فصل: تفسير الآية رقم (77)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَعْقَبَهُمْ‏}‏ أي جعل الله تعالى عاقبة فعلهم ذلك ‏{‏نِفَاقاً‏}‏ أي سوء عقيدة وكفراً مضمراً ‏{‏فِى قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ‏}‏ أي الله تعالى، والمراد بذلك اليوم وقت الموت؛ فالضمير المستتر في أعقب لله تعالى وكذا الضمير المنصوب في ‏{‏يَلْقَوْنَهُ‏}‏، والكلام على حذف مضاف، والمراد بالمفاق بعض معناه وتمامه إظهار الإسلام وإضماء الكفر، وليس بمراد كما أشرنا إلى ذلك كله، ونقل الزمخشري عن الحسن‏.‏ وقتادة أن الضمير اوول للبخل وهو خلاف الظاهر بل قال بعض المحققين‏:‏ إنه يأباه قوله تعالى‏:‏

‏{‏بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ‏}‏ إذ ليس لقولنا أعقبهم البخل نفاقاً بسبب اخلافهم الخ كثير معنى، ولا يتصور على ما قيل أن يعلل النفاق بالبخل أولاً ثم يعلل بأمرين غيره بغير عطف، ألا ترى لو قلت‏:‏ حملني على إكرام زيد علمه لأجل أنه شجاع وجواد كان خلفاً حتى تقول حملني على إكرام زيد علمه وشجاعته وجوده‏.‏

وقال الإمام‏:‏ ولأن غاية البخل ترك بعض الواجبات وهو لا يوجب حصول النفاق الذي هو كفر وجهل فيالقلب كمل في حق كثير من الفساق، وكون هذا البخل بخصوصه يعقب النفاق والكفر لما فيه من عدم إطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وخلف وعده كما قيل لا يقتضي الأرجحية بل الصحة ولعلها لا تنكر، واختيار الزمخشري كان لنزغة اعتزالية هي أنه تعالى لا يقضي بالنفاق ولا يخلقه لقاعدة التحسين والتقبيح، وجوز أن يكون الضمير المنصوب للبخل أيضاً، والمراد باليوم يوم القيامة، وهناك مضاف محذوف أي يلقون جزاءه و‏{‏مَا‏}‏ مصدرية‏.‏

والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للإيذان بالاستمرار أي بسبب اخلافهم ما وعدوه تعالى من التصدق والصلاح وبسبب كونهم مستمرين على الكذب في جميع المقالات التي من جملتها وعدهم المذكور، وقيل‏:‏ المراد كذبهم فيما تضمنه خلف الوعد فإن الوعد وإن كان إنشاء لكنه متضمن للخبر فإذا تخلف كان قبيحاً من وجهين الخلف والكذب الضمني، وفيه نظر لأن تخصيص بذلك يؤدي إلى تخلية الجمع بين الصيغتين عن المزية، وقد اشتملت الآية على خصلتين من خصال المنافقين، فقد أخرج الشيخان‏.‏ وغيرهما عن أبي هررة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان» ويستفاد من الصحاح آية أخرى له «إذا خاصم فجر»‏.‏ واستشكل ذلك بأن هذه الخصال قد توجد في المسلم الذي لا شك فيه ولا شبهة تعتريه بل كثير من علمائنا اليوم متصفون بأكثرها أو بها كلها، وأجيب بأن المعنى أن هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها يشبه المنافقين في التخلق بها، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام على ما في بعض الروايات الصحيحة

«أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً» أنه كان شديد الشبه بالمنافقين لا أنه كان منافقاً حقيقة‏.‏

وقيل‏:‏ إن الأخبار الواردة في هذا الباب إنما هي فيمن كانت تلك الخصال غالبة عليه غير مكترث بها ولا نادم على ارتكابها ومثله لا يبعد أن يكون منافقاً حقيقة، وقيل‏:‏ هي في المنافقين الذين كانوا في زمنه عليه الصلاة والسلام فانهم حدثوا في أيمانهم فكذبوا واؤتمنوا على دينهم فخانوا ووعدوا في النصرة للحق فأخلفوا وخاصموا ففجروا، وروي هذا عن ابن عباس‏.‏ وابن عمر، وهو قول سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، وإليه رجع الحسن بعد أن كان علا خلافه، قال القاضي عياض‏:‏ وإليه مال أكثر أئمتنا، وقيل‏:‏ كان ذلك في رجل بعينه وهو خارج مخرج قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما بال أقوام يفعلون كذا» لأناس مخصوصين منعه كرمه عليه الصلاة والسلام أن يواجههم بصريح القول‏.‏ وحكى الخطابي عن بعضهم أن المقصود من الأخبار تحذير المسلم أن يعتاد هذه الخصال ولعله راجع إلى ما أجيب به أولا، وبالجلمة يجب على المؤمن اجتناب هذه الخصال فإنها في غاية القبح عند ذوي الكمال‏:‏

مساو لو قسمن على الغواني *** لما أمهرن إلا بالطلاق

وقرى ‏{‏يَكْذِبُونَ‏}‏ بتشديد الذال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُواْ‏}‏ أي المنافقون أو من عاهد الله تعالى، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ بالتاء على أنه خطاب للمؤمنين، وقيل‏:‏ للأولين على الالتفات ويأباه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله سِرَّهُمْ ونجواهم‏}‏ وجعله التفاتاً آخر تكلف، والمراد من السر على تقدير أن يكون الضمير المنافقين ما أسروه في أنفسهم من النفاق ومن النجوى ما يتناجون به من المطاعن، وعلى التقدير الآخر المراد من الأول العزم على الاخلاف ومن الثاني تسمية الزكاة جزية، وتقديم السر على النجو ى لأن العلم به أعظم في الشاهد من العلم بها مع ما في تقديمه وتعليق العلم به من تعجيل إدخال الروعة أو السرور على اختلاف القراءتين وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ينفعك هنا أيضاً ‏{‏وَأَنَّ الله علام الغيوب‏}‏ فلا يخفى عليه سبحانه شيء من الأشياء‏.‏ والهمزة إما للإنكار والتوبيخ والتهديد أي ألم يعلموا ذلك حتى اجترأوا على ما اجترأوا عليه من العظائم أو للتقرير والتنبيه على أن الله سبحانه مؤاخذهم ومجازيهم بما علم من أعمالهم، واظهار الاسم الجليل لإلقاء الروعة وتربية المهابة أو لتعظيم أمر المؤاخذة والمجازاة، وفي إيراد العلم المتعلق بسرهم ونجواهم احلادثين شيئاً فشيئاً بصيغة الفعل الدال على الحدوث والتجدد والعلم المتعلق بالغيوب الكثيرة بصيغة الاسم الدال على الدوام والمبالغة من الفخامة والجزالة ما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏الَّذينَ يَلْمزُونَ‏}‏ مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين وقيل‏:‏ أي منهم الذين، وقيل‏:‏ مبتدأ خبره ‏{‏فيسخرون‏}‏ مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين وقيل‏:‏ أي منهم الذين، وقيل‏:‏ مبتدأ خبره ‏{‏فَيَسْخَرُونَ‏}‏ والفاء لما في الموصول من شبه الشرط أو ‏{‏سَخِرَ الله مِنْهُمْ‏}‏ أو منصوب بفعل محذوف أعني أعني أو أذم أو مجرور على الدلية من ضمير ‏{‏سِرَّهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 78‏]‏ على أنه للمنافقين مطلقا‏.‏ وقرىء بضم الميم وهو لغة كما علمت أي يعيبون ‏{‏المطوعين‏}‏ أي المتطوعين، والمراد بهم من يعطي تطوعاً ‏{‏مِنَ المؤمنين‏}‏ حال من الضمير، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فِي الصدقات‏}‏ متعلق بيلمزون، ولا يجوز كما قال أبو البقاء تعلقه بالمطوعين للفصل، أخرج البغوي في معجمه‏.‏ وأبو الشيخ عن الحسن قال «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً للناس فقال‏:‏ يا أيها الناس تصدقوا أشهد لكم بها يوم القيامة ألا لعل أحدكم أن يبيت فصاله رواء وابن له طاو إلى جنبه ألا لعل أحدكم أن يثمر ماله وجاره مسكين لا يقدر على شيء ألا رجل منح ناقة من إبله يغدو برفد ويروح برفد يغدو بصبوح أهل بيته ويروح بغبوقهم ألا إن اجرها لعظيم فقام رجل فقال‏:‏ يا رسول الله عندي أبعرة عندي أربعة ذود فقام آخر قصير القامة قبيح الشبه يقود ناقة له حسناء جملاء فقال له رجل من المنافقين كلمة خفية لا يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعها ناقته خير منه فسمعها عليه الصلاة والسلام فقال‏:‏ كذبت هو خير منك ومنها، ثم قام عبد الرحمن بن عوف فقال‏:‏ يا رسول الله عندي ثمانية آلاف تركت منها أربعة لعيالي وجئت بأربعة أقدمها إلى الله تعالى فتكاثر المنافقون ما جاء به ثم قام عاصم بن عدي الأنصاري فقال‏:‏ يا رسول الله عندي سبعون وسقا من تمر فتكاثر المنافقون ما جاء به وقالوا‏:‏ جاء هذا بأربعة آلاف وجاء هذا بسبعين وسقا للرياء والسمعة فهلا أخفياها فهلا فرقاها، ثم قام رجل من الأنصار اسمه الحبحاب يكنى أبا عقيل فقال‏:‏ يا رسول الله مالي من مال غير اني آجرت نفسي البارحة من بني فلان أجر الجرير في عنقي على صاعين من تمر فتركت صاعاً لعيالي وجئت بصاع أقربه إلى الله تعالى فلمزه المنافقون وقالوا‏:‏ جاء أهل الإبل بالإبل وجاء أهل الفضة بالفضة وجاء هذا بتميرات يحملها فأنزل الله تعالى الآية، ولم يبين الآلاف التي ذكرها عبد الرحمن في هذه الرواية وكانت على ما أخرجه ابن المنذر عن مجاهد دنانير وفي رواية أنها دراهم، وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أن عبد الرحمن جاء بأربعمائة أوقية من ذهب وهي نصف ما كان عنده وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ اللهم بارك له فيما أعطى وبارك له فيما أمسك، وجاء في رواية الطبراني أن الله بارك له حتى صولحت إحدى امرأتيه عن نصف الثمن على ثمانين ألف درهم، وفي الكشاف وعزاه الطيبي للاستيعاب أن زوجته تماضر صولهت عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً، فعلى الأول يكون له زوجتان وعلى الثاني يكون له أربع زوجات، ويختلف مجموع المالين على الروايتين اختلافاً كثيراً، وفي رواية ابن أبي حاتم عن ابن زيد أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان أحد المطوعين وأنه جاء بمال كثير يحمله فقال له رجل من المنافقين‏:‏ أترائي يا عمر‏؟‏ فقال‏:‏ نعم أرائي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فأما غيرهما فلا‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ‏}‏ عطف على ‏{‏المطوعين‏}‏ وهو من عطف الخاص على العام، وقيل‏:‏ عطف على المؤمنين‏.‏ وتعقبه إلا جهوري بأن فيه ايهام أن المعطوف ليس من المؤمنين‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ هو عطف على ‏{‏الذين يَلْمِزُونَ‏}‏ وأراه خطأ صرفا‏.‏ والجهد بالضم الطاقة أي ويلمزون الذين لا يجدون إلا طاقتهم وما تبلغه قوتهم وهم الفقراء كأبي عقيل واسمه ما مر آنفاً، وعن ابن إسحاق أن اسمه سهل بن رافع، وعن مجاهد أنه فسر الموصول برفاعة بن سعد، ولعل الجمع حينئذ للتعظيم، ويحتمل أن يكون على ظاهره والمذكور سبب النزول، وقرأ ابن هرمز ‏{‏جُهْدَهُمْ‏}‏ بالفتح وهو إحدى لغتين في الجهد فمعنى المضموم والمفتوح واحد، وقيل‏:‏ المفتوح بمعنى المشقة والمضموم بمعنى الطاقة قاله القتبي، وقيل‏:‏ المضمون شيء قليل يعاش به والمفتوح العمل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ‏}‏ عطف على ‏{‏يَلْمِزُونَ‏}‏ أو خير على ما علمت أي يستهزئون بهم، والمراد بهم على ما قيل الفريق الأخير ‏{‏سَخِرَ الله مِنْهُمْ‏}‏ أي جازاهم على سخريتهم، فالجملة خبرية والتعبير بذلك للمشاكلة وليس إنسائية للدعاء عليهم لأن يصيروا ضحكة لأن قوله تعالى جده‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ جملة خبرية معطوفة عليها فلو كانت دعاء لزم عطف الاخبارية على الإنشائية وفي ذلك كلام، وإنما اختلفتا فعلية واسمية لأن السخرية في الدنيا وهي متجددة والعذاب في الآخرة وهو دائم ثابت، والتنوين في العذاب للتهويل والتفخيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوَلاَ *تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ‏}‏ الظاهر أن المراد به وبمثله التخيير، ويؤيد إرادته هنا فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ستعلم إن شاء الله تعالى ذلك منه فكأنه قال سبحانه له عليه الصلاة والسلام‏.‏ إن شئت فاستغفر لهم وإن شئت فلا، وكلام النسفي تنسفه صحة الأخبار نسفاً‏.‏ واختار غير واحد أن المراد التسوية بين الأمرين كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 53‏]‏ والبيت المار‏:‏

أسيئي بنا أو أحسني *** الخ، والمقصود الأخبار بعدم الفائدة في ذلك وفيه من المبالغة ما فيه، وقال بعض المحققين بعد اختياره للتسوية في مثل ذلك‏:‏ إنها لا تنافي التخيير فإن ثبت فهو بطريق الاقتضاء لوقوعها بين ضدين لا يجوز تركهما ولا فعلهما فلا بد من أحدهما ويختلف الحال فتارة يكون الإثبات كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَوَاء عَلَيْهِمْ أأنذرتهم أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏ وأخرى النفي كما هنا وفي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 6‏]‏ ‏{‏إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ‏}‏ بيان لعدم المغفرة وإن استغفر لهم حسبما أريد إثر التخيير أو بيان لاستحالة المغفرة بعد المبالغة في الاستغفار اثر بيان الاستواء بين الاستغفار وعدمه‏.‏

وسبب النزول على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سَخِرَ الله مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 79‏]‏ الخ سأله عليه الصلاة والسلام اللامزون الاستغفار لهم فهم أن يفعل فنزلت فلم يفعل‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت بعد أن فعل، واختار الإمام عدمه وقال‏:‏ إنه لا يجوز الاستغفار للكافر فكيف يصدر عنه صلى الله عليه وسلم‏.‏ ورد بأنه يجوز لأحيائهم بمعنى طلب سبب الغفران، والقول بأن الاستغفار للمصر لا ينفع لا ينفع لأنه لا قطع بعدم نفعه إلا أن يوحي إليه عليه الصلاة والسلام بأنه لا يؤمن كأبي لهب، والقول بأن الاستغفار للمنافق إغراء له على النفاق لا نفاق له أصلاً وإلا لامتنع الاستغفار لعصاة المؤمنين ولا قائل به، وقال بعضهم‏:‏ إنه على تقدير وقوع الاستغفار منه عليه الصلاة والسلام والقول بتقديم النهي المفاد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏ لا اشكال فيه إذ النهي ليس للتحريم بل لبيان عدم الفائدة وهو كلام واه لأن قصارى ما تدل عليه الآية المنع من الاستغفار للكفار وهو لا يقتضي المنع عن الاستغفار لمن ظاهر حاله الإسلام، والقول بأنه حيث لم يستجب يكون نقصاً في منصب النبوة ممنوع لأنه عليه الصلاة والسلام قد لا يجاب دعاؤه لحكمة كما لم يجب دعاء بعض إخوانه الأنبياء عليهم السلام ولا يعد ذلك نقصاً كما لا يخفى، ومناسبة الآية لما قبلها على هذه الرواية في غاية الوضوح إلا أنه قيل‏:‏ إن الصحيح المعول عليه في ذلك أن عبد الله وكان اسمه الحباب وكان من املخلصين ابن عبد الله بن أبي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض أبيه أن يستغفر له ففعل فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ لأزيدن على السبعين فنزلت

‏{‏سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 6‏]‏ الخ، وفيه رد على الإمام أيضاً في اختياره عدم الاستغفار وكذا في إنكاره كون مفهوم العدد حجة كما نقله عنه الاسنوي في التمهيد مخالفاً في ذلك الشافعي رضي الله تعالى عنه فإنه قائل بحجيته كما نقله الغزالي عنه في المنخول وشيخه إمام الحرمين في البرهان وصرح بأن ذلك قول الجمهور‏.‏

وفي المطلب لابن الرفعة أن مفهوم العدد هو العمدة عندنا في عدم تنقيص الحجارة في الاستنجاء على الثلاثة والزيادة على ثلاثة أيام في الخيار، وما نقل عن النووي من أن مفهوم العدد باطل عند الأصوليين محمول على أن المراد باطل عند جمع من الأصوليين كما يدل عليه كلامه في «شرح مسلم» في «باب الجنائز» وإلا فهو عجيب منه‏.‏

وكلام العلامة البيضاوي مضطرب، ففي المنهاج التحصيص بالعدد لا يدل على الزائد والناقص أي انه نص في مدلوله لا يحتمل الزيادة والنقصان، وفي التفسير عند هذه الآية بعد سوق خبر سبب النزول أنه عليه الصلاة والسلام فهم من السبعين العدد المخصوص لأنه الأصل فجاز أن يكون ذلك حداً يخالفه حكم ما وراءه فبين عليه الصلاة والسلام أن المراد به التكثير لا التحديد، وذكر في تفسير سورة البقرة عند قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏ أنه ليس في الآية نفي الزائد، وإرادة التكثير من السبعين شائع في كلامهم وكذا إرادته من السبعة والسبعمائة، وعلل في «شرح المصابيح» ذلك بأن السبعة مشتملة على جملة أقسام العدد فإنه ينقسم إلى فرد وزوج وكل منهما إلى أول ومركب فالفرد الأول ثلاثة والمركب من خمسة والزوج الأول إثنان والمركب أربعة، وينقسم أيضاً إلى منطق كالأربعة وأصم كالستة؛ والسبعة تشتمل على جميع هذه الأقسام، قم إن أريد المبالغة جعلت آحادها اعشاراً واعشارها مئات، وأريد بالفرد الأول الذي لا يكون مسبوقاً بفرد آخر عددي كالثلاثة إذ الواحد ليس بعدد بناء على أنه ما ساوى نصف مجموع حاشيته الصحيحتين، وبالفرد المركب الذي يكون مسبوقاً بفرد آخر فإن الخمسة مسبوق بثلاثة، وأريد بالزوج الأول الغير مسبوق بزوج آخر كالاثنين وبالمركب ما يكون مسبوقاً به كالأربعة المسبوقة بالاثنين، وقد يقسم العدد ابتداء إلى أول ومركب ويراد بالأول ما لا يعده إلا الواحد كالثلاثة والخمسة والسبعة وبالمركب ما يعده غير الواحد كالأربعة فإنه يعدها الاثنان والتسعة فإنه يعدها الثلاثة، وللمنطق اطلاقان فيطلق ويراد به ما له كسر صحيح من الكسور التسعة، والأصم الذي يقابله ما لا يكون كذلك كأحد عشر، ويطلق ويراد به المجذور وهو ما يكون حاصلاً من ضرب عدد في نفسه كالأربعة الحاصلة من ضرب الاثنين في نفسها والتسعة الحاصلة من ضرب الثلاثة في نفسها والأصم الذي يقابله ما لا يكون كذلك كالاثنين والثلاثة وهذا مراد شارح المصابيح حيث مثل الأصم بالستة مع أن لها كسراً صحيحاً بل كسران النصف والسدس لكنها ليست حاصلة من ضرب عدد في نفسه، ومعنى اشتمال السبعة على هذه الأقسام أنه إذا جمع الفرد الأول مع الزوج المركب أو الفرد المركب مع الزوج الأول كان سبعة، وكذا إذا جمع المنطق كالأربعة مع الأصم كالثلاثة كان الحاصل سبعة وهذه الخاصة لا توجد في العدد قبل السبعة، فمن ظن أن الأنسب بالاعتبار بحسب هذا الاشتمال هو الستة لا السبعة لأنها المشتملة على ما ذكر فهو لم يحصل معنى الاشتمال أو لم يعرف هذه الاصطلاحات لكونها من وظيفة علم الاتماطيقي‏.‏

ومما ذكرنا من معنى الاشتمال يندفع أيضاً ما يتوهم من أن التحقيق ان كل عدد مركب من الوحدات لا من الاعداد التي تحته إذ ليس المراد من الاشتمال التركيب على أن في هذا التحقيق مقالاً مذكوراً في محله‏.‏

وقال ابن عيسى الربعي‏:‏ إن السبعة أكمل الأعداد لأن الستة أول عدد تام وهي مع الواحد سبعة فكانت كاملة إذ ليس بعد التمام إلا الكمال، ولذا سمي الأسد سبعاً لكمال قوته، وفسر العدد التام بما يساوي مجموع كسوره وكون الستة كذلك ظاهر فإن كسورها سدس وهو واحد وثلث وهو إثنان ونصف وهو ثلاثة ومجموعها ستة، لكن استبعد عدم فهو من هو أفصح الناس وأعرفهم باللسان صلى الله عليه وسلم إرادة التكثير من السبعين هنا، ولذا قال البعض‏:‏ إنه عليه الصلاة والسلام لم يخف عليه ذلك لكنه خيل بما قال إظهاراً لغاية رأفته ورحمته لمن بعث إليه كقول إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 36‏]‏ يعني أنه صلى الله عليه وسلم أوقع في خيال السامع أنه فهم العدد المخصوص دون التكثير فجوز الإجابة بالزيادة قصداً إلى إظهار الرأفة والرحمة كما جعل إبراهيم عليه السلام جزاء من عصاني أي لم يمتثل أمر ترك عبادة الأصنام قوله‏:‏ ‏{‏عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ دون إنك شديد العقاب مثلاً فخيل أنه سبحانه يرحمهم ويغفر لهم رأفة بهم وحثاً على الاتباع، وتعقب بأن ذكره للتمويه والتخييل بعد ما فهم عليه الصلاة والسلام منه التكثير لا يليق بمقامه الرفيع، وفهم المعنى الحقيقي من لفظ اشتهر مجازه لا ينافي الفصاحة والمعرفة باللسان فإنه لا خطأ فيه ولا بعد إذ هو الأصل، ورجحه عنده عليه الصلاة والسلام شغفه بهدايتهم ورأفته بهم واستعطاف من عداهم، ولعل هذا أولى من القول بالتمويه بلا تمويه، وأنكر إمام الحرمين صحة ما يدل عليه أنه عليه الصلاة والسلام فهم على أن حكم ما زاد على السبعين بخلافه وهو غريب منه، فقد جاء ذلك من رواية البخاري‏.‏

ومسلم‏.‏ وابن ماجه‏.‏ والنسائي وكفى بهم، وقول الطبرسي‏:‏ إن خبر «لأزيدن» الخ خبر واحد لا يعول عليه لا يعول عليه، وتمسك في ذلك بما هو كحبل الشمس وهو عند القائلين بالمفهوم كجبال القمر، وأجاب المنكرون له بمنع فهم ذلك لأن ذكر السبعين للمبالغة وما زاد عليه مثله في الحكم وهو مبادرة عدم المغفرة فكيف يفهم منه املخالفة، ولعله علم صلى الله عليه وسلم أنه غير مراد ههنا بخصوصه سلمناه لكن لا نسلم فهمه منه، ولعله باق على أصله في الجواز إذ لو لم يتعرض له بنفي ولا إثبات والأصل جواز الاستغفار للرسول عليه الصلاة والسلام وكونه مظنة الإجابة ففهم من حيث أنه الأصل لا من التخصيص بالذكر، وحاصل الأول منه فهمه منه مطلقاً بل إنما فهم من الخارج، وحاصل الثاني تسليم فهمه منه في الجلمة لكن لا بطريق المفهوم بل من جهة الأصل‏.‏

وأنت تعلم أن ظاهر الخبر مع القائلين بالمفهوم غاية الأمر أن الله سبحانه أعلم نبيه عليه الصلاة والسلام بأية المنافقين أن المراد بالعدد هنا التكثير دون التحديد ليكون حكم الزائد مخالفاً لحكم المذكور فيكون المراد بالآيتين عند الله تعالى واحداً وهو عدم المغفرة لهم مطلقاً، لكن في دعوى نزول آية المنافقين بعد هذه الآية اشكال، أما على القول بأن براءة آخر ما نزل فظاهر وأما على القول بأن أكثرها أو صدرها كذلك وحينئذ لا مانع من تأخر نزول بعض الآيات منها عن نزول بعض من غيرها فلأن صدر ما في سورة المنافقين يقتضي أنها نزلت في غير قصة هذه التي سلفت آنفاً، وظاهر الأخبار كما ستعلم إن شاء الله تعالى يقتضي أنها نزلت في ابن أبي ولم يكن مريضاً، وما تقدم في سبب تزول ما هنا نص في أنه نزل وهو مريض، والقول بأن تلك تزلت مرتين يحتاج إلى النقل ولا يكتفي في مثله بالرأي وأنى به، على أنه يشكل حينئذ قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ لأزيدن على السبعين ‏"‏ مع تقدم تزول المبين للمراد منه، والقول بالغفلة لا أراه إلا ناشئاً من الغفلة عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 6‏]‏ بل الجهل بمقامه الرفيع عليه الصلاة والسلام ومزيد اعتنائه بكلام ربه سبحانه، ولم أر من تعرض لدفع هذا الإشكال، ولا سبيل إلى دفعه إلا بمنع نزول ما في سورة المنافقين في قصة أخرى ومنع دلالة الصدر على ذلك‏.‏ نعم ذكروا أن الصدر نزل في ابن أبي ولم يكن مريضاً إذ ذاك؛ ولم نقف على نص في أن العجز نزل فيه كذلك، والظاهر نزوله بعد قوله سبحانه‏:‏

‏{‏ولا تصل على أحد منهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏ الخ وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يؤيد ذلك عند تفسير الآية فافهم ‏{‏ذلك‏}‏ الخ وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يؤيد ذلك عند تفسير الآية فافهم ‏{‏ذلك‏}‏ أي امتناع المغفرة لهم ولو بعد ذلك الاستغفار ‏{‏بِأَنَّهُمْ‏}‏ أي بسبب أنهم ‏{‏كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ يعني ليس الامتناع لعدم الاعتداد باستغفارك بل بسبب عدم قابليتهم لأنهم كفروا كفراً متجاوزاً للحد كما يشير إليه وصفهم بالفسق في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين‏}‏ فإن الفسق في كل شيء عبارة عن التمرد والتجاوز عن حدوده، والمراد بالهداية الدلالة الموصلة لا الدلالة على ما يوصل لأنها واقعة لكن لم يقبلوها لسوء اختيارهم، والجملة تذييل مؤكد لما قبله من الحكم فإن مغفرة الكفار بالاقلاع عن الكفر والإقبال إلى الحق والمنهمك فيه المطبوع عليه بمعزل من ذلك، وفيه تنبيه على عذر النبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لهم وهو عدم يأسه من إيمانهم حيث لم يعلم إذ ذاك أنهم مطبوعون على الغي لا ينجع فيهم العلاج ولا يفيدهم الإرشاد، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم بموتهم كفاراً كما يشهد له قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قربى مِن بَعْدَمَا تَبَيَّنَ *لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏ ولعل نزول قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِأَنَّهُمْ‏}‏ الخ متراخ عن نزول قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏استغفر لَهُمْ‏}‏ الخ كما قيل وإلا لم يكن له صلى الله عليه وسلم عذر في الاستغفار بعد النزول‏.‏

والقول بأن هذا العذر إنما يصح لو كان الاستغفار للحي كما مر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيه نظر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏فَرِحَ المخلفون‏}‏ أي الذين خلفهم النبي صلى الله عليه وسلم وأذن لهم في التخلف أو خلفهم الله تعالى بتثبيطه إياهم لحكمة علمها أو خلفهم الشيطان باغرائه أو خلفهم الكسل والنفاق ‏{‏بِمَقْعَدِهِمْ‏}‏ متعلق بفرح وهو مصدر ميمي بمعنى القعود‏.‏ وقيل‏:‏ اسم مكان، والمراد منه المدينة، والأكثرون على الأول أي فرحوا بقعودهم عن الغزو ‏{‏خلاف رَسُولِ الله‏}‏ أي خلفه عليه الصلاة والسلام وبعد خروجه حيث خرج ولم يخرجوا، فهو نصب على الظرفية بمعنى بعد وخلف وقد استعملته العرب في ذلك، والعامل فيه كما قال أبو البقاء ‏{‏مَقْعَدِ‏}‏ وجوز أن يكون ‏{‏فَرِحَ‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو بمعنى المخالفة فيكون مصدر خالف كالقتال وحينئذ يصح أن يكون حالاً بمعنى مخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يكون مفعولاً له والعامل إما ‏{‏فَرِحَ‏}‏ أي فرحوا لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم بالقعود وإما ‏{‏مقعدهم‏}‏ أي فرحوا بقعودهم لأجل المخالفة، وجعل المخالفة علة باعتبار أن قصدهم ذلك لنفاقهم ولا حاجة إلى أن يقال قصدهم الاستراحة ولكن لما آل أمرهم إلى ذلك جعل علة كما قالوا في لام العاقبة وجوز أن يكون نصباً على المصدر بفعل دل عليه الكلام‏.‏

‏{‏وَكَرِهُواْ أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ إيثاراً للراحة والتنعم بالمآكل والمشارب مع ما في قلوبهم من الكفر والنفاق، وبين الفرح والكراهة مقابلة معنوية لأن الفرح بما يحب‏.‏

وإيثار ما في النظم على أن يقال وكرهوا أن يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إيذان بأن اجلهاد في سبيل الله تعالى مع كونه من أجل الرغائب التي ينبغي أن يتنافس فيها المتنافسون قد كرهوه كما فرحوا بأقبح القبائح وهو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الكلام تعريض بالمئمنين الذين آثروا ذلك وأحبوه ابتغاء لرضا الله تعالى ورسوله ‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ أي لاخوانهم تثبيتاً لهم على القعود وتواصياً بينهم بالفساد أو للمؤمنين تثبيطاً لهم على الجهاد ونهياً عن المعروف وإظهاراً لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به، والقائل رجال من المنافقين كما روي عن جابر بن عبد الله وهو الذي يقتضيه الظاهر‏.‏

وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي أن القائل رجل من بني سلمة، ووجه ضمير الجمع على هذا يعلم بما مر غير مرة ‏{‏لاَ تَنفِرُواْ‏}‏ لا تخرجوا إلى الغزو ‏{‏فِى الحر‏}‏ فإنه لا يستطاع شدته ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد رداً عليهم وتجهيلاً لهم ‏{‏نَارُ جَهَنَّمَ‏}‏ التي هي مصيركم بما فعلتم ‏{‏أَشَدُّ حَرّا‏}‏ من هذا الحر الذي ترونه مانعاً من النفير فما لكم لا تحذرونها وتعرضون أنفسكم لها بإيثار القعود والمخالفة لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ‏{‏لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ‏}‏ تذييل من جهته تعالى غير داخل على القول المأمور به مؤكد لمضمونه، وجواب ‏{‏لَوْ‏}‏ مقدر وكذا مفعول ‏{‏يَفْقَهُونَ‏}‏ أي لو كانوا يعلمون أنها كذلك أو أحوالها وأهوالها أو أن مرجعهم إليها لما آثروا راحة زمن قليل على عذاب الأبد، وأجهل الناس من صان نفسه عن أمير يسير يوقعه في ورطة عظيمة، وأنشد الزمخشري لابن أخت خالته‏:‏

مسرة أحقاب تلقيت بعدها *** مساءة يوم أريها شبه الصاب

فكيف بأن تلقى مسرة ساعة *** وراء تقضيها مساءة أحقاب

وقدر بعضهم الجواب لتأثروا بهذا الالزام وهو خلاف الظاهر، وجوز أن تكون ‏{‏لَوْ‏}‏ لمجرد التمني المنبىء عن امتناع تحقق مدخولها، وينزل الفعل المتعدي منزلة اللازم فلا جواب ولا مفعول ويؤول المعنى إلى أنهم ما كانوا من أهل الفطانة والفقه، ويكون الكلام نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 101‏]‏ وهو خلاف الظاهر أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا‏}‏ اخبار عن عاجل أمرهم وآجله من الضحك القليل في الدنيا والبكاء الكثير في الأخرى، وإخراجه في صورة الأمر للدلالة على تحتم وقوع المخبر به وذلك لأن صيغة الأمر للوجوب في الأصل والأكثر فاستعمل في لازم معناه أو لأنه لا يحتمل الصدق والكذب بخلاف الخبر كذا قرره الشهاب ثم قال‏:‏ فإن قلت‏:‏ الوجوب لا يقتضي الوجود وقد قالوا‏:‏ إنه يعبر عن الأمر بالخبر للمبالغة لاقتضائة تحقق المأمور به فالخبر آكد وقد مر مثله فما باله عكس‏.‏ قلت‏:‏ لا منافاة بينهما كما قيل لأن لكل مقام مقالاً والنكت لا تتزاحم فإذا عبر عن الأمر بالخبر لإفادة أن المأمور لشدة امتثاله كأنه وقع منه ذلك وتحقق قبل الأمر كان أبلغ، وإذا عبر عن الخبر بالأمر لإفادة لزومه ووجوبه كأنه مأمور به أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى، وقيل‏:‏ الأمر هنا تكويني كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏ ولا يخفى ما فيه‏.‏

والفاء لسببية ما سبق للأخبار بما ذكر من الضحك والبكاء لا لنفسهما إذ لا يتصور في الأول أصلاً، وجعل ذلك سبباً لاجتماع الأمرين بعيد، ونصب ‏{‏قَلِيلاً وأكدى كَثِيراً‏}‏ على المصدرية أو الظرفية أي ضحكاً أو زماناً قليلاً وبكاء أو زماناً كثيراً، والمقصود بإفادته في الأول على ما قيل هو وصف القلة فقط وفي الثاني هو وصف الكثرة مع الموضوف، فيروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم‏.‏

وجوز أن يكون الضحك كناية عن الفرح والبكاء كناية عن الغم والأول في الدنيا والثاني في الأخرى أيضاً، والقلة على ما يتبادر منها، ولا حاجة إلى حملها على العدم كما حملت الكثرة على الدوام‏.‏ نعم إذا اعتبر كل من الأمرين في الآخرة احتجنا إلى ذلك إذ لا سرور فيها لهم أصلا، ويفهم من كلام ابن عطية أن البكار والضحك في الدنيا كما في حديث الشيخين، وغيرهما «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» أي أنهم بلغوا في سوء الحال والخطر مع الله تعالى إلى حيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلاً وبكاؤهم من أجل ذلك كثيراً‏.‏

‏{‏جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ أي من فنون المعاصي، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار التجددي، و‏{‏جَزَاء‏}‏ مفعول له للفعل الثاني ولك أن تجعله مفعولاً له للفعلين أو مصدر من المبني للمفعول حذف ناصبه أي يجزون مما ذكر من البكاء الكثير أو منه ومن الضحك القليل جزاء بما استمروا عليه من المعاصي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن رَّجَعَكَ الله‏}‏ أي من سفرك، والفاء لتفريع الأمر الآتي على ما بين من أمرهم و‏{‏رَجْعُ‏}‏ هنا متعد بمعنى رد ومصدره الرجع وقد يكون لازماً ومصدره الرجوع، وأوثر استعمال المتعدي وإن كان استعمال اللازم كثيراً إشارة إلى أن ذلك السفر لما فيه من الخطر يحتاج الرجوع منه لتأييد الهي ولذا أوثرت كلمة ‏{‏ءانٍ‏}‏ على إذا أي فإن ردك الله سبحانه ‏{‏إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ‏}‏ أي إلى المنافقين من المتخلفين بناء على أن منهم من لم يكن منافقاً أو إلى من بقي من المنافقين المتخلفين بأن ذهب بعضهم بالموت أو بالغيبة عن البلد أو بأن لم يستأذنك البعض، وقيل‏:‏ المراد بتلك الطائفة من بقي من المنافقين على نفاقه ولم يتب وليس بذاك‏.‏

أخرج ابن المنذر‏.‏ وغيره عن قتادة أنه قال في الآية‏:‏ ذكر لنا أنهم كانوا اثنى عشر رجلاً من المنافقين وفيهم قيل ما قيل‏.‏ ‏{‏فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ‏}‏ معك إلى غزوة أخرى بعد غزوتك هذه التي ردك الله منها بتأييده ‏{‏فَقُلْ‏}‏ لهم إهانة لهم على أتم وجه ‏{‏لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا‏}‏ ما دمت ودمت ‏{‏وَلَن تقاتلوا مَعِىَ عَدُوّا‏}‏ من الأعداء، وهو أخبار في معنى النهي للمبالغة‏.‏

وذكر القتال كما قال بعض المحققين لأنه المقصود من الخروج فلو اقتصر على احدهما لكفي إسقاطاً لهم عن مقام الصحبة ومقام الجهاد أو عن ديونا الغزاة وديوان المجاهدين وإظهاراً لكراهة صحبتهم وعدم من الجند أو ذكر الثاني للتأكيد لأنه أصرح في المراد والأول لمطابقته للسؤال، ونظير ذلك‏:‏

أقول له ارحل لا تقين عندنا *** فإن الثاني أدل على الكراهة ‏{‏إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود‏}‏ عن الخروج معي وفرحتم به ‏{‏أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ أي من الخروج فنصب أفعل المضاف على المصدرية، وقيل‏:‏ على الظرفية الزمانية واستبعده أبو حيان، والظاهر أن هذا الاختلاف للاختلاف في ‏{‏مَرَّةٍ‏}‏ ونقل عن أبي البقاء أنها في الأصل مصدر مر يمر ثم استعملت ظرفاً، واختار القاضي البيضاوي بيض الله غرة أحواله النصب على المصدرية وأشار إلى تأنيث الموصوف حيث قال‏:‏ وأول مرة هي الخرجة إلى عزوة تبوك وذكر أفعل لأن التذكير هو الأكثر في مثل ذلك‏.‏ وفي الكشاف أن ‏{‏مَرَّةٍ‏}‏ نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل، وذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات لأن أكثر اللغتين هند أكبر النساء وهي أكبرهن، وهي كبرى مرأة لا تكاد تعثر عليه ولكن هي أكبر امرأة وأول مرة وآخر مرة، وعلل في الكشف عدم العثور على نحو هي كبرى امرأة بأن أفعل فيه مضاف إلى غير المفضل عليه بل إلى العدد المتلبس هو به بياناً له فكأنه قيل‏:‏ هي امرأة أكبر من كل واحدة واحدة من النساء، وفي مثله لا يختلف أفعل التفضيل، فالتحقيق أنه لا يشبه ما فيه اللام وإنما المطابقة بين موصوفة وما أضيف إليه ولا مدخل لطباقه في اللفظ والمعنى فتدبر، والجملة في موضع التعليل لما سلف فهي مستأنفة استئنافاً بيانياً أي لأنكم رضيتم ‏{‏فاقعدوا مَعَ الخالفين‏}‏ أي المتخلفين لعدم لياقتهم كالنساء والصبيان والرجال العاجزين، وجمع المذكر للتغليب، واقتصر ابن عباس على الأخير، وتفسير الخالف بالمتخلف هو المأثور عن أكثر المفسرين السلف، وقيل‏:‏ إنه من خلف بمعنى فسد‏.‏

ومنه خلوف فم الصائم لتغير رائحته، والظرف متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالاً من ضمير الجمع، والفاء لتفريع الأمر بالقعود بطريق العقوبة على ما صدر منهم من الرضا بالقعود أي إذا رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا من بعد‏.‏

وقرأ عكرمة ‏{‏الخافين‏}‏ بوزن حذرين ولعله صفة مشبهة مثله، وقيل‏:‏ هو مقصور من الخالفين إذ لم يثبت استعماله كذلك على أنه صفة مشبهة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم فِيهِ أَبَدًا‏}‏ إشارة إلى إهانتهم بعد الموت‏.‏

أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ ‏"‏ لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنما خيرني الله فقال‏:‏ ‏{‏استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 08‏]‏ وسأزيده على السبعين قال‏:‏ إنه منافق قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم‏}‏ الآية ‏"‏‏.‏ وفي رواية أخرى له عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أنه لما مات عبد الله بن أبي ابن سلول دعى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فلما قام وثبت إليه فقلت‏:‏ يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا أعدد عليه قوله فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏ أخر عني يا عمر ‏"‏ فلما أكثرت عليه قال‏:‏ ‏"‏ أخر عني لو أعلم لو زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها ‏"‏ قال فصلي عليه عليه الصلاة والسلام ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة ‏{‏وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ فاسقون‏}‏ فعجبت من جراءتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهر هذين الخبرين أنه لم ينزل بين ‏{‏استغفر لَهُمْ أَوَلاَ *تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 80‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم‏}‏ شيء ينفع عمر رضي الله تعالى عنه وإلا لذكر، والظاهر أن مراده بالنهي في الخبر الأول ما فهمه من الآية الأولى لا ما يفهم كما قيل من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏ لعدم مطابقة الجواب حينئذ كما لا يخفى، وأخرج أبو يعلى‏.‏ وغيره عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلي على ابن أبي فأخذ جبريل عليه السلام بثوبه فقال‏:‏ دولا تصل‏}‏ الآية، وأكثر الروايات أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه وأن عمر رضي الله تعالى عنه أحب عدم الصلاة عليه وعد ذلك أحد موافقاته للوحي وإنما لم ينه صلى الله عليه وسلم عن التكفين بقميصه ونهى عن الصلاة عليه لأن الضنة بالقميص كانت مظنة الإخلال بالكرم على أنه كان مكافأة لقميصه الذي ألبسه العباس رضي الله تعالى عنه حين أسر ببدر فإنه جيء به رضي الله تعالى عنه ولا ثوب عليه وكان طويلاً جسيماً فلم يكن ثوب بقدر قامته غير ثوب ابن أبي فكساه إياه، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أنهم ذكروا القميص بعد نزول الآية فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «وما يغنى عنه قميصي والله إني لأرجو أن يسلم به أكثر من ألف من بني الخزرج» وقد حقق الله تعالى رجاء نبيه كما في بعض الآثار، والأخبار فيما كان منه عليه الصلاة والسلام مع ابن أبي من الصلاة عليه وغيرها لا تخلو عن التعارض، وقد جمع بينهما حسبما أمكن علماء الحديث، وفي لباب التأويل نبذة من ذلك فليراجع‏.‏

والمراد من الصلاة المنهى عنها صلاة الميت المعروفة وهي متضمنة للدعاء والاستغفار والاستشفاع له قيل‏:‏ والمنع عنها لمنعه عليه الصلاة والسلام من الدعاء للمنافقين المفهوم من الآية السابقة أو من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏‏}‏ الآية، وأكثر الروايات أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه وأن عمر رضي الله تعالى عنه أحب عدم الصلاة عليه وعد ذلك أحد موافقاته للوحي وإنما لم ينه صلى الله عليه وسلم عن التكفين بقميصه ونهى عن الصلاة عليه لأن الضنة بالقميص كانت مظنة الإخلال بالكرم على أنه كان مكافأة لقميصه الذي ألبسه العباس رضي الله تعالى عنه حين أسر ببدر فإنه جيء به رضي الله تعالى عنه ولا ثوب عليه وكان طويلاً جسيماً فلم يكن ثوب بقدر قامته غير ثوب ابن أبي فكساه إياه، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أنهم ذكروا القميص بعد نزول الآية فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «وما يغنى عنه قميصي والله إني لأرجو أن يسلم به أكثر من ألف من بني الخزرج» وقد حقق الله تعالى رجاء نبيه كما في بعض الآثار، والأخبار فيما كان منه عليه الصلاة والسلام مع ابن أبي من الصلاة عليه وغيرها لا تخلو عن التعارض، وقد جمع بينهما حسبما أمكن علماء الحديث، وفي لباب التأويل نبذة من ذلك فليراجع‏.‏

والمراد من الصلاة المنهى عنها صلاة الميت المعروفة وهي متضمنة للدعاء والاستغفار والاستشفاع له قيل‏:‏ والمنع عنها لمنعه عليه الصلاة والسلام من الدعاء للمنافقين المفهوم من الآية السابقة أو من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِىّ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏ الخ، وقيل‏:‏ هي هنا بمعنى الدعاء، وليس بذاك، و‏{‏أَبَدًا‏}‏ ظرف متعلق بالنهي، وقيل‏:‏ متعلق بمات، والموت الأبدي كناية عن الموت على الكفر لأن المسلم يبعث ويحيا حياة طيبة، والكافر وإن بعث لكنه للتعذيب فكأنه لم يحي، وزعم بعضهم أنه لو تعلق بالنهي لزم أن لا تجوز الصلاة على من تاب منهم ومات على الإيمان مع أنه لا حاجة للنهي عن الصلاة عليهم إلى قيد التأبيد، ولا يخفى أنه أخطأ ولم يشعر بأن دمنهم‏}‏ حال من الضمير في مات أي مات حال كونه منهم أي متصفاً بصفتهم وهي النفاق كقولهم‏:‏ أنت مني يعني على طريقتي وصفتي كما صرحوا به على أنه لو جعل الجار والمجرور صفة لأحد لا يكاد يتوهم ما ذكر وكيف يتوهم مع قوله تعالى الآتي ‏{‏منهم‏}‏ حال من الضمير في مات أي مات حال كونه منهم أي متصفاً بصفتهم وهي النفاق كقولهم‏:‏ أنت مني يعني على طريقتي وصفتي كما صرحوا به على أنه لو جعل الجار والمجرور صفة لأحد لا يكاد يتوهم ما ذكر وكيف يتوهم مع قوله تعالى الآتي ‏{‏أَنَّهُمْ كَفَرُواْ‏}‏ الخ، وقوله‏:‏ مع أنه لا حاجة إلى النهي الخ لظهور ما فيه لا حاجة إلى ذكره، و‏{‏مَّاتَ‏}‏ ماض باعتبار سبب النزول وزمان انلهي ولا ينافي عمومه وشموله لمن سيموت، وقيل‏:‏ إنه بمعنى المستقبل وعبر به لتحققه؛ والجملة في موضع الصفة لأحد ‏{‏وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ‏}‏ أي لا تقف عليه ولا تتول دفنه من قولهم‏:‏ قام فلان بأمر فلان إذا كفاه إياه وناب عنه فيه، ويفهم من كلام بعضهم أن ‏{‏على‏}‏ بمعنى عند، والمراد لا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة، والقبر في المشهور مدفن الميت ويكون بمعنى الدفن وجوزوا إرادته هنا أيضاً‏.‏

وفي فتاوي الجلال السيوطي هل يفسر القيام هنا بزيارة القبور وهل يستدل بذلك على أن الحكمة في زيارته صلى الله عليه وسلم قبر أمه أنه لاحيائها لتؤمن به بدليل أن تاريخ الزيارة كان بعد النهي‏؟‏

الجواب المراد بالقيام على القبر الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعة، ويحتمل أن يعم الزيارة أيضاً أخذاً من الإطلاق وتاريخ الزيارة كان قبل النهي لا بعده فإن الذي صح في الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم زارها عام الحديبية والآية نازلة بعد غزوة تبوك، قم الضمير في ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ خاص بالمنافقين وإن كان بقية المشركين يلحقون بهم قياساً، وقد صح في حديث الزيارة أنه استأذن ربه في ذلك فأذن له وهذا الاذن عندي يستدل به على أنها من الموحدين لا من المشركين كما هو اختياري، ووجه الاستدلال به أنه نهاه عن القيام على قبور الكفار وأذن له في القيام على قبر أمه فدل على أنها ليست منهم وإلا لما كان يأذن له فيه، واحتمال التخصيص خلاف الظاهر ويحتاج إلى دليل صريح، ولعله عليه الصلاة والسلام كان عنده وقفة في صحة توحيد من كان في الجاهلية حتى أوحى إليه صلى الله عليه وسلم بصحة ذلك، فلا يرد أن استئذانه يدل على خلاف ذلك وإلا لزارها من غير استئذان اه وفي كون المراد بالقيام على القبر الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعة خفاء إذ المتبادر من القيام على القبر ما هو أعم من ذلك نعم كان الوقوف بعد الدفن قدر تحر جزور مندوباً ولعله لشيوع ذلك إذ ذاك أخذ في مفهوم القيام على القبر ما أخذ‏.‏

وفي جواز زيارة قبور الكفار خلاف وكثير من القائلين بعدم الجواز حمل القيام على ما يعم الزيارة ومن أجاز استدل بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة» فإنه عليه الصلاة والسلام علل الزيارة بتذكير الآخرة ولا فرق في ذلك بين زيارة قبور المسلمين وقبور غيرهم، وتمام البحث في موضعه والاحتياط عندي عدم زيارة قبور الكفار ‏{‏إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ جملة مستأنفة سيقت لتعليل النهي على معنى أن الصلاة على الميت والاحتفال به إنما يكون لحرمته وهم بمعزل عن ذلك لأنهم استمروا على الكفر بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مدة حياتهم ‏{‏وَمَاتُواْ وَهُمْ فاسقون‏}‏ أي متمردون في الكفر خارجون عن حدوده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذّبَهُمْ بِهَا فِى الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون‏}‏ تأكيد لما تقدم من نظيره والأمر حقيق بذلك لعموم البلوى بمحبة ما ذكر والاعجاب به، وقال الفارسي‏:‏ إن ما تقدم في قوم وهذا في آخرين فلا تأكيد، وجيء بالواو هنا لمناسبة عطف نهى على نهي قبله أعنى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُصَلّ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏ الخ، وبالفاء هناك لمناسبة التعقيب لقوله تعالى‏:‏ قبل ‏{‏وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارهون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 54‏]‏ فإن حاصله لا ينفقون إلا وهم كارهون للانفاق فهم معجبون بكثرة الأموال والأولاد فنهى عن الإعجاب المتعقب له‏.‏

وقيل‏:‏ هنا ‏{‏وأولادهم‏}‏ دون لا لأنه نهى عن الإعجاب بهما مجتمعين وهناك بزيادة لا لأنه نهى عن كل واحد واحد فدل مجموع الآيتين على النهي عن الاعجاب بهما مجتمعين ومنفردين وهنا ‏{‏أَن يُعَذّبَهُمْ‏}‏ وهناك ‏{‏لِيُعَذّبَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 55‏]‏ للإشارة إلى أن إرادة شيء لشيء راجعة إلى إرادة ذلك الشيء بناء على أن متعلق الإرادة هناك الإعطاء واللام للتعليل أي إنما يريد إعطاءهم للتعذيب، وأما إذا قلنا‏:‏ إن اللام فيما تقدم زائدة فالتغاير يحتمل أن يكون لأن التأكيد هناك لتقدم ما يصلح سبباً للتعذيب بالأموال أوقع منه هنا لعدم تقدم ذلك وجاء هناك ‏{‏فِى الحياة الدنيا‏}‏ وهنا ‏{‏فِى الدنيا‏}‏ تنبيهاً على أن حياتهم كلا حياة فيها ويشير ذلك هنا إلى أنهم بمنزلة الأموات‏.‏

وبين ابن الخازن سر تغاير النظمين الكريمين بما لا يخفى ما فيه، وتقديم الأموال على الأولاد مع أنهم أعز منها لعموم مساس الحاحة إليها دون الأولاد، وقيل‏:‏ لأنها أقدم في الوجود منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ‏}‏ من القرآن والمراد بها على ما قيل‏:‏ سورة معينة وهي براءة، وقيل‏:‏ المراد كل سورة ذكر فيها الإيمان والجهاد وهو أولى وأفيد لأن استئذانهم عند نزول آيات براءة علم مما مر، و‏{‏إِذَا‏}‏ تفيد التكرار بقرينة المقام وإن لم تفده بالوضع كما نص عليه بعض المحققين، وجوز أن يراد بالسورة بعضها مجازاً من باب إطلاق الجزء على الكل، ويوهم كلام الكشاف إن إطلاق السورة على بعضها بطريق الاشتراك كإطلاق القرآن على بعضه وليس بذاك، والتنوين للتفخيم أي سورة جليلة الشأن ‏{‏وَإِذَا أُنزِلَتْ‏}‏ أي بأن آمنوا ‏{‏فَانٍ‏}‏ مصدرية حذف عنها الجار وجوز أن تكون مفسرة لتقدم الإنزال وفيه معنى القول دون حروفه، والخطاب للمنافقين، والمراد أخلصوا الإيمان ‏{‏بالله وجاهدوا مَعَ رَسُولِهِ‏}‏ لإعزاز دينه وإعلاء كلمته، وأما التعميم أو إرادة المؤمنين بمعنى دوموا على الإيمان بالله الخ كما ذهب إليه الطبرسي وغيره فلا يناسب المقام ويحتاج فيه ارتباط الشرط والجزاء إلى تكلف ما لا حاجة إليه كاعتبار ما هو من حال المؤمنين الخلص في النظم الجليل ‏{‏استأذنك‏}‏ أي طلب الاذن منك وفيه التفات ‏{‏أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ‏}‏ أي أصحاب الفضل والسعة من المنافقين وهم من له قدرة مالية ويعلم من ذلك البدنية بالقياس وخصوا بالذكر لأنهم الملومون ‏{‏وَقَالُواْ ذَرْنَا‏}‏ أي دعنا ‏{‏نَكُنْ مَّعَ القاعدين‏}‏ أي الذين لم يجاهدوا لعذر من الرجال والنساء ففيه تغليب، والعطف على استأذنك للتفسير مغن عن ذكر ما استأذنوا فيه وهو القعود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف‏}‏ أي النساء كما روي عن ابن عباس‏.‏ وقتادة وهو جمع خالفة وأطلق على المرأة لتخلفها عن أعمال الرجال كالجهاد وغيره، والمراد ذمهم والحاقهم بالنساء في التخلف عن اجلهاد، ويطلق الخالفة على من لا خير فيه، والتار فيه للنقل للاسمية، وحمل بعضهم الآية على ذلك فالمقصود حينئذ من لا فائدة فيه للجهاد وجمعه على فواعل على الأول ظاهر وأما على الثاني فلتأنيث لفظه لأن فاعلا لا يجمع على فواعل في العقلاء الذكور إلا شذوذاً ‏{‏وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ‏}‏ بسبب ذلك ‏{‏لاَّ يَفْقَهُونَ‏}‏ ما ينفعهم وما يضرهم في الدارين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏لكن الرسول والذين ءامَنُواْ مَعَهُ جاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ‏}‏ استدراك لما فهم من الكلام، والمعنى إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا فلا ضير لأنه قد نهض على أتم وجه من هو خير منهم فهو على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 89‏]‏ وفي الآية تعريض بأن القوم ليسوا من الإيمان بالله تعالى في شيء وإن لم يعرضوا عنه صريحاً اعراضهم عن اجلهاد باستئذانهم في القعود ‏{‏وَأُوْلئِكَ‏}‏ أي المنعوتون بالنعوت الجليلة ‏{‏لَهُمْ‏}‏ بواسطة ذلك ‏{‏الخَيْرَاتِ‏}‏ أي المنافع التي تسكن النفس إليها وترتاح لها، وظاهر اللفظ عمومها هنا لمنافع الدارين كالنصر والغنيمة في الدنيا والجنة ونعيمها في الأخرى، وقيل‏.‏ المراد بها الحور لقولهتعالى‏:‏ ‏{‏فِيهِنَّ خيرات حِسَانٌ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 70‏]‏ فإنها فيه بمعنى الحور فتحمل عليه هنا أيضاً‏.‏ ونص المبرد على أن الخيرات تطلق على الجواري الفاضلات وهي جمع خيرة بسكون الياء مخفف خيرة المشددة تأنيث خير وهو الفاضل من كل شيء المستحسن منه ‏{‏وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏ أي الفائزون بالمطالب دون من حاز بعضاً يفنى عما قليل، وكرر اسم الإشارة تنويهاً بشأنهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏أَعَدَّ الله لَهُمْ‏}‏ استئناف لبيان كونهم مفلحين، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون بياناً لما لهم من المنافع الأخروية ويخص ما قبل بمنافع الدنيا بقرينة المقابلة، والاعداد التهيئة أي هيأ لهم ‏{‏جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا‏}‏ حال مقدرة من الضمير في ‏{‏لَهُمْ‏}‏ والعامل ‏{‏أَعَدَّ‏}‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما فهم من الكلام من نيل الكرامة العظمى ‏{‏الفوز‏}‏ أي الظفر ‏{‏العظيم‏}‏ الذي لا فوز وراءه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَاء المعذرون مِنَ الاعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ‏}‏ شروع في بيان أحوال منافقي الاعراب إثر بيان أحوال منافقي أهل المدينة‏.‏ والمُعذرون من عذر في الأمر إذا قصر فيه وتوانى ولم يجد، وحقيقته أن يوهم أن له عذراً فيما يفعل ولا عذر له، ويحتمل أن يكون من اعتذر والأصل المعتذون فادغمت التاء في الذال بعد نقل حركتها إلى العين، ويجوز كسرها لالتقاء الساكنين وضمها إتباعاً للميم لكن لم يقرأ بهما، وقرأ يعقوب ‏{‏المعذرون‏}‏ بالتخفيف وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فهو من اعذر إذا كان له عذر‏.‏ وعن مسلمة أنه قرأ ‏{‏المعذرون‏}‏ بتشديد العين والذال من تعذر بمعنى اعتذر‏.‏

وتعقب ذلك أبو حيان فقال‏:‏ هذه القراءة إما غلط من القارىء أو عليه لأن التاء لا يجوز إدغامها في العين لتضادهما، وأما تنزيل التضاد منزلة التناسب فلم يقله أحد من النحاة ولا القراء فالاستغال بمثله عيب، ثم إن هؤلاء الجائين كاذبون على أول احتمالي القراءة الأولى، ويحتمل أن يكونوا كاذبين وإن يكونوا صادقين على الثاني منهما وكذا على القراءة الأخيرة، وصادقون على القراءة الثانية‏.‏ واختلفوا في المراد بهم فعن الضحاك أنهم رهط عامر بن الطفيل جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا نبي الله إنا إن غزونا معك أغارت طي على أهالينا ومواشينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد أنبأني الله من أخباركم وسيغني الله سبحانه عنكم‏.‏

وقيل‏:‏ هم أسد‏.‏ وغطفان استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن ابن إسحاق أنه قال‏:‏ ذكر لي أنهم نفر من بني غفار‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أهل العذر ولم يبين من هم؛ ومما ذكرنا يعلم وقوع الاختلاف في أن هؤلاء الجائين هل كانوا صادقين في الاعتذار أم لا، وعلى القول بصدقهم يكون المراد بالموصول في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ غيرهم وهم أناس من الاعراب أيضاً منافقون والأولون لا نفاق فيهم، وعلى القول بكذبهم يكون المراد به الأولين، والعدول عن الاضمار إلى الإظهار إظهار لذمهم بعنوان الصلة، والكذب على الأول بإدعاء الإيمان وعلى الثاني بالاعتذار، ولعل القعود مختلف أيضاً‏.‏ وقرأ أبي ‏{‏كَذَّبُواْ‏}‏ بالتشديد ‏{‏سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ‏}‏ أي من الاعراب مطلقاً وهم منافقوهم أو من المعتذرين، ووجه التبعيض أن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره أي سيصيب المعتذرين لكفرهم ‏{‏عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ وهو عذاب النار في الآخرة ولا ينافي استحقاق من تخلف لكسل، ذلك عندنا لعدم قولنا بالمفهوم ومن قال به فسر العذاب الأليم بمجموع القتل والنار والأول منتف في المؤمن المتخلف للكسل فينتفي المجموع، وقيل‏:‏ المراد بالموصول المصرون على الكفر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏لَّيْسَ عَلَى الضعفاء‏}‏ كالشيوخ ومن فيه نحافة خلقية لا يقوى على الخروج معها وهو جمع ضعيف ويقال‏:‏ ضعوف وضعفان وجاء في الجمع ضعاف وضعفة وضعفي وضعافي ‏{‏وَلاَ على المرضى‏}‏ جمع مريض ويجمع أيضاً على مراض ومراضي وهو من عراه سقم واضطراب طبيعة سواء كان مما يزول بسرعة ككثير من الأمراض أولا كالزمانة وعدوا منه ما لا يزول كالعمى والعرج الخلقيين فالأعمى والأعرج داخلان في المرضى وان أبيت فلا يبعد دخولهما في الضعفاء، ويدل لدخول الأعمى في أحد المتعاطفين ما أخرج ابن أبي حاتم‏.‏ والدارقطني في الافراد عن زيد بن ثابت قال‏:‏ كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت براءة فإني لواضع القلم على أذني إذ أمرنا بالقتال فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه إذ جاءه أعمى فقال‏:‏ كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى‏؟‏ فنزلت ‏{‏لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى‏}‏‏.‏

‏{‏وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ‏}‏ أي الفقراء العاجزين عن أهبة السفر والجهاد قيل هم مزينة‏.‏ وجهينة‏.‏ وبنو عذرة ‏{‏حَرَجٌ‏}‏ أي ذنب في التخلف وأصله الضيق وقد تقدم الكلام فيه ‏{‏إِذَا نَصَحُواْ الله وَرَسُولُهُ‏}‏ بالإيمان والطاعة ظاهراً وباطناً كما يفعل الموالي الناصح فالنصح مستعار لذلك، وقد يراد بنصحهم المذكور بذل جهدهم لنفع الإسلام والمسلمين بأن يتعهدوا أمورهم وأهلهم وإيصال خبرهم إليهم ولا يكونوا كالمنافقين الذين يشيعون الأراجيف إذا تخلفوا، وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال‏:‏ نصحته ونصحت له، وفي النهاية النصيحة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له وليس يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة واحدة يجمعه غيرها، والعامل في الظرف على ما قال أبو البقاء معنى الكلام أي لا يخرجون حينئذ‏.‏

‏{‏مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ‏}‏ أي ما عليهم سبيل فالإحسان النصح لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ ووضع الظاهر موضع ضميرهم اعتناء بشأنهم ووصفاً لهم بهذا العنوان الجليل، وزيدت ‏{‏مِنْ‏}‏ للتأكيد، والجملة استئناف مقرر لمضمون ما سبق على أبلغ وجه وألطف سبك وهو من بليغ الكلام لأن معناه لا سبيل لعاتب عليهم أي لا يمر بهم العاتب ولا يجوز في أرضهم فما أبعد العتاب عنهم وهو جار مجرى المثل، ويحتمل أن يكون تعليلاً لنفي الحرج عنهم و‏{‏المحسنين‏}‏ على عمومه أي ليس عليهم حرج لأنه ما على جنس المحسنين سبيل وهم من جملتهم، قال ابن الفرس‏:‏ ويستدل بالآية على أن قاتل البهيمة الصائلة لا يضمنها ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ تذييل مؤيد لمضمون ما ذكرو فيه إشارة إلى أن كل أحد عاجز محتاج للمغفرة والرحمة إذ الإنسان لا يخلو من تفريط ما فلا يقال‏:‏ إنه نفى عنهم الإثم أولا فما الاحتياج إلى المغفرة المقتضية للذنب فإن أريد ما تقدم من ذنوبهم دخلوا بذلك الاعتبار في المسيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ‏}‏ عطف على ‏{‏المحسنين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏ كما يؤذن به قوله تعالى الآتي إن شاء الله تعالى ‏{‏إِنَّمَا السبيل‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 93‏]‏ الخ، وهو من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنهم وجعلهم كانهم لتميزهم جنس آخر‏.‏ وقيل‏:‏ عطف على ‏{‏الضعفاء‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏ وهم كما قال ابن إسحق وغيره البكاءون وكانوا سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف‏:‏ سالم بن عمير‏.‏ وعلية بن زيد أخو بني حارث‏.‏ وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار‏.‏ وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة‏.‏ وعبد الله بن معقل المزنى‏.‏ وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف‏.‏ وعرباض بن سارية الفزاري أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحملوه وكانوا أهل حاجة فقال لهم عليه الصلاة والسلام ما قصه الله تعالى بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ‏}‏ فتولوا وهم يبكون كما أخبر سبحانه، والظاهر أنه لم يخرج منهم أحد للغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن قال ابن إسحاق‏:‏ بلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضرى لقي أبا ليلى‏.‏ وابن معقل وهم يبكيان فقال‏:‏ ما يبكيكما‏؟‏ قالا‏:‏ جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه فأعطاهما ناضحاً له فارتحلا وزودهما شيئاً من تمر فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات أن الباقين أعينوا على الخروج فخرجوا‏.‏ وعن مجاهد أنهم بنو مقرن‏:‏ معقل‏.‏ وسويد‏.‏ والنعمان، وقيل‏:‏ هم أبو موسى الأشعري وأصحابه من أهل اليمن وقيل وقيل‏:‏ وظاهر الآية يقتضي أنهم طلبوا ما يركبون من الدواب وهو المروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن علي بن صالح قال‏:‏ حدثني مشيخة من جهينة قالوا‏:‏ أدركنا الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحملان فقالوا‏:‏ ما سألناه إلا الحملان على النعال، ومثل هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم‏.‏ وأبو الشيخ عن إبراهيم بن أدهم عمن حدثه إنه قال‏:‏ ما سألوه الدواب ما سألوه إلا النعال، وجاء في بعض الروايات إنهم قالوا‏:‏ احملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزو معك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، ومن مال إلى الظاهر المؤيد بما روي عن الحبر قال‏:‏ تجوز بالخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة عن ذي الخف والحافر فكأنهم قالوا‏:‏ احملنا على ما يتيسر أو المراد احملنا ولو على نعالنا وأخفافنا مبالغة في القناعة ومحبة للذهاب معه عليه الصلاة والسلام‏.‏

وأنت تعلم أن ظاهر الخبرين السابقين يبعد ذلك على أنه في نفسه خلاف الظاهر نعم الأخبار المخالفة لظاهر الآية لا يخفى ما فيها على من له اطلاع على مصطلح الحديث ومغايرة هذا الصنف بناءاً على ما يقتضيه الظاهر من أنهم واجدون لما عدا المركب للذين لا يجدون ما ينفقون إذا كان المراد بهم الفقراء الفاقدين للزاد والمركب وغيره ظاهرة وبينهما عموم وخصوص إذا أريد بمن لا يجد النفقة من عدم شيئاً لا يطيق السفر لفقده وإلى الأول ذهب الإملم واختاره كثير من المحققين، واختلف في جواب ‏{‏إِذَا‏}‏ فاختار بعض المحققين أنه ‏{‏قُلْتَ‏}‏ الخ فيكون قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏تَوَلَّوْاْ‏}‏ الخ مستأنفاً استئنافاً بيانياً، وقيل‏:‏ هو الجواب و‏{‏قُلْتَ‏}‏ مستأنف أو على حذفل حرف العطف أي وقلت أو فقلت وهو معطوف على ‏{‏أَتَوْكَ‏}‏ أو في موضع الحال من الكاف في ‏{‏أَتَوْكَ‏}‏ وقد مضمرة كما في

‏{‏جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 90‏]‏ وزمان الاتيان يعتبر واسعاً كيومه وشهره فيكون مع التولي في زمان واحد ويكفي تسببه له وإن اختلف زمانهما كما ذكره الرضى في قولك‏:‏ إذا جئتني اليوم أكرمتك غداً أي كان مجيئك سبباً لإكرامك غداً؛ وفي إيثار ‏{‏لا أَجِدُ‏}‏ على ليس عندي من تلطيف الكلام وتطييب قلوب السائلين ما لا يخفى كأنه عليه الصلاة والسلام يطلب ما يسألونه على الاستمرار فلا يجده وذلك هو اللائق بمن هو بالمؤمنين رؤوف رحيم صلى الله عليه وسلم وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏تَوَلَّوْاْ‏}‏ والفيض انصباب عن امتلاء وهو هنا مجاز عن الامتلاء بعلاقة السببية، والدمع الماء المخصوص ويجوز إبقاء الفيض على حقيقته ويكون إسناده إلى العين مجازاً كجرى النهر والدمع مصدر دمعت العين دمعاً و‏{‏مِنْ‏}‏ للأجل والسبب، وقيل‏:‏ إنها للبيان وهي مع المجرور في محل نصب على التمييز وهو محول عن الفاعل‏.‏ وتعقبه أبو حيان بأن التمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جره بمن وأيضاً لا يجيز تعريف التمييز إلا الكوفيون‏.‏ وأجيب عن الأول بأنه منقوض بنحو قوله‏:‏ عز من قائل وعن الثاني بأنه كفى إجازة الكوفيين، وذكر القطب أن أصل الكلام أعينهم يفيض دمعها ثم أعينهم تفيض دمعاً وهو أبلغ لإسناد الفعل إلى غير الفاعل وجعله تمييزاً سلوكاً لطريق التبيين بعد الإبهام ولأن العين جعلت كأنها دمع فائض ثم ‏{‏أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع‏}‏ أبلغ مما قبله بواسطة من التجريدية فإنه جعل أعينهم فائضة ثم جرد الأعين الفائضة من الدمع باعتبار الفيض‏.‏ وتعقب بأن ‏{‏مِنْ‏}‏ هنا للبيان لما قد أبهم مما قد يبين بمجرد التمييز لأن معنى تفيض العين يفيض شيء من أشياء العين كما أن معنى قولك‏:‏ طاب زيد طاب شيء من أشياء زيد والتمييز رفع إبهام ذلك الشيء فكذا من الدمع فهو في محل نصب على التمييز وحديث التجريد لا ينبغي أن يصدر ممن له معرفة بأساليب الكلام وقد مر بعض الكلام في المائدة على هذه الجملة فتذكر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَزَناً‏}‏ نصب على العلية والحزن يستند إلى العين كالفيض فلا يقال‏:‏ كيف ذاك وفاعل الفيض مغاير لفاعل الحزن ومع مغايرة الفاعل لا نصب، وقيل‏:‏ جاز ذلك نظراً إلى المعنى إذ حاصله تولوا وهم يبكون حزناً وجوز نصبه على الحال من ضمير ‏{‏تَفِيضُ‏}‏ أي حزينة وعلى المصدرية لفعل دال عليه ما قبله أي لا تحزن حزناً والجملة حال أيضاً من الضمير المشار إليه وقد يكون تعلق ذلك على احتمالات بتولوا أي تولوا للحزن أو حزنين أو يحزنون حزناً ‏{‏أَلاَّ يَجِدُواْ‏}‏ على حذف اللام وحذف الجار في مثل ذلك مطرد وهو متعلق بحزناً كيفما كان، وقيل‏:‏ لا يجوز تعلقه به إذا كان نصباً على المصدرية لأن المصدر المؤكد لا يعمل ولعل من قال بالأول يمنع ذلك ويقول‏:‏ يتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره وجوز تعلقه بتفيض وقيل‏:‏ وهذا إذا لم يكن ‏{‏حَزَناً‏}‏ علة له وإلا فلا يجوز لأنه لا يكون لفعل واحد مفعولان لأجله والإبدال خلاف الظاهر أي لئلا يجدوا ‏{‏مَا يُنْفِقُونَ‏}‏ في شراء ما يحتاجون إليه في الخروج معك إذا لم يجدوه عندك وهذا بحسب الظاهر يؤيد كون هذا الصنف مندرجاً تحت قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

إِنَّمَا السبيل‏}‏ أي بالمعاتبة والمعاقبة ‏{‏عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ‏}‏ في التخلف ‏{‏وَهُمْ أَغْنِيَاء‏}‏ واجدون للأهبة قادرون على الخروج معك ‏{‏رَضُواْ‏}‏ استئناف بياني كأنه قيل‏:‏ لم استأذنوا أو لم استحقوا ما استحقوا‏؟‏ فأجيب بأنهم رضوا ‏{‏بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف‏}‏ تقدم معناه ‏{‏وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ‏}‏ خذلهم فغفلوا عن سوء العاقبة ‏{‏فَهُمُ‏}‏ بسبب ذلك ‏{‏لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ أبداً وخامة ما رضوا به وما يستتبعه عاجلاً كما لم يعلموا نجاسة شأنه آجلا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ‏}‏ بيان لما يتصدون له عند الرجوع إليهم، والخطاب قيل للنبي صلى الله عليه وسلم، والجمع للتعظيم، والأولى أن يكون له عليه الصلاة والسلام ولأصحابه لأنهم كانوا يعتذرون للجميع أي يعتذرون إليكم في التخلف ‏{‏إِذَا رَجَعْتُمْ‏}‏ من الغزو منتهين ‏{‏إِلَيْهِمُ‏}‏ وإنما لم يقل سبحانه إلى المدينة إيذاناً بأن مدار الاعتذار هو الرجوع إليهم لا الرجوع إلى المدينة فلعل منهم من بادر إلى الاعتذار قبل الرجوع إليها ‏{‏قُلْ‏}‏ خطاب له صلى الله عليه وسلم، وخص بذلك لما أن الجواب وظيفته عليه الصلاة والسلام ‏{‏لاَ تَعْتَذِرُواْ‏}‏ أي لا تفعلوا الاعتذار أو لا تعتذروا بما عندكم من المعاذير ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ‏}‏ استئناف لبيان موجب النهي، وقوله‏:‏

قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ منْ أَخْبَاركُمْ

استئناف لبيان موجب النفي كأنه قيل‏:‏ لم نهيتمونا عن الاعتذار‏؟‏ فقيل‏:‏ لأنا لم نصدقكم في عذركم فيكون عبثاً فقيل‏:‏ لم لن تصدقونا‏؟‏ فقيل‏:‏ لأن الله تعالى قد أنبأنا بالوحي بما في ضمائركم من الشر والفساد‏.‏ و‏{‏نَبَأَ‏}‏ عند جمع متعدية إلى مفعولين الأول الضمير والثاني ‏{‏مِنْ أَخْبَارِكُمْ‏}‏ أما لأنه صفة المفعول الثاني، والتقدير جملة من أخباركم أو لأنه بمعنى بعض أخباركم، وليست ‏{‏مِنْ‏}‏ زائدة على مذهب الأخفش من زيادتها في الإيجاب‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنها متعدية لثلاثة ‏{‏وَمِنْ أخباركم‏}‏ ساد مسد مفعولين لأنه بمعنى إنكم كذا وكذا أو المفعول الثالث محذوف أي واقعاً مثلاً، وتعقب بأن السد المذكور بعيد، وحذف المفعول الثالث إذا ذكر المفعول الثاني في هذا الباب خطأ أو ضعيف، ومعنى ‏{‏نَبَّأَنَا‏}‏ على الأول عرفنا كما قيل وعلى الثاني أعلمنا، وقيل‏:‏ معناه خبرنا، و‏{‏مِنْ‏}‏ بمعنى عن وليس بشيء، وجمع ضمير المتكلم في الموضعين للمبالغة في حسم اطماع المنافقين المعتذرين رأساً ببيان عدم رواج اعتذارهم عند أحد من المؤمنين أصلاً فإن تصديق البعض لهم ربما يطمعهم في تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام أيضاً وللإيذان بافتضاحهم بين المؤمنين كافة وتعدية ‏{‏نُؤْمِنُ‏}‏ باللام مر بيانها ‏{‏وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ‏}‏ أي سيعلمه سبحانه علماً يتعلق به الجزاء فالرؤية علمية، والمفعول الثاني محذوف أي أتنيبون عما أنتم فيه من النفاق أم تثبتون عليه، وكأنه لمكان السين المفيدة للتنفيس استتابة وإمهال للتوبة، وتقديم مفعول الرؤية على الفاعل من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَرَسُولُهُ‏}‏ للإيذان باختلاف حال الرؤيتين وتفاوتهما وللإشعار بأن مدار الوعيد هو علمه عز وجل بأعمالهم‏.‏ ‏{‏ثُمَّ تُرَدُّونَ‏}‏ يوم القيامة ‏{‏إلى عالم الغيب والشهادة‏}‏ للجزاء بما ظهر منكم من الأعمال، ووضع الوصف موضع الضمير لتشديد الوعيد فإن علمه سبحانه بجميع أعمالهم الظاهرة والباطنة وإحاطته بأحوالهم البارزة والكامنة مما يوجب الزجر العظيم، وتقديم الغيب على الشهادة قيل‏:‏ لتحقيق أن نسبة علمه تعالى المحيط إلى سائر الأشياء السر والعلن واحدة على أبلغ وجه وآكده، كيف لا وعلمه تعالى بمعلوماته منزه عن أن يكون بطريق حصول الصورة بل وجود كل شيء وتحققه في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى، وفي هذا المعنى لايختلف الحال بين الأمور البارزة والكامنة انتهى‏.‏

ولا يخفى عليك أن هذا قول بكون علمه سبحانه بالأشياء حضورياً لا حصولياً‏.‏ وقد اعترضوا عليه بشمول علمه جل وعلا الممتنعات والمعدومات الممكنة والعلم الحضوري يختص بالموجودات العينية لأنه حضور المعلوم بصورته العينية عند العالم فكيف لا يختلف الحال فيه بين الأمور البارزة والكامنة مع أن الكامنة تشمل المعدومات الممكنة والممتنعة، ولا يتصور فيها التحقق في نفسها حتى يكون علماً له تعالى كذا قيل وفيه نظر، وتحقيق علم الواجب سبحانه بالأشياء من المباحث المشكلة والمسائل المعضلة التي كم تحيرت فيها أفهام وزلت من العلماء الاعلام أقدام، ولعل النبوة إن شاء الله تعالى تفضي إلى تحقيق ذلك ‏{‏فَيُنَبّئُكُمْ‏}‏ عند ردكم إليه سبحانه ووقوفكم بين يديه ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ أي بما تعملونه على الاستمرار في الدنيا من الأعمال السيئة السابقة واللاحقة على أن ‏{‏مَا‏}‏ موصولة أو بعملأبي كم المستمر على أن ‏{‏مَا‏}‏ مصدرية، والمراد من التنبئة بذلك المجازاة عليه، وإيثارها عليها لمراعاة ما سبق من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ نَبَّأَنَا الله‏}‏ الخ وللإيذان بأنهم ما كانوا عالمين في الدنيا بحقيقة أعمالهم وإنما يعلمونها يومئذ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ‏}‏ تأكيداً لمعاذيرهم الكاذبة وترويجاً لها‏.‏

والسين للتأكيد على ما مر، والمحلوف عليه ما يفهم من الكلام وهو ما اعتذروا به الأكاذيب، والجملة بدل من ‏{‏يعتذرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 94‏]‏ أو بيان لهه ‏{‏إِذَا انقلبتم‏}‏ من سفركم ‏{‏إِلَيْهِمُ‏}‏ والانقلاب هو الرجوع والانصراف مع زيادة معنى الوصول والاستيلاء، وفائدة تقييد حلفهم كما قال بعض المحققين به الإيذان بأنه ليس لرفع ما خاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم به من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَعْتَذِرُواْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 94‏]‏ الخ بل هو أمر مبتدأ ‏{‏لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ‏}‏ فلا تعاتبوهم وتصفحوا عما فرط منهم صفح رضا كما يفصح عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 96‏]‏ ‏{‏فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ‏}‏ لكن لا اعراض رضا كما طلبوا بل إعراض اجتناب ومقت كما ينبىء عنه التعليل بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ رِجْسٌ‏}‏ فانه صريح في أن المراد بالاعراض إما الاجتناب عنهم لما يفهم من القذارة الروحانية وإما ترك استصلاحهم بترك المعاملة المقصود منها التطهير بالحمل على التوبة وهؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير، وقيل‏:‏ إن ‏{‏لِتُعْرِضُواْ‏}‏ بتقدير للحذر عن أن تعرضوا على أن الإعراض فيه أعراض مقت أيضاً ولا يخفى أنه تكلف لا يحتاج إليه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ‏}‏ إما من تمام التعليل فإن كونهم من أهل النار من دواعي الاجتناب عنهم وموجبات ترك استصلاحهم باللوم والعتاب وإما تعليل مستقل أي وكفتهم النار عتاباً على حد عتابه السيف ووعظه الصفع فلا تتكلفوا أنتم بذلك ‏{‏جَزَاء‏}‏ نصب على أنه مفعول مطلق مؤكد لفعل مقدر من لفظه وقع حالا أي يجزون جزاء أو لمضمون ما قبله فإنه مفيد لمعنى المجازاة كأنه قيل‏:‏ مجزيون جزاء ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ أي بما يكسبونه على سبيل الاستمرار من فنون السيآت في الدنيا أو بكسبهم المستمر لذلك‏.‏

وجوز أن يكون مفعولاً له وحالاً من الخبر عند من يرى ذلك‏.‏