏}‏ بضم الميم من أغار الرجل إذا دخل الغور، وقيل‏:‏ هو تعدية غار الشيء وأغرته أنا أي أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم، ويجوز أن تكون من أغار الثعلب إذا أسرع بمعنى مهارب ومغار ‏{‏أَوْ مُدَّخَلاً‏}‏ أي نفقا كنفق اليربوع ينجحرون فيه، وهو مفتعل من الدخول فأدغم بعد قلب تائه دالا‏.‏ وقرأ يعقوب‏.‏ وسهل ‏{‏مُّدْخَلاً‏}‏ بفتح الميم اسم مكان من دخل الثلاثي وهي قراءة ابن أبي اسحق‏.‏ والحسن، وقرأ سلمة بن محارب ‏{‏مُّدْخَلاً‏}‏ بضم الميم وفتح الخاء من أدخل المزيد أي مكاناً يدخلون فيه أنفسهم أو يدخلهم الخوف فيه، وقرأ أبي بن كعب ‏{‏متدخلاً‏}‏ اسم مكان من تدخل تفعل من الدخول، وقرىء ‏{‏مندخلاً‏}‏ من اندخل، وقد ورد في شعر الكميت

ولا يدي في حميت السمن تندخل *** وأنكر أبو حاتم هذه القراءة وقال‏:‏ إنما هي بالتاء بناء على إنكار هذه اللغة وليس بذاك ‏{‏كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ‏}‏ أي لصرفوا وجوههم وأقبلوا‏.‏ وقرىء ‏{‏لوألوا‏}‏ أي لا لتجأوا ‏{‏ءاوى إِلَيْهِ‏}‏ أي إلى أحد ما ذكر ‏{‏وَهُمْ يَجْمَحُونَ‏}‏ أي يسرعون في الذهاب إليه بحيث لا يردهم شيء كالفرس الجموح وهو النفور الذي لا يرده لجام، وروي الأعمش عن أنس بن مالك أنه قرأ ‏{‏يجمزون‏}‏ بالزاي وهو بمعنى يجمحون ويشتدون، ومنه الجمازة الناقة الشديدة العدو، وأنكر بعضهم كون ما ذكر قراءة وزعم أنه تفسير وهو مردود‏.‏

والجملة الشرطية استئناف مقرر لمضمون ما سبق من أنهم ليسوا من المسلمين وأن التجاءهم إلى الانتماء إليهم إنما هو للتقية اضطراراً، وإيثار صيغة الاسقبال في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة استمرار عدم الوجدان حسبما يقتضيه المقام، ونظير ذلك لو تحسن إلي لشكرتك نعم كثيراً ما يكون المضارع المنفي الواقع موقع الماضي لإفادة انتفاء استمرار الفعل لكن ذلك غير مراد ههنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات‏}‏ أي يعيبك في شأنها‏.‏ وقرأ يعقوب ‏{‏يَلْمِزُكَ‏}‏ بضم الميم وهي قراءة الحسن‏.‏ والأعرج، وقرأ ابن كثير ‏{‏يلامزك‏}‏ هو من الملامزة بمعنى اللمز، والمشهور أنه مطلق العيب كالهمز، ومنهم من فرق بينهما بان اللمز في الوجه والهمز في الغيب وهو المحكي عن الليث وقد عكس أيضاً وأصل معناه الدفع ‏{‏الصدقات فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا‏}‏ بيان لفساد لمزهم وأنه لا منشأ له إلا حرصهم على حطام الدنيا أي إن أعطيتهم من تلك الصدقات قدر ما يريدون ‏{‏رَضُواْ‏}‏ بما وقع في القسمة واستحسنوا علك ‏{‏وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا‏}‏ ذلك المقدار ‏{‏إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ‏}‏ أي يفاجؤونالسخط، و‏{‏إِذَا‏}‏ نابت مناب فاء الجزاء وشرط لنيابتها عنه كون الجزاء جملة اسمية، ووجه نيابتها دلالتها على التعقيب كالفاء، وغاير سبحانه بين جوابي الجملتين إشارة إلى أن سخطهم ثابت لا يزول ولا يفنى بخلاف رضاهم‏.‏ وقرأ أياد بن لقيط ‏{‏إِذَا هُمْ‏}‏ والآية نزلت في ذي الخويصرة واسمه حرقوص بن زهير التميمي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم هوازن يوم حنين فقال‏:‏ يا رسول الله اعدل‏.‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ ومن يعد إذا لم أعدل ‏"‏ فقال عمر بن الخطاب‏:‏ يا رسول الله ائذن لي أضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ‏"‏ الحديث‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال‏:‏ لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين سمعت رجلاً يقول‏:‏ إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله تعالى فأتيت النبي عليه الصلاة والسلام فذكرت ذلك له فقال‏:‏ ‏"‏ رحمة الله تعالى على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ‏"‏ ونزلت الآية‏.‏

وأخرج ابن جرير‏.‏ وغيره عن داود بن أبي عاصم قال‏:‏ «أوتي النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فقسمها ههنا وههنا حتى ذهبت ووراءه رجل من الأنصار فقال‏:‏ ما هذا بالعدل فنزلت»، وعن الكلبي أنها نزلت في أبي الجواظ المنافق قال‏:‏ ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاء الغنم ويزعم أنه يعدل‏.‏

وتعقب هذا ولي الدين العراقي بأنه ليس في شيء من كتب الحديث، وأنت تعلم أن أصح الروايات الأولى إلا أن كون سبب النزول قسمته صلى الله عليه وسلم للصدقة على الوجه الذي فعله أوفق بالآية من كون ذلك قسمته للغنية فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا أتاهم الله وَرَسُولُهُ‏}‏ أي ما أعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم من الصدقات طيبي النفوس به وان قل فما وإن كانت من صيغ العموم إلا أن ما قبل وما بعد قرينة على التخصيص، وبعض أبقاها على العموم أي ما أعطاهم من الصدقة أو الغنيمة قيل لأنه الأنسب، وذكر الله عز وجل للتعظيم وللتنبيه على أن ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام كان بأمره سبحانه ‏{‏وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله‏}‏ أي كفانا فضله وما قسمه لنا كما يقتضيه المعنى ‏{‏سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ‏}‏ بعد هذا حسبما نرجو ونأمل ‏{‏إِنَّا إِلَى الله راغبون‏}‏ في أن يخولنا فضله جل شأنه، والآية بأسرها في حيز الشرط والجواب محذوف بناء على ظهوره أي لكان خيراً لهم وأعود عليهم، وقيل‏:‏ إن جواب الشرط ‏{‏قَالُواْ‏}‏ والواو زائدة وليس بذلك، ثم إنه سبحانه لما ذكر المنافقين وطعنهم وسخطهم بين أن فعله عليه الصلاة والسلام لإصلاح الدين وأهله لا لأغراض نفسانية كأغراضهم فقال جل وعلا‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّمَا الصدقات للْفُقَرَاء والمساكين‏}‏ الخ يعني أن الذي ينبغي أن يقسم مال الله عليه من اتصف باحدى هذه الصفات دون غيره إذ القصد الصلاح والمنافقون ليس فيهم سوى الفساد فلا يستحقونه وفي ذلك حسم لأطماعهم الفارغة ورد لمقالتهم الباطلة، والمراد من الصدقات الزكوات فيخرج غيرها من التطوع، والفقير على ما روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من له أدنى شيء وهو ما دون النصاب أو قدر نصاب غير نام وهو مستغرق في الحاجة، والمسكين من لا شيء له فيحتاج للمسألة لقوته وما يوراى بدنه ويحل له ذلك بخلاف الأول حيث لا تحل له المسألة فإنها لا تحل لمن يملك قوت يومه بعد ستر بدنه، وعند بعضهم لا تحل لمن كان كسوباً أو يملك خمسين درهما‏.‏ فقد أخرج أبو داود‏.‏ والترمذي والنسائي عن ابن مسعود قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سألنا وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح قيل‏:‏ يا رسول الله وما يغنيه‏؟‏ قال‏:‏ خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب» وإلى هذا ذهب الثوري‏.‏ وابن المبارك‏.‏ وأحمد واسحق، وقيل‏:‏ من ملك أربعين درهماً حرم عليه السؤال لما أخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف» وكان الأوقية في ذلك الزمان أربعين درهماً‏.‏ ويجوز صرف الزكاة لمن لا تحل له المسألة بعد كونه فقيراً، ولا يخرجه عن الفقر ملك نصب كثيرة غير نامية إذا كانت مستغرقة للحاجة، ولذا قالوا‏:‏ يجوز للعالم وإن كانت له كتب تساوي نصباً كثيرة إذا كان محتاجاً إليها للتدريس ونحوه أخذ الزكاة بخلاف العامي وعلى هذا جميع آلات المحترفين‏.‏

وعلى ما نقل عن الإمام يكون المسكين أسوأ حالاً من الفقير، واستدل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَة‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 16‏]‏ الخ يعني أن الذي ينبغي أن يقسم مال الله عليه من اتصف باحدى هذه الصفات دون غيره إذ القصد الصلاح والمنافقون ليس فيهم سوى الفساد فلا يستحقونه وفي ذلك حسم لأطماعهم الفارغة ورد لمقالتهم الباطلة، والمراد من الصدقات الزكوات فيخرج غيرها من التطوع، والفقير على ما روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من له أدنى شيء وهو ما دون النصاب أو قدر نصاب غير نام وهو مستغرق في الحاجة، والمسكين من لا شيء له فيحتاج للمسألة لقوته وما يوراى بدنه ويحل له ذلك بخلاف الأول حيث لا تحل له المسألة فإنها لا تحل لمن يملك قوت يومه بعد ستر بدنه، وعند بعضهم لا تحل لمن كان كسوباً أو يملك خمسين درهما‏.‏

فقد أخرج أبو داود‏.‏ والترمذي والنسائي عن ابن مسعود قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سألنا وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح قيل‏:‏ يا رسول الله وما يغنيه‏؟‏ قال‏:‏ خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب» وإلى هذا ذهب الثوري‏.‏ وابن المبارك‏.‏ وأحمد واسحق، وقيل‏:‏ من ملك أربعين درهماً حرم عليه السؤال لما أخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف» وكان الأوقية في ذلك الزمان أربعين درهماً‏.‏ ويجوز صرف الزكاة لمن لا تحل له المسألة بعد كونه فقيراً، ولا يخرجه عن الفقر ملك نصب كثيرة غير نامية إذا كانت مستغرقة للحاجة، ولذا قالوا‏:‏ يجوز للعالم وإن كانت له كتب تساوي نصباً كثيرة إذا كان محتاجاً إليها للتدريس ونحوه أخذ الزكاة بخلاف العامي وعلى هذا جميع آلات المحترفين‏.‏

وعلى ما نقل عن الإمام يكون المسكين أسوأ حالاً من الفقير، واستدل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 61‏]‏ أي ألصق جلده بالتراب في حفرة استتر بها مكان الإزار وألصق بطنه به لفرط الجوع فإنه يدل على غاية الضرر والشدة ولم يوصف الفقير بذلك، وبأن الأصمعي‏.‏ وأبا عمرو بن العلاء وغيرهما من أهل اللغة فسروا المسكين بمن لا شيء له، والفقير بمن له بلغة من العيش‏.‏ وأجيب بأن تمام الاستدلال بالآية موقوف على أن الصفة كاشفة وهو خلاف الظاهر، وأن النقل عن بعض أهل اللغة معارض بالنقل عن البعض الآخر‏.‏ وقال الشافعي عليه الرحمة‏:‏ الفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعاً من حاجته، والمسكين من له مال أو كسب لا يكفيه، فالفقير عنده أسوأ حالاً من المسكين، واستدل له بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا السفينة فَكَانَتْ لمساكين‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏ فأثبت للمسكين سفينة، وبما رواه الترمذي عن أنس‏.‏ وابن ماجه‏.‏ والحاكم عن أبي سعيد قالا‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين ‏"‏ مع ما رواه أبو داود عن أبي بكرة أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو بقوله‏:‏ ‏"‏ اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر ‏"‏ وخبر «الفقر فخري» كذب لا أصل له‏.‏ وبأن الله تعالى قدم الفقير في الآية ولو لم تكن حاجته أشد لما بدأ به، وبأن الفقير بمعنى المفقور أي مكسور الفقار أي عظام الصلب فكان أسوأ‏.‏ وأجيب عن الأول بأن السفينة لم تكن ملكاً لهم بل هم أجراء فيها أو كانت عارية معهم أو قيل لهم مساكين ترحماً كما في الحديث ‏"‏ مساكين أهل النار ‏"‏

وقوله‏:‏

مساكين أهل الحب حتى قبورهم *** عليها تراب الذل بين المقابر

وهذا أولى، وعن الثاني بأن الفقر المتعوذ منه ليس إلا فقر النفس لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل العفاف والغنى والمراد به غنى النفس لا كثرة الدنيا، وعن الثالث بأن التقديم لا دليل فيه إذ له اعتبارات كثيرة في كلامهم، وعن الرابع بأنا لا نسلم أن الفقير مأخوذ من الفقار لجواز كونه من فقرت له فقرة من مالي إذا قطعتها فيكون له شيء، وأياً ما كان فهما صنفان، وقال الجبائي‏:‏ إنهما صنف واحد والعطف للاختلاف في المفهوم، وروي ذلك عن محمد‏.‏ وأبي يوسف، وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا أوصى بثلث ماله مثلا لفلان وللفقراء والمساكين فمن قال‏:‏ إنهما صنف واحد جعل لفلان النصف ومن قال‏:‏ إنهما صنفان جعل له الثلث من ذلك ‏{‏والعاملين عَلَيْهَا‏}‏ وهم الذين يبعثهم الإمام لجبايتها، وفي البحر أن العامل يشمل العاشر والساعي‏.‏ والأول من نصبه الإمام على الطريق ليأخذ الصدقات من التجار المارين بأموالهم عليه‏.‏

والثاني هو الذي يسعى في القبائل ليأخذ صدقة المواشي في أماكنها، ويعطي العامل ما يكفيه وأعوانه بالوسط مدة ذهابهم وإيابهم ما دام المال باقياً إلا إذا استغرقت كفايته الزكاة فلا يزاد على النصف لأن التصنيف عين الإنصاف‏.‏

وعن الشافعي أنه يعطي الثمن لأن القسمة تقتضيه وفيه نظر، وقيد بالوسط لا يجوز أن يتبع شهوته في المأكل والمشرب والملبس لكونه إسرافاً محضاً، وعلى الإمام أن يبعث من يرضي بالوسط من غير إسراف ولا تقتير، وببقاء المال لأنه لو أخذ الصدقة وضاعت من يده بطلت عمالته ولا يعطي من بين المال شيئاً وما يأخذه صدقة، ومن هنا قالوا‏:‏ لا تحل العمالة لهاشمي لشرفه، وإنما حلت للغني مع حرمة الصدقة عليه لأنه فرغ نفسه لهذا العمل فيحتاج إلى الكفاية، والغنى لا يمنع من تناولها عند الحاجة كابن السبيل كذا في البدائع، والتحقيق أن في ذلك شبهاً بالاجرة وشبهاً بالصدقة، فبالاعتبار الأول حلت للغنى ولذا لا يعطى لو أداها صاحب المال إلى الإمام، وبالاعتبار الثاني لا تحل للهاشمي‏.‏ وفي النهاية رجل من بني هاشم استعمل على الصدقة فأجرى له منها رزق فإنه لا ينبغى له أن يأخذ من ذلك، وإن عمل فيها ورزق من غيرها فلا بأس به، وهو يفيد صحة توليته وأن أخذه منها مكروه لإحرام، وصرح في الغاية بعدم صحة كون العامل هاشمياً أو عبداً أو كافراً، ومنه يعلم حرمة تولية اليهود على بعض الأعمال وقد تقدمت نبذة من الكلام على ذلك ‏{‏والمؤلفة قُلُوبُهُمْ‏}‏ وهم كانوا ثلاثة أصناف‏.‏ صنف كان يؤلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا‏.‏ وصنف أسلموا لكن على ضعف كعيينة بن حصن‏.‏

والأقرع بن حابس‏.‏ والعباس بن مرداس السلمي فكان عليه الصلاة والسلام يعطيهم لتقوى نيتهم في الإسلام‏.‏ وصنف كانوا يعطون لدفع شرهم عن المؤمنين، وعد منهم من يؤلف قلبه بإعطاء شيء من الصدقات على قتال الكفار ومانعي الكاة‏.‏ وفي الهداية أن هذا الصنف من الأصناف الثمانية قد سقط وانعقد إجماع الصحابة على ذلك في خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه‏.‏ روي أن عيينة والأقرع جاءا يطلبان أرضاً من أبي بكر فكتب بذلك خطاً فمزقه عمر رضي الله تعالى عنه وقال‏:‏ هذا شيء يعطيكموه رسول الله صلى الله عليه وسلم تأليفاً لكم فأما اليوم فقد أغز الله تعالى الإسلام وأغني عنكم فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف‏.‏ فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا‏:‏ أنت الخليفة أم عمر‏؟‏ بذلت لنا الخط ومزقه عمر، فقال رضي الله تعالى عنه‏:‏ هو إن شاء ووافقه، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع احتمال أن فيه مفسدة كارتداد بعض منهم وإثارة ثائرة‏.‏ واختلف كلام القوم في وجه سقوطه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثبوته بالكتاب إلى حين وفاته بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام فمنهم من ارتكب جواز نسخ ما ثبت بالكتاب بالإجماع بناء على أن الإجماع حجة قطعية كالكتاب وليس بصحيح من المذهب؛ ومنهم من قال‏:‏ هو من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته كانتهاء جواز الصوم بانتهاء وقته وهو النهار‏.‏ ورد بأن الحكم في البقاء لا يحتاج إلى علة كما في الرمل والاضطباع في الطواف فانتهاؤها لا يستلزم انتهاءه وفيه بحث‏.‏ وقال علاء الدين عبد العزيز‏:‏ والأحسن أن يقال‏:‏ هذا تقرير لما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من حيث المعنى، وذلك أن المقصود بالدفع إليهم كان إعزاز الإسلام لضعفه في ذلك الوقت لغلبة أهل الكفر وكان الإعزاز بالدفع، ولما تبدلت الحال بغلبة أهل الإسلام صار الإعزاز في المنع، وكان الإعطاء في ذلك الزمان والمنع في هذا الزمان بمنزلة الآلة لإعزاز الدين والإعزاز هو المقصود وهو باق على حاله فلم يكن ذلك نسخاً، كالمتيمم وجب عليه استعمال التراب للتطهير لأنه آلة متعينة لحصول التطهير عند عدم المار فإذا تبدلت حاله فوجد الماء سقط الأول ووجب استعمال الماء لأنه صار متعيناً لحصول المقصود لا يكون هذا نسخاً للأول فكذا هذا وهو نظير إيجاب الدية على العاقلة فإنها كانت واجبة على العشيرة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعده على أهل الديوان لأن الإيجاب على العاقلة بسبب النصرة والاستنصار في زمنه صلى الله عليه وسلم كان بالعشيرة وبعده عليه الصلاة والسلام بأهل الديوان، فإيجابها عليهم لم يكن نسخاً بل كان تقريراً للمعنى الذي وجبت الدية لأجله وهو الاستنصار اه‏.‏

واستحسنه في النهاية‏.‏

وتعقبه ابن الهمام بأن هذا لا ينفي النسخ لأن إباحة الدفع إليهم حكم شرعي كان ثابتاً وقد ارتفع، وقال بعض المحققين‏:‏ إن ذلك نسخ ولا يقال‏:‏ نسخ الكتاب بالإجماع لا يجوز على الصحيح لأن الناسخ دليل الإجماع لا هو بناء على أنه لا إجماع إلا عن مستند فإن ظهر وإلا وجب الحكم بأنه ثابت، على أن الآية التي أشار إليها عمر رضي الله تعالى عنه وهي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقُلِ الحق مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏ يصلح لذلك وفيه نظر، فإنه إنما يتم لو ثبت نزول هذه الآية بعد هذه ولم يثبت، وقال قوم‏:‏ لم يسقط سهم هذا الصنف، وهو قول الزهري وأبي جعفر محمد بن علي‏.‏ وأبي ثور، وروي ذلك عن الحسن، وقال أحمد‏:‏ يعطون أن احتاج المسلمون إلى ذلك‏.‏

وقال البعض‏:‏ إن المؤلفة قلوبهم مسلمون وكفار والساقط سهم الكفار فقط‏.‏ وصحح أنه عليه الصلاة والسلام كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَفِي الرقاب‏}‏ أي للصرف في فك الرقاب بأن يعان المكاتبون بشيء منها على أدار نجومهم، وقيل‏:‏ بأن يبتاع منها الرقاب فتعتق، وقيل‏:‏ بأن يفدي الأساري، وإلى الأول ذهب النخعي‏.‏ والليث‏.‏ والزهري‏.‏ والشافعي، وهو المروى عن سعيد بن جبير وعليه أكثر الفقهاء، وإلى الثاني ذهب مالك‏.‏ وأحمد‏.‏ وإسحق، وعزاه الطيبي إلى الحسن، وفي تفسير الطبري أن الأول هو المنقول عنه ‏{‏والغارمين‏}‏ أي الذين عليهم دين، والدفع إليهم كما في الظهيرية أولى من الدفع إلى الفقير وقيدوا الدين بكونه في غير معصية كالخمر والإسراف فيما لا يعنيه، لكن قال النووي في المنهاج قلت‏:‏ والأصح أن من استدان للمعصية يعطي إذا تاب وصححه في الروضة، والمانع مطلقاً قال‏:‏ إنه قد يظهر التوبة للأخذ، واشترط أن لا يكون لهم ما يوفون به دينهم فاضلاً عن حوائجهم ومن يعولونه، وإلا فمجرد الوفاء لا يمنع من الاستحقاق، وهو أحد قولين عند الشافعية وهو الأظهر‏.‏

وقيل‏:‏ لا يشترط لعموم الآية‏.‏ وأطاق القدوري‏.‏ وصاحب الكنز من أصحابنا المديون في باب المصرف، وقيده في الكافي بأن لا يملك نصاباً فضلاً عن دينه ووذكر في البحر أنه المراد بالغارم في الآية إذ هو في اللغة من عليه دين ولا يجد قضاء كما ذكره العتبي‏.‏ واعتذر عن عدم التقييد بأن الفقر شرط في الأصناف كلها إلا العامل وابن السبيل إذا كان له في وطنه مال فهو بمنزلة الفقير، وهل يشترط حلول الدين أولا قولان للشافعية‏.‏ ويعطي عندهم من استدان لإصلاح ذات البين كأن يخاف فتنة بين قبيلتين تنازعتا في قتيل لم يظهر قاتله أو ظهر فأعطي الدية تسكيناً للفتنة، ويعطى مع الغنى مطلقاً، وقيل‏:‏ إن كان غنياً بنقد لا يعطى ‏{‏وَفِى سَبِيلِ الله‏}‏‏.‏

أريد بذلك عند أبي يوسف منقطعوا الغزاة، وعند محمد منقطعوا الحجيج‏.‏ وقيل‏:‏ المراد طلبة العلم واقتصر عليه في الفتاوي الظهيرية، وفسره في «البدائع» بجميع القرب فيدخل فيه كل من سعي في طاعة الله تعالى وسبل الخيرات‏.‏ قال في البحر‏:‏ ولا يخفى أن قيد الفقر لا بد منه على الوجوه كلها فحينئد لا تظهر ثمرته في الزكاة‏.‏ وإنما تظهر في الوصايا والأوقاف انتهى‏.‏ وفي النهاية فإن قيل‏:‏ إن قوله سبحانه ‏{‏وَفِى سَبِيلِ الله‏}‏ مكرر سواء أريد منقطع الغزاة أو غيره لأنه إما أن يكون له في وطنه مال أم لا فإن كان فهو ابن السبيل وإن لم يكن فهو فقير، فمن أين يكون العدد سبعة على ما يقول الأصحاب أو ثمانية على ما يقول غيرهم‏.‏ وأجيب بأنه فقير إلا أنه ازداد فيه شيء آخر سوى الفقر وهو الانقطاع في عبادة الله تعالى من جهاد أو حج فلذا غاير الفقير المطلق فإن المقيد يغاير المطلق لا محالة، ويظهر أثر التغاير في حكم آخر أيضاً وهو زيادة التحريض والترغيب في رعاية جانبه وإذا كان كذلك لم تنقص المصارف عن سبعة وفيه تأمل انتهى، ولا يخفي وجهه‏.‏ وذكر بعضهم أن التحقيق ما ذكره الجصاص في الأحكام أن من كان غنياً في بلده بداره وخدمه وفرسه وله فضل دراهم حتى لا تحل له الصدقة فإذا عزم على سفر جهاد احتاج لعدة وسلاح لم يكن محتاجاً له في إقامته فيجوز أن يعطي من الصدقة وإن كان غنياً في مصره وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الصدقة تحل للغازي الغني ‏"‏ فافهم ولا تغفل ‏{‏وابن السبيل‏}‏ وهو المسافر المنقطع عن ماله، والاستقراض له خير من قبول الصدقة على ما في الظهيرية‏.‏ وفي «فتح القدير» أنه لا يحل له أن يأخذ أكثر من حاجته، وألحق به كل من هو غائب عن ماله وان كان في بلده‏.‏ وفي المحيط وإن كان تاجراً له دين على الناس لا يقدر على أخذه ولا يجد شيئاً يحل له أخذ الزكاة لأنه فقير يداً كابن السبيل‏.‏ وفي الخانية تفصيل في هذا المقام قال‏:‏ والذي له دين مؤجل على إنسان إذا احتاج إلى النفقة يجوز له أن يأخذ من الزكاة قدر كفايته إلى حلول الأجل، وإن كان الدين غير مؤجل فإن كان من عليه الدين معسراً يجوز له أن يأخذ الزكاة في أصح الأقاويل لأنه يمنزلة ابن السبيل، وإن كان المديون موسراً معترفاً لا يحل له أخذ الزكاة وكذا إذا كان جاحداً وله عليه بينة عادلة، وإن لم تكن عادلة لا يحل له الأخذ أيضاً ما لم يرفع الأمر إلى القاضي فيحلفه فإذا حلفه يحل له الأخذ بعد ذلك اه، والمراد من الدين ما يبلغ نصاباً كما لا يخفي‏.‏

وفي «فتح القدير» ولو دفع إلى فقيره لها مهر دين على زوجها يبلغ نصاباً وهو موسر بحيث لو طلبت أعطاها لا يجوز، وإن كان بحيث لا يعطى لو طلبت جاز اه‏.‏ وهو مقيد لعموم ما في الخانية، والمراد من المهر ما تعورف تعجيله لأن ما تعورف تأجيله فهو دين مؤجل لا يمنع أخذ الزكاة، ويكون في الأول عدم إعطائه بمنزلة إعساره، ويفرق بينه وبين سائر الديون بأن رفع الزوج للقاضي مما لا ينبغي للمرأة بخلاف غيره، لكن في البزازية دفع الزكاة إلى أخته وهي تحت زوج إن كان مهرها المعجل أقل من النصاب أو أكثر لكن الزوج معسر له أن يدفع إليها الزكاة وإن كان موسراً والمعجل قدر النصاب لا يجوز عندهما وبه يفتي للاختياط، وعند الإمام يجوز مطلقاً هذا، والعدول عن اللام إلى ‏{‏فِى‏}‏ في الأربعة الأخيرة على ما قال الزمخشري للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق الصدقة ممن سبق ذكره لما أن ‏{‏فِى‏}‏ للظرفية المنبئة عن إحاطتهم بها وكونهم محلها ومركزها وعليه فاللام لمجرد الاختصاص، وفي الانتصاف أن ثم سرا آخر هو أظهر وأقرب وذلك أن الأصناف الأوائل ملاك لما عساه أن يدفع إليهم وإنما يأخذونه تملكاً فكان دخول اللام لائقابهم، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون لما يصرف نحوهم بل ولا يصرف إليهم ولكن يصرف في مصالح تتعلق بهم، فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون أو البائعون فليس نصيبهم مصروفاً إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بملكهم لما يصرف نحوهم وإنما هم محال لهذا الصرف ولمصالحه المتعلقة به، وكذلك الغارمون إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصاً لذممهم لا لهم، وأما في سبيل الله فواضح فيه ذلك، وأما ابن السبيل فكأنه كان مندرجاً في سبيل الله، وإنما أفرد بالذكر تنبيهاً على خصوصيته مع أنه مجرد من الحرفين جميعاً‏.‏

وعطفه على المجرور باللام ممكن ولكن عطفه على القريب أقرب، وما أشار إليه من أن المكاتب لا يملك وإنما يملك المكاتب هو الذي أشار إليه بعض أصحابنا‏.‏ ففي المحيط قالوا‏:‏ إنه لا يجوز إعطاء الزكاة لمكاتب هاشمي لأن الملك يقع للمولى من وجه والشبهة ملحقة بالحقيقة في حقهم وفي «البدائع» ما هو ظاهر في أن الملك يقع للمكاتب وحينئذ فبقية الأربعة بالطريق الأولى‏.‏

والمشهور أن اللام للملك عند الشافعية وهو الذي يقتضيه مذهبهم حيث قالوا‏:‏ لا بد من صرف الزكاة إلى جميع الأصناف إذا وجدت ولا تصرف إلى صنف مثلا ولا إلى أقل من ثلاثة من كل صنف بل إلى ثلاثة أو أكثر إذا وجد ذلك، وعندنا يجوز للمالك أن يدفع الزكاة إلى كل واحد منهم وله أن يقتصر على صنف واحد لأن المراد بالآية بيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم لا تعيين الدفع لهم، ويدل له قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 271‏]‏ وأنه صلى الله عليه وسلم أتاه مال من الصدقة فجعله في صنف واحد وهو المؤلفة قلوبهم ثم أتاه مال آخر فجعله في الغارمين فدل ذلك على أنه يجوز الاقتصار على صنف واحد، ودليل جواز الاقتصار على شخص واحد منه أن الجمع المعرف بال مجاز عن الجنس، فلو حلف لا يتزوج النساء ولا يشتري العبيد يحنث بالواحد؛ فالمعنى في الآية أن جنس الصدقة لجنس الفقير، فيجوز الصرف إلى واحد لأن الاستغراق ليس بمستقيم، إذ يصير المعنى إن كل صدقة لكل فقير وهو ظاهر الفساد، وليس هناك معهود ليرتكب العهد، ولا يرد خالعني على ما في يدي من الدراهم ولا شيء في يدها فإنه يلزمها ثلاثة، ولو حلف لا يكلمه الأيام أو الشهور فإنه يقع على العشرة عند الإمام وعلى الأسبوع والسنة عند الإمامين لأنه أمكن العهد فلا يحمل على الجنس‏.‏ فالحاصل أن حمل الجمع على الجنس مجاز وعلى العهد أو الاستغراق حقيقة، ولا مساغ للخلف إلا عند تعذر الأصل، وعلى هذا ينصف الموصى به لزيد والفقراء كالوصية لزيد وفقير‏.‏

وما ذهبنا إليه هو المروى عن عمر‏.‏ وابن عباس رضي الله تعالى عنهم، وبه قال سعيد بن جبير‏.‏ وعطاء‏.‏ وسفيان الثوري‏.‏ وأحمد بن حنبل‏.‏ ومالك علليهم الرحمة‏.‏ وذكر ابن المنير أن جده أبا العباس أحمد بن فارس كان يستنبط من تغاير الحرفين المذكورين دليلاً على أن الغرض بيان المصرف واللام لذلك فيقول‏:‏ متعلق الجار الواقع خبراً عن الصدقات محذوفاً فإما أن يكون التقدير إنما الصدقات مصروفة للفقراء كما يقول مالك ومن معه أو مملوكة للفقراء كما يقول الشافعي لكن الأول متعين لأنه تقدير يكتفي به في الحرفين جميعاً ويصح تعلق اللام ‏{‏وَفِى‏}‏ معاً به فيصح أن يقال‏:‏ هذا الشيء مصروف في كذا ولكذا بخلاف تقدير مملوكة فإنه إنما يلتئم مع اللام وعند الانتهاء إلى ‏{‏فِى‏}‏ يحتاج إلى تقدير مصروفة ليلتئم بها فتقديره من الأول عام التعلق شامل الصحة متعين اه‏.‏ وبالجملة لا يخفى قوة منزع الأئمة الثلاثة في الأخذ‏.‏

ولذا اختار بعض الشافعية ما ذهبوا إليه، وكان والد العلامة البيضاوي عمر بن محمد وهو مفتي الشافعية في عصره يفتى به ‏{‏فَرِيضَةً مّنَ الله‏}‏ مصدر مؤكد لمقدر مأخوذ من معنى الكلام أي فرض لهم الصدقات فريضة، ونقل عن سيبويه أنه منصوب بفعله مقدراً أي فرض الله تعالى ذلك فريضة، واختار أبو البقاء كونه حالا من الضمير المسكن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاء‏}‏ أي إنما الصدقات كائنة لهم حال كونها فريضة أي مفروضة، قيل‏:‏ ودخلته التاء لإلحاقه بالأسماء كنطيحة ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور الحسنة التي من جملتها سوق الحقوق إلى مستحقيها‏.‏