فصل: تفسير الآية رقم (31)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ أي لأولئك المشركين الذين حيكت أحوالهم وبين ما يؤدي إليه أفعالهم التي هي أفعى لهم احتجاجاً على حقية التوحيد وبطلان ما هم عليه من الاشراك‏.‏

‏{‏مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض‏}‏ أي منهما جميعاً فإن الارزاق تحصل بأسباب سماوية كالمطر وحرارة الشمس المنضجة وغير ذلك ومواد أرضية والأولى بمنزلة الفاعل والثانية بمنزلة القابل أو من كل واحد منهما بالاستقلال كاللأمطار والمن والأغذية الأرضية توسعة عليكم فمن على هذا لابتداء الغاية، وقيل‏:‏ هي لبيان ‏{‏مِنْ‏}‏ على تقدير المضاف، وقيل‏:‏ تبعيضية على ذلك التقدير أي من أهل السماء والأرض ‏{‏أَمَّن يَمْلِكُ السمع والابصار‏}‏ ‏{‏أَمْ‏}‏ منقطعة بمعنى بل والاضراب انتقالي لا ابطالي وفيه تنبيه على كفاية هذا الاستفهام فيما هو المقصود أي من يستطيع خلقهما وتسويتهما على هذه الفطرة العجيبة ومن وقف على تشريحهما وقف على ما يبهر العقول أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالهما عن أدنى شيء يصيبهما أو من يتصرف بهما ادهابا وابقاء، والملك على كل مجاز، قيل‏:‏ والمعنى الأول أوفق لنظم الخالقية مع الرازقية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مّنَ السماء والارض‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 35‏]‏ ‏{‏وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى‏}‏ أي ومن ينشىء الحيوان من النطفة مثلا والنطفة من الحيوان أو من يحيي أو يميت بأن يكون المراد بالإخراج التحصيل من قولهم‏:‏ الخارج كذا أي الحاصل أي من يحصل الحي من الميت بأن يفيض عليه الحياة ويحصل الميت من الحي بأن يفيض عليه الموت ويسلب عنه الحياة والمآل ما علمت، ومن الناس من فسر الحي والميت هنا بالمؤمن والكافر والأول أولى ‏{‏وَمَن يُدَبّرُ الامر‏}‏ أي ومن يلي تدبير أم العالم جميعاً وهو تعميم بعد تخصيص ما اندرج تحته من الأمور الظاهرة بالذكر، وفيه إشارة إلى أن الكل منه سبحانه وإليه وأنه لا يمكنكم علم تفاصيله ‏{‏فَسَيَقُولُونَ‏}‏ بلا تلعثم ولا تأخير ‏{‏الله‏}‏ إذ لا مجال للمكابرة والعناد في شيء من ذلك لغاية وضوحه، والاسم الجليل مبتدأ والخبر محذوف أي الله يفعل ما ذكر من الأفاعيل لا غيره ‏{‏هذا‏}‏ وربما يستدل بالآية على تقدير أن لا تكون ‏{‏مِنْ‏}‏ لابتداء الغاية على جواز أن يقال الله سبحانه انه من أهل السماء والأرض، وكون المراد هناك غير الله تعالى لا يناسب الجواب ومن لم ير الجواز تعني ومن رآه بناء على ظواهر الآيات المفيدة لكونه تعالى في السماء وقوله صلى الله عليه وسلم في الجارية التي أشارت إلى السماء حين قيل لها‏.‏ اين الله‏؟‏ «أعتقها فإنها مؤمنة» وإقراره حصينا حين قال له عليه الصلاة والسلام‏:‏

«كم تعيديا حصين‏؟‏ فقال‏:‏ سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ فمن الذي أعددته لرغبتك ورهبتك‏؟‏ فقال حصين‏:‏ الاله الذي في السماء» أبقي الآية على ما يقتضيه ظاهرها‏.‏ وأنت تعلم إنه لم يرد صريحاً كونه تعالى من أهل السماء والأرض وان ورد كونه جل وعلا في السماء على المعنى اللاثق بجلاله جل جلاله فلا أرى جواز ذلك، ولا داعي لإخراج ‏{‏مِنْ‏}‏ عن ابتداء الغاية ليحتاج إلى العناية فر رد الاستدلال كما لا يخفى‏.‏ وفي الانتصاف أن هذه الآية كافحة لوجوه القدرية الزاعمين أن الارزاق منقسمة فمنها ما رزقه الله تعالى للعبد وهو الحلال ومنها ما رزقه العبد لنفسه وهو الحرام فهي ناعية عليهم هذا الشرك الخفي لو سمعوا ‏{‏أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 42‏]‏ وكذا فيما قيل تكفح في وجوه أناس يزعمون أن الذي يدبر الأمر في كل عصر قطبه وهو عماد السماء عندهم ولولاه لوقعت على الأرض فكؤني بك إذا سألتهم من يدبر الأمر يقولون القطب، وقد يعتذر عنهم بأن مرادهم أنه المدبر باذن الله تعالى وجاء اطلاق المدبر بهذا المعنى على غيره تعالى في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فالمدبرات أَمْراً‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 5‏]‏

وربما يقال إنه لا فرق عندهم بين الله تعالى وبين القطب إلا بالاعتبار لأنه الذي فاز بقربي النوافل والفرائض على أتم وجه فارتفعت الغيرية، فالقول بأن القطب هو المدبر كالقول بأن الله سبحانه هو المدبر بلا فرق‏.‏

واعترض هذا بأنه ذهاب إلى القول بوحدة الوجود وأكثر المتكلمين وبعض الصوفية كالإمام الرباني قدس سره ينكرون ذلك، والأول بأنه هلا قال المشركون في جواب ذلك‏:‏ الملائكة أو عيسى عليهم السلام مثلا على معنى أنهم المدبرون للأمر بإذن الله تعالى فيكون المذكورون عندهم بمنزلة الأقطاب عند أولئك، وأجيب بأن السؤال إنما هو عمن ينتهي إليه الأمر فلا يتسنى لهم إلا الجواب المذكور، ولعل غير أهل الوحدة لو سئلوا كذلك ما عدلوا في الجواب عنه سبحانه، وأما أهل الوحدة قدس الله تعالى أسرارهم فلهم كلمات لا يقولها المشركون وهي لعمري فوق طور العقل ولذا أنكرها أهل الظاهر عليهم ‏{‏فَقُلْ‏}‏ لهم ‏{‏أَفَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ الهمزة لإنكار عدم الاتقاء بمعنى إنكار الواقع كما في قولك‏:‏ أتضرب إياك لا بمعنى إنكار الوقوع كما في قولك‏:‏ أأضرب أبي، والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أي أتعلمون ذلك فلا تتقون، والخلاف في مثل هذا التركيب شهير وما ذكرناه هو ما عليه البعض، ومفعول ‏{‏تَتَّقُونَ‏}‏ محذوف وهو متعد لواحد أي أفلا تتقون عذابه الذي لكم بما تتعاطونه من إشراككم به سبحانه ما لا يشاركه في شيء مما ذكر من خواص الأولوهية، وكلام القاضي يوهم أنه متعد إلى مفعولين وليس بذاك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق‏}‏ فذلكة لما تقرر والإشارة إلى المتصف بالصفات السابقة حسبما اعترفوا به، وهي مبتدأ والاسم الجليل صفة له و‏{‏رَبُّكُمْ‏}‏ خبر و‏{‏الحق‏}‏ خبر بعد خبر أو صفة أو خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون الاسم الجليل هو الخبر و‏{‏رَبُّكُمْ‏}‏ بدل منه أو بيان له و‏{‏الحق‏}‏ صفة الرب أي مالككم ومتولي أموركم الثابت، ربوبيته والمتحقق الوهيته تحققاً لا ريب فيه ‏{‏فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال‏}‏ أي لا يوجد غير الحق شيء يتبع الا الضلال فمن تخطى الحق وهو عبادة الله تعالى وحده لا بد وإن يقع في الضلال وهو عبادة غيره سبحانه على الانفراد أو الاشتراك لأن عبادته جل شأنه مع الاشتراك لا يعتد بها فما اسم استفهام وذا موصول، ويجوز أن يكون الكل اسماً واحداً قد غلب فيه الاستفهام على اسم الإشارة، وهو مبتدأ خبره ‏{‏بَعْدَ الحق‏}‏ على ما في النهر والاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الوقوع ونفيه، و‏{‏بَعْدَ‏}‏ بمعنى غير مجاز والحق ما علمت، وهو غير الأول ولذا أظهر، وإطلاق الحق على عبادته سبحانه وكذا اطلاق الضلال على عبادة غيره تعالى لما أن المدار في العبادة الاعتقاد، وجوز أن يكون الحق عبارة عن الأول والاظهار لزيادة التقرير ومراعاة كمال المقابلة بينه وبين الضلال والمراد به هو الأصنام، والمعنى فماذا بعد الرب الحق الثابت ربوبيته إلا الضلال أي الباطل الضائع المضمحل وإنما سمي بالمصدر مبالغة كأنه نفس الضلال والضياع، وقيل‏:‏ المراد بالحق والضلال ما يعم التوحيد وعبادة غيره سبحانه وغير ذلك ويدخل ما يقتضيه المقام هنا دخولا أولياء، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أشهب قال‏:‏ سئل مالك عن شهادة اللعاب بالشطرنج والنرد فقال أما من أدمن فما أرى شهادتهم طائلة يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال‏}‏ فهذا كله من الضلال‏.‏

‏{‏فَإِنّي تُصْرَفُونَ‏}‏ أي فكيف تصرفون عن الحق إلى الضلال والاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الواقع واستبعاده والتعجب منه، وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الإنكار إلى نفس الفعل فإنه لا بد لكل موجود من أن يكون وجوده على حال من الأحوال فإذا انتفى جميع أحوال وجوده فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني والفاء لترتيب الإنكار والتعجب على ما قبله، ولعل ذلك الإنكار والتعجب متوجهان في الحقيقة إلى منشأ الصرف وإلا فنفس الصرف منه تعالى على ما هو الحق فلا معنى لإنكاره والتعجب منه مع كونه فعله جل شأنه، وإنما لم يسند الفعل إلى الفاعل لعدم تعلق غرض به‏.‏ وذهب المعتزلة أن فاعل الصرف نفسه المشركون فهم الذين صرفوا أنفسهم وعدلوا بها عن الحق إلى الضلال بناء على أن العباد هم الخالقون لأفعالهم، وأمر الإنكار والتعجب عليه ظاهر، وإنما لم يسند الفعل إلى ضميرهم على جهة الفاعلية إشارة إلى أنه بلغ من الشناعة إلى حيث أنه لا ينبغي أن يصرح بوقوعه منهم فتدبر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33 - 34‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏33‏)‏ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏كذلك‏}‏ أي كما حقت كلمة الربوبية لله سبحانه وتعالى أو كما أنه ليس بعد الحق إلا الضلال أو كما أنهم مصرفون عن الحق ‏{‏حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ‏}‏ أي حكمه ‏{‏عَلَى الذين فَسَقُواْ‏}‏ أي تمردوا في الكفر وخرجوا إلى أقصى حدوده، والمراد بهم أولئك المخاطبون، ووضع الموضول موضع ضميرهم للتوصل إلى ذمهم بعنوان الصلة وللاشعار بالعلية ‏{‏أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ بدل من الكلمة بدل كل من كل أو بدل اشتمال بناء على أن الحكم بالمعنى المصدري أو بمعنى المحكوم به، وقد تفسر الكلمة بالعدة بالعذاب فيكون هذا في موضع التعليل لحقيتها أي لأنهم الخ، واعترض بأن محصل الآية حينئذ على ما تقرر في الذين فسقوا أن كلمة العذاب حقت على أولئك المتمردين لتمردهم في كفرهم ولأنهم لا يؤمنون وهو تكرار لا طائل تحته، وأجيب بأنه لو سلم أن في الآية تكراراً مطلقاً فهو تصريح بما علم ضمناً، وفيه دلالة على شرف الإيمان بأن عذاب المتمردين في الكفر بسبب انتفاء الإيمان ‏{‏قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ احتجاج آخر على حقية التوحية وبطلان الاشراك، ولم يعطف إيذاناً باستقلاله في إثبات المطلوب، والسؤال للتبكيت والإلزام، وجعل سبحانه الإعادة لسطوع البراهين القائمة عليها بمنزلة البدء في إلزامهم ولم يبال بإنكارهم لها لأنهم مكابرون فيه والمكابر لا يلتفت إليه فلا يقال‏:‏ إن مثل هذا الاحتجاج إنما يتأتى على من اعترف بأن من خواص الإلهية بدء الخلق ثم إعادته ليلزم من نفيه عن الشركاء نفي الإلهية وهم غير مقرين بذلك، ففي الآية الإشارة إلى أن الإعادة أمر مكشوف ظاهر بلغ في الظهور والجلاء بحيث يصح أن يثبت فيه دعوى أخرى، وجعل ذلك الطيبي من صنعة الادماج كقول ابن نباتة‏:‏

فلا بد لي من جهلة في وصاله *** فمن لي بخل أودع الحلم عنده

فقد ضمن الغزل الفخر بكونه حليماً والفخر شكاية الإخوان ‏{‏قُلِ الله الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ قيل هو أمر له صلى الله عليه وسلم بأن يبين لهم من يفعل ذلك أي قل لهم الله سبحانه هو يفعلهما لا غيره كائناً ما كان لا بأن ينوب عليه الصلاة والسلام عنهم في الجواب كما قاله غير واحد لأن المقول المأمور به غير ما أريد منهم من الجواب وإن كان مستلزماً له إذ ليس المسؤول عنه من يبدأ الخلق ثم يعيده كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن رَّبُّ السموات والارض قُلِ الله‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 16‏]‏ حتى يكون القول المأمور به عين الجواب الذي أريد منهم ويكون صلى الله عليه وسلم نائباً عنهم في ذلك بل إنما هو وجود من يفعل البدء والإعادة من شركائهم فالجواب المطلوب منهم لا لا غير‏.‏

نعم أمر صلى الله عليه وسلم بأن يضمنه مقالته إيذاناً بتعينه وتحتمه وإشعاراً بأنهم لا يجترئون على التصريح به مخافة التبكيت والقام الحجر لا مكابرة ولجاجاً انتهى، وقد يقال‏:‏ المراد من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ‏}‏ الخ هل المبدىء المعيد الله أم الشركاء، والمراد من قوله سبحانه جل شأنه‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ الخ الله يبدأ ويعيد لا غيره من الشركاء وحينئذٍ ينتظم السؤال والجواب وانفهام الحصر بدلالة الفحوى فإنك إذا قلت‏:‏ من يهب الألوف زيد أم عمرو فقيل‏:‏ زيد يهب الألوف أفاد الحصر بلا شبهة‏.‏

وبما ذكر يعلم ما في الكلام السابق في الرد على ما قاله الجمع وكذا رد ما قاله القطب من أن هذا لا يصلح جواباً عن ذلك السؤال لأن السؤال عن الشركاء وهذا الكلام في الله تعالى بل هو الاستدلال على الهيته تعالى وإنه الذي يستحق العبادة بأنه المبدىء المعيد بعد الاستدلال على نفي الهية الشركاء فتأمل، وفي إعادة الجملة في الجواب بتمامها غير محذوفة الخبر كما في الجواب السابق لمزيد التأكيد والتحقيق ‏{‏فأنى تُؤْفَكُونَ‏}‏ الإفك الصرف والقلب عن الشيء يقال‏:‏ أفكه عن الشيء يأفكه أفكاً إذا قلبه عنه وصرفه، ومنه قول عروة بن أذينة‏:‏ إن تك عن أحسن الصنيعة مأ *** فوكاً ففي آخرين قد أفكوا

وقد يخص كما في «القاموس» بالقلب عن الرأي ولعله الأنسب بالمقام أي كيف تقلبون من الحق إلى الباطل والكلام فيه كما تقدم في ‏{‏فأنى تُصْرَفُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 23‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الحق‏}‏ احتجاج آخر على ما ذكر جىء به إلزاماً غب إلزام وإفحاماً إثر إفحام‏.‏ وفصله إيذاناً بفضله واستقلاله في إثبات المطلوب كما في سابقه‏.‏

والمراد هل من يهدي إلى الحق بإعطاء العقل وبعثة الرسل وإنزال الكتب والتوفيق إلى النظر والتدبر بما نصب في الآفاق والأنفس إلى غير ذلك الله سبحانه أم الشركاء‏؟‏‏.‏ ومنهم من يبقى الكلام على ما يتبادر منه كما سمعت فيما قبل، ومن الناس من خصص طريق الهداية، والتعميم أوفق بما يقتضيه المقام من كمال التبكيت والإلزام كما لا يخفى ‏{‏قُلِ الله يَهْدِى لِلْحَقّ‏}‏ أي هو سبحانه يهدي له دون غيره جل شأنه، والكلام في الأمر على طرز ما سبق، وفعل الهداية يتعدى إلى اثنين ثانيهما بواسطة وهي إلى أو اللام وقد يتعدى لهما بنفسه وهو لغة على ما قيل كاستعماله قاصراً بمعنى اهتدى، والمبرد أنكر هذا حيث قال‏:‏ إن هدى بمعنى اهتدى لا يعرف لكن لم يتابعه على ذلك الحفاظ كالفراء وغيره، وقد جمع هنا بين صلتيه إلى واللام تفننا وإشارة بإلى إلى معنى الانتهاء وباللام للدلالة على أن المنتهى غاية للهداية وأنها لم تتوجه إليه على سبيل الاتفاق بل على قصد من الفعل وجعله ثمرة له ولذلك عدى بها ما أسند إليه سبحانه كما ترى، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الحق‏}‏ فالمقصود به التعميم وإن كان الفاعل في الواقع هو الله جل شأنه‏.‏

وقيل‏:‏ اللام هنا للاختصاص والجمهور على الأول، والمفعول محذوف في المواضع الثلاثة، وجواز اللزوم في الأول مما لا يلتفت إليه، ويقدر فيها على طرز واحد كالشخص ونحوه، وقيل‏:‏ التقدير قل هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق قل الله يهدي من يشاء إلى الحق أفمن يهدي غيره إلى الحق ‏{‏أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى‏}‏ بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال وهي قراءة يعقوب‏.‏ وحفص، وأصله يهتدي وكسر الهاء لالتقاء الساكنين‏.‏ وقرأ حماد‏.‏ ويحيى عن أبي بكر عن عاصم بكسر الياء والهاء والتشديد وكسرت الياء اتباعاً للهاء، وكان سيبويه يرى جواز كسر حرف المضارعة لغة إلا الياء لثقل الكسرة عليها وهذه القراءة حجة عليه‏.‏ وقرأ ابن كثير‏.‏ وورش عن نافع‏.‏ وابن عامر بفتح الياء والهاء والتشديد والأصل يهتدي فنقلت فتحة التاء إلى الهاء قبلها ثم قلبت دالاً لقرب مخرجهما وأدغمت فيها‏.‏ وقرأ أبو عمرو‏.‏ وقالون عن نافع كذلك لكنه اختلس فتحة الهاء تنبيهاً على أن الحركة فيها عارضة، وفي بعض الطرق عن أبي عمرو أنه قرأ بالإدغام المجرد عن نقل الحركة إلى ما قبلها أو التحريك بالكسر لالتقاء الساكنين‏.‏

واستشكل ذلك بأن فيه الجمع بين الساكنين ولذا قال المبرد‏:‏ من رام هذا لا بد أن يحرك حركة خفيفة قال ابن النحاس إذ بدونه لا يمكن النطق، وذكر القاضي أنه لم يبال بالتقاء الساكنين لأن المدغم في حكم المتحرك، وأنكر بعضهم هذه القراءة وادعى أنه إنما قرأ بالاختلاس، والحق أنه قرأ بهما وروي ذلك عن نافع أيضاً وتفصيله في لطائف الإشارات والطيبة‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏يَهْدِى‏}‏ كيرمي، وهو إما لازم بمعنى يهتدي كما هو أحد استعمالات فعل الهداية على المعول عليه كما علمت آنفاً أو متعد أي لا يهدي غيره، ورجح هذا بأنه الأوفق بما قبل فإن المفهوم منه نفي الهداية لا الاهتداء، وقد يرجح الأول بأن فيه توافق القراءات معنى وتوافقها خير من تخالفها، وإنما نفى الاهتداء مع أن المفهوم مما سبق نفي الهداية كما ذكر لما أن نفيها مستتبع لنفيه غالباً فإن من اهتدى إلى الحق لا يخلو عن هداية غيره في الجملة وأدناها كونه قدوة له بأن يراه فيسلك مسلكه، والفاء لترتيب الاستفهام على ما سبق كأنه قيل‏:‏ إذا كان الأمر كذلك فأنا أسألكم أمن يهدي إلى الحق الخ‏.‏، والمقصود من ذلك الإلزام، والهمزة على هذا متأخرة في الاعتبار وإنما قدمت في الذكر لإظهار عراقتها في اقتضاء الصدارة كما هو المشهور عند الجمهور‏.‏

وصيغة التفضيل إما على حقيقتها والمفضل عليه محذوف كما اختاره مكي والتقدير أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع ممن لا يهدي أم من لا يهدي أحق، وإما بمعنى حقيق كما اختاره أبو حيان، وهو خبر عن الموصول، والفصل بالخبر بين أم وما عطفت عليه هو الأفصح كما قال السمين، وقد لا يفصل كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 109‏]‏ والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير، و‏{‏أَن يُتَّبَعَ‏}‏ في حيز النصب أو الجر بعد حذف الجار على الخلاف المعروف في مثله أو بأن يتبع ‏{‏إِلاَّ أَن يهدى‏}‏ استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يهتدي أو لا يهدي غيره في حال من الأحوال إلا حال هدايته تعالى له إلى الاهتداء أو إلى هداية الغير، وهذا على ما قاله جمع حال أشراف شركائهم كالمسيح وعزير والملائكة عليهم السلام دون الأوثان لأن الاهتداء الذي هو قبول الهداية وهداية الغير مختصان بذوي العلم فلا يتصور فيها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وأبو الشيخ‏.‏ وغيرهما أن المراد الأوثان؛ ووجه ذلك بأنه جار على تنزيلهم لها منزلة ذوي العلم، وقيل‏:‏ المعنى أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينقل إليه إلا أن ينقل إليه أو إلا أن ينقله الله تعالى من حاله إلى أن يجعله حيواناً مكلفاً فيهديه وهو من قولك‏:‏ هديت المرأة إلى زوجها وقد هديت إليه وقيل‏:‏ الآية الأولى

‏{‏قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 34‏]‏ في الأصنام أو فيما يعمهم ونحو الملائكة عليهم السلام وهذه في رؤساء الضلالة كالأحبار والرهبان الذين اتخذوا أرباباً من دون الله وليس بالعيد فيما أرى، ويؤيده التعبير بالاتباع فإنه يقتضي العمل بأوامرهم والاجتناب عن نواهيهم وهذا لا يعقل في الأوثان إلا بتكلف، وهو وإن عقل في أشراف شركائهم لكنهم لا يدعون إلا إلى خير واتباعهم في ذلك لا ينعى على أحدهم اللهم إلا أن يقال‏:‏ إن المشركين تقولوا عليهم أوامر ونواهي فنعى عليهم اتباعهم لهم في ذلك، وعبر بالاتباع ولم يعبر بالعبادة بأن يقال‏:‏ أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يعبد أم من لا يهدي إلا أن يهدى مع أن الآية متضمنة إبطال صحة عبادتهم من حيث أنهم لا يهدون وأدنى مراتب العبودية هداية المعبود لعبدته إلى ما فيه صلاح أمرهم مبالغة في تفظيع حال عبادتهم لأنه إذا لم يحسن الاتباع لم تحسن العبادة بالطريق الأولى وإذا قبح حال ذاك فحال هذه أقبح والله تعالى أعلم‏.‏ وقرىء إلا أن ‏{‏يَهْدِى‏}‏ مجهولاً مشدداً دلالة على المبالغة في الهداية ‏{‏فَمَالَكُمْ‏}‏ أي أي شيء لكم في اتخاذ هؤلاء العاجزين شركاء لله سبحانه وتعالى، والكلام مبتدأ وخبر والاستفهام للإنكار والتعجب‏.‏

وعن بعض النحاة أن مثل هذا التركيب لا يتم بدون حال بعده نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا لَكُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 49‏]‏ فلعل الحال هنا محذوف لظهوره كأنه قيل‏:‏ فما لكم متخذين هؤلاء شركاء ولا يصح أن يكون قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ في موضع الحال لأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالاً بل هو استفهام آخر للإنكار والتعجب أيضاً أي كيف تحكمون بالباطل الذي يأباه صريح العقل ويحكم ببطلانه من اتخاذ الشركاء لله جل وعلا، والفاء لترتيب الإنكار على ما ظهر من وجوب اتباع الهادي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا‏}‏ كلام مبتدأ غير داخل في حيز الأمر مسوق من جهته تعالى لبيان سوء إدراكهم وعدم فهمهم لمضمون ما أفحمهم من البراهين النيرة الموجبة للتوحيد أي ما يتبع أكثرهم في معتقداتهم ومحاوراتهم إلا ظناً واهياً مستند إلى خيالات فارغة وأقيسة باطلة كقياس الغائب على الشاهد وقياس الخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة ولا يلتفتون إلى فرد من أفراد العلم فضلاً عن أن يسلكوا مسالك الأدلة الصحيحة الهادية إلى الحق فيفهموا مضمونها ويقفوا على صحتها وبطلان ما يخالفها، فالمراد بالاتباع مطلق الانقياد الشامل لما يقارن القبول والانقياد وما لا يقارنه وبالقصر ما أشير إليه من أن لا يكون لهم في أثنائه اتباع لفراد من أفراد العلم والتفات إليه‏.‏ وتنكير ‏{‏ظَنّا‏}‏ للنوعية، وفي تخصيص هذا الاتباع بالأكثر الإشارة إلى أن منهم من قد يتبع فيقف على حقيقة التوحيد لكن لا يقبله مكابرة وعناداف، ومقتضى ما ذكروه في وجه أمره صلى الله عليه وسلم بأن ينوب عنهم في الجواب من أنه الإشارة إلى أن لجاجهم وعنادهم يمنعهم من الاعتراف بذلك أن فيهم من علم وكان معانداً، ولعل النيابة حينئذٍ عن الجميع باعتبار هذا البعض، وجوز أن يكون المعنى ما يتبع أكثرهم مدة عمره إلا ظناً ولا يتركونه أبداً، فإن حرف النفي الداخل على المضارع يفيد استمرار النفي بحسب المقام فالمراد بالاتباع هو الإذعان والانقياد والقصر باعتبار الزمان، وفي التخصيص تلويح بما سيكون من بعضهم من اتباع الحق والتوبة، وقيل‏:‏ المعنى وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى إلا ظناً لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم، وقيل‏:‏ المعنى وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام أنها آلهة وأنها شفعاء عند الله إلا الظن، والأكثر بمعنى الجميع وهذا كما ورد القليل بمعنى العدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 88‏]‏ وفي قوله‏:‏ قليل التشكي في المصيبات حافظ *** من اليوم أعقاب الأحاديث في غد

وحمل النقيض على النقيض حسن وطريقة مسلوكة، ولا يخفى أنه لا يتعين على هذين القولين حمل الأكثر على الجميع بل يمكن حمله على ما يتبادر منه أيضاً، ومن الناس من جعل ضمير ‏{‏أَكْثَرُهُمْ‏}‏ للناس وحينئذٍ يجب الحمل على المتبادر بلا كلفة ‏{‏إَنَّ الظن‏}‏ مطلقاً ‏{‏لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا‏}‏ فكيف الظن الفاسد والمراد من الحق العلم والاعتقاد الصحيح المطابق للواقع، والجار متعلق بما قبله ‏{‏وشيئاً‏}‏ نصب على أنه مفعول مطلق أي إغناء ما، ويجوز أن يكون مفعولاً به والجار والمجرور في موضع الحال منه، والجملة استئناف لبيان شأن الظن وبطلانه، وفيه دليل لمن قال‏:‏ إن تحصيل العلم في الاعتقاديات واجب وإن إيمان المقلد غير صحيح، وإنما لم يؤخذ عاماً للعمليات لقيام الدليل على صحة التقليد والاكتفاء بالظن فيها كما قرر في موضعه‏.‏

‏{‏شَيْئًا إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ‏}‏ وعيد لهم على أفعالهم القبيحة ويندرج فيها ما حكى عنهم من الإعراض عن البراهين القاطعة واتباع الظنون الفاسدة اندراجاً أولياً‏.‏ وقرىء ‏{‏تَفْعَلُونَ‏}‏ بالالتفات إلى الخطاب لتشديد الوعيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا كَانَ هذا القرءان أَن يفترى مِن دُونِ الله‏}‏ شروع في بيان حالهم من القرآن إثر بيان حالهم مع الأدلة المندرجة في تضاعيفه أو استئناف لبيان ما يجب اتباعه والبرهان عليه غب المنع مع اتباع الظن، وقيل‏:‏ إنه متعلق بما قصه الله تعالى من قولهم‏:‏ ‏{‏ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏ وقيل‏:‏ بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 20‏]‏ الخ ولا يخفى ما في ذلك من البعد ‏{‏وَكَانَ‏}‏ هنا ناقصة عند كثير من الكاملين ‏{‏وهذا‏}‏ اسمها ‏{‏والقرءان‏}‏ نعت له أو عطف بيان ‏{‏وَأَنْ يَفْتَرِى‏}‏ بتأويل المصدر أي افتراء خبر ‏{‏كَانَ‏}‏ وهو في تأويل المفعول أي مفترى كما ذكره ابن هشام في قاعدة أن اللفظ بد يكون على تقدير وذلك المقدر على تقدير آخر، ومنه قوله‏:‏ لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى *** وذهب بعض المعربين أن ‏{‏مَا كَانَ‏}‏ بمعنى ما صح وأن في الكلام لا ما مقدرة لتأكيد النفي، والأصل ما كان هذا القرآن لأن يفتري كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ المؤمنين لِيَنفِرُواْ كَافَّةً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 122‏]‏ ‏{‏وَأَنْ يَفْتَرِى‏}‏ خبر كان ‏{‏وَمِن دُونِهِمَا الله‏}‏ خبر ثان وهو بيان للأول، أي ما صح ولا استقام أن يكون هذا القرآن المشحون بفنون الهدايات المستوجبة للاتباع التي حمن جملتها هاتيك الحجج البينة الناطقة بحقية التوحيد وبطلان الشرك صادراً من غير الله تعالى كيف كان، وقيل عليه ما قيل لكنه لا ينبغي العدول عما قاله في محل ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ وما ذكر في حاصل المعنى أمر مقبول كمالا يخفى، وجوز البدر الدماميني أن تكون ‏{‏كَانَ‏}‏ تامة ‏{‏وَأَنْ يَفْتَرِى‏}‏ بدل اشتمال من ‏{‏هذا القرءان‏}‏ وتعقب بأنه لا يحسن قطعاً لأن ما وجد القرآن يوهم من أول الأمر نفي وجوده وأيضاً لا بد من الملابسة بين البدل والمبدل منه في بدل الاشتمال فيلزم أن يبتني الكلام على الملابسة بين القرآن العظيم والافتراء وفي التزام كل ما ترى، وأجيب عن ذلك بما لا أراه مثبتاً للحسن أصلاً، واقتصر بعضهم على اعتبار المصدر من غير تأويله باسم المفعول اعتباراً للمبالغة على حد ما قيل في زيد عدل، والظاهر عندي أن المبالغة حينئذٍ راجعة إلى النفي نظير ما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 182‏]‏ لا أن النفي راجع إلى المبالغة كما لا يخفى، ومن هنا يعلم ما في قول بعض المحققين‏:‏ إن قول الزمخشري في بيان معنى الآية‏:‏ وما صح وما استقام وكان محالاً أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفترى ربما يشعر بأنه على حذف اللام إذ مجرد توسيط كان لا يفيد ذلك والتعبير بالمصدر لا تعلق له بتأكيد معنى النفي من النظر، ثم إنهم فيما رأينا لم يعتبروا المصدر هنا إلا نكرة، والمشهور اتفاق النحاة على أن أن والفعل المؤول بالمصدر معرفة ولذلك لا يخبر به عن النكرة، وكأنه مبني على ما قاله ابن جني في الخاطريات من أنه يكون نكرة وذكر أنه عرضه على أبي علي فارتضاه‏.‏

واستشكل بعضهم هذه الآية بأن أن تخلص المضارع للاستقبال كما نص على ذلك النحويون، والمشركون إنما زعموا كون القرآن مفترى في الزمان الماضي كما يدل عليه ما يأتى إن شاء الله تعالى فكيف ينبغي كونه مفترى في الزمان المستقبل‏.‏ وأجيب عنه بأن الفعل فيها مستعمل في مطلق الزمان وقد نص على جواز ذلك في الفعل ابن الحاجب‏.‏ وغيره ونقله البدر الدماميني في شرحه لمغني اللبيب، ولعل ذلك من باب المجاز، وحينئذٍ يمكن أن يكون نكتة العدول عن المصدر الصريح مع أنه المستعمل في كلامهم عند عدم ملاحظة أحد الأزمنة نحو أعجبني قيامك أن المجاز أبلغ من الحقيقة، وقيل‏:‏ لعل النكتة في ذلك استقامة الحمل بدون تأويل للفرق بين المصدر الصريح والمؤول على ما أشار إليه شارح اللباب‏.‏ وغيره، ولا يخفى أن فيه مخالفة لما مرت الإشارة إليه من أن أن والفعل في تأويل المصدر وهو في تأويل المفعول‏.‏

قيل‏:‏ وقد يجاب أيضاً عن أصل الإشكال بأنه إنما نفى في الماضي إمكان تعلق الافتراء به في المستقبل وكونه محلاً لذلك فينتفي تعلق الافتراء بالفعل من باب أولى، وفي ذلك سلوك طريق البرهان فيكون في الكلام مجاز أصلي أو تبعي، وقد نص أبو البقاء على جواز كونه الخبر محذوفاً وأن التقدير وما كان هذا القرآن ممكناً أن يفترى، وقال العلامة ابن حجر‏:‏ إن الآية جواب عن قولهم‏:‏ ‏{‏ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدّلْهُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏ وهو طلب للافتراء في المستقبل، وأما الجواب عن زعمهم أنه عليه الصلاة والسلام افتراه وحاشاه فسيأتي عند حكاية زعمهم ذلك فلا إشكال، على أن عموم تخليص أن المضارع للاستقبال في حيز المنع، لم لا يجوز أن يكون ذلك فيما عدا خبر كان المنفية كما يرشد إليه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏ فإنه نزل عن استغافار سبق منهم للمشركين كما قاله أئمة التفسير، وقد أطال الكلام على ذلك في ذيل فتاويه فتبصر‏.‏

‏{‏ولكن تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ أي من الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل، فالمراد من الموصول الجنس، وعنى بالتصديق بيان الصدق وهو مطابقة الواقع وإظهاره وإضافته إما لفاعله أو مفعوله، وتصديق الكتب له بأن ما فيه من العقائد الحقة مطابق لما فيها وهي مسلمة عند أهل الكتاب وما عداهم إن اعترف بها وإلا فلا عبرة به‏.‏

وفي جعل الإضافة للمفعول مبالغة في نفي الافتراء عنه لأن ما يثبت ويظهر به صدق غيره فهو أولى بالصدق، ووجه كونه مصدقاً لها أنه دال على نزولها من عند الله تعالى ومشتمل على قصص الأولين حسبما ذكر فيها وهو معجز دونها فهو الصالح لأن يكون حجة وبرهاناً لغيره لا بالعكس، وزعم بعضهم أن المراد من ‏{‏الذى بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ أخبار الغيوب والإضافة للفاعل، وتصديقها له مجيئها على وفق ما أخبر به وليس بشيء، ونصب التصديق على العطف على خبر كان أو على أنه خبر لكان مقدرة، وقيل‏:‏ على أنه مفعول لأجله لفعل مقدر‏.‏ أي أنزل لتصديق ذلك، وجعل العلة هنا ما ذكر مع أنه أنزل لأمور لأنه المناسب لمقام رد دعوى افترائه، وقيل‏:‏ نصب على المصدرية لفعل مقدر أي صدق تصديق الخ، وقرأ عيسى بن عمرو الثقفي برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ولكن هو تصديق الخ وكذا قرأ بالرفع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَفْصِيلَ الكتاب‏}‏ أي ما كتب وأثبت من الحقائق والشرائع، والعطف نصباً أو رفعاً على ‏{‏تَصْدِيقَ‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ خبر آخر للكن أو للمبتدأ المقدر، وفصل لأنه جملة مؤكدة لما قبلها، وجوز أن يكون حالاً من الكتاب وإن كان مضافاً إليه فإنه مفعول في المعنى وأن يكون استئنافاً نحوياً لا محل له من الإعراب أو بيانياً جواباً للسؤال عن حال الكتاب والأول أظهر، والمعنى لا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيه لوضوح برهانه وعلو شأنه ‏{‏مِن رَّبّ العالمين‏}‏ خبر آخر لكان أو المبتدأ المقدر كما مر في سابقه أو متعلق بتصديق أو بتفصيل أو بالفعل المعلل بهما أو متعلق بمحذوف وقع حالاً من الكتاب و‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ اعتراض لئلا يلزم الفصل بالأجنبي بين المتعلق والمتعلق أو الحال وذيها‏.‏ وجوز أن يكون حالاً من الضمير المجرور في ‏{‏فِيهِ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افتراه‏}‏ أم منقطعة وهي مقدرة ببل والهمزة عند سيبويه والجمهور أي بل أيقولون، وبل انتقالية والهمزة لإنكار الواقع واستبعاده أي ما كان ينبغي ذلك، وجوز أن تكون للتقرير لإلزام الحجة والمعنيان على ما قيل متقاربان، وقيل‏:‏ إن أم متصلة ومعادلها مقدر أي أتقرون به أم تقولون افتراه، وقيل‏:‏ هي استفهامية بمعنى الهمزة، وقيل‏:‏ عاطفة بمعنى الواو والصحيح الأول، وأياً ما كان فالضمير المستتر للنبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يذكر لأنه معلوم من السياق ‏{‏قُلْ‏}‏ تبكيتاً لهم وإظهاراً لبطلان مقالتهم الفاسدة إن كان الأمر كما تقولون ‏{‏فَأْتُواْ بِسُورَةٍ‏}‏ طويلة كانت أو قصيرة ‏{‏مّثْلِهِ‏}‏ في البلاغة وحسن الارتباط وجزالة المعنى على وجه الافتراء، وحاصله على ما قيل‏:‏ إن كان ذاك افتراء مني فافتروا سورة مثله فإنكم مثلي في العربية والفصاحة وأشد تمرناً واعتياداً في النظم والنثر، وعلى هذا فالمراد بإتيان المخاطبين بذلك إنشاؤهم له والتكلم به من عند أنفسهم لا ما يعم ذلك وإيراده من كلام الغير ممن تقدم، وجوز أن يكون المراد ما ذكر ولعله السر في العدول عن قولوا سورة مثله مثلاً إلى ما في النظم الكريم، أي إن كان الأمر كما زعمتم فأتوا من عند أنفسكم أو ممن تقدمكم من فصحاء العرب وبلغائها كامرىء القيس وزهير وأضرابهما بسورة مماثلة له في صفاته الجليلة فحيث عجزتم عن ذلك مع شدة تمرنكم ولم يوجد في كلام أولئك وهم الذن نصبت لهم المنابر في عكاظ الفصاحة والبلاغة وبهم دارت حا النظم والنثر وتصرمت أيامهم في الإنشاء والإنشاد دل على أنهل يس من كلام البشر بل هو من كلام خالق القوى والقدر‏.‏ وقرىء ‏{‏بِسُورَةٍ مّثْلِهِ‏}‏ على الإضافة أي بسورة كتاب مثله ‏{‏وادعوا‏}‏ للمعاونة والمظاهرة‏.‏

‏{‏مَنِ استطعتم‏}‏ دعاءه والاستعانة به من آلهتكم التي تزعمون إنها ممدة لكم في المهمات والملمات والمداراة الذين تلجؤون إليهم في كل ما تأتون وتذرون ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ متعلق بادعوا كما قيل و‏{‏مِنْ‏}‏ ابتدائية على معنى أن الدعاء مبتدأ من غيره تعالى لا ملابسة له معه جل شأنه بوجه، وجوز أن يكون متعلقاً بما عنده ومن بيانية أي ادعوا من استطعتم من خلقه ولا يخلو عن حسن‏.‏

وفائدة هذا القيد قيل‏:‏ التنصيص على براءتهم منه تعالى وكونهم في عدوة المضادة والمشاقة، وليس المراد به إفادة استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه لأجابهم إليه، وقد يقال‏:‏ لا بأس بإفادة ذلك لأن الاستبداد المذكور مما يؤيد المقصود وهو كون ما أتى به صلى الله عليه وسلم لم يكن من عند نفسه بل هو منه تعالى، والإيهام مما لا يلتفت إليه فإن دعاءهم إياه تعالى بمعنى طلبهم منه سبحانه وتعالى أن يأتي بما كلفوه مستبداً به ممالا يكاد يتصور لأنه ينافي زعمهم السابق كما لا يخفى فتأمل ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ في أنى افتريته فإن ذلك مستلزم لإمكان الإتيان بمثله وهو أيضاً مستلزم لقدرتكم عليه وجواب ‏{‏ءانٍ‏}‏ محذوف لدلالة المذكور عليه، وفي هذه الآية دلالة على إعجاز القرآن لأنه عليه الصلاة والسلام تحدي مصاقع العرب بسورة ما منه فلم يأتوا بذلك وإلا لنقل إلينا لتوفر الدواعي إلى نقله‏.‏

وزعم بعض الملاحدة أنه لا يلزم من عجزهم عن الإتيان بذلك كونه من عند الله تعالى قطعاً فإنه قد يتفق في الشخص خصوصية لا توجد في غيره فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان مخصوصاً بهذه المرتبة من الفصاحة والبلاغة ممتازاً بها عن سائر العرب فأتى بما أتى دونهم، وقد جاء من بعضا لطرق أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش» وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم وإن كان في أقصى الغايات من الفصاحة حتى كأن الله تعالى شأنه وعزت قدرته مخض اللسان العربي وألقى زبدته على لسانه صلى الله عليه وسلم فما من خطب يقاومه الأنكص متفكك الرجل وما من مصقع يناهزه إلا رجع فارغ السجل إلا أن كلامه صلى الله عليه وسلم لا يشبه ما جاء به من القرآن وكلام شخص واحد متشابه كما لا يخفى على ذوي الأذواق الواقفين على كلام البلغاء قديماً وحديثاً‏.‏

وتعقب بأنه لا يدفع ذلك الزعم لما فيه ظاهراً من تسليم كون كلامه عليه الصلاة والسلام معجزاً لا تستطاع معارضته وحينئذٍ العجز عن معارضة القرآن يجعله دائراً بين كونه كلامه تعالى وكونه كلامه صلى الله عليه وسلم ولا يثبت كونه كلام الله عز وجل إلا بضم امتيازه على كلامه صلى الله عليه وسلم والزاعم لم يدع إلا عدم لزوم كونه من عند الله تعالى قطعاً من عجزهم عن الإتيان بذلك، وأيضاً ينافي هذا التسليم ما تقدم في بيان حاصل ‏{‏فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ‏}‏ حيث علل بأنكم مثلي في العربية والفصاحة الخ، ومن هنا قيل‏:‏ الأوجه في الجواب أن يلتزم عدم إعجاز كلامه صلى الله عليه وسلم مع كونه عله الصلاة والسلام أفصح العرب ولا منافاة بينهما كما لا يخفى على المتأمل‏.‏ وأطال بعضهم الكلام في هذا المقام، وبعض أدرج مسألة خلق الأفعال في البين وجعل مدار الجواب مذهب الأشعري فيها ولعل الأمر غني عن الإطالة عند من انجاب عن عين بصيرته الغين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ‏}‏ قيل‏:‏ هو إضراب وانتقال عن إظهار بطلان ما قالوا في حق القرآن العظيم بالتحدي إلى إظهاره ببيان أنه كلام ناشىء عن عدم علمهم بكنه أمره والاطلاع على شأنه الجليل فما عبارة عن القرآن وهو المروى عن الحسن وعليه محققو المفسرن، وقيل‏:‏ هي عبارة عما ذكر فيه مما يخالف دينهم كالتوحيد والبعث والجزاء وليس بذاك سواء كانت الباء للتعدية كما هو المتبادر أم للسببية، والمراد أنهم سارعوا إلى تكذيبه من غير أن يتدبروا ما فيه ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه كما وصف آنفاً ويعلموا أنه ليس مما يمكن أن يؤتى بسورة مثله، والتعبير عنه بهذا العنوان دون أن يقال‏:‏ بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه أو نحوه للإيذان بكمال جهلهم به وأنهم لم يعلموه إلا بعنوان عدم العلم به وبأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم إحاطتهم بعلمه لما أن تعليق الحكم بالموصول مشعر بعلية ما في حيز الصلة له، وأصل الكلام بما لم يحيطوا به علماً إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لأنه أبلغ ‏{‏وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏}‏ عطف على الصلة أو حال من الموصول أي ولم يقفوا بعد على معانيه الوضعية والعقلية المنبئة عن علو شأنه وسطوح برهانه، فالتأويل نوع من التفسير، والإتيان مجاز عن المعرفة والوقوف، ولعل اختياره للإشعار بأن تلك المعاني متوجهة إلى الأذهان منساقة إلها بنفسها، وجوز أن يراد بالتأويل وقوع مدلوله وهو عاقبته وما يؤول إليه وهو المعنى الحققي عند بعض فإتيانه حينئذٍ مجاز عن تبينه وانكشافه، أي ولم يتبين لهم إلى الآن تأويل ما فيه من الأخبار بالغيوب حتى يظهر أنه صدق أم كذب‏.‏ والمعنى أن القرآن معجز من جهة النظم‏.‏ والمعنى ومن جهة الإخبار بالغيب وهم فاجؤوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ويتفكروا في معناه أو ينتظروا وقوع ما أخبر به من الأمور المستقبلة، ونفى إتيان التأويل بكلمة ‏{‏لَّمّاً‏}‏ الدالة على توقع منفيها بعد نفي الإحاطة بعلمه بكلمة لم لتأكيد الذم وتشديد التشنيع فإن الشناعة في تكذيب الشيء قبل علمه المتوقع إتيانه أفحش منها في تكذيبه قبل علمه مطلقاً‏.‏

وادعى بعضهم أن الإضراب عن التكذيب عناداً المدلول عليه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ فَأْتُواْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 38‏]‏ الخ فإن الإلزام إنما يأتي بعد ظهور العجز، ومعنى هذا الإضراب ذمهم على التقلد وترك النظر مع التمكن منه وهو أدخل في الذم من العناد من وجه، وذلك لأن التقليد اعتراف من صاحبه بالقصور في الفطنة ثم لا يعذر فيه فلا يرتضي ذو عقل أن يقلد رجلاً مثله من غير تقدم عله بفطنة وتجربة وأما العناد فقد يحمده بعض النفوس الأبية بل في أشعارهم ما يدل على أنهم مفتخرون بذلك كقولهم

‏:‏ فعاند من تطيق له عناداً *** ولا رد أن العناد لما كان بعد العلم كان أدخل في الذم فلا نسلم أنه أدخل فيه من التقليد بل من الجهل قبل التدبر دون اقتران التقليد به، وإن سلم فهذا أيضاً أدخل من وجه، وقد جعل مصب الإنكار على جمعهم بن الأمرين والجمع على كل حال أدخل من التفرد بواحد صح الإضراب فكأنه قيل‏:‏ دع تحديهم وإلزامهم فإنهم لا يستأهلون الخطاب لأنهم مقلدون متهافتون في الأمر لا عن خبر وحجى‏.‏ وقد ذكر الزمخشري في هذا المقام ثلاثة أوجه، الوجه الأول أن التقدير أم كذبوا وقالوا هو مفترى بعد العلم بإعجازه عناداً بل كذبوا به قبل أن يأتيهم العلم بوجه إعجازه أيضاً فهم مستمرون على التكذيب في الحالين مذمومون به موسومون برذيلتي التقليد والعناد جامعون بينهما بالنسبة إلى وقتين، ووجه ذلك بأن ‏{‏بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ‏}‏ صريح في تكذيبهم قبل العلم بوجه الإعجاز ‏{‏وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏}‏ يدل على امتداد هذا التكذيب إلى مجىء التأويل المنتظر بالنسبة إلى تكذيبهم قبل لا بالنسبة إلى زمان الإخبار فإن التأويل أيضاً واقع، وحينئذٍ إما أن يكون التكذيب قد زال فلا يتوجه عليهم الذم بالتكذيب الأول وإما أن يكون مستمراً وهو الواجب ليصح كونه وارداً ذماً لهم بالتسرع إلى التكذب الذي هو منطوق النص فيجب أن يكون العطف على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افتراه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 38‏]‏ ويكون ذلك لبيان أنهم كذبوا عن علم وهذا لبيان تكذيبهم قبله أيضاً ويكون الجهتان منظورتين وأنهم مذمومون فيهما‏.‏

والحاصل أن ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افتراه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 38‏]‏ لا مرية فيه أنه تكذيب بعد العلم لمكان الأمر بعده‏.‏ لكن لما جعل التوقع المفاد بلما لعلم الإعجاز لزم أن يكون بالنسبة إلى حالهم الأولى وهو التكذيب قبل العلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوقع زواله بالعلم ويكون معنى المبالغة في ‏{‏لَّمّاً‏}‏ الإشعار باستغراق الوقت للتكذيب إلى زمان التأويل المنتظر الواقع الذي كذبوا فيه عناداً وبغياً‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ حمل التأويل على المعنى الثاني الذي ذكرناه‏.‏ والمعنى بل سارعوا إلى التكذيب قبل الإحاطة بعلمه ليعرفوا إعجاز نظمه، وقيل‏:‏ إتيان التأويل المنتظر وهو ما يؤول إليه من الصدق في الإخبار بالمغيبات، والمقصود من هذا ذمهم بالتسارع إلى التكذيب من الوجهين لكن لما كان مع الوجهين علم ما يتضمنه لو يدبروا لم يكن فيه شيء منتظر والثاني لما لم يكن كذلك كان فه أمر منتظر، وأتى بحرف التوقع دليلاً عن أن هذا المنتظر كائن وسيظهر أنهم مبطلون فيه أيضاً كالأول ولا نظر إلى أنهم مذمومون حالتي العناد والتقليد بل المقصود كمال إظهار الإلزام بأنه مفروغ عنه مع أمثالهم للتهافت المذكور‏.‏

الوجه الثالث أن ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افتراه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 38‏]‏ ذم لطائفة كذبوا عن علم وهذا ذم لأخرى كذبت عن شك ولما وجد فيما بينهم القسمات أسند الكل إلى الكل وليس بدعا في القرآن، والغرض من الاضراب تعميم التكذيب وانه كان الواجب على الشاك التوقف لا التسرع إلى التكذيب ومعنى التوقع أنه سيزل شكهم فسيعلم بعضهم ويبقى بعض على ما هو عليه، والآية ساكتة عن التفصيل ناطقة بزوال الشك ولا خفاء أن الشاك ينتظر وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يتوقع زوال شكهم انتهى، ولا يخفى أن ما نقلنا أولاً أولى بالقبول عند ذوي العقول‏.‏

وأورد على دعوى أن ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افتراه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 38‏]‏ تكذيب بعد العلم أنها ناشئة من عدم العلم وما سيق لاثباتها في حيز المنع فإن الإلزام بعد التحدي وذلك القول قبله، وكونه مسبوقاً بالتحدي الوارد في سورة البقرة يرده أنها مدنية وهذه مكية‏.‏

نعم ربما يقال في الاستدلال على كون ذلك القول بعد العلم بوقوع حكايته في النظم الكريم بعد حكاية الإشارة إلى مضمونه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدّلْهُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏ ورده بما سمعته هناك حسبما قرره الجمهور، وبيان ذلك أنهم نقل عنهم أولاً الإشارة إلى نسبة الافتراء إلى سيد الصادقين صلى الله عليه وسلم ثم نقل عنهم التصريح بذلك، والظاهر أن الأمر حسبما نقل لكثرة وقوع التصريح بعد الإشارة، وقد تخلل ردماً أشاروا إليه في البين فيحتمل أنهم عقلوه وعلموا الحق لكنهم لم يقروا به عناداً وبغياً فصرحوا بما صرحوا فيكون ذلك منهم بعد العلم ولترقيهم من الإشارة إلى التصريح ترقي في الزامهم فإن هذا التحدي أظهر في الإلزام مما تقدم كما هو ظاهر، لكن للمناقشة في هذا مجال، ويخطر بالبال أنه يحتمل أن يكون الاضراب عن ذمهم بالتكذيب بالقرآن إلى ذمهم بالمسارعة إلى تكذيب ما لم يحيطوا به علماً وأن الوقوف على العلم به متوقع سواء كان قرآنا أو غيره فما عامة للأمرين ويدخل القرآن في العموم دخولاً أولياً ولعله أولى مما قيل‏:‏ إنه اضراب عن مقدر وينبغي أن تسمى بل هذه فصيحة فإن المعنى فما أجابوا أو ما قدروا أن يأتوا بل كذبوا الخ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل تكذيبهم من غير تدبر وتأمل ‏{‏كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ أي فعلوا التكذيب أو كذبوا أنبياءهم فيما أتوا به ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين‏}‏ خطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون عاماً لكل من يصلح له، والمراد بالظالمين الذين من قبلهم، ووضع المظهر موضع المضمر للإيذان بكون التكذيب ظلماً وبعليته لإصابة ما أصابهم من سوء العاقبة وبدخول هؤلاء الذين حكى عنهم ما حكى في زمرتهم جرماً ووعيداً دخولاً أولياً، والفاء لترتيب ما بعدها على محذوف ينساق إليه الكلام أي فاهلكناهم فانظر الخ، وكيف في موضع نصب خبر كان، وقد يتصرف فيها فتوضح موضع المصدر وهو كيفية ويخلع عنها معنى الاستفهام بالكلية، وهي هنا تحتمل ذلك، وكذا قول البخاري رضي الله تعالى عنه‏:‏ كيف كان بدء الوحي كما قال السمين؛ ونقل إنه أن فعل النظر معلق عن العمل لمكان كيف لأنهم عاملوها في كل موضع معاملة الاستفهام المحض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ‏}‏ وصف لحالهم بعد اتيان التأويل المتوقع كما قبل إذ حينئذ يمكن تنويعهم إلى المؤمن به وغير المؤمن به ضرورة امتناع الإيمان بشيء من غير علم به واشتراك الكل في التكذيب قبل ذلك فالضمير للمكذبين، ومعنى الإيمان به إما الاعتقاد بحقيته فقط أي منهم من يصدق به في نفسه أنه حق عند الإحاطة بعلمه وإتيان تأويله لكنه يعاند ويكابر وإما الإيمان الحقيقي أي منهم من سيؤمن به ويتوب عن الكفر ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ‏}‏ أي لا يصدق به في نفسه كما لا يصدق به ظاهراً لفرط غباوته المانعة عن الإحاطة بعلمه كما ينبغى أو لسخافة عقله واختلال تمييزع وعجزه عن تخليص علومه عن معارضة الظنون والأوهام التي ألفها فيبقى على ما كان عليه من الشك أولاً يؤمن به فيما سيأتي بل يموت على كفره معانداً كان أو شاكاً ‏{‏وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين‏}‏ أي بكلا الفريقين على الوجه الأول من التفسير لا بالمعاندين فقط لاشتراكهما في أصل الافساد المستدعي لاشتراكهما في الوعيد المراد من الكلام أو بالمصرين الباقين على الكفر على الوجه الثاني منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن كَذَّبُوكَ‏}‏ أي أصروا على تكذيبك بعد الزام الحجة، وأول بذلك لأن أصل التكذيب حاصلاً فلا يصح فيه الاستقبال المفاد بالشرط، وأيضاً جوابه وهو قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَقُل لّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ‏}‏ المراد منه التبرؤ والتخلية إنما يناسب الاصرار على التكذيب واليأس من الإجابة، والمعنى لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم كيفما كانا، وتوحيد العمل المضاف إليهم باعتبار الاتحاد النوعي ولمراعاة كمال المقابلة كما قيل، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ تأكيد لما أفاده لام الاختصاص من عدم تعدي جزاء العمل إلى غير عامه أن لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم، وعلى هذا فالآية محكمة غير منسوخة بآية السيف لما أن مدلولها اختصاص كل بأفعاله وثمراتها من الثواب والعقاب وآية السيف لم ترفع ذلك، وعن مقاتل‏.‏ والكلبي‏.‏ وابن زيد أنها منسوخة بها وكأن ذلك لما فهموا منها الأعراض وترك التعرض بشيء، ولعل وجه تقديم حكم المتكلم أولاً وتأخيره ثانياً والعكس في حكم المخاطبين ظاهر مما ذكرناه في معنى الآية فافهم‏.‏

هذا ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِى ءاياتنا‏}‏ وهو احتجابهم عن قبول صفات الحق وذلك لأنه بتوفر النعم الظاهرة والمرادات الجسمانية يقوي ميل النفس إلى الجهة السفلية فتحتجب عن قبول ذلك كما أنه بأنواع البلاء تنكسر سورة النفس ويتلطف القلب ويحصل الميل إلى الجهة العلوية والتهيؤ لقبول ذلك ‏{‏قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْرًا‏}‏ بإخفاء القهر الحقيقي في هذا اللطف الصوري ‏{‏إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 21‏]‏ في ألواح الملكوت ‏{‏هُوَ الذى يُسَيّرُكُمْ فِى البر والبحر‏}‏ أي يسير نفوسكم في بر المجاهدات وقلوبكم في بحر المشاهدات، وقيل‏:‏ يسير عقولكم في بر الأفعال وأرواحكم في بحر الصفات والذات ‏{‏حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك‏}‏ أي فلك العناية الإزلية ‏{‏وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ‏}‏ وهي ريح صبا وصاله سبحانه ‏{‏وَفَرِحُواْ بِهَا‏}‏ لايذانها بذلك وتعطرها بشذا ديار الأنس ومرابع القدس‏:‏

ألا يا نسيم الريح مالك كلما *** تقربت منا زاد نشرك طيبا

أظن سليمى خبرت بسقامنا *** فأعطتك رياها فجئت طبيباً

‏{‏جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الموج مِن كُلّ مَكَانٍ‏}‏ وذلك عاصف القهر وأمواج صفات الجلال، وهذه سنة جارية في العاشقين لا يستمر لهم حال ولا يدوم لهم وصال، ولله در من قال‏:‏

فبتنا على رغم الحسود وبيننا *** شراب كريح المسك شيب به الخمر

فوسدتها كفى وبت ضجيعها *** وقلت لليلى طل فقد رقد البدر

فلما أضاء الصبح فرق بيننا *** وأي نعيم لا يكدره الدهر

‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ‏}‏ أي أنهم من الهالكين في تلك الأمواج ‏{‏دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏ بالتبري من غير الله تعالى قائلين ‏{‏لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏ لك بك ‏{‏فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الارض بِغَيْرِ الحق‏}‏ وهو تجاوزهم عن حد العبودية بكسرهم في جمال الربوبية، وذلك مثل ما عرا الحلاج وأضرابه ثم أنه سبحانه نبههم بعد رجوعهم من السكر إلى الصحو على أن الأمر وراء ذلك بقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏الحق ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 32‏]‏ أي أنه يرجع إليكم ما ادعيتم لا إليه تعالى فإنه سبحانه الموجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق كذا قالوا‏.‏

وقال ابن عطاء في الآية ‏{‏حتى إِذَا رَكِبُواْ‏}‏ مراكب المعرفة وجرت بهم رياح العناية وطابت نفوسهم وقلوبهم بذلك وفرحوا بتوجههم إلى مقصودهم ‏{‏جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ‏}‏ أفنتهم عن أحوالهم وإرادتهم ‏{‏وَجَاءهُمُ الموج مِن كُلّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ‏}‏ أي تيقنوا أنهم مأخوذون عنهم ولم يبق لهم ولا عليهم صفة يرجعون إليها وأن الحق خصهم من بين عباده بأن سلبهم عنهم ‏{‏دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏ حيث صفى سبحانه أسرارهم وطهرها مما سواه ‏{‏فَلَمَّا أَنجَاهُمْ‏}‏ أي ردهم إلى أوصافهم وأشباحهم ورجعوا إلى ما عليه عوام الخلق من طلب المعاش للنفوس انتهى‏.‏ وكأنه حمل البغي على الطلب وضمنه معنى الاشتغال أي يطلبون في الأرض مشتغلين بغير الحق سبحانه وهو المعاش الذي به قوام أبدانهم، ويشكل أمر الوعيد المنبىء به ‏{‏فَنُنَبّئُكُمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 23‏]‏ الخ على هذا التأويل وما قبله لأن ما يقع في السكر لا وعيد عليه وكذا طلب المعاش، وانظر هل يصح أن يقال‏:‏ إن الأمر من باب حسنات الابرار سيآت المقربين‏؟‏ ثم أنه سبحانه مثل الحياة في سرعة زوالها وانصرام نعيمها غب اقبالها واغترار صاحبها بها بما أشار إليه سبحانه بقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏كَمَا أنزلناه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 24‏]‏ الخ وفيه إشارة إلى ما يعرض والعياذ بالله تعالى لمن سبقت شقاوته في الأزل من الحور بعد الكور فبينما تراه وأحواله حالية وأعوامه عن شوائب الكدر خالية وغصون أنسه متدلية ورياض قربه مونقة قلب الدهر له ظهر المجن وغزاه بجيوش المحن وهبت على هاتيك الرياض عاصفات القضاء وضاقت عليه فسيحات الفضاء وذهب السرور والانس وجعل حصيداً كأن لم يغن بالأمس وأنشد لسان حاله‏:‏

قف بالديار فهذه آثارهم *** نبكي الأحبة حشرة وتشوقاً

كم قد وقفت بهنا أسائل مخبرا *** عن أهلها أو صادقاً أو مشفقاً

فأجابني داعي الهوى في رسمها *** فارقت من تهوي فعز الملتقى

وا *** ‏{‏للَّهُ يَدْعُو إلى دَارِ السلام‏}‏ وعو العالم الروحاني السليم من الآفات

‏{‏وَيَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 25‏]‏ لا شعوب فيه وهو طريق الوحدة‏.‏ وقد يقال‏:‏ يدعو الجميع إلى داره‏.‏ ويهدي خواص العارفين إلى وصاله‏.‏ أو يدعو السالكين إلى الجنة ويبدي المجذوبين إلى المشاهدة ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ‏}‏ وهم خواص الخواص ‏{‏الحسنى‏}‏ وهي رؤية الله تعالى ‏{‏وَزِيَادَةٌ‏}‏ وهي دوام الرؤية، أو للذين جاؤا بما يحسن به حالهم من خير قلبي أو قالبي، المثوبة الحسنة من الكمال الذي يفاض عليهم وزيادة في استعداد قبول الخير إلى ما كانوا عليه قبل، وقد يقال‏:‏ الحسنى ما يقتضيه قرب النوافل والزيادة ما يقتضيه قرب الفرائض ‏{‏وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ‏}‏ أي لا يصيبهم غبار الخجالة ولا ذلك الفرقة ‏{‏أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة‏}‏ التي تقتضيها أفعالهم ‏{‏هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏ ثم ذكر سبحانه حال الذين أساءوا بقوله جل شأنه‏:‏ ‏{‏والذين كَسَبُواْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 27‏]‏ الخ وأشار إلى أنه على عكس حال أولئك الكرام ‏{‏الظالمون وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً‏}‏ في المجمع الأكبر ‏{‏ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ‏}‏ منهم وهم المحجوبون الواقفون مع الغير بالمحبة والطاعة ‏{‏مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ‏}‏ قفوا جميعاً وانتظروا الحكم ‏{‏فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ‏}‏ أي قطعنا الأسباب التي كانت بينهم ‏{‏وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 28‏]‏ بل كنتم تعبدون أشياء اخترعتموها في أوهامكم الفاسدة ‏{‏فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لغافلين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 29‏]‏ لم نطلبها منكم لا بلسان حال ولا بلسان قال ‏{‏هُنَالِكَ‏}‏ أي في ذلك الموقف ‏{‏تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ‏}‏ أي تذوق وتختبر ‏{‏مَّا أَسْلَفَتْ‏}‏ في الدنيا ‏{‏وَرُدُّواْ إِلَى الله مولاهم الحق‏}‏ المتولي لجزائهم بالعدل والقسط ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 30‏]‏ من اختراعاتهم وتوهماتهم الكاذبة وأمانيهم الباطلة‏.‏ ثم ذكر سبحانه مما يدل على التوحيد ما ذكر، والرزق من السماء عند العارفين هو رزق الأرواح ومن الأرض رزق الأشباح، والحي عندهم العارف والميت الجاهل ‏{‏وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 36‏]‏ ذم لهم بعدم العلم بما يجب لمولاهم وما يمتنع وما يجوز ولا يكاد ينجو من هذا الذم إلا قليل، ومنهم الذين عرفوه جل شأنه به لا بالفكر بل قد يكاد يقصر العلم عليهم فإن أدلة أهل الرسوم من المتكلمين وغيرهم متعارضة وكلماتهم متجاذبة فلا تكاد ترى دليلاً سالماً من قيل وقال ونزاع وجدال، والوقوف على علم من ذلك مع ذلك أمر أبعد من العيوق وأعز من بيض الانوق‏:‏

لقد طفت في تلك المعاهد كلها *** وسرحت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعاً كف حائر *** على ذقن أو قارعاً سن نادم

فمن أراد النجاة فليفعل ما فعل القوم ليحصل له ما حصل لهم أولاً فليتبع السلف الصالح فيما كانوا عليه في أمر دينهم غير مكترث بمقالات الفلاسفة ومن حذا حذوهم من المتكلمين التي لا تزيد طالب الحق إلا شكا ‏{‏وَمَا كَانَ هذا القرءان أَن يَفْتَرِى *مِن دُونِ الله ولكن تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ من اللوح المحفوظ

‏{‏وَتَفْصِيلَ الكتاب‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 37‏]‏ الذي هو الأم، أي كيف يكون مختلقاً وقد أثبت قبله في كتابين مفصلاً ومجملاً ‏{‏بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 39‏]‏ ذم لهم بالمسارعة إلى تكذيب الحق قبل التأمل والتدبر والاطلاع على الحقيقة وهذه عادة المنكرين أهل الحجاب مع كلمات القوم حيث أنهم يسارعون إلى إنكارها قبل التأمل فيها وتدبر مضامينها والوقوف على الاصطلاحات التي ينبت عليها وكان الحرى بهم التثبت والتدبر والله تعالى ولي التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ‏}‏ بيان لكونهم مطبوعاً على قلوبهم بحيث لا سبيل إلى إيمانهم ‏{‏وَمِنْ‏}‏ مبتدأ خبره مقدم عليه، وهو إما موصول أو نكرة موصوفة والجملة بعده إما صلة أو صفة، وجمع الضمير الراجع إليه رعاية لجانب المعنى كما أفرد فيما بعد رعاية لجانب اللفظ، ولعل ذلك للإيماء إلى كثرة المستمعين بناء على عدم توقف الاستماع على ما يتوقف عليه النظر من الشروط العادية أو العقلية، والمعنى ومن المكذبين الذين أو اناس يصغون إلى القرآن أو إلى كلامك إذا علمت الشرائع وتصل الألفاظ لآذانهم ولكن لا ينتفعون بها ولا يقبلونها كالصم الذين لا يسمعون ‏{‏أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم‏}‏ أي تقدر على اسماعهم ‏{‏وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ أي ولو انضم إلى صممهم عدم عقلهم لأن الأصم العاقل ربما تفرس إذا وصل إلى صماخه دوى وأما إذا اجتمع فقدان السمع والعقل فقد تم الأمر، وإنما جعلوا كالصم الذين لا عقل لهم مع كونهم عقلاء لأن عقولهم قد أصيبت بآفة معارضة الوهم لها وداء متابعة الألف والتقليد، ومن هنا تعذر عليهم فهم معاني القرآن والأحكام الدقيقة وادراك الحكم الرشيقة الأنيقة فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما تنتفع به البهائم من كلام الناعق، وتقديم المسند إليه في ‏{‏أَفَأَنتَ‏}‏ للتقوية عند السكاكي وجعله العلامة للتخصيص‏.‏ ففي تقديم الفاعل المعنوي وإيلائه همزة الإنكار الدلالة على أن نبي لله صلى الله عليه وسلم تصور في نفسه من حرصه على إيمان القوم أنه قادر على الاسماع أو نزل منزلة من تصور أنه قادر عليه وأنه تعالى شأنه نفى ذلك عنه صلى الله عليه وسلم وأثبته لنفسه سبحانه على الاختصاص كأنه قيل‏:‏ أنت لا تقدر على اسماع أولئك بل نحن القادرون عليه كذا قيل وفي القلب منه شيء، ولذا اختير هنا مذهب السكاكي، وجعل إنكار الاسماع متفرعاً على المقدمة الاستدراكية المطوية المفهومة من المقام حسبما أشير أليه، وفيه اعتبار كون الهمزة مقدمة من تأخير لاقتضائها الصدارة وهو مذهب لبعضهم‏.‏

وقيل‏:‏ إنها في موضعها، وأدخلت الفاء لإنكار ترتب الاسماع على الاستماع لكن لا بطريق العطف على فعله المذكور الواقع صلة أو صفة للزوم اختلال المعنى على ذلك بل بطريق العطف على فعل مثله مفهوم من فحوى النظم غير واقع موقعه كأنه قيل‏:‏ أيستمعون إليك فأنت تسمعهم، وقد يراد إنكار إمكان وقوع الاسماع عقيب ذلك وترتبه عليه كما ينبىء عنه وضع الصم موضع ضميرهم ووصفهم بعدم العقل، وجواب ‏{‏لَوْ‏}‏ محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة معطوفة على جملة مقدرة مقابلة لها، والكل في موضع الحال من مفعول الفعل السابق، أي أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون على معنى أفأنت تسمعهم على كل حال مفروض ويقال للو هذه وصلية وذلك أمر مشهور‏.‏

واستشكل الاتيان بها هنا بأن الأصل فيها أن يكون الحكم على تقدير تحقق مدخولها ثابتاً كما أنه ثابت على تقدير عدمه إلا أنه على تقدير عدمه أولى والأمر هنا بالعكس‏.‏ وأجيب بأن اتصال الوصل بالإثبات جار على المعروف فإن تقديره تسمعهم ولو كانوا لا يعقلون وظاهر أن إسماعهم مع العقل بطريق الأولى، والاستفهام إثبات بحسب الظاهر فإن نظر إليه فذاك وإن نظر إلى الإنكار وأنه نفى بحسب المعنى اعتبر أنه داخل على المجموع بعد ارتباطه وكذا يقال فيما بعد فتأمل فيه ولا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ‏}‏ ويعاين دلائل نبوتك الواضحة ولكن لا يهتدي بها كالأعمى ‏{‏أَفَأَنْتَ تَهْدِى العمى‏}‏ تقدر على هدايتهم ‏{‏وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ أي وان انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة فإن المقصود من الأبصار هو الاعتبار والاستبصار والعمدة في ذلك هي البصيرة ولذلك يحدس الأعمى المستبصر ويتفطن لما لا يدرك البصير الأحمق، فلا يقال‏:‏ كيف أثبت لهم النظر والابصار أولا ونفى عنهم ثانياً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس‏}‏ أي لا ينقصهم ‏{‏شَيْئاً‏}‏ مما نيطت به مصالحهم وكمالاتهم من مبادىء الادراكات وأسباب العلوم والإرشاد إلى الحق بإرسال الرسل عليهم السلام ونصب الأدلة بل يوفيهم ذلك فضلاً منه جل شأنه وكرما ‏{‏ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ أي ينقصون ما ينقصون من ذلك لعدم استعمال مشاعرهم فيما خلقت له واعراضهم عن قبول الحق وتكذيبهم للرسل وترك النظر في الأدلة فشيئاً مفعول ثان ليظلم بناء على أنه مضمن معنى ينقص كما قيل أو أنه بمعناه من غير حاجة إلى القول بالتضمين كما نقول وان النقص يتعدى لاثنين كما يكون لازماً ومتعدياً لواحد، ولم يذكر ثاني مفعول الثاني لعدم تعلق الغرض به، وتقديم المفعول الأول يحتمل أن يكون لمجرد الاهتمام مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأي من لا يرى التقديم موجباً للقصر كابن الأثير ومن تبعه كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا ظلمناهم ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏ ويحتمل أن يكون لقصر المظلومية على رأي من يرى التقديم موجباً لذلك كالجمهور ومن تبعهم، ولعل إيثار قصرها على قصر الظالمية عليهم للمبالغة في بطلان أفعالهم وسخافة عقولهم على أن قصر الأولى عليهم مستلزم كما قيل لما يقتضيه ظاهر الحال من قصر الثانية عليهم فاكتفى بالقصر الأول عن الثاني مع رعاية ما ذكر من الفائدة‏.‏

وجوز بعضهم كون ‏{‏أَنفُسِهِمْ‏}‏ تأكيداً للناس والمفعول حينئذ محذوف فيكون بمنزلة ضنير الفصل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا ظلمناهم ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 76‏]‏ في قصر الظالمية عليهم، والتعبير عن فعلهم ذلك بالنقص مع كونه تفويتاً بالكلية لمراعاة جانب قرينه، وصيغة المضارع للاستمرار نفياً وإثباتاً أما الثاني فظاهر وأما الأول فلأن حرف النفي إذا دخل على المضارع يفيد بحسب المقام استمرار النفي لا نفي الاستمرار كما مر غير مرة‏.‏

وقيل‏:‏ المعنى إن الله لا يظلم الناس بتعذيبهم يوم القيامة شيئاً من الظلم ولكن الناس أنفسهم يظلمون ظلماً مستمراً فإن مباشرتهم المستمرة للسيئات الموجبة للتعذيب عين ظلمهم لأنفسهم فالظلم على معناه المشهور، و‏{‏شَيْئاً‏}‏ مفعول مطلق والمضارع المنفى للاستقبال والمثبت للاستمرار، ومساق الآية الكريمة على الأول لالزام الحجة وعلى الثاني للوعيد وعلى الوجهين هي تذييل لما سبق، وجعلها على الأول تذييلاً لجميع التكاليف والأقاصيص المذكورة من أول السورة وإن كان متجهاً خلاف الظاهر لا سيما وما بعد ليس ابتداء مشروع في قصة آخرين‏.‏

وقيل‏:‏ معنى الآية إن الله لا يظلم الناس شيئاً بسلب حواسهم وعقولهم إن سلبها لأنه تصرف في حالص ملكه ولكن الناس أنفسهم يظلمون بإفساد ذلك وصرفه لما لا يليق، وهي جواب لسؤال نشأ من الآية السابقة والظلم فيها على ظاهره أيضاً‏.‏

واستدل بها على أن للعبد كسباً وليس مسلوب الاختيار بالكلية كما ذهب إليه الجبرية والمختار عند كثير من المحققين أن نفي ظلم الناس عنه تعالى شأنه لأنه سبحانه جواد حكيم يفيض على القوابل حسب استعدادها الأزلي الثابت في العلم فما من كمال أو نقص في العبد الا هو كماله أو نقصه الذي اقتضاه استداده كما يرشد إلى ذلك قوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 8‏]‏ وأن اثبات ظلم الناس لأنفسهم باعتبار اقتضاء استعدادهم الثابت في العلم الأزلي ما أفيض عليهم مما استحقوا به التعذيب‏.‏

وقد ذكروا أن هذا الاستعداد غير مجعول ضرورة أن الجعل مسبوق بتعلق القدرة المسبوق بتعلق الإرادة المسبوق بتعلق العلم والاستعداد ليس كذلك لأنه لم يثبت العلم إلا وهو متعلق به بل بسائر الأشياء أيضاً لأن التعلق بالمعلوم من ضروريات العلم والتعلق بما لا ثبوت له أصلاً مما لا يعقل ضرورة أنه نسبة وهي لا تتحقق بدون ثبوت الطرفين، ولا يرد على هذا أنه يلزم منه استغناء الموجودات عن المؤثر لأنا نقول‏:‏ إن كان المراد استغناءها عن ذلك نظراً إلى الوجود العلمي القديم فالأمر كذلك ولا محذور فيه وان كان المراد استغناءها عن ذلك نظراً إلى وجودها الخارجي الحادث فلا نسلم اللزوم وتحقيق ذلك بما له وما عليه في محله، وفي الآية على هذا تنبيه على أن كون أولئك المكذبين كما وصفوا إنما نشأ عن اقتضاء استعدادهم له ولذلك ذموا به لا عن محض تقديره عليهم من غير أن يكون منهم طلب له باستعدادهم ولعل تسمية التصرف على خلاف ما يقتضيه الاستعداد لو كان ظلماً من باب المجاز وتنزيل المقتضى منزلة الملك وإلا فحقيقة الظلم مما لا يصح إطلاقه على تصرف من تصرفاته تعالى كيف كان إذ لا ملك حقيقة لأحد سواه في شيء من الأشياء، ووضع الظاهر في الجملة الاستداركية موضع الضمير لزيادة التعيين والتقرير‏.‏ وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي بتخفيف ‏{‏لَكِنِ‏}‏ ورفع ‏{‏الناس‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ‏}‏ بالياء وهي قراءة حمزة على عاصم‏.‏ وقرأ الباقون بالنون على الالتفات و‏{‏يَوْمٍ‏}‏ عند الأكثرين منصوب بمضمر أي اذكر لهم أو أنذرهم يوم نجمعهم لموقف الحساب ‏{‏كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ‏}‏ أي كأنهم أناس لم يلبسوا ‏{‏إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار‏}‏ أي شيئاً قليلاً منه فانها مثل في غاية القلة وتخصيصها بالنهار لأن ساعاته أعرف حالاً من ساعات الليل والجملة في موقع الحال من مفعول ‏{‏نَحْشُرُهُمْ‏}‏ أي نحشرهم مشبهين بمن لم يلبث في الدنيا أو في البرزخ إلا ذلك القدر اليسير، وليس المراد من التشبيه ظاهره على ما قيل، وقد صرح في «شرح المفتاح» أن التشبيه كثيراً ما يذكر ويراد به معان أخر تترتب عليه، فالمراد إما التأسف على عدم انتفاعهم بأعمارهم أو تمني أن يطول مكثهم قبل ذلك حتى لا يشاهدوا ما شاهدوه من الأهوال فمآل الجملة في الآخرة نحشرهم متأسفين أو متمنين طول مكثهم قبل ذلك‏.‏ ويجوز أن يراد نحشرهم مشبهين في أحوالهم الظاهرة للناس بمن لم يلبث في الدنيا ولم يتقلب في نعيمها إلا يسيراً فإن من أقام بها دهراً وتمتع بمتاعها لا يخلو عن بعض آثار نعمة وأحكام بجهة منافية لما بهم من رثاثة الهيئة وسوء الحال وإليه ذهب بعضهم، والظاهر أنه تكلف لإبقاء التشبيه على ظاهره والأول أولى كما لا يخفى، وأياً ما كان ففائدة التشبيه كنار على علم، والعجب ممن لم يرها فقال الظاهر أن ‏{‏كَانَ‏}‏ للظن، وادعى البعض أن فائدة التقييد على تقدير أن يراد اللبث في البرزخ بيان كمال يسر الحشر بالنسبة إلى قدرته تعالى ولو بعد دهو طويل وإظهار بطلان استبعادهم وإنكارهم بقولهم‏:‏ ‏{‏أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 82‏]‏ ونحو ذلك أو بيان تمام الموافقة بين النشأتين في الاشكال والصور فإن قلة اللبث في البرزخ من موجبات عدم التبدل والتغير، ولعل مآل الحال على هذا ويوم نحشرهم على صورهم وأشكالهم غير متغيرين، وجوز أبو علي كون الجملة في موضع الصفة ليوم والعائد محذوف تقديره كأن لم يلبثوا قبله أو لمصدر محذوف والعائد كذلك أي حشراً كأن لم يلبثوا قبله، ورد بأن مثل هذا الرابط لا يجوز حذفه والأول بأن المراد بالظرف المضاف وهو الموصوف يوم القيامة وهو يوم معين وتقدير الكلام يوم حشره أو يوم خشرنا فيكون الموصوف معرفة والجمل نكرات ولا تنعت المعرفة بالنكرة‏.‏ وأجيب بأن المنع من جواز حذف مثل ذلك الرابط في حيز المنع وبأن الجمل التي تضاف إليها أسماء الزمان قد يقدر حلها إلى معرفة فيكون ما أضيف إليها معرفة وقد يقدر حلها إلى نكرة فيكون ذلك نكرة، ولعل أبا علي يتكلف لاعتبار حلها إلى نكرة ويكون الموصوف هنا نكرة عنده فيرتفع محذور نعت المعرفة بالنكرة‏.‏

وأنت تعلم أن الجواب إنما يدفع البطلان لا غير فالحق ترجيح الحالية، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي يعرف بعضهم بعضاً كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلاً يحتمل أن يكون استئنافاً وأن يكون بياناً للجملة التشبيهية واستدلالاً عليها كما قيل، وذلك أنه لو طال العهد لم يبق التعارف لأن طول العهد منس مفض إلى التناكر لكن التعارف باق فطول العهد منتف وهو معنى ‏{‏لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً‏}‏ وفية دغدغة‏.‏

وزعم أبو البقاء كونه حالا مقدرة ولا داعي لاعتبار كونها مقدرة لأن الظاهر عدم تأخر التعارف عن الحشر بزمان طويل ليحتاج إليه، وقد صرحوا بأن التعارف بينهم يكون أول حروجهم من القبور ثم ينقطع لشدة الأهوال المذهلة واعتراء الأحوال المعضلة المغيرة للصور والاشكال المبدلة لها من حال إلى حال، وعندي أن لا قطع بالانقطاع فالمواقف مختلفة والأحوال متفاوتة فقد يتعارفون بعد التناكر في موقف دون موقف وحال دون حال، وفي بعض الآثار ما يؤيد ذلك‏.‏ وزعم بعضهم المنافاة بين ما تدل عليه هذه الآية وما يدل عليه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لا أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 101‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 10‏]‏ من عدم التعارف لولا اعتبار الزمانين‏.‏

وقيل‏:‏ لا منافاة بناء على أن الثمبت تعارف تقريع وتوبيخ الومنفى تعارف تواصل وشفقة، ولمانع أن يمنع دلالة ما ذكر من الآيات على نفي التعارف، وقصارى ما يدل عليه نفي نفع الأنساب وسؤال بعضهم بعضاً، والتعارف، الذي تدل عليه هذه الآية لا ينافي ذلك، فقد أخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال فيها‏:‏ يعرف الرجل صاحبه إلى جنبه فلا يستطيع أن يكلمه ثم أن حمل التعارف على معرفة بعضهم بعضاً هو المعروف عند المفسرين، وقيل‏:‏ المراد به التعريف أي يعرف بعضهم بعضاً ما كانوا عليه من الخطأ والكفر وفيه ما فيه‏.‏

وجوز بعضهم أن يكون الظرف السابق متعلقاً بيتعارفون قيل فيعطف على ما سبق ولا يظهر له وجه وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله‏}‏ جملة مستأنفة سيقت للشهادة منه تعالى على خسرانهم والتعجيب منه وهي خبرية لفظاً إنشائية معنى، وقيل‏:‏ مقول لقول مقدر وقع حالا من ضمير ‏{‏يَتَعَارَفُونَ‏}‏ أو من ضمير ‏{‏يَحْشُرُهُمْ‏}‏ إن كانت جملة ‏{‏يَتَعَارَفُونَ‏}‏ حالا أيضاً لئلا يفصل بين الحال وذيها أجنبي والاستئناف أظهر، والتعبير عنهم بالموصول مع أن المقام مقام إضمار لذمهم بما في حيز الصلة وللاشعار بعليته لما أصابهم، والظاهر أن المراد بلقاء الله تعالى مطلق الحساب والجزاء وبالخسران الوضيعة أي قد وضعوا في تجارتهم ومعاملتهم واشترائهم الكفر بالإيمان، وجوز أن يراد بالأول سوء اللقاء وبالثاني الهلاك والضلال، أي قد ضلوا وهلكوا بتكذيبهم بذلك ‏{‏وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ‏}‏ أي لطرق التجارة عارفين بأحوالها أو ما كانوا مهتدين إلى طريق النجاة، والجملة عطف على جملة ‏{‏قَدْ خَسِرَ‏}‏ الخ، وجوز أن تكون معطوفة على صلة الموصول على أنها كالتأكيد لها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ‏}‏ أصله إن نرينك و‏{‏مَا‏}‏ مزيد لتأكيد معنى الشرط ومن ثمت أكد الفعل بالنون والرؤية بصرية أي اما نرينك بعينك ‏{‏بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ‏}‏ من العذاب بأن نعذبهم في حياتك ‏{‏أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ‏}‏ قبل ذلك ‏{‏فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ‏}‏ جواب للشرط وما عطف عليه، والمعنى إن عذابهم في الآخرة مقرر عذبوا في الدنيا أولا، وقيل‏:‏ هو جواب ‏{‏نَتَوَفَّيَنَّكَ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ إنا نتوفينك فإلينا مرجعهم فنريكه في الآخرة وجواب الأول محذوف أي إما نرينك فذاك المراد أو المتمني أو نحو ذلك، وقال الطيبي‏:‏ أي فذاك حق وصواب أو واقع أو ثابت واختار الأول أبو حيان، والاعتراض عليه بأن الرجوع لا يترتب على تلك الإراءة فيحتاج إلى التزام كون الشرطية اتفاقية ناشىء من الغفلة عن المعنى المراد، والمراد من ‏{‏نَعِدُهُمْ‏}‏ وعدناهم إلا أنه عدل إلى صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة أو للدلالة على التجدد والاستمرار أن نعدهم وعداً متجدداً حسبما تقتضيه الحكمة من إنذار غب إنذار‏.‏

وفي تخصيص البعض بالذكر قيل رمز إلى أن العدة بإراءة بعض الموعود وقد أراه صلى الله عليه وسلم ذلك يوم بدر ‏{‏ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ‏}‏ من الأفعال السيئة التي حكيت عنهم، والمراد من الشهادة لازمها مجازاً وهو المعاقبة والجزاء فكأنه قيل‏:‏ ثم الله تعالى معاقب على ما يفعلون، وجوز أن يراد منها إقامتها وأداؤها بإنطاق الجوارح وإلا فشهادة الله سبحانه بمعنى كونه رقيباً وحافظاً أمر دائم في الدارين و‏{‏ثُمَّ‏}‏ لا تناسب ذلك، والظاهر أنها على هذين الوجهين على ظاهرها‏.‏ وفي «الكشف» وغيره هي على الأول للتراخي الرتبي وعلى الثاني على الظاهر وظاهر كلام البعض استحسان حملها على التراخي الرتبي مطلقاً ولا أرى لارتكاب خلاف الظاهر بعد ذلك الارتكاب داعياً، وأن العطف بها على الجزاء لا على مجموع الشرطية، وأنت تعلم أن العطف على ذاك يمنع من إرادة التعذيب منه أو إراءته أو نحو ذلك مما لا يصح أن يكون المعنى المعطوف بثم بعده ومترتباً عليه، ولعل ما اعتبروه هناك ليس تفسيراً للرجوع بل هو بيان للمقصود من الكلام، وإظهار اسم الجلالة لإدخال الروعة وتربية المهابة وتأكيد التهديد‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏ثُمَّ‏}‏ بالفتح أي هنالك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِكُلّ أُمَّةٍ‏}‏ يوم القيامة ‏{‏رَّسُولٍ‏}‏ تنسب إليه وتدعى به ‏{‏فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ‏}‏ الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان ‏{‏قُضِىَ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي بعد أن يشهد ‏{‏بالقسط‏}‏ بالعدل وحكم بنجاة المؤمن وعقاب الكافر ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ أصلاً والجملة قيل تذييل لما قبلها مؤكدة له‏.‏

وقيل‏:‏ في موضع الحال أي مستمراً عدم ظلمهم، ونظير هذه الآية على هذا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَجِىء بالنبيين والشهداء وَقُضِىَ بَيْنَهُم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 69‏]‏ أو لكل أمة من الأمم الخالية رسول يبعث إليهم بشريعة اقتضتها الحكمة ليدعوهم إلى الحق فإذا جاء رسولهم فبلغهم ودعاهم فكذبوه وخالفوه قضى بينهم أي بين كل أمة ورسولها بالعدل وحكم بنجاة الرسول والمؤمنين به وهلاك المكذبين والأول مما رواه ابن جرير‏.‏ وغيره عن مجاهد، والاستقبال عليه على ظاهره ولا يحتاج إلى تقدير مثل ما احتيج في التفسير الثاني وقد رجح بقوله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ بناءً على أن الظاهر أن المراد بالوعد الذي أشاروا إليه العذاب الدنيوي الموعود كما يرشد إله ما بعد‏.‏ واستشكل ما يقتضيه ظاهر الآية من أن الله تعالى لم يهمل أمة من الأمم قط بل بعث إلى كل واحدة منهم رسولاً بأن أهل الفترة ليس فيهم رسول كما يشهد له قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 6‏]‏ وأجيب بأن عموم الآية لا يقتضي أن يكون الرسول حاضراً مع كل أمة منهم لأن تقدمه على بعض منهم لا يمنع من كونه رسولاً إلى ذلك البعض كمالا يمنع تقدم رسولنا صلى الله عليه وسلم من كونه مبعوثاً إلينا إلى آخر الأبد غاية ما في الباب أن ما وقع من تخليط القوم في زمن الفترة يكون مؤدياً إلى ضعف أثر دعوة الأنبياء عليهم السلام انتهى وهو كما ترى‏.‏ وقد يقال‏:‏ إن المراد من كل أمة كل جماعة أراد الله تعالى تكليفها حسبما سبق به علمه أو أراد سبحانه تنفيذ كلمته فيها أو نحو ذلك من المخصصات التي لا يلغو معها الحكم لا كل جماعة من الناس مطلقاً فلا إشكال أصلاً فتدبر‏.‏ ثم إن هذا القول من المكذبين استعجال لما وعدوا به وغرضهم منه على ما قيل استبعاد الموعود وإنه مما لا يكون وقد يراد بالاستفهام الاستبعاد ابتداءً إذ المقام يقتضيه ولا مانع عنه والقول بأن ذلك إنما يكون ابتداء بأين وأنى ونحوهما دون متى غير مسلم كيف وهو معنى مجازي والمجاز لا حجر فيه والخطاب لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام والمؤمنن الذين يتلون عليهم الآيات المتضمنة لذلك، وجواب ‏{‏ءانٍ‏}‏ محذوف اعتماداً على ما تقدمه أي إن كنتم صادقين في أنه يأتينا فليأتنا عجلة، ولكونه صلى الله عليه وسلم هو الواسطة في إتيان ذلك ومنه نشأ الوعد دون المؤمنين أمر صلى الله عليه وسلم بالجواب بقوله سبحانه‏:‏