فصل: تفسير الآية رقم (17)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بئاياته‏}‏ استفهام انكاري معناه النفي أي لا أحد أظلم من ذلك، ونفى الأظلمية كما هو المشهور كناية عن نفس المساواة فالمراد أنه أظلم من كل ظالم وقد مر تحقيق ذلك‏.‏

والآية مرتبطة بما قبلها على أن المقصود منها تفاديه صلى الله عليه وسلم مما لوحوا به من نسبة الافتراء على الله سبحانه إليه عليه الصلاة والسلام وحاشاه وتظليم للمشركين بتكذيبهم للقرآن وكفرهم به، وزيادة ‏{‏كَذِبًا‏}‏ مع أن الافتراء لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ما لوحوا به ضمناً وحملوه عليه الصلاة والسلام عليه صريحاً مع كونه افتراء على الله سبحانه كذب في نفسه فرب افتراء يكون كذبه في الإسناد فقط كما إذا أسندت ذنب زيد إلى عمرو وهذا للمبالغة منه صلى الله عليه وسلم في التفادي مما ذكر، والفاء لترتيب الكلام على ما سبق من بيان كون القرآن بمشيئته تعالى وأمره أي وإذا كان الأمر كذلك فمن افترى عليه سبحانه بأن يخلق كلاماً فيقول‏:‏ هذا من عند الله تعالى أو يبدل بعض آياته ببعض كما تجوزون ذلك في شأني، وكذلك من كذب بآياته جل شأنه كما تفعلونه أنتم أظلم من كل ظالم، وقيل‏:‏ المقصود من الآية تظليم المشركين بافترائهم على الله تعالى في قولهم‏:‏ إنه تعالى عما يقولون ذو شريك وذو ولد وتكذيبهم بآياته سبحانه، وهي مرتبطة أما بما قلبها أيضاً على معنى أني لم أفتر على الله تعالى ولم

أكذب عليه وقد قام الدليل على ذلك وأنتم قد فعلتم ذلك حيث زعمتم أن لله تعالى شريكاً وان له ولدا وكذبتم نبيه صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عنده سبحانه وأما بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 13‏]‏ الخ على أن يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جعلناكم خلائف‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 14‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏ إلى هنا اعلاماً بأن المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنوا بسنن من قبلهم في تكذيب آيات الله تعالى والرسل عليهم الصلاة والسلام ويكون هذا عودا إلى الأول بعد الفراغ من قصة المشركين، وقيل‏:‏ وجه تعلقها بمت تقدم أنهم إنما سألوه صلى الله عليه وسلم تبديل القرآن لما فيه من ذم آلهتهم الذين افتروا في جعلها آلهة، وقيل‏:‏ إن الآية توطئة لما بعدها ولا يخفى أن الأول هو الأنسب بالمقام وأوفق بالفاء وأبعد عن التكلف وأقرب انسياقاً إلى الذهن السليم ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ أي الشأن ‏{‏لاَ يُفْلِحُ المجرمون‏}‏ أي لا ينجون من محذور ولا يفوزون بمطلوب، والمراد جنس المجرمين فيندرج فيه المفتري والمكذب اندراجاً أولياً، ولا يخفى ما في اختيار ضمير الشأن من الاعتناء بشأن ما يذكر بعده من أول الأمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ‏}‏ حكاية لجناية أخرى لهم وهي عطف على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏ الآية عطف قصة على قصة، و‏{‏مِن دُونِ‏}‏ في موضع الحال من فاعل ‏{‏يَعْبُدُونَ‏}‏ أي متجاوزين الله تعالى إما بمعنى ترك عبادته سبحانه بالكلية لأنها لا تصح ولا تقع عبادة مع الشركة أو بمعنى عدم الاكتفاء بها وجعلها قريباً لعبادة غيره سبحانه كما اختاره البعض، و‏{‏مَا‏}‏ إما موصولة أو موصوفة، والمراد بها الأصنام، ومعنى كونها لا تضر ولا تنفع أنها لا تقدر على ذلك لأنها جمادات، والمقصود من هذا الوصف نفي صحة معبوديتها لأن من شأن المعبود القدرة على ما ذكر، وقيل‏:‏ المعنى لا تضرهم إن تركوا عبادتها ولا تنفعهم إن عبدوها والمقصود أيضاً نفي صحة معبوديتها لأن من شأن المعبود أن يثبت عابده ويعاقب من لم يعبده، والفرق بين التفسيرين على ما قاله القطب اطلاق النفع والضر في الأول والتقييد بالعبادة وتركها في الثاني، وقيل‏:‏ المقصود على الأول من الموصول الأصنام بعينها وعلى الثاني فاقد أوصاف المعبودية، ويجوز أن يدخل فيه غير الأصنام من الملائكة والمسيح عليهم السلام، والظاهر أن المراد هنا الأصنام لأن العرب إنما كانوا يعبدونها وكان أهل الطائف يعبدون اللات وأهل مكة العزى ومناة وهبل وأسافا ونائلة ‏{‏وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله‏}‏ أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال‏:‏ كان النضر بن الحرث يقول‏:‏ إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى وفيه نزلت الآية‏.‏

والظاهر أن سائر المشركين كانوا يقولون هذا القول، ولعل ذلك منهم على سبيل الفرض والتقدير أي إن كان بعث كما زعمتم فهؤلاء يشفعون لنا، فلا يقال‏:‏ إن المتبادر من الشفاعة عند الله تعالى أنه في الآخرة وهو مستلزم للبعث وهم ينكرونه كما يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 38‏]‏ وكذا ما تقدم آنفاً من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏ فيلزم المنافاة بين مفاهيم الآيات، وكأنه لذلك قال الحسن عليه الرحمة‏:‏ إنهم أرادوا من هذه الشفاعة الشفاعة في الدنيا لإصلاح المعاش، وحينئذٍ لا منافاة والجمهور على الأول، ومن سبر حال القوم رآهم مترددين ولذلك اختلفت كلماتهم، ونسبة الشفاعة للأصنام قيل باعتبار السببية وذلك لأنهم كما هو المشهور وضعوها على صور رجال صالحين ذوي خطر عندهم وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادتها فإن أولئك الرجال يشفعون لهم، وقيل‏:‏ إنهم كانوا يعتقدون أن المتولي لكل إقليم روح معين من أرواح الأفلام فعينوا لذلك الروح صنماً من الأصنام واشتغلوا بعبادتها قصداً إلى عبادة الكواكب وقيل‏:‏ غير ذلك، والحق أن من الأصنام ما وضع على الوجه الأول ومنها ما وضع لكونها كالهياكل للروحانيات ‏{‏قُلْ‏}‏ تبكيتاً لهم ‏{‏أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ‏}‏ أي أتخبرونه سبحانه بما لا وجود له ولا تحقق أصلاً وهو كون الأصنام شفعاءهم عنده جل شأنه فإن ما لا يعلمه علام الغيوب المحيط علمه بالكليات والجزئيات لا يكون له تحقق بالكلية، وذكروا أن مثل ذلك لا يسمى شيئاً بناءً على أنه كما قال سيبويه ما يصح أن يعلم ويخبر عنه وهو يشمل الموجود والمعدوم كما حققه بعض أصحابنا كالمعتزلة وسموا ما لا يعلم بالمنفي كالشريك وكاجتماع الضدين، وحقق ذلك الشيخ إبراهيم الكورابي في رسالة مستقلة أتى فيها بالعجب العجاب، ويجوز أن يراد بالموصول أن له سبحانهش ريكاً والمقصود على الوجهين من ذكر إنباء الله تعالى بما لا تحقق له ولم يتعلق به علمه التهكم والهزء بهم وإلا فلا إنباء، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فِي السموات وَلاَ فِى الارض‏}‏ في موضع الحال من العائد المحذوف أي بما لا يعلمه كائناً في ذلك، والمقصود منه تأكيد النفي المدلول عليه بما قبله فإنه قد جرى في العرف أن يقال عند تأكيد النفي للشيء ليس هذا في السماء ولا في الأرض لاعتقاد العامة أن كل ما يوجد إما في السماء وإما في الأرض كما هو رأى المتكلمين في كل ما سوى الله تعالى إذ هو سبحانه المعبود المنزه عن الحلول في المكان، والآيات التي ظاهرها ذلك من المتشابه والمذاهب فيه شهيرة، وهذا إذا أريد بالسماء والأرض جهتا العلو والسفل، وقيل‏:‏ الكلام إلزامي لزعم المخاطبين الكافرين أن الأمر كذلك، وقيل‏:‏ إن معنى الآية أتخبرونه تعالى بشريك أو شفيع لا يعلم شيئاً في السموات ولا في الأرض كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السموات والارض‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 73‏]‏ وليس بشيء ‏{‏سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ أي عن إشراكهم المستلزم لتلك المقالة الباطلة أو عن شركائهم الذين يعتقدونهم شركاء، وقرىء ‏{‏أَتُنَبّئُونَ‏}‏ بالتخفيف، وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏تُشْرِكُونَ‏}‏ بتاء الخطاب على أنه من جملة القول المأمور به، وعلى الأول هو اعتراض تذييلي من جهته سبحانه وتعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ أي وما كان الناس كافة من أول الأمر إلا متفقين على الحق والتوحيد من غير اختلاف، وروي هذا عن ابن عباس‏.‏ والسدي‏.‏ ومجاهد‏.‏ والجبائي‏.‏ وأبي مسلم، ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ‏{‏وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً على هُدًى‏}‏ وذلك من عهد آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن قتل قابيل هابيل، وقييل‏:‏ إلى زمن إدريس عليه الصلاة والسلام، وقيل‏:‏ إلى زمن نوح عليه الصلاة والسلام، وكانوا عشرة قرون، وقيل‏:‏ كانوا كذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام بعد أن لم يبق على الأرض من الكافرين ديار إلى أن ظهر بينهم الكفر، وقيل‏:‏ من لدن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى أن أظهر عمرو بن لحى عبادة الأصنام وهو المروي عن عطاء، وعليه فالمراد من ‏{‏الناس‏}‏ العرب خاصة وهو الأنسب بإيراد الآية الكريمة إثر حكاية ما حكى منهم من الهنات وتنزيه ساحة الكبرياء عن ذلك‏.‏

‏{‏فاختلفوا‏}‏ بأن كفر بعضهم وثبت الآخرون على ما هم عليه فخالف كل من الفريقين الآخر، والفاء للتعقيب وهي لا تنافي امتداد زمان الاتفاق إذ المراد بيان وقوع الاختلاف عقيب انصرام مدة الاتفاق لا عقيب حدوثه ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ‏}‏ بتأخير القضاء بينهم أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة فإنه يوم الفصل والجزء ‏{‏لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏}‏ عاجلاً ‏{‏فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ بأن ينزل عليهم آيات ملجئة إلى اتباع الحق ورفع الاختلاف أو بأن يهلك المبطل ويبقى المحق، وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية والدلالة على الاستمرار، ووجه ارتباط الآية بما قبلها أنها كالتأكيد لما أشار إليه من أن التوحيد هو الدين الحق حيث أفادت أنه ملة قديمة اجتمعت عليها الأمم قاطبة وأن الشرك وفروعه جهالات ابتدعها الغواة خلافاً للجمهور وشقاً لعصا الجماعة، وقيل‏:‏ وجه ذلك أنه سبحانه بين فيما قبل فساد القوم بعبادة الأصنام وبين في هذه أن هذا المذهب ليس مذهباً للعرب من أول الأمر بل كانوا على الدين الحق الخالي عن عبادة الأصنام وإنما حدثت فيهم عبادتها بتسويل الشياطين‏.‏

قيل‏:‏ والغرض من ذلك أن العرب إذا علموا أن ما هم عليه اليوم لم يكن من قبل فيهم وإنما حدث بعد أن لم يكن لم يتعصبوا لنصرته ولم يتأذوا من تزييفه وإبطاله‏.‏ وعن الكلبي أن معنى كونهم أمة واحدة اتفاقهم على الكفر وذلك في زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وروى مثله عن الحسن إلا أنه قال‏:‏ كانوا كذلك من لدن وفاة آدم إلى زمن نوح عليهما السلام ثم آمن من آمن وبقي من بقي على الكفر‏.‏

وفائدة إيراد هذا الكلام في هذا المقام تسليته صلى الله عليه وسلم كأنه قيل‏:‏ لا تطمع في أن يصير كل من تدعوه إلى الإيمان والتوحيد مجيباً لك قابلاً لدينك فإن الناس كلهم كانوا على الكفر وإنما حدث الإيمان في بعضهم بعد ذلك فكيف تطمع في اتفاق الكل عليه‏.‏ واعترض بأنه يلزم على هذا خلو الأرض في عصر عن مؤمن بالله تعالى عارف به وقد قالوا‏:‏ إن الأرض في كل وقت لا تخلو عن ذلك‏.‏ وأجيب بأن عدم الخلو في حيز المنع فقد ورد في بعض الآثار أن الناس قبل يوم القيامة ليس فيهم من يقول الله الله، وعلى تقدير التسليم المراد بالاتفاق على الكفر اتفاق الأكثر‏.‏

والحق أن هذا القول في حد ذاته ضعيف فلا ينبغي التزام دفع ما يرد عليه، وأضعف منه بل لا يكاد يصح كون المراد أنهم كانوا أمة واحدة فاختلفوا بأن أحدث كل منهم ملة على حدة من ملل الكفر مخالفة لملة الآخر لأن الكلام ليس في ذلك الاختلاف إذ كل من الفريقين مبطل حينئذٍ فلا يتصوران يقضي بينهما بإبقاء المحق وإهلاك المبطل أو بإلجاء أحدهما إلى اتباع الحق ليرتفع الاختلاف كما لا يخفى هذا‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏الر‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 1‏]‏ إشارة إلى الذات الذي هو أول الوجود و‏{‏ل‏}‏ إشارة إلى العقل المسمى جبريل عليه السلام وهو أوسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ ويفيض إلى المنتهى، و‏{‏ر‏}‏ إشارة إلى الرحمة التي هي الذات المحمدية وهي في الحقيقة أول ووسط آخر لكن الاعتبارات مختلفة، وكأن ذلك قسم منه تعالى بالحقيقة المحمدية على أن ما تضمنته السورة أو القرآن من الآي آيات الكتاب المتقن وقيل‏:‏ المعنى ما أشير إليه بهذه الأحرف أركان كتاب الكل ذي الحكمة أو المحكم ومعظم تفاصيله ‏{‏الحكيم أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ‏}‏ أنكار لتعجبهم من سنة الله الجارية وهي الإيحاء إلى رجل، وكان ذلك لبعدهم عن مقامهم وعدم مناسبة حالهم لحاله ومنافاة ما جاء به لما اعتقدوه ‏{‏أَنْ أَنذِرِ الناس‏}‏ أي خوفهم من أن يشركوا بي شيئاً ‏{‏وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ سابقة عظيمة وقربة ليس لأحد مثلها، وقيل‏:‏ سابقة رحمة أودعها في محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏قَالَ الكافرون‏}‏ أي المحجوبون عن الله تعالى ‏{‏إِنَّ هَذَا‏}‏ أي الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏لَسِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 2‏]‏ لما رأوه خارجاً عن قدرهم واحتجبوا بالشيطنة عن الوقوف على حقيقة الحال قالوا ذلك ‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السموات والارض *فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ‏}‏ أي أوقات مقدار كل يوم منها دورة الفلك الأعظم مرة واحدة كما نص عليه الشيخ الأكبر والستة عدد تام واختاره الله تعالى لما فيه من الأسرار ‏{‏ثُمَّ استوى عَلَى العرش‏}‏ أي الملك ‏{‏يُدَبّرُ الامر‏}‏ على وفق حكمته بيد قدرته، وقد يفسر العرش بقلب الكامل فالكلام إشارة إلى خلق الإنسان الذي انطوى فيه العالم بأسره ‏{‏مَا مِن شَفِيعٍ‏}‏ يشفع لأحد بدفع ما يضره أو جلب ما ينفعه ‏{‏إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ‏}‏ بموهبة الاست، داد ثم بتوفيق الأسباب ‏{‏ذلكم‏}‏ الموصوف بهذه الصفات الجليلة ‏{‏الله رَبُّكُمُ‏}‏ الذي يريكم ويدبر أمركم فاعبدوه فخصوه بالعبادة واعرفوه بهذه الصفات ولا تعبدوا الشيطان ولا تحتجبوا عنه تعالى فتنسبوا قوله وفعله إلى الشيطان

‏{‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 3‏]‏ آياته التي خطها بيد قدرته في صحائف الآفاق والأنفس فتتفكروا فيها وتنزجروا عن الشرك به سبحانه ‏{‏إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً‏}‏ بالعود إلى عين الجمع المطلق في القيامة الصغرى أو إلى عين جمع الذات بالفناء فيه تعالى عند القيامة الكبرى كذا قيل، وقال بعض العارفين‏:‏ إن مرجع العاشقين جماله ومرجع العارفين جلاله ومرجع الموحدين كبرياؤه ومرجع الخائفين عظمته ومرجع المشتاقين وصاله ومرجع المحبين دنوه ومرجع أهل العناية ذاته، وقال الجنيد قدس سره في الآية‏:‏ إنه تعالى منه الابتداء وإليه الانتهاء وما بين ذلك مرابع فضله وتواتر نعمه ‏{‏وَعْدَ الله حَقّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ أي يبدؤه في النشأة الأولى ثم يعيده في النشأة الثانية أو يبدأ الخلق باختفائه وإظهارهم ثم يعيده بإفنائهم وظهوره ‏{‏لِيَجْزِىَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏ أي يفعل ذلك ليجزي المؤمن والكافر على حسب ما يقتضيه عمل كل، ‏{‏هُوَ الذى جَعَلَ الشمس ضِيَاء‏}‏ أي جعل شمس الروح ضياء الوجود ‏{‏والقمر‏}‏ أي قمر القلب ‏{‏نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ‏}‏ أي مقامات ‏{‏لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين‏}‏ أي سني مراتبكم وأطواركم في المسير إليه وفيه تعالى‏:‏ ‏{‏والحساب‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏ أي حساب درجاتكم ومواقع أقدامكم في كل مقام ومرتبة، ويقال‏:‏ جعل شمس الذات ضياء للأرواح العارفة وجعل قمر الصفات نوراً للقلوب العاشقة ففنيت الأرواح بصولة الذات في عين الذات وبقيت القلوب بمشاهدة الصفات في عين الصفات وهذه الشمس المشار إليها لا تغيب أصلاً عن بصائر الأرواح ومن هنا قال قائلهم‏:‏ هي الشمس إلا أن للشمس غيبة *** وهذا الذي نعنيه ليس يغيب

إِنَّ فِى اختلاف اليل‏}‏ أي غلبة ظلمة النفس على القلب ‏{‏والنهار‏}‏ أي نهار إشراق ضوء الروح عليه ‏{‏وَمَا خَلَقَ الله فِى السموات‏}‏ أي سموات الأرواح ‏{‏والارض‏}‏ أي أرض الأجساد ‏{‏لآيات لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 6‏]‏ حجب صفات النفس الأمارة ‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ‏}‏ أي يوصلهم إلى الجنات الثلاث بحسب نور إيمانهم فقوله سبحانه‏:‏

‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانهار فِي جنات النعيم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 9‏]‏ كالبيان لذلك ‏{‏دَعْوَاهُمْ‏}‏ الاستعدادي ‏{‏فِيهَا‏}‏ أي في تلك الجنات ‏{‏سبحانك اللهم‏}‏ إشارة إلى تنزيهه تعالى والتنزيه في الأولى عن الشرك في الأفعال بالبراءة عن حولهم وقوتهم وفي الثانية عن الشرك في الصفات بالانسلاخ عن صفاتهم وفي الثالثة عن الشرك في الوجود بفنائهم ‏{‏وَتَحِيَّتُهُمْ‏}‏ أي تحية بعضهم لبعض أو تحية لله تعالى ‏{‏فِيهَا سلام‏}‏ أي إفاضة أنوار التزكية وإمداد التصفية أو إشراق أنوار التجليات وإمداد التجريد وإزالة الآفات ‏{‏وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 10‏]‏ أي آخر ما يقتضيه استعدادهم قيامهم بالله تعالى في ظهور كمالاته وصفات جلاله وجماله عليهم وهو الحمد الحقيقي منه وله سبحانه ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا‏}‏ أو استغرق أوقاته في الدعاء ‏{‏فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إلى ضُرّ مَّسَّهُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 12‏]‏ هذا وصف الذين لم يدركوا حقائق العبودية في مشاهد الربوبية فإنهم إذا أظلم عليهم ليل البلاء قاموا إلى إيقاد مصباح التضرع فإذا انجلت عنهم الغياهب بسطوع أنوار فجر الفرج نسوا ما كانوا فيه ومروا كأن لم يدعوا مولاهم إلى كشف ما عناهم‏.‏ كأن الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسى *** ولم يك صعلوكاً إذا ما تمولا

ولو كانوا عارفين لم يبرحوا دارة التضرع وإظهار العبودية بين يديه تعالى في كل حين ‏{‏وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ على الفطرة التي فطر الله الناس عليها متوجهين إلى التوحيد متنورين بنور الهداية الأصلية ‏{‏فاختلفوا‏}‏ بمقتضيات النشأة واختلاف الأمزجة والأهوية والعادات والمخالطات ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ‏}‏ وهو قضاؤه سبحانه الأزلي بتقدير الآجال والأرزاق ‏{‏لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 19‏]‏ بإهلاك المبطل وإبقاء المحق، والمراد أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يبلغ كل منهم وجهته التي ولى وجهه إليها بأعماله التي يزاولها هو وإظهار ما خفي في نفسه وسبحان الحكيم العليم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُونَ‏}‏ حكاية لجناية أخرى لهم، وفي «الكشاف» تفسير المضارع بالماضي أي وقالوا وجعل ذلك إشارة إلى أن العطف ليس على ‏{‏وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏ كما يقتضيه ظاهر اللفظ وإنما هو على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏ وما بينهما اعتراض وأوثر المضارع على الماضي ليؤذن باستمرار هذه المقالة وأنها من دأبهم وعادتهم مع ما في ذلك من استحضار صورتها الشنيعة‏.‏

وجوز العطف على ‏{‏يَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏ وهو الذي اقتصر عليه بعض المحققين، وأبقى بعضهم الفعل على ظاهره وله وجه، والقائل كفار مكة ‏{‏لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ‏}‏ أرادوا آيةٍ من الآيات التي اقترحوها كآية موسى‏.‏ وعيسى عليهما السلام، ومعنى إنزالها عليه إظهار الله تعالى لها على يده صلى الله عليه وسلم، وطلبوا ذلك تعنتاً وعناداً وإلا فقد أتى صلى الله عليه وسلم بآيات ظاهرة ومعجزات باهرة تعلو على جميع الآيات وتفوق سائر المعجزات لا سيما القرآن العظيم الباقي إعجازه على وجه الدهر إلى يوم القيامة، ولعمري لو أنصفوا لاستغنوا عن كل آية غيره عليه الصلاة والسلام فإنه الآية الكبرى ومن رآه وسبر أحواله لم يكد يشك في أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏فَقُلْ‏}‏ لهم في الجواب ‏{‏إِنَّمَا الغيب للَّهِ فانتظروا إِنّى مَعَكُمْ مّنَ المنتظرين‏}‏ وهو جواب على ما قرره الطيبي على الأسلوب الحكيم فإنهم حين طلبوا ما طلبوا مع وجود الآيات المتكاثرة دل على أن سؤالهم للتعنت كما علمت آنفاً فأجيبوا بما أجيبوا ليؤذن بأن سؤالهم سؤال المقترحين يستحقون به نقمة الله تعالى وحلول عقابه، يعني أنه لا بد أن يستأصل شأفتكم لكن لا أعلم متى يكون وأنتم كذلك لأن ذلك من الغيب وهو مختص به تعالى لا يعلمه أحد غيره جل شأنه وإذا كان كذلك فانتظروا ما يوجبه اقتراحكم إني معكم من المنتظرين إياه، وقيل‏:‏ إن المراد أنه تعالى هو المختص بعلم الغيب والصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب فلا يعلمه إلا هو، واعترض عليه بأنه معين وهو عنادهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109‏]‏‏.‏ ‏(‏وأجيب بأنا لا نسلم أن عنادهم هو الصارف وقد يجاب المعاند والآية وإن دلت على بقائهم على العناد وإن جاءت لم تدل على أن العناد هو الصارف‏.‏

واختار بعض المحققين أن ما اقترحتموه وزعمتم أنه من لوازم النبوة وعلقتم إيمانكم بنزوله من الغيوب المختصة به سبحانه لا وقوف لي عليه فانتظروا نزوله إني معكم من المنتظرين لما يفعل الله تعالى بكم لاجترائكم على مثل هذه العظيمة من جحود الآيات، واقتراح غيرها، واعترض على ما قيل بأنه يأباه ترتيب الأمر بالانتظار على اختصاص الغيب به تعالى، والذي يخطر بالبال أن سؤال القوم قاتلهم الله تعالى متضمن لدعوى أن الصلاح في إنزال آية مما اقترحوا حيث لم يعتبروا ما نزل ولم يلتفتوا إليه فكأنهم قالوا‏:‏ لا صلاح في نزول ما نزل وإنما الصلاح في إنزال آية مما نقترح فلولا نزلت وفي ذلك دعوى الغيب بلا ريب فأجيبوا بأن الغيب مختص بالله فهو الذي يعلم ما به الصلاح لا أنتم ولا غيركم ثم قال سبحانه‏:‏ ‏{‏فانتظروا‏}‏ الخ على معنى وإذا كان علم الغيب مختصاً بالله تعالى وقد ادعيتم من ذلك ما ادعيتم وطعنتم فيما طعنتم فانتظروا نزول العذاب بكم إني معكم من المنتظرين إياه، ولا يرد على هذا ما أورد على غيره ولا ما عسى أن يورد أيضاً فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً‏}‏ كالصحة والسعة ‏{‏مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ‏}‏ أي خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم، وإسناد المساس إلى الضراء بعد إسناد الإذاقة إلى ضمير الجلالة من الآداب القرآنية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 80‏]‏ ونظائره وينبغي التأدب في ذلك ففي الخبر «اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك» والمراد بالناس كفار مكة على ما قيل لما روي أن الله تعالى سلط عليهم القحط سبع سنين حتى كادوا يهلكون فطلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم بالخصب ووعدوه بالإيمان فلما دعا لهم ورحمهم الله تعالى بالحياء طفقوا يطعنون في آياته تعالى ويعاندونه عليه الصلاة والسلام ويكيدونه وذلك قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِى آياتنا‏}‏ أي بالطعن فيها وعدم الاعتداد بها والاحتيال في دفعها، والظاهر أن المراد بالآيات الآيات القرآنية، وقيل‏:‏ المراد بها الآيات التكوينية كإنزال الحياء، ومكرهم فيها إضافتها إلى الأصنام والكواكب‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏الناس‏}‏ عام لجميع الكفار، ولا يجوز حمله على ما يشمل العصاة كما لا يخفى، وكانت العرب تضيف الأمطار وكذا الرياح والحر والبرد إلى الأنواء، وهو جميع نوء مصدر ناء ينوء إذا نهض بجهد ومشقة ويقال ذلك أيضاً إذا سقط فهو من الأضداد، ويطلق على النجم الذي هو أحد المنازل الثمانية والعشرين التي ذكرناها فيما سبق وهو المراد في كلامهم إلا أن الإضافة إليه باعتبار سقوطه مع الفجر وغروبه كما هو المشهور أو باعتبار طلوعه ذلك الوقت كما قال الأصمعي‏.‏

وقد عد القائل بتأثير الأنواء كافراً فقد روى الشيخان‏.‏ وأبو داود‏.‏ والنسائي عن زيد بن خالد قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ قال الله تعالى أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب وكافر بي ومؤمن بالكوكب فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب ‏"‏ ولعل كون ذلك من الكفر بالله تعالى مبني على زعم أن للكواكب تأثيراً اختيارياً ذاتياً في ذلك وإلا فاعتقاد أن التأثير عندها لا بها كما هو المشهور من مذهب الأشاعرة في سائر الأسباب ليس بكفر كما نص عليه العلامة ابن حجر، وكذا اعتقاد أن التأثير بها على معنى أن الله تعالى أودع فيها قوة مؤثرة بإذنه فمتى شاء سبحانه أثرت ومتى لم يشأ لم تؤثر كما هو مذهب السلف في الأسباب على ما قرره الشيخ إبراهيم الكورابي في مسلك السداد، ولو كان نسبة التأثير مطلقاً إلى الأنواء ونحوها من العلويات كفراً لاتسع الخرق ولزم إكفار كثير من الناس حتى أفاضلهم لقولهم بنسبة الكثير من عالم الكون والفساد إلى العلويات ويسمونها بالآباء العلوية، وقد صرح الشيخ الأكبر قدس سره بأن للكواكب السيارات وغيرها تأثيراً في هذا العالم إلا أن الوقوف على تعيين جزئياته مما لا يطلع عليه إلا أرباب الكشف والأرصاد القلبية، وليس مراده قدس سره وكذا مراد من أطلق التأثير إلا ما ذهب إليه أحد الفريقين في الأسباب وحاشا ثم حاشا أن يكون أولئك الأفاضل ممن يعتقد أن في الوجود مؤثراً غير الله تعالى بل من وقف على حقيقة كلام الحكماء الذين هم بمعزل عن الشريعة الغراء وجدهم متفقين على أن الوجود معلول له تعالى على الإطلاق، قال بهمنيار في التحصيل‏:‏ فإن سئلت الحق فلا يصح أن يكون علة الوجود إلا ما هو برىء من كل وجه من معنى ما بالقوة وهذا هو المبدأ الأول لا غير، وما نقل عن أفلاطون من قوله‏:‏ إن العالم كرة والأرض مركز والإنسان هدف والأفلاك قسي والحوادث سهام والله تعالى هو الرامي فأين المفر يشعر بذلك أيضاً ‏{‏نِعْمَ‏}‏ أنهم قالوا بالشرائط العقلية وهي المراد بالوسائط في كلام بعضهم وهو خلاف المذهب الحق، وبالجملة لا يكفر من قال‏:‏ إن الكواكب مؤثرة على معنى أن التأثير عندها أو بها بإذن الله تعالى بل حكمه حكم من قال‏:‏ إن النار محرقة والماء مرو مثلاً، ولا فرق بين القولين إلا بما عسى أن يقال‏:‏ إن التأثير في نحو النار والماء أمر محسوس مشاهد والتأثير في الكواكب ليس كذلك والقول به رجم بالغيب لكن ذلك بعد تسليمه لا يوجب كون أحد القولين كفراً دون الآخر كما لا يخفى على المنصف، ومع هذا الأحوط عدم إطلاق نسبة التأثير إلى الكواكب والتجنب عن التلفظ بنحو ما أكفر الله سبحانه المتلفظ به هذا ‏{‏وَإِذَا‏}‏ الأولى شرطية والثانية فجائية رابطة للجواب، وتنكير ‏{‏مَكَرَ‏}‏ للتفخيم، و‏{‏فِى‏}‏ متعلقة بالاستقرار الذي تتعلق به اللام‏.‏

‏{‏قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْرًا‏}‏ أي منكم فأسرع أفعل تفضيل وهو مأخوذ إما من سرع الثلاثي كما حكاه الفارسي أو من أسرع المزيد إلا أن في أخذ أفعل من المزيد خلافاً فمنهم من منعه مطلقاً ومنهم من جوزه مطلقاً ومنهم من قال‏:‏ إن كانت الهمزة للتعدية امتنع وإلا جاز ومثله في ذلك بناء التعجب، ووصف المفضل عليه بالسرعة دل عليه المفاجأة على أن صحة استعمال أسرع في ذلك لا يتوقف على دلالة الكلام على ما ذكر خلافاً لما يقتضيه ظاهر كلام الزمخشري، وأصل المكر إخفاء الكيد والمضرة، والمراد به الجزاء والعقوبة على المكر مجازاً مرسلاً أو مشاكلة وهي لا تنافيه كما في «شرح المفتاح»، وقد شاع أنه لا يستعمل فيه تعالى إلا على سبيل المشاكلة وليس بذاك كما حقق في موضعه ‏{‏إِنَّ رُسُلَنَا‏}‏ الحفظة من قبلنا على أعمالكم ‏{‏يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ‏}‏ أي مكركم أو ما تمكرونه، وكيفية كتابة ذلك مما لا يلزم العلم به ولا حاجة إلى جعل ذلك مجازاً عن العلم، وهذا تحقيق للانتقام منهم وتنبيه على أن ما دبروا في إخفائه غير خاف على الكتبة فضلاً عن منزل الكتاب الذي لا تخفى عليه خافية‏.‏

وفي ذلك تجهيل لهم كما لا يخفى، والظاهر أن الجملة ليست داخلة في الكلام الملقن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 109‏]‏ وهي تعليل لأسرعية مكره سبحانه وتعالى، وجوز أن تكون داخلة في ذلك وفي ‏{‏إِنَّ رُسُلَنَا‏}‏ التفاتاً إذ لو أجرى على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلِ الله‏}‏ لقيل إن رسله فلا إشكال فيه من حيث أنه لا وجه لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إن رسلنا إذ الضمير لله تعالى لا له عليه الصلاة والسلام بتقدير مضاف أي رسل ربنا أو بالإضافة لأدنى ملابسة كما قيل‏.‏

وقال بعضهم في الجواب‏:‏ إنه حكاية ما قال الله تعالى على كون المراد أداء هذا المعنى لا بهذه العبارة‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ ومجاهد ‏{‏يَمْكُرُونَ‏}‏ على لفظ الغيبة، وروي ذلك أيضاً عن نافع‏.‏ ويعقوب وفيه الجري على ماس بق من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَسَّتْهُمْ‏}‏ و‏{‏لَهُمْ‏}‏ والمناسب الخطاب كما قرأ الباقون إذا كانت الجملة داخلة في حيز القول إذ المعنى قل لهم، ومناسبة الخطاب حينئذٍ ظاهرة وفيه أيضاً مبالغة في الإعلام بمكرهم، وجعلها بعض المحققين على تلك القراءة وعدم دخولها في حيز القول تعليلاً للأسرعية أو للأمر المذكور‏.‏ وصيغة الاستقبال في الفعلين للدلالة على الاستمرار

‏[‏بم والتجدد وكذا في قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الذى يُسَيّرُكُمْ فِى البر والبحر‏}‏ وهو على ما قيل كلام مستأنف مسوق لبيان جناية أخرى لهم مبنية على ما مر آنفاً من اختلاف حالهم بحسب اختلاف ما يعتريهم من الضراء‏.‏ وعن أبي مسلم أنه تفسير لبعض ما أجمل في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا الناس‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 21‏]‏ الخ، وهو قريب من قول الإمام أنه تعالى لما قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا‏}‏ الآية وهو كلام كلي ضرب لهم مثلاً بهذا ليتضح ويظهر ما هم عليه‏.‏

وزعم بعضهم أنه متصل بما تقدم من دلائل التوحيد فكأنه قيل‏:‏ إلهكم الذي جعل الشمس ضياءاً والقمر نوراً و‏{‏هُوَ الذى يُسَيّرُكُمْ‏}‏ الخ، وأول التيسير بالحمل على السير والتمكين منه، والداعي لذلك قيل‏:‏ عدم صحة جعل قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك‏}‏ غاية للتسيير في البحر مع أنه مقدم عليه وغاية الشيء لا بد أن تكون متأخرة عنه، وبعد التأويل لا إشكال في جعل ما ذكر غاية لما قبله‏.‏

وقيل‏:‏ هو دفع لزوم الجمع بين الحقيقة والمجاز وذلك لأن المسير في البحر هو الله تعالى إذ هو سبحانه المحدث لتلك الحركات في الفلك بالريح ولا دخل للعبد فيه بل في مقدماته، وأما سير البر فمن الأفعال الاختيارية الصادرة من المخاطبين أنفسهم إن كانوا مشاة أو من دوابهم إن كانوا ركباناً وتسيير الله تعالى فيه إعطاء الآلات والأدوات ولزوم الجمع عليه ظاهر‏.‏ ووجه الدفع أن المراد من التسيير ما ذكر وهو معنى مجازي شامل للحقيقة والمجاز‏.‏

وادعى بعضهم اتحاد التسيير في البر والبحر واستدل بالآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى‏.‏ وتعقب بأنه تكلف‏.‏ والزمخشري لم يؤول التسيير بما ذكرنا وجعل الغاية مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد حتى بما في حيزها كأنه قيل‏:‏ يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكانت كيت وكيت من مجىء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظن للهلاك والدعاء بالإنجاء دون الكون في البحر، وتعقب ذلك القطب بأنه لو جعل الكون في الفلك مع ما عطف عليه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا‏}‏ كفى ولم يحتج إلى اعتبار مجموع الشرط والجزاء، ثم قال‏:‏ والتحقيق أن الغاية إن فسرت بما ينتهي إليه الشيء بالذات فهي ليس إلا ما وقع شرطاً في مثل ذلك وإن فسرت بما ينتهي إليه الشيء مطلقاً سواء كان بالذات أو بالواسطة فهي مجموع الشرط والجزاء، واستوضح ذلك من قولك‏:‏ مشيت حتى إذا بلغت البلد اتجرت فإن ما انتهى إليه المشي بالذات الوصول إلى البلد وأما الاتجار فأمر مترتب على ذلك فيكون مما انتهى إليه المشي بالواسطة والتضعيف في ‏{‏يَسِيرٌ‏}‏ للتعدية تقول سار الرجل وسيرته، وقال الفارسي‏:‏ إن سار متعد كسير لأن العرب تقول سرت الرجل وسيرته بمعنى، ومنه قول الهذلي‏:‏

فلا تجزعي من سنة أنت سرتها *** فأول راض سنة من يسيرها

وقال في «الصحاح»‏:‏ سارت الدابة وسارها صاحبها يتعدى ولا يتعدى وأنشد له هذا البيت، وأوله النحويون حيث لم يرتضوا ذلك، و‏{‏الفلك‏}‏ السفن ومفرده وجمعه واحد وتغاير الحركات بينهما اعتباري، وفي «الصحاح» أنه واحد وجمع يذكر ويؤنث وكأن ذلك باعتبار المركب والسفينة، وكان سيبويه يقول‏:‏ الفلك التي هي جمع تكسير للفلك الذي هو واحد وليست مثل الجنب الذي هو واحد وجمع والطفل وما أشبههما من الأسماء لأن فعلاً وفعلاً يشتركان في الشيء الواحد مثل العرب والعرب والعجم والعجم والرهب والرهب فحيث جاز أن يجمع فعل على فعل مثل أسد وأسد لم يمتنع أن يجمع فعل على فعل، وضمير ‏{‏جرين‏}‏ للفلك وضمير ‏{‏نَخْسِفْ بِهِمُ‏}‏ لمن فيها وهو التفات للمبالغة في تقبيح حالهم كأنه أعرض عن خطابهم وحكى لغيرهم سوء صنيعهم، وقيل‏:‏ لا التفات بل معنى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك‏}‏ حتى إذا كان بعضكم فيها إذ الخطاب للكل ومنهم المسيرون في البر فالضمير الغائب عائد إلى ذلك المضاف المقدر كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ كظلمات فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يغشاه مَوْجٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏ فإنه في تقدير أو كذي ظلمات يغشاه موج، والباء الأولى للتعدية والثانية وكذا الثالثة للسببية فلذا تعلق الحرفان بمتعلق واحد، وإلا فقد منعوا تعلق حرفين بمعنى بمتعلق واحد، واعتبار تعلق الثاني بعد تعلق الأول به وملاحظته معه يزيل اتحاد المتعلق‏.‏

وجوز أن تكون الثانية للحال أي جرين بهم ملتبسة بريح فتتعلق بمحذوف كما في البحر، وقد تجعل الأولى للملابسة أيضاً ‏{‏وَفَرِحُواْ‏}‏ عطف على ‏{‏جرين‏}‏ هو عطف على ‏{‏إِن كُنتُمْ‏}‏ وقد تجعل حالاً بتقدير قد وضمير ‏{‏بِهَا‏}‏ للريح ونقل الطبرسي القول برجوعه للفلك ولا يكاد يجري به القلم، والمراد بطيبة حسبما يقتضيه المقام لينة الهبوب موافقة المقصد‏.‏

وظاهر الآية على ما نقل عن الإما يقتضي أن راكب السفينة متحرك بحركتها خلافاً لمن قال‏:‏ إنه ساكن، ولا وجه كما قال بعض المحققين لهذا الخلاف فإنه ساكن بالذات سائر بالواسطة‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏ينشركم‏}‏ بالنون والشين المعجمة والراء المهملة من النشر ضد الطي أي يفرقكم ويبثكم، وقرأ الحسن ‏{‏ينشركم‏}‏ من أنسر بمعنى أحيا‏.‏ وقرأ بعض الشاميين ‏{‏ينشركم‏}‏ بالتشديد للتكثير من النشر أيضاً، وعن أم الدرداء أنها قرأت ‏{‏فِى‏}‏ بزيادة ياءي النسب، ووجه ذلك بأنهما زائدتان كما في الخارجي والأحمري ولا اختصاص لذلك في الصفات لمجىء دودوي وأنا الصلتاني في قول الصلتان، ويجوز أن يراد به اللج والماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِهَا جَاءتْهَا‏}‏ جواب ‏{‏إِذَا‏}‏ والضمير المنصوب للفلك أو للريح الطيبة على معنى تلقتها واستولت عليها من طرف مخالف لها فإن الهبوب على وفقها لا يسمى على ما قيل مجيئاً لريح أخرى عادة بل هو اشتداد للريح الأولى، ورجح الثاني بأنه الأظهر لاستلزامه للأول من غير عكس لأن الهبوب على طريقة الريح اللينة يعد مجيئاً بالنسبة إلى الفلك دون الريح اللينة مع أنه لا يستتبع تلاطم لأمواج الموجب لمجيئها من كل مكان ولأن التهويل في بيان استيلائها على ما فرحوا به وعلقوا به حبال رجائهم أكثر وفيه تأمل ‏{‏رِيحٌ عَاصِفٌ‏}‏ أي ذات عصف فهو من باب النسب كلابن وتامر، ويستوي فيه المذكر والمؤنث كما صرحوا به فلذا لم يقل عاصفة مع أن الريح مؤنثة لا تذكر بدون تأويل‏.‏

وقيل‏:‏ لم يقل عاصفة لأن العصوف مختص بالريح كحائض فلا حاجة إلى الفارق أو أنه اعتبر التذكير في الريح كما اعتبر فيها التأنيث والأولى ما قدمناه، وأصل العصف الكسر والنبات المتكسر والمراد شديدة الهبوب ‏{‏وَجَاءهُمُ الموج‏}‏ وهو ما علا وارتفع من اضطراب الماء، وقيل‏:‏ هو اضطراب البحر والأول هو المشهور ‏{‏مّن كُلّ مَكَانٍ‏}‏ أي من أمكنة مجىء الموج عادة وقد يتفق مجيئه من جهات حسب أسباب تتفق لذلك ‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ‏}‏ أي أهلكوا كما رواه ابن المنذر عن ابن جريج، ففي الكلام استعارة تبعية، وقيل‏:‏ إن الإحاطة استعارة لسد مسالك الخلاص تشبيهاً له بإحاطة العدو بإنسان ثم كنى بتلك الاستعارة عن الهلاك لكونها من روادفها ولوازمها‏.‏

وقيل‏:‏ إن ذلك مثل في الهلاك، والظن على ما يتبادر منه، وجوز أن يكون بمعنى اليقين بناءً على تحقق وقوعه في اعتقادهم أو كون الكناية عن القرب من الهلاك ‏{‏دَّعَوَا الله‏}‏ جعله غير واحد بدل اشتمال من ظنوا لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فبينهما ملابسة تصحح البدلية، وقيل‏:‏ هو جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشرط أي لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله الخ‏.‏

وجعله أبو حيان استئنافاً بيانياً كأنه قيل‏:‏ فماذا كان حالهم إذ ذاك‏؟‏ فقيل‏:‏ دعوا الخ، ورجح القول بالبدل عليه بأنه أدخل في اتصال الكلام‏.‏ والدلالة عن كونه المقصود مع إفادته ما يستفاد من الاستئناف مع الاستغناء عن تقدير السؤال‏.‏ وأنت تعلم أن تقدير السؤال ليس تقديراً حقيقياً بل أمر اعتباري وفيه من الإيجاز ما فيه وليس بأبعد مما تكلف للبدلية، ويشعر كلام بعضهم جواز كونه جواب الشرط و‏{‏جَاءتْهَا‏}‏ في موضع الحال كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك دَعَوُاْ الله‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 65‏]‏ الآية، وتعقب بأن الاحتياج إلى الجواب يقتضي صرف ما يصلح له إليه لا إلى الحال الفضلة المفتقرة إلى تقدير قد مع أن عطف ‏{‏وَظَنُّواْ‏}‏ على ‏{‏جَاءتْهَا‏}‏ يأبى الحالية والفرح بالريح الطيبة لا يكون حال مجىء العاصفة والمعنى على تحقق المجىء لا على تقديره ليجعل حالاً مقدرة ولا يخلو عن حسن، والظاهر أن ما عده مانعاً من الحالية غير مشترك بينه وبين كونه جواب ‏{‏إِذَا‏}‏ لأنه يقتضي أنهما في زمان واحد كما لا يخفى على من له أدنى معرفة بأساليب الكلام، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏ حال من ضمير ‏{‏دَّعَوَا‏}‏ و‏{‏لَهُ‏}‏ متعلق بمخلصين و‏{‏الدين‏}‏ مفعوله أي دعوه تعالى من غير إشراك لرجوعهم من شدة الخوف إلى الفطرة التي جبل عليها كل أحد من التوحيد وأنه لا متصرف إلا الله سبحانه المركوزفي طبائع العالم وروي ذلك عن ابن عباس‏.‏

ومن حديث أخرجه أبو داود‏.‏ والنسائي‏.‏ وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ «لما كان يوم الفتح فر عكرمة بن أبي جهل فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة‏:‏ أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً فقال عكرمة‏:‏ لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجيني في البر غيره اللهم أن لك عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً قال فجاء فأسلم»‏.‏ وفي رواية ابن سعد عن أبي مليكة «أن عكرمة لما ركب السفينة وأخذتهم الريح فجعلوا يدعون الله تعالى ويوحدونه قال‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقالوا‏:‏ هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله تعالى قال‏:‏ فهذا له محمد صلى الله عليه وسلم الذي يدعونا إليه فارجعوا بنا فرجع‏.‏ وأسلم»‏.‏ وظاهر الآية أنه ليس المراد تخصيص الدعاء فقط به سبحانه بل تخصيص العبادة به تعالى أيضاً لأنهم بمجرد ذلك لا يكونون مخلصين له الدين‏.‏

وأياً ما كان فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال، وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع ولا يرى ولا يسمع فمنهم من يدعو الخضر والياس ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة ولا ترى فيهم أحداً يخص مولاه بتضرعه ودعاه ولا يكاد يمر له ببال أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال فبالله تعالى عليك قل لي أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلاً وأي الداعيين أقوم قيلاً‏؟‏ وإلى الله تعالى المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة وتلاطمت أمواج الضلالة وخرقت سفينة الشريعة واتخذت الاستغاثة بغير الله تعالى للنجاة ذريعة وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف، هذا وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين‏}‏ في محل نصب بقول مقدر عند البصريين وهو حال من الضمير السابق، ومذهب الكوفيين إجراء الدعاء مجرى القول لأنه من أنواعه وجعل الجملة محكية به والأول هو الأولى هنا، واللام موطئة لقسم مقدر و‏{‏لَنَكُونَنَّ‏}‏ جوابه‏.‏ والمشار إليه بهذه الحال التي هم فيها أي والله لئن أنجيتنا مما نحن فيه من الشدة لنكونن البتة بعد ذلك أبداً شاكرين لنعمك التي من جملتها هذه النعمة المسؤولة، والعدول عن لنشكرن إلى ما فيي النظم الجليل للمبالغة في الدلالة على الثبوت في الشكر والمثابرة عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا أَنجَاهُمْ‏}‏ مما نزل بهم من الشدة والكربة، والفاء للدلالة على سرعة الإجابة ‏{‏إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الارض‏}‏ أي فاجأوا الفساد فيها وسارعوا إليه مترامين في ذلك ممعنين فيه من قولهم‏:‏ بغى الجرح إذا ترامى في الفساد، وزيادة ‏{‏فِى الارض‏}‏ للدلالة على شمول بغيهم لأقطارها، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار، وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏بِغَيْرِ الحق‏}‏ تأكيداً لما يفيده البغي إذ معناه أنه بغير الحق عندهم أيضاً بأن يكون ظلماً ظاهراً لا يخفى قبحه على كل أحد كما قيل نحو ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 61‏]‏

وقد فسر البغي بإفساد صورة الشيء وإتلاف منفعته وجعل ‏{‏بِغَيْرِ الحق‏}‏ للاحتراز مما يكون من ذلك بحق كتخريب الغزاة ديار الكفرة وقطع أشجارهم وحرق زروعهم كما فعل صلى الله عليه وسلم ببني قريظة‏.‏

وتعقب بأنه مما لا يساعده النظم الكريم لأن البغي بالمعنى الأول هو اللائق بحال المفسدين فينبغي بناء الكلام عليه‏.‏ والزمخشري اختار كون ذلك للاحتراز عما ذكر‏.‏ وذكر في «الكشف» أنه أشار بذلك إلى أن الفساد اللغوي خروج الشيء من الانتفاع فلا كل بغى أي فساد في الأرض واستطالة فيها كذلك كما علمت وإن كان موضوعه العرفي للاستطالة بغير حق لكن النظر إلى موضوعه الأصلي، وقيل‏:‏ إن البغي الذي يتعدى بفي بمعنى الإتلاف والإفساد وهو يكون حقاً وغيره والذي يتعدى بعلى بمعنى الظلم، وتقييد الأول بغير الحق للاحتراز وتقييد الثاني به للتأكيد، ولعل من يجعل البغي هنا بمعنى الظلم يقول‏:‏ إن المعنى يبغون على المسلمين مثلاً فافهم ‏{‏يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس‏}‏ توجيه الخطاب إلى أولئك الباغين للتشديد في التهديد والمبالغة في الوعيد ‏{‏إِنَّمَا بَغْيُكُمْ‏}‏ الذي تتعاطونه وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏على أَنفُسِكُمْ‏}‏ أي عليكم في الحقيقة لا على الذين تبغون عليهم وإن ظن كذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّتَاعَ الحياة الدنيا‏}‏ نصب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر بطريق الاستئناف أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا، والمراد من ذلك بيان كون ما في البغي من المنفعة العاجلة شيئاً غير معتد به سريع الزوال دائم الوبال، وقيل‏:‏ إنه منصوب على أنه مصدر واقع موقع الحال أي متمتعين، والعامل هو الاستقرار الذي في الخبر ولا يجوز أن يكون نفس البغي لأنه لا يجوز الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر، وأيضاً لا يخبر عن المصدر إلا بعد تمام صلاته ومعمولاته‏.‏ وتعقب بأنه ليس في تقييد كون بغيهم على أنفسهم بحال تمتعهم بالحياة الدنيا معنى يعتد به‏.‏

وقيل‏:‏ على أنه ظرف زمان كمقدم الحاج أي زمان متاع الحياة الدنيا والعامل فيه الاستقرار أيضاً وفيه ما في سابقه، وقيل‏:‏ على أنه مفعول لفعل دل عليه المصدر أي تبغون متاع الحياة الدنيا‏.‏

واعترض بأن هذا يستدعي أن يكون البغي بمعنى الطلب لأنه الذي يتعدى بنفسه والمصدر لا يدل عليه، وجعل المصدر أيضاً بمعناه مما يخل بجزالة النظم الكريم لأن الاستئناف لبيان سوء عاقبة ما حكى عنهم من البغي المفسر على المختار بالفساد المفرط اللائق بحالهم وحينئذٍ تنتفي المناسبة ويفوت الانتظام، وجعل الأول أيضاً بمعناه مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه‏.‏

وقيل‏:‏ على أنه مفعول له أي لأجل متاع الحياة الدنيا والعامل فيه الاستقرار‏.‏ وتعقب بأن المعلل بما ذكر نفس البغي لا كونه على أنفسهم، وقيل‏:‏ العامل فيه فعل مدلول عليه بالمصدر أي تبغون لأجل متاع الحياة الدنيا على أن الجملة مستأنفة، وقيل‏:‏ على أنه مفعول صريح للمصدر وعليكم متعلق به لا خبر لما مر، والمراد بالأنفس الجنس، والخبر محذوف لطول الكلام، والتقدير إنما بغيكم على أبناء جنسكم متاع الحياة الدنيا مذموم أو منهي عنه أو ضلال أو ظاهر الفساد أو نحو ذلك‏.‏ وفيه الابتناء على أن البغي بمعنى الطلب وقد علمت ما فيه‏.‏ نعم لو جعل نصبه على العلة أي إنما بغيكم على أبناء جنسكم لأجل متاع الحياة الدنيا مذموم كما اختاره بعضهم لكان له وجه في الجملة لكن الحق الذي يقتضيه جزالة النظم هو الأول‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏متاع‏}‏ بالرفع‏.‏

قال صاحب المرشد‏:‏ وفيه وجهان، أحدهما‏:‏ كونه الخبر والظرف صلة المصدر‏.‏ والثاني‏:‏ كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو أو ذلك متاع، وزيد وجه آخر وهو كونه خبراً بعد خبر لبغيكم، والمختار بل المتعين على الوجه الأول كون المراد بأنفسكم أبناء جنسكم أو أمثالكم على سبيل الاستعارة، والتعبير عنهم بذلك للتشفيق والحث على ترك إيثار التمتع المذكور على ما ينبغي من الحقوق، ولا مانع على الوجهين الأخيرين من الحمل على الحقيقة كما بين ذلك مولانا شيخ الإسلام‏.‏ وقرىء بنصب المتاع ‏{‏والحياة‏}‏ وخرج نصب الأول على ما مر ونصب الثاني على أنه بدل اشتمال من الأول‏.‏

وقيل‏:‏ على أنه مفعول به له إذا لم يكن انتصابه على المصدرية لأن المصدر المؤكد لا يعمل، وذكر أبو البقاء أنه قرىء بجرهما على أن الثاني مضاف إليه والأول نعت للأنفس أي ذات متاع، وجوز أن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل أي متمتعات، وضعف كونه بدلاً إذ قد أمكن كونه صفة هذا وفي الآية من الزجر عن البغي ما لا يخفى‏.‏ وقد أخرج أبو الشيخ‏.‏ وأبو نعيم‏.‏ والخطيب‏.‏ والديلمي‏.‏ وغيرهم عن أنس قال؛ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث هن رواجع على أهلها المكر والنكث والبغي ثم تلا عليه الصلاة والسلام ‏{‏يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم‏}‏ ‏{‏ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله‏}‏ ‏{‏فمن نكث فإنما ينكث على نفسه‏}‏»‏.‏

وأخرج البيهقي الشعب عن أبي بكرة قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم» وأخرج أيضاً من طريق بلال بن أبي بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يبغي على الناس إلا ولد بغى أو فيه عرق منه»

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس‏.‏ وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قالا‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما» وكأن المأمون يتمثل بهذين البيتين لأخيه‏.‏

يا صاحب البغي إن البغي مصرعة *** فاربع فخير فعال المرء أعدله

فلو بغى جبل يوماً على جبل *** لاندك منه أعاليه وأسفله

وعقد ذلك الشهاب فقال‏:‏

إن يعد ذو بغي عليك فخله *** وارقب زماناً لانتقام باغي

واحذر من البغي الوخيم فلو بغى *** جبل على جبل لدك الباغي

ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ‏}‏ عطف على ما مر من الجملة المستأنفة المقدرة كأنه قيل‏:‏ تتمتعون متاع الحياة الدنيا ثم ترجعون إلينا، وإنما غير السبك إلى ما في النظم الكريم للدلالة على الثبات والقصر‏.‏

‏{‏فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ في الدنيا على الاستمرار من البغي فهو وعيد وتهديد بالحزاء والعذاب وقد تقدم الكلام في نظيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا‏}‏ كلام مستأنف لبيان شأن الحياة الدنيا وقصر مدة التمتع فيها، وأصل المثل ما شبه مضربه بمورده ويستعار للأمر العجيب المستغرب، أي إنما حالها في سرعة تقضيها وانصرام نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها ‏{‏كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ‏}‏ أي فكثر بسببه ‏{‏نَبَاتُ الارض‏}‏ حتى التف بعضه ببعض، فالباء للسببية ومنهم من أبقاها على المصاحبة، وجعل الاختلاط بالماء نفسه فإنه كالغذاء للنبات فيجري فيه ويخالطه والأول هو الذي يقتضيه كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ‏{‏مِمَّا يَأْكُلُ الناس والانعام‏}‏ كالبقول والزروع‏.‏ والحشيش والمراعي، والجار والمجرور في موضع الحال من النبات ‏{‏حتى إِذَا أَخَذَتِ الارض‏}‏ أي استوفت واستكملت ‏{‏زُخْرُفَهَا‏}‏ أي حسنها وبهجتها ‏{‏وازينت‏}‏ بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة‏.‏

كأذيال خود أقبلت في غلائل *** مصبغة والبعض أقصر من بعض

وقد ذكر غير واحد أن في الكلام استعارة بالكناية حيث شبهت الأرض بالعروس وحذف المشبه به وأقيم المشبه مقامه وإثبات أخذ الزخرف لها تخييل وما بعده ترشيح، وقيل‏:‏ الزخرف الذهب استعير للنضارة والمنظر الشار، وأصل ازينت تزينت فأدغمت التاء في الزاي وسكنت فاجتلبت همزة وصل للتوصل للابتداء بالساكن، وبالأصل قرأ عبد الله، وقرأ الأعرج‏.‏ والشعبي‏.‏ وأبو العالية‏.‏ ونصر بن عاصم‏.‏ والحسن بخلاف ‏{‏وازينت‏}‏ بوزن أفعلت كأكرمت، وكان قياسه أن يعل فيقلب ياؤه ألفاً فيقال أزانت لأنه المطرد في باب الأفعال المعتل العين لكنه ورد على خلافه كأغيلت المرأة إذا سقت ولدها الغيل وهو لبن حملها عليه وقد جاء أغالت على القياس‏.‏

ومعنى الأفعال هناك هنا الصيرورة أي صارت ذات زينة أو صيرت نفسها كذلك، وقرأ أبو عثمان النهدي ‏{‏أزيأنت‏}‏ بهمزة وصل بعدها زاي ساكنة وياء مفتوحة وهمزة كذلك ونون مشددة وتاء تأنيث، وأصله ازيانت بوزن احمارت بألف صريحة فكرهوا اجتماع ساكنين فقلبوا الألف همزة مفتوحة كما قرىء ‏{‏الضألين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏ وجاء أيضاً احمأرت بالهمزة كقوله‏:‏

إذا ما الهوادي بالعبيط حمأرت *** وقرأ عوف بن جميل ‏{‏ازيانت‏}‏ بألف من غير إبدال، وقرىء ‏{‏ازاينت‏}‏ لقصد المبالغة ‏{‏وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا‏}‏ أي على الأرض، والمراد ظنوا أنهم متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها رافعون لغلتها، وقيل‏:‏ الكناية للزروع، وقيل‏:‏ للثمرة، وقيل‏:‏ للزينة لانفهام ذلك من الكلام ‏{‏أَتَاهَا أَمْرُنَا‏}‏ جواب ‏{‏إِذَا‏}‏ أي نزل بها ما قدرناه من العذاب وهو ضرب زرعها ما يجتاحه من الآفات والعاهات كالبرد‏.‏ والجراد‏.‏ والفأر‏.‏ والصرصر‏.‏ والسموم‏.‏ وغير ذلك ‏{‏لَيْلاً أَوْ نَهَارًا‏}‏ أي في ليل أو في نهار، ولعل المراد الإشارة إلى أنه لا فرق في إتيان العذاب بين زمن غفلتهم وزمن يقظتهم إذ لا يمنع منه مانع ولا يدفع عنه دافع ‏{‏فَجَعَلْنَاهَا‏}‏ أي فجعلنا نباتها ‏{‏حَصِيداً‏}‏ أي شبيهاً بما حصد من أصله، والظاهر أن هذا من التشبيه لذكر الطرفين فيه فإن المحذوف في قوة المذكور، وجوز أن يكون هناك استعارة مصرحة والأصل جعلنا نباتها هالكاً فشبه الهالك بالحصيد وأقيم اسم المشبه به مقامه، ولا ينافيه تقدير المضاف كما توهم لأنه لم يشبه الزرع بالحصيد بل الهالك به‏.‏

وذهب السكاكي إلى أن في الكلام استعارة بالكناية حيث شبهت الأرض المزخرفة والمزينة بالنبات الناضر المونق الذي ورد عليه ما يزيله ويفنيه وجعل الحصيد تخيلاً ولا يخفى بعده ‏{‏كَأَن لَّمْ تَغْنَ‏}‏ أي كان لم يغن نباتها أي لم يمكث ولم يقم، فتغن من غنى بالمكان إذا أقام ومكث فيه ومنه قيل للمنزل مغني، وقد حذف المضاف في هذا وفيما قبله فانقلب الضمير المجرور منصوباً في أولهما ومرفوعاً مستتراً في الثاني، واختير الحذف للمبالغة حيث أفاد ظاهر الكلام جعل الأرض نفسها حصيداً وكأنها نفسها لم تكن لتغيرها بتغير ما فيها، وقد عطف بعضهم عليهما ‏{‏عَلَيْهَا‏}‏ لما أن التقدير فيه على نباتها فحذف المضاف وجر الضمير بعلى وليس بالبعيد خلا أن في كون الحذف للمبالغة أيضاً تردداً، وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏تَغْنَ‏}‏ وما قبله يعودان على الزرع كما قيل في ضمير ‏{‏عَلَيْهَا‏}‏ وقيل‏:‏ يعودان على الأرض ولا حذف بل يجعل التجوز في الإسناد‏.‏ وأنت تعلم أن إرجاع الضمائر كلها للأرض ولو مع ارتكاب التجوز في الإسناد أولى من إرجاعها لغيرها كائناً ما كان‏.‏ نعم إنه لا يمكن إرجاع الضمير إليها في قراءة الحسن ‏{‏يُغْنِى‏}‏ بالياء التحتية وجعل ذلك من قبيل ولا أرض أبقل أبقالها كما ترى فينبغي أن يرجع للنبات أو للزرع مثلاً ومآل المعنى كأن لم يكن نابتاً ‏{‏بالامس‏}‏ أي فيما قبل إتيان أمرنا بزمان قريب فإن الأمس مثل في ذلك، والجملة التشبيهية جوز أن تكون في محل النصب على أنها حال وأن تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب جواباً لسؤال مقدر، والممثل به في الآية ما يفهم من الكلام وهو زوال خضرة النبات فجأة وذهابه حطاماً لم يبق له أثر بعد ما كان غضاً طريقاً قد التف بعضه ببعض وازينت الأرض بأوالنه حتى طمع الناس وظنوا أنه قد سلم من الجوائح لا الماء وإن دخلته كاف التشبيه فإنه من التشبيه المركب مع اشتمال الكلام نفسه على أمور حقيقية وأمور مجازية فيها من اللطافة ما لا يخفى‏.‏ وعن أبي أنه قرأ ‏{‏كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالامس وَمَا أهلكناها إِلا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا‏}‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك التفصيل البديع ‏{‏نُفَصّلُ الآيات‏}‏ أي القرآنية التي من جملتها هذه الآية الجليلة الشأن المنبهة على أحوال الحياة الدنيا أي نوضحها ونبينها ‏{‏لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ في معانيها ويقفون على حقائقها، وتخصيصهم بالذكر لأنهم المنتفعون، وجوز أن يراد بالآيات ما ذكر في أثناء التمثيل من الكائنات والفاسدات وبتفصيلها تصريفها على الترتيب المحكي إيجاداً وإعداماً فإنها آيات ما ذكر في أثناء التمثيل من الكائنات والفاسدات وبتفصيلها تصريفها على الترتيب المحكي إيجاداً وإعداماً فإنها آيات وعلامات يستدل بها المتفكر فيها على أحوال الحياة الدنيا حالاً ومآلاً والأول هو الظاهر‏.‏

وعن أبي مجلز أنه قال‏:‏ كان مكتوباً إلى جنب هذه الآية فمحى ‏{‏وَلَوْ أَنَّ عَلَيْهِمْ ءايات الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً إِلاَّ مَن تَابَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏والله يَدْعُواْ إِلَى دَارُ السلام‏}‏ ترغيب للناس في الحياة الأخروية الباقية إثر ترغيبهم عن الحياة الدنيوية الفانية أي يدعو الناس جميعاً إلى الجنة حيث يأمرهم بما يفضي إليها، وسميت الجنة بذلك لسلامة أهلها عن كل ألم وآفة أو لأن الله تعالى يسلم عليهم أو لأن خزنتها يقولون لهم سلام عليكم طبتم أو لأن بعضهم يسلم فيها على بعض‏.‏

فالسلام إما بمعنى السلامة أو بمعنى التسليم، أو لأن السلام من أسمائه تعالى ومعناه هو الذي منه وبه السلامة أو ذو السلامة عن جميع النقائص فأضيفت إليه سبحانه للتشريف كما في بيت الله تعالى للكعبة ولأنه لا ملك لغيره جل شأنه فيها ظاهراً وباطناً وللتنبيه على أن من فيها سالم عما مر للنظر إلى معنى السلامة في أصله، ويدل على قصده تخصيصه بالإضافة إليه دون غيره من أسمائه تعالى ‏{‏وَيَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ هدايته ‏{‏إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ موصل إلى تلك الدار وهو الدين الحق، وفي الآية دلالة على أن الهداية غير الدعوة إلى ذلك وعلى أن الأمر مغاير للإرادة حيث عمم سبحانه الدعوة إذ حذف مفعولها وخص الهداية بالمشيئة المساوية للإرادة على المشهور إذ قيدها بها وهو الذي ذهب إليه الجماعة، وقال المعتزلة‏:‏ إن المراد بالهداية التوفيق والإلطاف ومغايرة الدعوة والأمر لذلك ظاهرة فإن الكافر مأمور وليس بموفق وأن من يشاء هو من علم سبحانه أن اللطف ينفع فيه لأن مشيئته تعالى شأنه تابعة للحكمة فمن علم أنه لا ينفع فيه اللطف لم يوفقه ولم يلطف به إذ التوفيق لمن علم الله تعالى أنه لا ينفعه عبث والحكمة منافية للعبث فهو جل وعلا يهدي من ينفعه اللطف وإن أراد اهتداء الكل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ‏}‏ أي العمل بأن فعلوا المأمور به واجتنبوا المنهي عنه، وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ‏"‏ ‏{‏الحسنى‏}‏ أي المنزلة الحسنى وهي الجنة ‏{‏وَزِيَادَةٌ‏}‏ وهي النظر إلى وجه ربهم الكريم جل جلاله وهو التفسير المأثور عن أبي بكر‏.‏ وعلي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وابن عباس‏.‏ وحذيفة‏.‏ وابن مسعود‏.‏ وأبي موسى الأشعري‏.‏ وخلق آخرين، وروى مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق شتى، وقد أخرج الطيالسي‏.‏ وأحمد‏.‏ ومسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ وابن ماجه‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن خزيمة‏.‏ وابن حبان‏.‏ وأبو الشيخ‏.‏ والدارقطني في الرؤية‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي في الأسماء والصفات عن صهيب «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية للذين أحسنوا الخ فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة أن لكم عند الله تعالى موعداً يريد أن ينجزكموه فيقولون‏:‏ وما هو‏؟‏ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار‏؟‏ قال‏:‏ فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه سبحانه فوالله ما أعطاهم الله تعالى شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم» فحكاية هذا التفسير بقيل‏:‏ كما فعل البيضاوي عفا الله تعالى عنه مما لا ينبغي، وقول الزمخشري عامله الله تعالى بعدله‏:‏ إن الحديث مرقوع بالقاف أي مفترى لا يصدر إلا عن رقيع فإنه متفق على صحته وقد أخرجه حفاظ ليس فيهم ما يقال‏.‏

نعم جاء في تفسير ذلك غير ما ذكر لكن ليس في هذه الدرجة من الصحة ولا رفع فيه صريحاً، فقد أخرج ابن جرير‏.‏ عن مجاهد قال‏:‏ الزيادة المغفرة والرضوان، وأخرج عن الحسن أنها تضعيف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وأخرج عن ابن زيد أنها أن لا يحاسبهم على ما أعطاهم في الدنيا، وأخرج عن الحكم بن عتيبة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب‏.‏ وتعقبه ابن الجوزي بأنه لا يصح، وقيل‏:‏ الزيادة أن تمر السحابة بهم فتقول‏:‏ ما تريدون أنا أمطركم فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم‏.‏

وجمع بعضهم بين الروايات بأنه لا مانع من أن يمن الله تعالى عليهم بكل ما ذكر ويصدق عليه أنه زيادة على ما من به عليهم من الجنة، وأيد ذلك بما أخرجه سعيد بن منصور‏.‏ وابن المنذر‏.‏ والبيهقي‏.‏ عن سفيان أنه قال‏:‏ ليس في تفسيرالقرآن اختلاف إنما هو كلام جامع يراد به هذا وهذا، والذي حمل الزمخشري على عدم الاعتماد على الروايات الناطقة بحمل الزيادة على رؤية الله تعالى زعمه الفاسد كأصحابه أن الله تعالى لا يرى وقد علمت منشأ ذلك الزعم وقد رده أهل السنة بوجوه ‏{‏وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ‏}‏ أي لا يغشاها غبرة ما فيها سواد ولا أثر هوان ما وكسوف بال، والمعنى لا يعرض عليهم ما يعرض لأهل النار أو لا يعرض لهم ما يوجب ذلك من الحزن وسوء الحال، والكلام على الأول حقيقة وعلى الثاني كناية لأن عدم غشيان ذلك لازم لعدم غشيان ما يوجبهما فذكر اللازم لينتقل منه إلى الملزوم، ورجح هذا بأنه أمدح، والمقصود بيان خلوص نعيمهم من شوائب المكاره إثر بيان ما من سبحانه به عليهم من النعيم، وقيل‏:‏ إن ذكر ذلك لتذكيرهم بما ينقذهم منه فإنهم إذا ذكروا ذلك زاد ابتهاجهم ومسرتهم كما أن أهل النار فإن الإنسان متى علم أن عدوه في الهوان وسوء الحال ازداد سروراً، وقد شاهدنا من يكتفي بمضرة عدوه عن حصول المنفعة له بل من يسره ضرر عدوه وإن تضرر هو، وتقديم المفعول على الفاعل للاهتمام ببيان أن المصون من الرهق أشرف أعضائهم وللتشويق إلى المؤخر ولأن في الفاعل ضرب تفصيل ‏{‏أولئك‏}‏ أي المذكورون باعتبار اتصافهم بما تقدم ‏{‏أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ دائمون بلا زوال ويلزم ذلك عدم زوال نعيمها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏والذين كَسَبُواْ السيئات‏}‏ أي الشرك والمعاصي، وهو مبتدأ بتقدير المضاف خبره قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا‏}‏ والباء متعلقة بجزاء وهو مصدر المبني للمفعول لا اسم للعوض كما في بعض الأوجه الآتية على ما قيل أي جزاء الذين كسبوا السيئات أن تجازي سيئة واحدة بسيئة مثلها على معنى عدم الزيادة بمقتضى العدل وإلا فلا مانع عن العفو بمقتضى الكرم لكن ذلك في غير الشرك ويجوز أن يكون جزاء سيئة بمثلها جملة من مبتدأ وخبر هي خبر المبتدأ وحينئذٍ لا حاجة إلى تقدير المضاف لكن العائد محذوف أي جزاء سيئة منهم بمثلها على حد السمن منوان بدرهم‏.‏

وأجاز أبو الفتح أن يكون جزاء مبتدأ محذوف الخبر أي لهم جزاء سيئة بمثلها وحذف لهم لقرينة ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏ والجملة خبر ‏{‏الذين كَسَبُواْ‏}‏ وحينئذٍ لا حاجة إلى تقدير عائد كما لا حاجة إلى تقدير مضاف، وجوز غير واحد أن يكون ‏{‏الذين‏}‏ عطفا على ‏{‏الذين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏ المجرور الذي هو مع جاره خبر وجزاء سيئة معطوف على ‏{‏الحسنى‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏ الذي هو المبتدأ، وفي ذلك العطف على معمولي عاملين مختلفين وفيه مذاهب المنع مطلقاً وهو مذهب سيبويه والجواز مطلقاً وهو مذهب الفراء والتفصيل بين أن يتقدم المجرور نحو في الدار زيد والحجرة عمرو فيجوز أو لا فيمتنع، والمانعون يحملون نحو هذا المثال على إضمار الجار ويجعلونه مطرداً كقوله‏:‏ أكل امرىء تحسبين امرأ *** ونار توقد بالليل ناراً

وقيل‏:‏ هو مبتدأ والخبر جملة ‏{‏مَّا لَهُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ‏}‏ أو ‏{‏كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ‏}‏ أو ‏{‏أُوْلَئِكَ أصحاب النار‏}‏ وما في البين اعتراض، وفي تعدد الاعتراض خلاف بين النحويين و‏{‏جَزَاء سَيّئَةٍ‏}‏ حينئذٍ مبتدأ و‏{‏بِمِثْلِهَا‏}‏ متعلق به والخبر محذوف أي واقع أو ‏{‏بِمِثْلِهَا‏}‏ هو الخبر على أن الباء زائدة أو الجار والمجرور في موضع الخبر على أن الباء غير زائدة، والأولى تقدير المتعلق خاصاً كمقدر ويصح تقديره عاماً، والقول بأنه لا معنى له حاصل وهم ظاهر، وأياً ما كان لا دلالة في الآية على أن الزيادة هي الفضل دون الرؤية وقد علمت أن تفسيرها بذلك هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وجملة من السلف الصالح فلا ينبغي العدول عنه لما يتراءى منه خلافه لا سيما وقد أتى الإمام وغيره بدلائل جمة على أن المراد بها ذلك ولم يؤت بالآيتين على أسلوب واحد لمراعاة ما بين الفريقين من كمال التنائي والتباين، وإيراد الكسب للإيذان بأن ذلك إنما هو بسوء صنيعهم وجنايتهم على أنفسهم ‏{‏وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ‏}‏ أي هوان عظيم، فالتنوين هنا للتفخيم على عكس التنوين فيما قبل كما أشرنا إليه، وفي إسناد الرهق إلى أنفسهم دون وجوههم إيذان بأنها محيطة بهم غاشية لهم‏.‏

وقرىء ‏{‏يرهقهم‏}‏ بالباء التحتانية لكون الفاعل ظاهراً وتأنيثه غير حقيقي، وقيل‏:‏ التذكير باعتبار أن المراد من الذلة سببها مجازاً، ولا يحتاج إليه كما لا يخفى لأن التذكير في مجازي التأنيث لا سيما المفصول كثير جداً‏.‏

والواو على ما قال غير واحد للعطف وما بعده معطوف على ‏{‏بِمَا كَسَبُواْ‏}‏ وضعفه أبو البقاء بأن المستقبل لا يعطف على الماضي‏.‏ وأجيب بالمنع، وفي العطف ههنا ما لا يخفى من المبالغة حيث أخرج نسبة الرهق إليهم يوم القيامة مخرج المعلوم حيث جعل ذلك بواسطة العطف صلة الموصول، وقيل‏:‏ إنه عطف على ما قبله بحسب المعنى كأنه قيل‏:‏ والذين كسبوا السيئات تجازي سيئتهم بمثلها وترهقهم ذلة ولعله أولى من الأول، وأما جعل الواو حالية والجملة في موضع الحال من ضمير ‏{‏كَسَبُواْ‏}‏ فلا يخفى حاله ‏{‏مَّا لَهُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ‏}‏ أي ما لهم أحد يعصمهم ويمنعهم من سخط الله تعالى وعذابه فمن الأولى متعلقة بعاصم والكلام على حذف مضاف و‏{‏مِنْ‏}‏ الثانية زائدة لتعميم النفي، أو ما لهم من جهته وعنده تعالى من يعصمهم كما يكون للمؤمنين فمن الأولى متعلقة بمحذوف وقع حالاً من ‏{‏عَاصِمَ‏}‏ وقيل متعلقة بالاستقرار المفهوم من الظرف وليس في الكلام مضاف محذوف، و‏{‏مِنْ‏}‏ الثانية على حالها والجملة مستأنفة أو حال من ضمير ‏{‏تَرْهَقُهُمْ‏}‏ وفي نفي العاصم من المبالغة في نفي العصمة ما لا يخفى ‏{‏والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا‏}‏ أي كأنما ألبست ذلك لفرط سوادها وظلمتها، والجار والمجرور صفة ‏{‏قِطَعًا‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مُظْلِماً‏}‏ حال من ‏{‏اليل‏}‏ والعامل فيه متعلق الجار والمجرور فعلاً كان أو اسماً‏.‏

وجوز أبو البقاء كونه حالا من ‏{‏قِطَعًا‏}‏ أو صفة له، وكان الواجب الجمع لأن ‏{‏قِطَعًا‏}‏ جمع قطعة إلا أنه أفردت حاله أو صفته لتأويل ذلك بكثير ولا يخفى أنه تكلف مستغنى عنه، والظاهر أن دمن‏}‏ للتبعيض، وقال بعض المحققين‏:‏ لليل معنيان زمان تخفى فيه الشمس قليلاً أو كثيراً كما يقال دخل الليل والآن ليل وما بين غروب الشمس إلى طلوعها أو قربها من الطلوع، فمن إما تبعيضية على الأول وبيانية على الثاني، وجوز الزمخشري أن يكون العامل في الحال ‏{‏‏}‏ للتبعيض، وقال بعض المحققين‏:‏ لليل معنيان زمان تخفى فيه الشمس قليلاً أو كثيراً كما يقال دخل الليل والآن ليل وما بين غروب الشمس إلى طلوعها أو قربها من الطلوع، فمن إما تبعيضية على الأول وبيانية على الثاني، وجوز الزمخشري أن يكون العامل في الحال ‏{‏أُغْشِيَتْ‏}‏ من قبل أن ‏{‏مِّنَ اليل وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل‏}‏ ليس صلة أغشيت حتى يكون عاملاً في المجرور بل التقدير أنه صفة فيكون العامل فيه الاستقرار، وأيضاً الصفة ‏{‏مِّنَ اليل‏}‏ وذو الحال هو الليل فلا يكون ‏{‏أُغْشِيَتْ‏}‏ عاملاً في ذي الحال مع أنه المقصود وقد يقال‏:‏ إن ‏{‏مِنْ‏}‏ للتبيين والتقدير كائنة من الليل فاغشيت عامل في الصفة وهي كائنة فكأنه عامل في ‏{‏اليل‏}‏ وهو مبني على أن العامل في العامل في الشيء عامل فيه وهو فاسد فالوجه أن يقال‏:‏ إن ‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض أي بعض الليل ويكون بدلاً من ‏{‏قِطَعًا‏}‏ ويجعل ‏{‏مُظْلِماً‏}‏ حالا من البعض لا ‏{‏مِّنَ اليل‏}‏ فيكون العامل في ذي الحال ‏{‏أُغْشِيَتْ‏}‏ ولا يخفى أنه وجه أغشى قطعاً من ليل التكلف والتعسف مظلماً‏.‏

وأجاب الإمام أمين الدين بأنه نسبة ‏{‏أُغْشِيَتْ‏}‏ إلى ‏{‏قِطَعًا‏}‏ إنما هي باعتبار ذاتها المبهمة المفسرة بالليل لا باعتبار مفهوم القطع في نفسها وإنما ذكرت لبيان مقدار ما أغشيت به وجوههم وهو الليل مظلماً فافضاء الفعل إلى ‏{‏قِطَعًا‏}‏ باعتبار ما لا يتم معناها المراد إلا به كافضاء الفعل إليه كما إذا قيل‏:‏ اشتريت أرطالاً من الزيت صافياً فإن المشتري فيه الزيت والارطال مبينة لمقدار ما اشترى صافياً فالعامل في الحال إنما هو العامل اللفظي ولا يلاحظ معنى الفعل في الجار والمجرور من جهة العمل لغلبة العامل اللفظي عليه بالظهور ولا يخفى ما فيه‏.‏ وقال في الكشف‏:‏ إن الزمخشري ذهب إلى أن ‏{‏أُغْشِيَتْ‏}‏ له اتصال بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِّنَ اليل‏}‏ من قبل أن الصفة والموصوف متحدان لا سيما والقطع بعض الليل فجاز أن يكون عاملاً في الصفة بذلك الاعتبار وكأنه قيل أغشيت الليل مظلماً وهذا كما جوز في نحو ‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 47‏]‏ أن يكون حالاً من الضمير باعتبار اتحاده بالمضاف وكأنه قيل‏:‏ ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً وكما جوز في ‏{‏مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 135‏]‏ لأن الملة كالجزء كأنه قيل‏:‏ اتبعوا إبراهيم حنيفا وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري وهو سر هذا الموضع لا ما طوله كثيرون لا سيما حمل ‏{‏مِنْ‏}‏ على التجريد فإنه مع أن المعنى على التبعيض لا البيان وليس كل بيان تجريداً لا يتم مقصوده انتهى‏.‏

وقد عرض في ذلك بشيخه العلامة الطيبي فإنه عليه الرحمة قد تكلف ما تكلف والانصاف أن ما جوزه الزمخشري هنا مما لا ينبغي والسعي في إصلاحه مع وجود الوجه الواضح الذي لا ترهقه قترة يقرب من أن يكون عبثاً‏.‏ وقرأ ابن كثير‏.‏ والكسائي‏.‏ ويعقوب‏.‏ وسهل ‏{‏قِطَعًا‏}‏ بسكون الطاء وهو اسم مفرد معناه طائفة من الليل أو ظلمة آخره أو اسم جنس لقطعة وأنشدوا‏.‏

افتحي الباب وانظري في النجو *** كم علينا من قطع ليل بهيم

وعلى هذا يجوز أن يكون ‏{‏مُظْلِماً‏}‏ صفة له أو حالاً منه بلا تكلف تأويل‏.‏ وقرىء‏.‏ ‏{‏كَأَنَّمَا يغشى *وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مّنَ الله مِنْ‏}‏ والكلام فيه ظاهر، والجملة كالتي قبلها مستأنفة أو حال من ضمير ‏{‏تَرْهَقُهُمْ‏}‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة ‏{‏أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ لا يخرجون منها أبداً واحتجت الوعيدية بهذه الآية على قولهم الفاسد بخلود أهل الكبائر‏.‏ وأجيب بأن السيآت شاملة للكفر وسائر المعاصي وقد قامت الأدلة على أنه لا خلود لأصحاب المعاصي فخصصت الآية بمن عداهم، وأيضاً قد يقال انهم داخلون في الذين أحسنوا بناء على ما أخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وغيرهما عن ابن عباس وأبو الشيخ عن قتادة أنهم الذين شهدوا أن لا إله إلا الله أي المؤمنون مطلقاً فلا يدخلون في القسم الآخر لتنافي الحكمين، وقيل‏:‏ إن أل في السيئات للاستغراق فالمراد من عمل جميع ذلك؛ والقول بخلوده في النار مجمع عليه وليس بذاك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ‏}‏ كلام مستأنف مسوق لبيان بعض آخر من أحوالهم الفظيعة، وتأخيره في الذكر مع تقدمه في الوجود على بعض أحوالهم المحكية سابقاً كما قال بعض المحققين للإيذان باستقلال كل من السابق واللاحق بالاعتبار ولو روعي الترتيب الخارجي لعد الكل شيئاً واحداً ولذلك فصل عما قبله، وزعم الطبرسي أنه تعالى لما قدم ذكر الجزاء بين بهذا وقت ذلك، وعليه فالآية متصلة بما ذكر آنفاً لكن لا يخفى أن ذلك لم يخرج مخرج البيان، وأولى منه أن يقال‏:‏ وجه اتصاله بما قبله أن فيه تأكيداً لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَّا لَهُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 27‏]‏ من حيث دلالته على عدم نفع الشركاء لهم‏.‏ و‏{‏يَوْمٍ‏}‏ منصوب بفعل مقدر كذكرهم وخوفهم، وضمير ‏{‏نَحْشُرُهُمْ‏}‏ لكلا الفريقين من الذين أحسنوا الحسنى والذين كسبوا السيآت لأنه المتبادر من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَمِيعاً وَمَنْ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ‏}‏ أي للمشركين من بينهم ولأن توبيخهم وتهديدهم على رؤوس الاشهاد أفظع، والأخبار بحشر الكل في تهويل اليوم ادخل، وإلى هذا ذهب القاضي البيضاوي وغيره، وكون مراده بالفريقين فريقي الكفار والمشركين خلاف الظاهر جداً‏.‏

وقيل‏:‏ الضمير للفريق الثاني خاصة فيكون الذين أشركوا من وضع الموصول موضع الضمير‏.‏ والنكتة في تخصيص وصف إشراكهم في حيز الصلة من بين سائر ما اكتسبوه من السيئات ابتناء التوبيخ والتقريع عليه مع ما فيه من الإيذان بكونه معظم جناياتهم وعمدة سيئاتهم، وهو السر في الاظهار في مقام الإضمار على القول الأخير ‏{‏مَكَانَكُمْ‏}‏ ظرف متعلق بفعل حذف فسد هو مسده وهو مضاف إلى الكاف، والميم علامة الجمع أي الزموا مكانكم‏.‏ والمراد انتظروا حتى تنظروا ما يفعل بكم‏.‏ وعن أبي علي الفارسي أن مكان اسم فعل وحركته حركة بناء‏.‏ وهل هو اسم فعل لالزم أو لاثبت ظاهر كلام بعضهم الأول والمنقول عن شرح التسهيل الثاني لأنه على الأول يلزم أن يكون متعدياً كالزم مع أنه لازم، وأجيب بمنع اللزوم، وقال السفاقسي‏:‏ في كلام الجوهري ما يدل على أن الزم يكون لازماً ومتعدياً فلعل ما هو اسم له اللازم‏:‏ وذكر الكوفيون أنه يكون متعدياً وسمعوا من العرب مكانك زيداً أي انتظره‏.‏ واختار الدماميني في «شرح التسهيل» عدم كونه اسم فعل فقال‏:‏ لا أدري ما الداعي إلى جعل هذا الظرف اسم فعل إما لازماً وإما متعدياً وهلا جعلوه ظرفاً على بابه ولم يخرجوه عن أصله أي أثبت مكانك أو انتظر مكانك‏.‏ وإنما يحسن دعوى اسم الفعل حيث لا يمكن الجمع بين ذلك الاسم وذلك الفعل نحوصه وعليك وإليك، وأما إذا أمكن فلا كوراءك وأمامك وفيه منع ظاهر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنتُمْ‏}‏ توكيد للضمير المنتقل إلى الظرف من عامله على القول الأول وللضمير المستتر في اسم الفعل على القول الثاني، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَشُرَكَاؤُكُمْ‏}‏ عطف على ذلك، وقيل‏:‏ إن ‏{‏أَنتُمْ‏}‏ مبتدأ خبره محذوف أي مهانون أو مجزيون وهو خلاف الظاهر مع ما فيه من تفكيك النظم، قيل‏:‏ ولأنه يأباه قراءة وشركاءكم بالنصب إذ يصير حينئذ مثل كل رجل وضيعته ومثله لا يصح فيه ذلك لعدم ما يكون عاملاً فيه، والعامل على التوجيه الأول ظاهر لمكان ‏{‏مَكَانَكُمْ‏}‏ ‏{‏فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ‏}‏ أي ففرقنا، وهو من زلت الشيء عن مكانه أزيله أي أزلته، والتضعيف للتكثير لا للتعدية، وهو يائى ووزنه فعل بدليل زايل، وقد قرىء به وهو بمعناه نحو كلمته وكالمته وصعر خده وصاعر خده‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ إنه واوى لأنه من زال يزول، وإنما قلبت الواو ياءاً لأنه فيعل، والأول أصح لما علمت ولأن مصدره التزييل لا الزيولة مع أن فعل أكثر من فيعل، ونصب بين على الظرفية لا على أنه مفعول به كما توهم، والمراد بالتفريق قطع الاقران والوصل التي كانت بينهم وبين الشركاء في الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ التفريق الجسماني وظاهر النظم الجليل لا يساعده، والعطف على ‏{‏نَّقُولُ‏}‏ وإيثار صيغة الماضي للدلالة على التحقق لزيادة التوبيخ والتحسير، والفاء الدلالة على وقوع التزييل ومبادية عقيب الخطاب من غير مهملة إيذاناً بكمال رخاوة ما بين الفريقين من العلاقة والوصلة، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ‏}‏ عطف على ما قبله، وجوز أن يكون في موضع الحال بتقدير قد أو بدونها على الخلاف، والإضافة باعتبار أن الكفار هم الذين اتخذوهم شركاء لله سبحانه وتعالى‏:‏

وقيل‏:‏ لأنهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم فصيروهم شركاء لأنفسهم في ذلك، والمراد بهؤلاء الشركاء قيل‏:‏ الأصنام فإن أهل مكة إنما كانوا يعبدونها وهم المعنيون بأكثر هذه الآيات، ونسبة القول لها غير بعيد من قدرته سبحانه فينطقها الله الذي أنطق كل شيء في ذلك الموقف فتقول لهم ‏{‏مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ‏}‏ والمراد من ذلك تبريهم من عبادتهم وأنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم الداعية لهم وما أعظم هذا مكان الشفاعة التي كانوا يتوقعونها منهم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بهم الملائكة والمسيح عليهم السلام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَّقُولُ *للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 40‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ الآية، والمراد من ذلك القول ما أريد منه أولاً أيضاً لأن نفي العبادة لا يصح لثبوتها في الواقع والكذب لا يقع في القيامة ممن كان، وقيل‏:‏ إن قول الشركاء مجرى على حقيقته بناء على أن ذلك الموقف موقف الدهشة والحيرة فذلك الكذب يكون جارياً مجرى كذب الصبيان والمجانين المدهوشين، ويمكن أن يقال أيضاً‏:‏ أنهم ما أقاموا لأعمال الكفار وزناً وجعلوها لبطلانها كالعدم فلذا نفوا عبادتهم إياهم أو يقال‏:‏ إن المشركين لما تخيلوا فيما عبدون أوصافاً كثيرة غير موجودة فيه في نفس الأمر كانوا في الحقيقة إنما عبدوا ذوات موصوفة بتلك الصفات ولما كانت ذوات الشركاء خالية عن تلك الصفات صدق أن يقال‏:‏ إن المشركين ما عبدوا الشركاء وهذا أولى من الأولين بل لا يكاد يلتفت إليهما وكأن حاصل المعنى عليه انكم عبدتم من زعمتم أنه يقدر على الشفاعة لكم وتخليصكم من العذاب وانه موصوف بكيت وكيت فاطلبوه فأنا لسنا كذلك‏.‏

والمراد من ذلك قطع عرى أطماعهم وإيقاعهم في اليأس الكلي من حصول ما كانوا يرجونه ويعتقدونه فيهم ولعل اليأس كان حاصلاً لهم من حين الموت والابتلاء بالعذاب ولكن يحصل بما ذكر مرتبة فوق تلك المرتبة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بهم الشياطين وقطع الوصل عليه من الجانبين لا من جانب العبدة فقط كما يقتضيه ما قبل، والمراد من قولهم ذلك على طرز ما تقدم‏.‏ وأورد على القول بأن المراد الملائكة والمسيح عليهم السلام بأنه لا يناسب قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ‏}‏ حيث أن المراد منه الوعيد والتهديد، وظاهر العطف انصراف ذلك إلى الشركاء أيضاً، وتهديد أولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام مما لا يكاد يقدم على القول به‏.‏

واعترض بأن هذا مشترك الإلزام فإنه يرد على القول الأول أيضاً إذ لا معنى للوعيد والتهديد في حق الأصنام مع عدم صدور شيء منها يوجب ذلك، ولا مخلص إلا بالتزام أن التهديد والوعيد للمخاطبين فقط أو للمجموع باعتبارهم‏.‏

وأجيب بجواز كون تهديد الأصنام نظير ادخالها النار مع عبدتها كما يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏ وكذا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏ على ما عليه جمع من المفسرين، ودعوى الفرق بين التهديد والإدخال في النار تحتاج إلى دليل‏.‏ نعم قالوا‏:‏ يجب على القول بأن المراد الملائكة عليهم السلام أن تحمل الغفلة في قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لغافلين‏}‏ على عدم الارتضاء لا على عدم الشعور لأن عدم شعور الملائكة بعبادتهم غير ظاهر بل لو قيل بوجوب هذا الحمل على القول بأن المراد المسيح عليه السلام أيضاً لم يبعد لأن عدم شعوره بعبادتهم مع أنه سينزل ويكسر الصليب كذلك، ولا يكاد يصح الحمل على الظاهر إلا إذا كان المراد الأصنام فإن عدم شعورهم بذلك ظاهر، وتعقب بأنه لا دليل على شعور الملائكة عليهم السلام بعبادتهم ليصرف له اللفظ عن حقيقته، وليس هؤلاء المعبودون هم الحفظة أو الكتبة بل ملائكة آخرون ولعلهم مشغلون بأداء ما أمروا به عن الالتفات إلى ما في هذا العالم ونحن لا ندعي في الملائكة عليهم السلام ما يدعيه الفلاسفة فإنهم الذين قالوا يوم استنبئوا عن الأسماء‏:‏ ‏{‏سبحانك لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 32‏]‏ وهذا جبريل عليه السلام من أجلهم قدراً كان كثيراً ما يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فيقول‏:‏ لا أعلم وسوف أسأل ربي، وكذا لا دليل على شعور المسيح عليه السلام بعادة هؤلاء المخاطبين عند إيقاعها وكونه سينزل ويكسر الصليب لا يستدعي الشعور بها كذلك كما لا يخفى، وقد يستأنس لعدم شعوره بما حكى الله تعالى عنه في الجواب عن سؤاله له عليه السلام من قوله‏:‏ ‏{‏مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 117‏]‏، واعترض على القول الأخير بأنه لا يصح مع هذا القول مطلقاً لأن الشياطين هم الذين زينوا لهم هذه الشنيعة الشنعاء وأغروهم عليها فكيف يتأتى القول بأنهم غافلون حقيقة عنها أو أنهم غير مرتضين لها، ولعل من ذهب إلى ذلك يلتزم الكذب ويقول بجواز وقوعه يوم القيامة‏.‏

وقيل‏:‏ إن القول الأول لا يصح مع هذا القول أيضاً مطلقاً لأن الأوثان لا تتصف بالغفلة حقيقة لأنها كما يفهم من القاموس اسم لترك الشيء وذهاب القلب عنه إلى غيره وهذا شأن ذوي القلوب والأوثان ليست من ذلك وكذا لا تتصف بها مجازاً عن عدم الارتضاء إذ الظاهر أن مرادهم من عدم الاتضاء السخوط والكراهة وظاهر أن الأوثان لا تتصف بسخط ولا ارتضاء إذ هما تابعان للإدراك ولا إدراك لها ومن أثبته للجمادات حسب عالمها فالأمر عنده سهل ومن لا يثبته يقول‏:‏ إنها مجاز عن عدم الشعور، وقد يقال‏:‏ إن المراد بغفلتهم عن عبادة المشركين عدم طلبهم الاستعدادي لها ويرجع ذلك بالآخرة إلى نفي استحقاق العبادة عن أنفسهم وإثبات الظلم لعابديهم‏.‏

وحينئذ فالأظهر أن يراد بالشركاء جميع ما عبد من دون الله تعالى من ذوي العقول وغيرهم والكل صادق في قوله ذلك، وقد يراد من عدم الطلب ما يشمل عدم الطلب الحالي والقالي إذا اعتبر كون القائل ممن يصح نسبة ذلك له كالملائكة عليهم السلام وهذا الوجه لا يتوقف على شعور الشركاء بعبادتهم ولا على عدمه فيجوز أن يكون لهم شعور بذلك ويجوز أن لا يكون لهم شعور، والظاهر أن تفسير الغفلة بعدم الارتضاء المراد منهم على ما قيل السخط والكراهة يستدعي الشعور إذ كراهة الشيء مع عدم الشعور به مما لا يكاد يعقل وإثباته لجميع الشركاء ولو اجمالاً في وقت من الأوقات الدنيوية غير مسلم، ولعل التعبير بالغفلة أكثر تهجيناً للمخاطبين ولعبادتهم من التعبير بعدم الطلب مثلاً فتأمل، والباء في ‏{‏بالله‏}‏ صلة و‏{‏شَهِيداً‏}‏ تمييز، و‏{‏ءانٍ‏}‏ مخففة من أن واللام هي الفارقة بين المخففة والنافية والظرف متعلق بغافلين، والتقديم لرعاية الفاصلة، أي كفى الله شهيداً فإنه العليم الخبير المطلع على كنه الحال إنا كنا غافلين عن عبادتكم، والظاهر من كلام بعض المحققين أن ‏{‏فكفى‏}‏ الخ استشهاد على النفي السابق لا على الإثبات اللاحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏هُنَالِكَ‏}‏ أي في ذلك المقام الدحض والمكان الدهش وهو مقام الحشر فهنالك باق على أصله وهو الظرفية المكانية، وقيل‏:‏ إنه استعمل ظرف زمان مجازاً أي في ذلك الوقت ‏{‏تَبْلُواْ‏}‏ أي تختبر ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ‏}‏ مؤمنة كانت أو كافرة ‏{‏مَّا أَسْلَفَتْ‏}‏ من العمل فتعاين نفعه وضره أتم معاينة‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏تَتْلُو‏}‏ من التلاوة بمعنى القراءة، والمراد قراءة صحف ما أسلفت، وقيل‏:‏ إن ذلك كناية عن ظهور الأعمال‏.‏ وجوز أن يكون من التلو على معنى أن العمل يتجسم ويظهر فيتبعه صاحبه حتى يرد به الجنة أو النار أو هو تمثيل‏.‏ وقرأ عاصم في رواية عنه ‏{‏نبلو‏}‏ بالباء الموحدة والنون ونصب ‏{‏والمؤمنون كُلٌّ‏}‏ على أن فاعل نبلو ضميره تعالى و‏{‏كُلٌّ‏}‏ مفعوله و‏{‏مَا‏}‏ بدل منه بدل إشتمال، والكلام استعارة تمثيلية أي هنالك نعامل كل نفس معاملة من يبلوها ويتعرف أحوالها من السعادة والشقاوة باختبار ما أسلفت من العمل، ويجوز أن يراد نصيب بالبلاء أي العذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر فتكون ما منصوبة بنزع الخافض وهو الباء السببية‏.‏

‏{‏وَرُدُّواْ إِلَى الله‏}‏ عطف على ‏{‏زيلنا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 28‏]‏ والضمير ‏{‏للذين أشركوا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 28‏]‏ وما في البين اعتراض في أثناء الحكاية مقرر لمضمونها، والمعنى ردوا إلى جزائه وعقابه أو إلى موضع ذلك، فالرد ءما معنوي أو حسي‏.‏ وقال الإمام‏:‏ المعنى جعلوا ملجئين إلى الإقرار بأولهيته سبحانه وتعالى ‏{‏مولاهم‏}‏ أي ربهم ‏{‏الحق‏}‏ أي المتحقق الصادق في ربوبيته لا ما اتخذوه ربا باطلا‏.‏ وقرىء ‏{‏الحق‏}‏ بالنصب على المدح، والمراد به الله تعالى وهو من أسمائه سبحانه أو على المصدر المؤكد والمراد به ما يقابل الباطل، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين ءامَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 11‏]‏ لاختلاف معنى المولى فيهما‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن السدى أن الأولى منسوخة بالثانية ولا يخفى ما فيه ‏{‏وَضَلَّ‏}‏ أي ضاع وذهب ‏{‏عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ من أن آلهتهم تشفع لهم أو ما كانوا يدعون أنها شركاء لله عز وجل، و‏{‏مَا‏}‏ يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية والجملة معطوفة على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏رُدُّواْ‏}‏ ومن الناس من جعلها عطفاً على ‏{‏زيلنا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 28‏]‏ وجملة ردو معطوفة على جملة تبلو الخ داخلة في الاعتراض وضمير الجمع للنفوس المدلول عليها بكل نفس، والعدول إلى الماضي للدلالة على التحقق والتقرر، وإيثار صيغة الجمع للإيذان بأن ردهم إليه سبحانه يكون على طريق الاجتماع ومذا ذكرناه أولى لفظاً ومعنى‏.‏ وتعقب شيخ الإسلام جعل الضمير للنفوس وعطف ‏{‏رُدُّواْ‏}‏ على ‏{‏تبلو‏}‏ الخ بأنه لا يلائمه التعرض لوصف الحقية في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الله مولاهم الحق‏}‏ فإنه للتعريض بالمردودين ثم قال‏:‏ ولئن اكتفى فيه بالتعريض ببعضهم أو حمل ‏{‏الحق‏}‏ على معنى العدل في الثواب والعقاب أي مع تفسير المولى بمتولي الأمور فقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَضَلَّ‏}‏ الخ مما لا مجال فيه للتدارك قطعاً فإن ما فيه من الضمائر الثلاثة للمشركين فيلزم التفكيك حتماً، وتخصيص كل نفس بالنفوس المشركة مع عموم البلوي للكل يأباه مقام تهويل المقام انتهى، والظاهر أنه اعتبر عطف ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُم‏}‏ الخ على ‏{‏رُدُّواْ‏}‏ مع رجوع ضميره للنفوس وهو غير ما ذكرناه فلا تغفل‏.‏