فصل: تفسير الآية رقم (75)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ‏}‏ الاستفهام للاستبعاد أو للإنكار التوبيخي، والجملة قيل‏:‏ معطوفة على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَسَتْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 47‏]‏ أو على مقدر بين الهمزة والفاء عند غير سيبويه، أي تحسبون أن قلوبكم صالحة للإيمان فتطمعون والطمع تعلق النفس بإدراك مطلوب تعلقاً قوياً وهو أشد من الرجاء لا يحدث إلا عن قوة رغبة وشدة إرادة والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ والمؤمنين أو للمؤمنين قاله أبو العالية وقتادة، أو للأنصار قاله النقاش والمروي عن ابن عباس ومقاتل أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، والجمع للتعظيم

‏{‏أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ‏}‏ أي يصدقوا مستجيبين لكم، فالإيمان بالمعنى اللغوي والتعدية باللام للتضمين كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 6 2‏]‏ أو يؤمنوا لأجل دعوتكم لهم فالفعل منزل منزلة اللازم والمراد بالإيمان المعنى الشرعي واللام لام الأجل وعلى التقديرين ‏{‏أَن يُؤْمِنُواْ‏}‏ معمول لـ تطمعون على إسقاط حروف الجر وهو في موضع نصب عند سيبويه، وجر عند الخليل والكسائي، وضمير الغيبة لليهود المعاصرين له صلى الله عليه وسلم لأنهم المطموع في إيمانهم، وقيل‏:‏ المراد جنس اليهود ليصح جعل طائفة منهم مطموع الإيمان وطائفة محرّفين وفيه ما لا يخفى‏.‏

‏{‏وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ‏}‏ أي طائفة من أسلافهم وهم الأحبار ‏{‏يَسْمَعُونَ كلام الله ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ‏}‏ أي يسمعون التوراة ويؤولونها تأويلاً فاسداً حسب أغراضهم، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والجمهور على أن تحريفها بتبديل كلام من تلقائهم كما فعلوا ذلك في نعته صلى الله عليه وسلم فإنه روي أن من صفاته فيها أنه أبيض ربعة فغيروه بأسمر طويل وغيروا آية الرجم بالتسخيم وتسويد الوجه كما في البخاري وقيل‏:‏ المراد بكلام الله تعالى ما سمعوه على الطور، فيكون المراد من الفريق طائفة من أولئك السبعين، وقد روى الكلبي أنهم سألوا موسى عليه السلام أن يسمعهم كلامه تعالى، فقال لهم‏:‏ اغتسلوا والبسوا الثياب النظيفة ففعلوا فأسمعهم الله تعالى كلامه، ثم قالوا‏:‏ سمعنا يقول في آخره‏:‏ إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا‏.‏ والتحريف على هذا الزيادة‏.‏ ثم لا يخفى أن فيما افتروا شاهداً على فساده حيث علقوا الأمر بالاستطاعة والنهي بالمشيئة وهما لا يتقابلان وكأنهم أرادوا بالأمر غير الموجب على معنى افعلوا إن شئتم وإن شئتم فلا تفعلوا كذا أفاده العلامة ومقصوده بيان منشأ تحريفهم الفاسد، فلا ينافي كون عدم التقابل شاهداً على فساده، ومقتضى هذه الرواية أن هؤلاء سمعوا كلامه تعالى بلا واسطة كما سمعه موسى عليه السلام، والمصحح أنهم لم يسمعوا بغير واسطة، وأن ذلك مخصوص به عليه السلام، وقيل‏:‏ المراد به الوحي المنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم، كان جماعة من اليهود يسمعونه فيحرفونه قصداً أن يدخلوا في الدين ما ليس منه، ويحصل التضاد في أحكامه

‏{‏ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 2 3‏]‏ وقرأ الأعمش ‏{‏كلام الله‏}‏‏.‏

‏{‏مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ‏}‏ أي ضبطوه وفهموه ولم يشتبه عليهم صحته و‏{‏مَا‏}‏ مصدرية أي من بعد عقلهم إياه، والضمير في ‏{‏عَقَلُوهُ‏}‏ عائد على كلام الله، وقيل‏:‏ ‏{‏مَا‏}‏ موصولة والضمير عائد عليها وهو بعيد‏.‏

‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ متعلق العلم محذوف، أي إنهم مبطلون كاذبون، أو ما في تحريفه من العقاب، وفي ذلك كمال مذمتهم، وبهذا التقرير يندفع توهم تكرار ما ذكر بعد ما عقلوه وحاصل الآية استبعاد الطمع في أن يقع من هؤلاء السفلة إيمان، وقد كان أحبارهم ومقدموهم على هذه الحالة الشنعاء، ولا شك أن هؤلاء أسوأ خلقاً وأقل تمييزاً من أسلافهم أو استبعاداً لطمع في إيمان هؤلاء الكفرة المحرفين، وأسلافهم الذين كانوا زمن نبيهم فعلوا ذلك فلهم فيه سابقة، وبهذا يندفع ما عسى أن يختلج في الصدر من أنه كيف يلزم من إقدام بعضهم على التحريف حصول اليأس من إيمان باقيهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا‏}‏ جملة مستأنفة سيقت إثر بيان ما صدر عن أسلافهم لبيان ما صدر عنهم بالذات من الشنائع المؤيسة عن إيمانهم من نفاق بعض وعتاب آخرين عليهم، ويحتمل أن تكون معطوفة على ‏{‏وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5 7‏]‏ الخ، وقيل‏:‏ معطوف على ‏{‏يَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5 7‏]‏ وقيل‏:‏ على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2 7‏]‏ عطف القصة على القصة وضمير ‏{‏لَقُواْ‏}‏ لليهود على طبق ‏{‏أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5 7‏]‏ وضمير ‏{‏قَالُواْ‏}‏ للاقين لكن لا يتصدى الكل للقول حقيقة، بل بمباشرة منافقيهم وسكوت الباقين، فهو إسناد ما للبعض للكل ومثله أكثر من أن يحصى وهذا أدخل، كما قال مولانا مفتي الديار الرومية في تقبيح حال الساكتين أولاً‏:‏ العاتبين ثانياً لما فيه من الدلالة على نفاقهم واختلاف أحوالهم وتناقض آرائهم من إسناد القول إلى المباشرين خاصة بتقدير المضاف، أي قال منافقوهم كما فعله البعض وقيل‏:‏ الضمير الأول لمنافقي اليهود كالثاني ليتحد فاعل الشرط والجزاء مراعاة لحق النظم ويؤيده ما روي عن ابن عباس والحسن وقتادة في تفسير ‏{‏وَإِذَا لَقُواْ‏}‏ يعني منافقي اليهود المؤمنين الخلّص قالوا‏:‏ إلا أن السباق واللحاق كما رأيت وسترى يبعدان ذلك، وقرأ ابن السميقع ‏{‏لاقوا‏}‏‏.‏

‏{‏ءامَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ‏}‏ أي إذا انفرد بعض المذكورين وهم الساكتون منهم بعد فراغهم عن الاشتغال بالمؤمنين متوجهين منضمين إلى بعض آخر منهم وهم من نافق، وهذا كالنص على اشتراك الساكتين في لقاء المؤمنين، إذ الخلو إنما يكون بعد الاشتغال، ولأن عتابهم معلق بمحض الخلو ولولا إنهم حاضرون عند المقاولة لوجب أن يجعل سماعهم من تمام الشرط، ولأن فيه زيادة تشنيع لهم على ما أوتوا من السكوت ثم العتاب ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي أولئك البعض الخالي موبخين لمنافقيهم على ما صنعوا بحضرتهم‏.‏

‏{‏أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ أي تخبرون المؤمنين بما بينه الله تعالى لكم خاصة من نعت نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أو من أخذ العهود على أنبيائكم بتصديقه صلى الله عليه وسلم ونصرته، والتعبير عند بالفتح للإيذان بأنه سر مكتوم وباب مغلق، وفي الآية إشارة إلى أنهم لم يكتفوا بقولهم‏:‏ ‏{‏مِنَ‏}‏ بل عللوه بما ذكر، وإنما لم يصرح به تعويلاً على شهادة التوبيخ، ومن الناس من جوّز كون هذا التوبيخ من جهة المنافقين لأعقابهم وبقاياهم الذين لم ينافقوا، وحينئذ يكون البعض الذي هو فاعل خلا عبارة عن المنافقين، وفيه وضع المظهر موضع المضمر تكثيراً للمعنى والاستفهام إنكار ونهي عن التحديث في الزمان المستقبل وليس بشيء وإن جل قائله اللهم إلا أن يكون فيه رواية صحيحة، ودون ذلك خرط القتاد‏.‏

‏{‏لِيُحَاجُّوكُم بِهِ‏}‏ متعلق بالتحديث دون الفتح خلافاً لمن تكلف له، والمراد تأكيد النكير وتشديد التوبيخ، فإن التحديث وإن كان منكراً في نفسه لكنه لهذا الغرض مما لا يكاد يصدر عن العاقل، والمفاعلة هنا غير مرادة، والمراد ليحتجوا به عليكم، إلا أنه إنما أتى بها للمبالغة، وذكر ابن تمجيد أنه لو ذهب أحد إلى المشاركة بين المحتج والمحتج عليه بأن يكون من جانب احتجاج ومن جانب آخر سماع لكان له وجه كما في بايعت زيداً وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر‏.‏ والكلام هذه لام كي والنصب بأن مضمرة بعدها أو بها، وهي مفيدة للتعليل ولعله هنا مجاز لأن المحدثين لم يحوموا حول ذلك الغرض، لكن فعلهم ذلك لما كان مستتبعاً له ألبتة جعلوا كأنهم فاعلون له إظهاراً لكمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم، وضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ راجع إلى ‏{‏بِمَا فَتَحَ الله‏}‏ على ما يقتضيه الظاهر

‏{‏عِندَ رَبّكُمْ‏}‏ أي في كتابه وحكمه وهو عند عصابة بدل من ‏{‏بِهِ‏}‏، ومعنى كونه بدلاً منه أن عامله الذي هو نائب عنه بدل منه إما بدل الكل إن قدر صيغة اسم الفاعل أو بدل اشتمال إن قدر مصدراً، وفائدته بيان جهة الاحتجاج بما فتح الله تعالى، فإن الاحتجاج به يتصور على وجوه شتى، كأنه قيل‏:‏ ليحاجوكم به بكونه في كتابه، أي يقولوا‏:‏ إنه مذكور في كتابه الذي آمنتم به، وبما ذكر يظهر وجه الجمع بين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِهِ‏}‏ أي ‏(‏بما فتح الله عليكم‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عِندَ رَبّكُمْ‏}‏ واندفع ما قيل لا يصح جعله بدلاً لوجوب اتحاد البدل والمبدل منه في الإعراب، وههنا ليس كذلك لكون الثاني ظرفاً والأول مفعولاً به بالواسطة، وقيل‏:‏ المعنى بما عند ربكم فيكون الظرف حالاً من ضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ وفائدته التصريح بكون الاحتجاج بأمر ثابت عنده تعالى وإن كان ذلك مستفاداً من كونه بما فتح الله تعالى، وقيل‏:‏ عند ذكر ربكم، فالكلام على حذف مضاف، والمراد من الذكر الكتاب وجعل المحاجة بما فتح الله تعالى باعتبار أنه في الكتاب محاجة عنده توسعاً وهذه الأقوال مبنية على أن المراد بالمحاجة في الدنيا وهو ظاهر لأنها دار المحاجة والتأويل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عِندَ رَبّكُمْ‏}‏ وقيل‏:‏ عند ربكم على ظاهره والمحاجة يوم القيامة واعترض بأن الإخفاء لا يدفع هذه المحاجة لأنه إما لأجل أن لا يطلع المؤمنون على ما يحتجون به وهو حاصل لهم بالوحي أو ليكون للمحتج عليهم طريق إلى الإنكار، وذا لا يمكن عنده تعالى يوم القيامة ولا يظن بأهل الكتاب أنهم يعتقدون أن إخفاء ما في الكتاب في الدنيا يدفع المحاجة بكونه فيه في العقبى لأنه اعتقاد منهم بأنه تعالى لا يعلم ما أنزل في كتابه وهم برآء منه، والقول بأن المراد‏:‏ ليحاجوكم يوم القيامة وعند المسائل، فيكون زائداً في ظهور فضيحتكم وتوبيخكم على رؤس الأشهاد في الموقف العظيم، فكان القوم يعتقدون أن ظهور ذلك في الدنيا يزيد ذلك في الآخرة للفرق بين من اعترف وكتم، وبين من ثبت على الإنكار، أو بأن المحاجة بأنكم بلغتم وخالفتم تندفع بالإخفاء يرد عليه أن الإخفاء حينئذ إنما يدفع الاحتجاج بإقرارهم لا بما فتح الله عليهم على أن المدفوع في الوجه الأول زيادة التوبيخ والفضيحة لا المحاجة وقيل‏:‏ ‏{‏عِندَ رَبّكُمْ‏}‏ بتقدير من عند ربكم وهو معمول لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ وهو مما لا ينبغي أن يرتكب في فصيح الكلام، وجوّز الدامغاني أن يكون ‏{‏عِندَ‏}‏ للزلفى أي‏:‏ ليحاجوكم به متقربين إلى الله تعالى وهو بعيد أيضاً كقول بعض المتأخرين‏:‏ إنه يمكن أن تجعل المحاجة به عند الرب عبارة عن المباهلة في تحقق ما يحدثونه، وعليه تكون المحاجة على مقتضى المفاعلة وعندي أن رجوع ضمير به لما فتح الله من حيث إنه محدث ‏{‏بِهِ‏}‏ وجعل القيد هو المقصود، أو للتحديث المفهوم من ‏{‏أَتُحَدّثُونَهُم‏}‏ وحمل ‏{‏عِندَ رَبّكُمْ‏}‏ على يوم القيامة، والتزام أن الإخفاء يدفع هذا الاحتجاج ليس بالبعيد إلا أن أحداً لم يصرح به ولعله أولى من بعض الوجوه فتدبر

‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ عطف إما على ‏{‏أَتُحَدّثُونَهُم‏}‏ والفاء لإفادة ترتب عدم عقلهم على تحديثهم، وإما على مقدر أي ألا تتأملون فلا تعقلون، والجملة مؤكدة لإنكار التحديث، وهو من تمام كلام اللائمين، ومفعوله إما ما ذكر أولاً، أو لا‏:‏ مفعول له وهو أبلغ وقيل‏:‏ هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين متصل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5 7‏]‏ والمعنى‏:‏ أفلا تعقلون حال هؤلاء اليهود وأن لا مطمع في إيمانهم، وهم على هذه الصفات الذميمة والأخلاق القبيحة

‏[‏بم ويبعده قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَلاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ فإنه تجهيل لهم منه تعالى فيما حكى عنهم فيكون توسيط خطاب المؤمنين في أثنائه من قبيص الفصل بين الشجرة ولحائها على أن في تخصيص الخطاب بالمؤمنين تعسفاً ما، وفي تعميمه للنبي صلى الله عليه وسلم سوء أدب كما لا يخفى والاستفهام فيه للإنكار مع التقريع لأن أهل الكتاب كانوا عالمين بإحاطة علمه تعالى والمقصود بيان شناعة فعلهم بأنهم يفعلون ما ذكر مع علمهم‏.‏

‏{‏أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ وفيه إشارة إلى أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية أعظم وزراً والواو للعطف على مقدر ينساق إليه الذهن والضمير للموبخين أي أيلومونهم على التحديث المذكور مخافة المحاجة ولا يعلمون ما ذكر، وقيل‏:‏ الضمير للمنافقين فقط، أولهم وللموبخين، أو لآبائهم المحرفين، والظاهر حمل ما في الموضعين على العموم ويدخل فيه الكفر الذي أسرّوه، والإيمان الذي أعلنوه، واقتصر بعض المفسرين عليهما، وقيل‏:‏ العداوة والصداقة، وقيل‏:‏ صفته صلى الله عليه وسلم التي في التوراة المنزلة والصفة التي أظهروها افتراءً على الله تعالى؛ وقدم سبحانه الإسرار على الإعلان، إما لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في القلب يتعلق به الإسرار غالباً، فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية، وإما للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر، وإما للمبالغة في بيان شمول علمه المحيط بجميع الأشياء كان علمه بما يسرون أقدم منه بما يعلنونه مع كونهما في الحقيقة على السوية، فإن علمه تعالى ليس بطريق حصول الصورة، بل وجود كل شيء في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى، وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة ولا الكامنة، وعكس الأمر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 284‏]‏ لأن الأصل فيما تتعلق المحاسبة به هو الأمور البادية دون الخافية، وقرأ ابن محيصن‏:‏ ‏{‏أَوَلاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ بالتاء فيحتمل أن يكون ذلك خطاباً للمؤمنين أو خطاباً لهم، ثم إنه تعالى أعرض عن خطابهم وأعاد الضمير إلى الغيبة إهمالاً لهم، ويكون ذلك من باب الالتفات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب‏}‏ مستأنفة مسوقة لبيان قبائح جهلة اليهود أثر بيان شنائع الطوائف السالفة، وقيل‏:‏ عطف على ‏{‏قَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5 7‏]‏ وعليه الجمع، وقيل‏:‏ على ‏{‏وَإِذَا لَقُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6 7‏]‏ واختار بعض المتأخرين أنه وهذا الذي عطف عليه اعتراض وقع في البين لبيان أصناف اليهود استطراداً لأولئك المحرفين، والأميون جمع أمي وهو كما في «المغرب» مَن لا يكتب ولا يقرأ منسوب إلى أمة العرب الذين كانوا لا يكتبون ولا يقرءون، أو إلى الأم بمعنى أنه كما ولدته أمه، أو إلى أم القرى لأن أهلها لا يكتبون غالباً، والمراد أنهم جهلة، و‏(‏ الكتاب‏)‏ التوراة كما يقتضيه سباق النظم وسياقه فاللام فيه إما للعهد أو أنه من الأعلام الغالبة، وجعله مصدر كتب كتاباً واللام للجنس بعيد، وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏أُمّيُّونَ‏}‏ بالتخفيف‏.‏

‏{‏إِلاَّ أَمَانِىَّ‏}‏ جمع أمنية وأصلها أمنونة، أفعولة وهو في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من منى إذا قدر، ولذلك تطلق على الكذب وعلى ما يتمنى وما يقرأ، والمروى عن ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهم أن الأماني هنا الأكاذيب أي إلا أكاذيب أخذوها تقليداً من شياطينهم المحرفين، وقيل‏:‏ إلا ما هم عليه من أمانيهم أن الله تعالى يعفو عنهم ويرحمهم، ولا يؤاخذهم بخطاياهم وأن آبائهم الأنبياء يشفعون لهم، وقيل إلا مواعيد مجردة سمعوها من أحبارهم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً، وأن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة واختاره أبو مسلم والاستثناء على ذلك منقطع لأن ما هم عليه من الأباطيل، أو سمعوه من الأكاذيب ليس من الكتاب، وقيل‏:‏ إلا ما يقرؤن قراءة عادية عن معرفة المعنى وتدبره، فالاستثناء حينئذٍ متصل بحسب الظاهر، وقيل‏:‏ منقطع أيضاً إذ ليس ما يتلى من جنس علم الكتاب، واعترض هذا الوجه بأنه لا يناسب تفسير الآتي بما في «المغرب»، وأجيب بأن معناه أنه لا يقرأ من الكتاب ولا يعلم الخط؛ وإما على سبيل الأخذ من الغير فكثيراً ما يقرؤن من غير علم بالمعاني، ولا بصور الحروف، وفيه تكلف إذ لا يقال للحافظ الأعمى‏:‏ إنه أمي، نعم إذا فسر الأمي بمن لا يحسن الكتابة والقراءة على ما ذهب إليه جمع لا ينافي أن يكتب ويقرأ في الجملة واستدل على ذلك بما روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية أخذ الكتاب وليس يحسن الكتب فكتب‏:‏ «هذا ما قضى عليه محمد بن عبد الله» الخ، ومن فسر الأمي بما تقدم أول الحديث بأن كتب فيه بمعنى أمر بالكتابة، وأطال بعض شراح الحديث الكلام في هذا المقام وليس هذا محله‏.‏

وقرأ أبو جعفر والأعرج وابن جماز عن نافع، وهارون عن أبي عمرو ‏{‏أَمَانِىّ‏}‏ بالتخفيف‏.‏

‏{‏وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ‏}‏ الاستثناء مفرغ والمستثنى محذوف أقيمت صفته مقامه، أي ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين وقد يطلق الظن على ما يقابل العلم اليقيني عن دليل قاطع سواء قطع بغير دليل، أو بدليل غير صحيح، أو لم يقطع، فلا ينافي نسبة الظن إليهم إن كانوا جازمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ‏}‏ الويل مصدر لا فعل له من لفظه، وما ذكر من قولهم‏:‏ وال مصنوع كما في «البحر» ومثله ويح وويب وويس وويه وعول، ولا يثنى ولا يجمع ويقال‏:‏ ويلة ويجمع على ويلات وإذا أضيف فالأحسن فيه النصب ولا يجوز غيره عند بعض وإذا أفردته اختير الرفع ومعناه الفضيحة والحسرة وقال الخليل‏:‏ شدة الشر؛ وابن المفضل الحزن وغيرها الهلكة وقال الأصمعي‏:‏ هي كلمة تفجع وقد تكون ترحماً ومنه ويل أمه مسعر حرب وورد من طرق صححها الحفاظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ الويل واد في جهنم يهوي به الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره ‏"‏ وفي بعض الروايات‏:‏ «إنه جبل فيها» وإطلاقه على ذلك إما حقيقة شرعية، وإما مجاز لغوي من إطلاق لفظ الحال على المحل ولا يمكن أن يكون حقيقة لغوية لأن العرب تكلمت به في نظمها ونثرها قبل أن يجىء القرآن ولم تطلقه على ذلك وعلى كل حال هو هنا مبتدأ خبره ‏{‏لِلَّذِينَ‏}‏ فإن كان علماً لما في الخبر فظاهر، وإلا فالذي سوغ الابتداء به كونه دعاء، وقد حول عن المصدر المنصوب للدلالة على الدوام والثبات، ومثله يجوز فيه ذلك لأنه غير مخبر عنه، وقيل‏:‏ لتخصص النكرة فيه بالداعي كما تخصص سلام في سلام عليك بالمسلم فإن المعنى سلامي عليك وكذلك المعنى ههنا دعائي عليهم بالهلك ثابت لهم والكتابة معروفة‏.‏ وذكر الأيدي تأكيداً لدفع توهم المجاز، ويقال‏:‏ أول من كتب بالقلم إدريس، وقيل‏:‏ آدم عليهما السلام، والمراد بالكتاب المحرف، وقد روي أنهم كتبوا في التوراة ما يدل على خلاف صورة النبي صلى الله عليه وسلم وبثوها في سفهائهم وفي العرب وأخفوا تلك النسخ التي كانت عندهم بغير تبديل وصاروا إذا سئلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم يقولون‏:‏ ما هذا هو الموصوف عندنا في التوراة ويخرجون التوراة المبدلة ويقرؤنها ويقولون‏:‏ هذه التوراة التي أنزلت من عند الله، ويحتمل أن يكون المراد به ما كتبوه من التأويلات الزائغة وروّجوه على العامة، وقد قال بعض العلماء‏:‏ ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ولكن بإشارة لا يعرفها إلا العالمون، ولو كان متجلياً للعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه، ثم ازداد ذلك غموضاً بنقله من لسان إلى لسان، وقد وجد في التوراة ألفاظ إذا اعتبرتها وجدتها دالة على صحة نبوته عليه الصلاة والسلام بتعريض هو عند الراسخين جلي، وعند العامة خفي، فعمد إلى ذلك أحبار من اليهود فأوّلوه، وكتبوا تأويلاتهم المحرفة بأيديهم‏.‏

‏{‏ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله‏}‏ إعظاماً لشأنه وتمكيناً له في قلوب أتباعهم الأميين، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ للتراخي الرتبي، فإن نسبة المحرفة والتأويل الزائغ إلى الله سبحانه صريحاً أشد شناعة من نفس التحريف والتأويل، والإشارة إما إلى الجميع، أو إلى الخصوص‏.‏

‏{‏لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً‏}‏ أي ليحصلوا بما أشاروا إليه غرضاً من أغراض الدنيا الدنيئة، وهو وإن جل أقل قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب الدائم، وحرموه من الثواب المقيم، وهو علة للقول كما في «البحر» ولا أرى في الآية دليلاً على المنع من أخذ الأجرة على كتابة المصاحف، ولا على كراهية بيعها، والأعمش تأول الآية واستدل بها على الكراهة وطرف المنصف أعمى عن ذلك نعم ذهب إلى الكراهة جمع منهم‏:‏ ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وبه قال بعض الأئمة‏:‏ لكن لا أظنهم يستدلون بهذه الآية، وتمام البحث في محله‏.‏

‏{‏فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ‏}‏ الفاء لتفصيل ما أجمل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ‏}‏ الخ، حيث يدل على ثبوت الويل للموصوفين بما ذكر لأجل اتصافهم به بناءً على التعليق بالوصف من غير دلالة على أن ثبوته لأجل مجموع ما ذكر أو لا بل كل واحد فبين ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لَهُمْ‏}‏ الخ مع ما فيه من التنصيص بالعلة، ولا يخفى ما في هذا الإجمال والتفصيل من المبالغة في الوعيد والزجر والتهويل‏.‏ و‏(‏ من‏)‏ تعليلية متعلقة بويل أو بالاستقرار في الخبر، و‏(‏ ما‏)‏ قيل‏:‏ موصولة اسمية، والعائد محذوف، أي‏:‏ كتبته وقيل‏:‏ مصدرية والأول‏:‏ أدخل في الزجر عن تعاطي المحرف والثاني‏:‏ في الزجر عن التحريف و‏(‏ ما‏)‏ الثانية مثلها، ورجح بعضهم المصدرية في الموضعين لفظاً ومعنى لعدم تقدير العائد، ولأن مكسوب العبد حقيقة فعله الذي يعاقب عليه ويثاب، وذكر بعض المحققين أن التحقيق أن العبد كما يعاقب على نفس فعله، يعاقب على أثر فعله، لإفضائه إلى حرام آخر وهو هنا يفضي إلى إضلال الغير وأكل الحرام وغاير بين الآيتين بأنه بين في الأولى‏:‏ استحقاقهم العقاب بنفس الفعل وفي الثانية‏:‏ استحقاقهم له بأثره، ولذا جاء بالفاء ولا يخفى أنه كلام خال عن التحقيق كما لا يخفى على أرباب التدقيق ومما ذكرنا ظهر فائدة ذكر الويل ثلاث مرات، وقيل‏:‏ فائدته أن اليهود جنوا ثلاث جنايات‏.‏ تغيير صفة النبي صلى الله عليه وسلم، والافتراء على الله تعالى، وأخذ الرشوة‏.‏ فهددوا بكل جناية بالويل وكأنه جعل محط الفائدة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ‏}‏ إلى آخر المعطوف كما في خبر

«لا يؤمّن الرجل قوماً فيخص نفسه بالدعاء» وهو على بعده لا يظهر عليه وجه إيراد الفاء في الثاني، ثم الظاهر أن مفعول الكسب خاص وهو ما دل عليه سياق الآية وقيل‏:‏ المراد بـ ‏{‏مَا يَكْسِبُونَ‏}‏ جميع الأعمال السيئة ليشمل القول ولا يخفى بُعده وعدم التعرض للقول لما أنه من مبادىء ترويج ‏(‏ما كتبت أيديهم‏)‏ والآية نزلت في أحبار اليهود الذين خافوا أن تذهب رياستهم بإبقاء صفة النبي صلى الله عليه وسلم على حالها فغيروها، وقيل‏:‏ خاف ملوكهم على مُلكهم إذا آمن الناس فرشوهم فحرفوا،  والقول بأنها نزلت في الذين لم يؤمنوا بنبي ولم يتبعوا كتاباً، بل كتبوا بأيديهم كتاباً وحللوا فيه ما اختاروا، وحرّموا ما اختاروا، وقالوا‏:‏ هذا من عند الله غير مرضي، كالقول بأنها نزلت في عبد الله بن سرح كاتب النبي صلى الله عليه وسلم كان يغير القرآن فارتد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً‏}‏ جملة حالية معطوفة على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5 7‏]‏ عند فريق منهم، وعند آخرين على ‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2 7‏]‏ عطف قصة على قصة، واختار بعض المحققين أنها اعتراض لرد ما قالوا حين أوعدوا على ما تقدم بالوليل بل جميع الجمل عنده من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاق‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5 7 3 8‏]‏ الخ، ذكر استطراداً بين القصتين المعطوفتين، فالضمير في ‏{‏قَالُواْ‏}‏ عائد على ‏{‏الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 9 7‏]‏ والمس اتصال أحد الشيئين بآخر على وجه الإحساس والإصابة وذكر الراغب أنه كاللمس، لكن اللمس قد يقال لطلب الشيء وإن لم يوجد كقوله‏:‏

وألمسه فلا أجده *** والمراد من النار نار الآخرة، ومن المعدودة المحصورة القليلة، وكنى بالمعدودة عن القليلة لما أن الأعراب لعدم علمهم بالحساب وقوانينه تصوّر القليل متيسر العدد والكثير متعسره، فقالوا‏:‏ شيء معدود أي قليل وغير معدود أي كثير والقول بأن القلة تستفاد من أن الزمان إذا كثر لا يعد بالأيام، بل بالشهور والسنة والقرن يشكل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام‏}‏ إلى ‏{‏أَيَّامًا معدودات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 183، 184‏]‏ وبقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِذْ واعدنا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1 5‏]‏ وروي عنهم أنهم يعذبون أربعين يوماً عدد عبادتهم العجل؛ ثم ينادى أخرجوا كل مختون من بني إسرائيل، وفي رواية أنهم يعذبون سبعة أيام لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم، وهي سبعة آلاف سنة‏.‏ وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنهم زعموا أنهم وجدوا مكتوباً في التوراة إن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم، وأنهم يقطعون في كل يوم مسيرة سنة فيكملونها، وقد قالوا ذلك حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وسمعه المسلمون فنزلت هذه الآية‏.‏

‏{‏قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْدًا‏}‏ تبكيت لهم وتوبيخ والعهد مجاز عن خبره تعالى، أو وعده بعدم مساس النار لهم سوى الأيام المعدودة وسمي ذلك عهداً لأنه أوكد من العهود المؤكدة بالقسم والنذر، وفسره قتادة هنا بالوعد مستشهداً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5 7 77‏]‏‏.‏

واعترض‏:‏ بأنه لا وجه للتخصيص، فإن ‏{‏لَن تَمَسَّنَا‏}‏ الخ فرع الوعد والوعيد لأن مساس النار وعيد، وأجيب بأنه إنما لم يتعرض للوعيد، لأن المقصود بالاستفهام الوعد لا الوعيد فإنه ثابت في حقهم‏.‏ وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى الآية هل قلتم لا إله إلا الله، وآمنتم وأطعتم فتستدلون بذلك وتعلمون خروجكم من النار‏؟‏ ويؤول إلى هل أسلفتم عند الله أعمالاً توجب ما تدعون‏؟‏ والمعنى الأول أظهر‏.‏

وقرأ ابن كثير وحفص بإظهار الذال والباقون بإدغامه، وحذفت من اتخذ همزة الوصل لوقوعها في الدرج‏.‏

‏{‏فَلَن يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ‏}‏ جواب شرط مقدر، أي إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف وقدره العلامة إن كنتم اتخذتم إذ ليس المعنى على الاستقبال وهو مبني على أن حرف الشرط لا يغير معنى كان وفيه خلاف معروف فإن قلت‏:‏ لا يصح جعل ‏{‏فَلَن يُخْلِفَ الله‏}‏ جزاء لامتناع السببية والترتب لكون ‏{‏لَنْ‏}‏ لمحض الاستقبال قلت‏:‏ ذلك ليس بلازم في الفاء الفصيحة كقوله‏:‏

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا *** ثم القفول فقد جئنا خراسانا

ولو سلم فقد ترتب على اتخاذ العهد الحكم بأنه لا يخلف العهد فيما يستقبل من الزمان فقط، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 3 5‏]‏ كذا أفاده العلامة، والجواب الأول‏:‏ مبني على أن الفاء الفصيحة لا تنافي تقدير الشرط، وأنها تفيد كون مدخولها سبباً عن المحذوف سواء ترتب عليه أو تأخر لتوقفه على أمر آخر بدليل أن قوله‏:‏

فقد جئنا خراسانا

علم عندهم في الفصيحة مع كونه بتقدير الشرط وعدم الترتب كما في «شرح المفتاح» الشريفي ومبنى الثاني‏:‏ على أن المراد حكمهم لا حكمه تعالى حين النزول، ولخفاء ذلك قال المولى عصام‏:‏ الأظهر أنه دليل الجزاء وضع موضعه، أي إن كنتم اتخذتم عند الله عهداً فقد نجوتم لأنه لن يخلف الله عهده فافهم‏.‏

ومن الناس من لا يقدر محذوفاً ويجعل الفاء سببية ليكون اتخاذ العهد مترتباً عليه عدم إخلاف الله تعالى عهده ويكون المنكر حينئذٍ المجموع فتفطن‏.‏

وهذه الجملة كما قال ابن عطية اعتراضية بين ‏{‏اتخذتم‏}‏ والمعادل فلا موضع لها من الإعراب، وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم فإن عدم الاختلاف من قضية الألوهية والعهد مضاف إلى ضميره تعالى لذلك أيضاً، أو لأن المراد به جميع عهوده لعمومه بالإضافة، فيدخل العهد المعهود مع التجافي عن التصريح بتحقق مضمون كلامهم، وإن كان معلقاً على الاتخاذ المعلق بحبال العدم واستدل بالآية من ذهب إلى نفي الخلف في الوعد والوعيد بحمل العهد على الخبر الشامل لهما، وادعى بعضهم أن العهد ظاهر في الوعد بل حقيقة عرفية فيه فلا دليل فيها على نفي الخلف في الوعيد‏.‏

‏{‏أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏{‏أَمْ‏}‏ يحتمل أن تكون متصلة للمعادلة بين شيئين بمعنى أي هذين واقع اتخاذكم العهد أم قولكم على الله ما لا تعلمون وخرج ذلك مخرج المتردد في تعيينه على سبيل التقرير لأولئك المخاطبين لعلم المستفهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع أحدهما، وهو قولهم بما لا يعلمون على التعيين فلا يكون الاستفهام على حقيقته، ويعلم من هذا أن الواقع بعد ‏{‏أَمْ‏}‏ المتصلة قد يكون جملة لأن التسوية قد تكون بين الحكمين وبهذا صرح ابن الحاجب في «الإيضاح»، ويحتمل أن تكون منقطعة بمعنى بل والتقدير بل أتقولون، ومعنى بل فيها الإضراب والانتقال من التوبيخ بالإنكار على الاتخاذ إلى ما تفيد همزتها من التوبيخ على القول، وظاهر كلام صاحب «المفتاح» تعين الانقطاع حيث جعل علامة المنقطعة كون ما بعدها جملة، وإنما علق التوبيخ بإسنادهم إليه سبحانه وتعالى ما لا يعلمون وقوعه مع أن ما أسندوه إليه تعالى من قبيل ما يعلمون عدم وقوعه المبالغة في التوبيخ، فإن التوبيخ على الأدنى يستلزم التوبيخ على الأعلى بطريق الأولى، وقولهم المحكي وإن لم يكن صريحاً بالافتراء عليه جل شأنه لكنه مستلزم له لأن ذلك الجزم لا يكون إلا بإسناد سببه إليه تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

جواب عن قولهم المحكي وإبطال له على وجه أعم شامل لهم ولسائر الكفرة، كأنه قال‏:‏ بل تمسكم وغيركم دهراً طويلاً وزماناً مديداً لا كما تزعمون ويكون ثبوت الكلية كالبرهان على إبطال ذلك بجعله كبرى لصغرى سهلة الحصول فبلى داخلة على ما ذكر بعدها وإيجاز الاختصار أبلغ من إيجاز الحذف، وزعم بعضهم أنها داخلة على محذوف وأن المعنى على تمسكم أياماً معدودة وليس بشيء وهي حرف جواب كجير ونعم إلا أنها لا تقع جواباً إلا لنفي متقدم سواء دخله استفهام أم لا، فتكون إيجاباً له، وهي بسيطة‏.‏ وقيل‏:‏ أصلها بل فزيدت عليها الألف والكسب جلب النفع والسيئة الفاحشة الموجبة للنار، قاله السدي، وعليه تفسير من فسرها بالكبيرة لأنها التي توجب النار أي يستحق فاعلها النار إن لم يغفر له وذهب كثير من السلف إلى أنها هنا الكفر وتعليق الكسب بالسيئة على طريقة التهكم، وقيل‏:‏ إنهم بتحصيل السيئة استجلبوا نفعاً قليلاً فانياً، فبهذا الاعتبار أوقع عليه الكسب، والمراد بالإحاطة الاستيلاء والشمول وعموم الظاهر والباطن والخطيئة السيئة، وغلبت فيما يقصد بالعرض أي لا يكون مقصوداً في نفسه بل يكون القصد إلى شيء آخر، لكن تولد منه ذلك الفعل كمن رمى صيداً فأصاب إنساناً، وشرب مسكراً فجنى جناية، قال بعض المحققين‏:‏ ولذلك أضاف الإحاطة إليها إشارة إلى أن السيئات باعتبار وصف الإحاطة داخلة تحت القصد بالعرض لأنها بسبب نسيان التوبة، ولكونها راسخة فيه متمكنة حال الإحاطة أضافها إليه بخلاف حال الكسب فإنها متعلق القصد بالذات وغير حاصلة فيه فضلاً عن الرسوخ؛ فلذا أضاف الكسب إلى سيئة ونكرها، وإضافة الأصحاب إلى النار على معنى الملازمة لأن الصحبة وإن شملت القليل والكثير لكنها في العرف تخص بالكثرة والملازمة، ولذا قالوا‏:‏ لو حلف من لاقى زيداً أنه لم يصحبه لم يحنث، والمراد بالخلود الدوام، ولا حجة في الآية على خلود صاحب الكبيرة لأن الإحاطة إنما تصح في شأن الكافر لأن غيره إن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه فلم تحط خطيئته به لكون قلبه ولسانه منزهاً عن الخطيئة، وهذا لا يتوقف على كون التصديق والإقرار حسنتين، بل على أن لا يكونا سيئتين فلا يرد البحث بأن الخصم يجعل العمل شرطاً لكونهما حسنتين كما يجعل الاعتقاد شرطاً لكون الأعمال حسنات فلا يتم عنده أن الإحاطة إنما تصح في شأن الكافر، ولا يحتاج إلى الدفع بأن المقصود أنه لا حجة له في الآية، وهذا يتم بمجرد كون الإحاطة ممنوعة في غير الكافر، فلو ثبت أن العمل داخل في الإيمان صارت الآية حجة ودون إثباته خرط القتاد ثم إن نفي الحجية بحمل الإحاطة على ما ذكر إنما يحتاج إليه إذا كانت السيئة والخطيئة بمعنى واحد وهو مطلق الفاحشة أما إذا فسرت السيئة بالكفر أو الخطيئة به حسبما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي هريرة رضي الله تعالى عنه وابن جرير عن أبي وائل ومجاهد وقتادة وعطاء والربيع، فنفي الحجية أظهر من نار على علم‏.‏

ومن الناس من نفاها بحمل الخلود على أصل الوضع وهو اللبث الطويل وليس بشيء لأن فيه تهوين الخطب في مقام التهويل مع عدم ملائمته حمل الخلود في الجنة على الدوام؛ وكذا لا حجة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 0 8‏]‏ الخ بناءً على ما زعمه الجبائي حيث قال‏:‏ دلت الآية على أنه تعالى ما وعد موسى ولا سائر الأنبياء بعده بإخراج أهل الكبائر والمعاصي من النار بعد التعذيب، وإلا لما أنكر على اليهود بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَتَّخَذْتُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 0 8‏]‏ الخ وقد ثبت أنه تعالى أوعد العصاة بالعذاب زجراً لهم عن المعاصي فقد ثبت أن يكون عذابهم دائماً وإذا ثبت في سائر الأمم وجب ثبوته في هذه الأمة إذ الوعيد لا يجوز أن يختلف في الأمم إذا كان قدر المعصية واحداً لأن ما أنكر الله عليهم جزمهم بقلة العذاب لانقطاعه مطلقاً على أن ذلك في حق الكفار لا العصاة كما لا يخفى و‏{‏مِنْ‏}‏ تحتمل أن تكون شرطية، وتحتمل أن تكون موصولة، والمسوغات لجواز دخول الفاء في الخبر إذا كان المبتدأ موصولاً موجودة، ويحسن الموصولية مجىء الموصول في قسيمه وإيراد اسم الإشارة المنبىء عن استحضار المشار إليه بما له من الأوصاف للإشعار بعليتها لصاحبية النار وما فيه من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتهم في الكفر والخطايا، وإنما أشير إليهم بعنوان الجمعية مراعاة لجانب المعنى في كلمة ‏{‏مِنْ‏}‏ بعد مراعاة جانب اللفظ في الضمائر الثلاثة لما أن ذلك هو المناسب لما أسند إليهم في تينك الحالتين، فإن كسب السيئة وإحاطة الخطيئة به في حالة الإفراد وصاحبية النار في حالة الاجتماع  قاله بعض المحققين ولا يخلو عن حسن وقرأ نافع‏:‏ ‏{‏خطيآته‏}‏ وبعض ‏{‏خطياه‏}‏ و‏{‏خطيته‏}‏ و‏{‏خطياته‏}‏ بالقلب والإدغام، واستحسنوا قراءة الجمع بأن الإحاطة لا تكون بشيء واحد، ووجهت قراءة الإفراد بأن الخطيئة وإن كانت مفردة لكنها لإضافتها متعددة، مع أن الشيء الواحد قد يحيط كالحلقة فلا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

لما ذكر سبحانه أهل النار وما أعد لهم من الهلاك أتبع ذلك بذكر أهل الإيمان وما أعد لهم من الخلود في الجنان، وقد جرت عادته جل شأنه على أن يشفع وعده بوعيده مراعاة لما تقتضيه الحكمة في إرشاد العباد من الترغيب تارة والترهيب أخرى، وقيل‏:‏ إن في الجمع تربية الوعيد بذكر ما فات أهله من الثواب، وتربية الوعد بذكر ما نجا منه أهله من العقاب، وعطف العمل على الإيمان بدل على خروجه عن مسماه إذ لا يعطف الجزء على الكل ولا يدل على عدم اشتراطه به حتى يدل على أن صاحب الكبيرة غير خارج عن الإيمان، وتكون الآية حجة على الوعيدية كما قاله المولى عصام فإن قلت‏:‏ للمخالف أن يقول‏:‏ العطف للتشريف لكون العمل أشق وأحمز من التصديق وأفضل الأعمال أحمزها، أجيب بأن الإيمان أشرف من العمل لكونه أساس جميع الحسنات إذ الأعمال ساقطة عن درجة الاعتبار عند عدمه ويخطر في البال إنه يمكن أن يكون لذكر العمل الصالح هنا مع الإيمان نكتة، وهو أن يكون الإيمان في مقابلة السيئة المفسرة بالكفر عند بعض والعمل الصالح في مقابلة الخطيئة المفسرة بما عداه والمراد من ‏(‏الذين آمنوا‏)‏ أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومؤمنو الأمم قبلهم، قاله ابن عباس وغيره وهو الظاهر وقال ابن زيد‏:‏ المراد بهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمته خاصة وذكر الفاء فيما سبق وتركها هنا إما لأن الوعيد من الكريم مظنة الخلف دون الوعد فكان الأول حرياً بالتأكيد دون الثاني، وإما للإشارة إلى سبق الرحمة فإن النحاة قالوا‏:‏ من دخل داري فأكرمه يقتضي إكرام كل داخل لكن على خطر أن لا يكرم وبدون الفاء يقتضي إكرامه ألبتة، وإما للإشارة إلى أن خلودهم في النار بسبب أفعالهم السيئة وعصيانهم وخلودهم في الجنة بمحض لطفه تعالى وكرمه، وإلا فالإيمان والعمل الصالح لا يفي بشكر ما حصل للعبد من النعم العاجلة وإلى كل ذهب بعض والقول بأن ترك الفاء هنا لمزيد الرغبة في ذكر ما لهم ليس بشيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاق بَنِى إسراءيل‏}‏ شروع في تعداد بعض آخر من قبائح أسلاف اليهود مما ينادي باستبعاد إيمان أخلافهم، وقيل‏:‏ إنه نوع آخر من النعم التي خصهم الله تعالى بها، وذلك لأن التكليف بهذه الأشياء موصل إلى أعظم النعم وهو الجنة والموصل إلى النعمة نعمة، وهذا الميثاق ما أخذ عليهم على لسان موسى وغيره من أنبيائهم عليهم السلام، أو ميثاق أخذ عليهم في التوراة، وقول مكي‏:‏ إنه ميثاق أخذه الله تعالى عليهم وهم في أصلاب آبائهم كالذر لا يظهرهم وجهه هنا‏.‏

‏{‏لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله‏}‏ على إرادة القول أي قلنا أو قائلين ليرتبط بما قبله وهو إخبار في معنى النهي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ وكما تقول‏:‏ تذهب إلى فلان وتقول له كيت وكيت، وإلى ذلك ذهب الفراء، ويرجحه أنه أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهي كأنه سارع إلى ذلك فوقع منه حتى أخبر عنه بالحال أو الماضي أي ينبغي أن يكون كذلك فلا يرد أن حال المخبر عنه على خلافه وأنه قرأ ابن مسعود ‏{‏لاَّ تَعْبُدُواْ‏}‏ على النهي وأن ‏{‏قُولُواْ‏}‏ عطف عليه فيحصل التناسب المعنوي بينهما في كونهما إنشاء، وإن كان يجوز عطف الإنشاء على الإخبار فيما له محل من الإعراب، وقيل‏:‏ تقديره أن لا تعبدوا، فلما حذف الناصب ارتفع الفعل، ولا يجب الرفع بعد الحذف في مثل ذلك خلافاً لبعضهم وإلى هذا ذهب الأخفش ونظيره من نثر العرب مره يحفرها ومن نظمها‏:‏

ألا أيها الزاجري احضر الوغى *** وإن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

ويؤيد هذا قراءة ‏{‏أَن لاَّ تَعْبُدُواْ‏}‏ ويضعفه أن ‏(‏أن‏)‏ لا تحذف قياساً في مواضع ليس هذا منها؛ فلا ينبغي تخريج الآية عليه، وعلى تخريجها عليه فهو مصدر مؤول بدل من الميثاق أو مفعول به بحذف حرف الجر أي بأن لا أو على أن لا، وقيل‏:‏ إنه جواب قسم دل عليه الكلام، أي حلفناهم لا تعبدون، أو جواب الميثاق نفسه لأن له حكم القسم، وعليه يخلو الكلام عما مر في وجه رجحان الأول، وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو عمرو، وعاصم، ويعقوب، بالتاء حكاية لما خوطبوا به والباقون بالياء لأنهم غيب، وفي الآية حينئذٍ التفاتان في لفظ الجلالة و‏(‏ يعبدون‏)‏‏.‏

‏{‏وبالوالدين إِحْسَانًا‏}‏ متعلق بمضمر تقديره وتحسنون، أو أحسنوا، والجملة معطوفة على ‏(‏تعبدون‏)‏ وجوّز تعلقه ب ‏(‏إحساناً‏)‏ وهو يتعدى بالباء، وإلى ك ‏{‏أَحْسَنَ بَى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السجن‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 00 1‏]‏ ‏{‏وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 77‏]‏ ومنع تقدم معمول المصدر عليه مطلقاً ممنوع، ومن المعربين من قدر استوصوا فبالوالدين متعلق به و‏(‏ إحساناً‏)‏ مفعوله، ومنهم من قدر ووصيناهم فإحساناً مفعول لأجله، والوالدان تثنية والد لأنه يطلق على الأب والأم أو تغليب بناءً على أنه لا يقال إلا للأب كما ذهب إليه الحلبي، وقد دلت الآية على الحث ببر الوالدين وإكرامهما، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة، وناهيك احتفالاً بهما أن الله عز اسمه قرن ذلك بعبادته‏.‏

‏{‏وَذِى القربى واليتامى والمساكين‏}‏ عطف على ‏(‏الوالدين‏)‏ والقربى مصدر كالرجعى والألف فيه للتأنيث وهي قرابة الرحم والصلب‏.‏ واليتامى وزنه فعالى وألفه للتأنيث، وهو جمع يتيم كنديم وندامى، ولا ينقاس، ويجمع على أيتام‏.‏ واليتم أصل معناه الانفراد، ومنه‏:‏ الدرة اليتيمة، وقال ثعلب‏:‏ الغفلة، وسمي اليتيم يتيماً لأنه يتغافل عن بره، وقال أبو عمرو‏:‏ الإبطاء لإبطاء البر عنه، وهو في الآدميين من قبل الآباء ولا يتم بعد بلوغ وفي البهائم من قبل الأمهات، وفي الطيور من جهتهما‏.‏ وحكى الماوردي أنه يقال في الآدميين لمن فقدت أمه أيضاً والأول هو المعروف والمساكين جمع مسكين على وزن مفعيل مشتق من السكون، كأن الحاجة أسكنته فالميم زائدة كمحضر من الحضور، وروي تمسكن فلان والأصح تسكن أي صار مسكيناً والفرق بينه وبين الفقير معروف وسيأتي إن شاء الله تعالى وقد جاء هذا الترتيب اعتناءً بالأوكد فالأوكد، فبدأ بالوالدين إذ لا يخفى تقدمهما على كل أحد في الإحسان إليهما، ثم بذي القربى لأن صلة الأرحام مؤكدة، ولمشاركة الوالدين في القرابة وكونهما منشأ لها وقد ورد في الأثر ‏"‏ إن الله تعالى خاطب الرحم فقال‏:‏ أنت الرحم وأنا الرحمن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ‏"‏، ثم باليتامى لأنهم لا قدرة لهم تامة على الاكتساب، وقد جاء‏:‏ ‏"‏ أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين ‏"‏ وأشار صلى الله عليه وسلم إلى السبابة والوسطى وتأخرت درجة المساكين لأن المسكين يمكنه أن يتعهد نفسه بالاستخدام ويصلح معيشته مهما أمكن بخلاف اليتيم فإنه لصغره لا ينتفع به ويحتاج إلى من ينفعه وأفرد ‏(‏ذي القربى‏)‏ كما في «البحر» لأنه أريد به الجنس، ولأن إضافته إلى المصدر يندرج فيه كل ذي قرابة، وكأن فيه إشارة إلى أن ذوي القربى وإن كثروا كشيء واحد لا ينبغي أن يضجر من الإحسان إليهم‏.‏

‏{‏وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا‏}‏ أي قولاً حسناً سماه به للمبالغة وقيل‏:‏ هو لغة في الحسن كالبخل والبخل والرشد والرشد، والعرب والعرب، والمراد قولوا لهم القول الطيب وجاوبوهم بأحسن ما يحبون قاله أبو العالية وقال سفيان الثوري‏:‏ مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ قولوا لهم لا إله إلا الله مروهم بها، وقال ابن جريج‏:‏ أعلموهم بما في كتابكم من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول أبي العالية في المرتبة العالية والظاهر أن هذا الأمر من جملة الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل‏:‏ ومن قال‏:‏ إن المخاطب به الأمة وهو محكم أو منسوخ بآية السيف أو إن الناس مخصوص بصالحي المؤمنين إذ لا يكون القول الحسن مع الكفار والفساق لأنا أمرنا بلعنهم وذمهم ومحاربتهم فقد أبعد وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب ‏{‏حَسَنًا‏}‏ بفتحتين وعطاء وعيسى بضمتين وهي لغة الحجاز وأبو طلحة بن مصرف ‏{‏حسنى‏}‏ على وزن فعلى، واختلف في وجهه فقيل‏:‏ هو مصدر كرجعى، واعترضه أبو حيان بأنه غير مقيس ولم يسمع فيه، وقيل‏:‏ هو صفة كحبلى أي مقالة أو كلمة حسنى وفي الوصف بها وجهان أحدهما‏:‏ أن تكون باقية على أنها للتفضيل واستعمالها بغير الألف واللام والإضافة للمعرفة نادر وقد جاء ذلك في الشعر كقوله‏:‏

وإن دعوت إلى جلى ومكرمة *** يوماً كرام سراة الناس فادعينا

وثانيهما‏:‏ أن تجرد عن التفضيل فتكون بمعنى حسنة كما قالوا ذلك في‏:‏ ‏(‏يوسف أحسن إخوته‏)‏ وقرأ الجحدري‏:‏ ‏{‏وبالوالدين إحسانا‏}‏ على أنه مصدر أحسن الذي همزته للصيرورة كما تقول‏:‏ أعشبت الأرض إعشاباً أي صارت ذا عشب فهو حينئذٍ نعت لمصدر محذوف أي قولاً ذا حسن‏.‏

‏{‏وَأَقِيمُواْ الصلاة وَءاتُواْ الزكواة‏}‏ أراد سبحانه بهما ما فرض عليهم في ملتهم لأنه حكاية لما وقع في زمان موسى عليه السلام وكانت زكاة أموالهم كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قرباناً تهبط إليها نار فتحملها وكان ذلك علامة القبول وما لا تفعل النار به كذلك كان غير متقبل، والقول بأن المراد بهما هذه الصلاة وهذه الزكاة المفروضتان علينا، والخطاب لمن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من أبناء اليهود لا غير، والأمر بهما كناية عن الأمر بالإسلام، أو للإيذان بأن الكفار مخاطبون بالفروع أيضاً ليس بشيء كما لا يخفى‏.‏

‏{‏ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ‏}‏ أي أعرضتم عن الميثاق ورفضتموه‏.‏ و‏{‏ثُمَّ‏}‏ للاستبعاد أو لحقيقة التراخي فيكون توبيخاً لهم بالارتداد بعد الانقياد مدة مديدة وهو أشنع من العصيان من الأول، وقد ذكر بعض المحققين أنه إذا جعل ناصب الظرف خطاباً له صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فهذا التفات إلى خطاب بني إسرائيل جميعاً بتغليب أخلافهم على أسلافهم لجريان ذكرهم كلهم حينئذٍ على نهج الغيبة، فإن الخطابات السابقة للأسلاف محكية بالقول المقدر قبل لا تعبدون كأنهم استحضروا عند ذكر جناياتهم فنعيت عليهم وإن جعل خطاباً لليهود المعاصرين فهذا تعميم للخطاب بتنزيل الأسلاف منزلة الأخلاف كما أنه تعميم للتولي بتنزيل الأخلاف منزلة الأسلاف للتشديد في التوبيخ، وقيل‏:‏ الالتفات إنما يجىء على قراءة ‏{‏لا يَعْبُدُونَ‏}‏ بالغيبة، وأما على قراءة الخطاب فلا التفات ومن الناس من جعل هذا الخطاب خاصاً بالحاضرين في زمنه عليه الصلاة والسلام وما تقدم خاصاً بمن تقدم، وجعل الالتفات على القراءتين لكنه بالمعنى الغير المصطلح عليه أن كون الالتفات بين خطابين لاختلافهما لم يقل به أهل المعاني لكنه وقع مثله في كلام بعض الأدباء وما ذكرناه من التغليب أولى وأحرى خلافاً لمن التفت عنه‏.‏

‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ‏}‏ وهم من الأسلاف من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ، ومن الأخلاف من أسلم كعبد الله بن سلام وأضرابه فالقلة في عدد الأشخاص، وقول ابن عطية‏:‏ إنه يحتمل أن تكون في الإيمان أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل إذ لا ينفعهم لا يقدم عليه إلا القليل ممن لم يعط فهماً في الألفاظ العربية، وروي عن أبي عمرو وغيره رفع قليل والكثير المشهور في أمثال ذلك النصب لأن ما قبله موجب، واختلفوا في تخريج الرفق فقيل‏:‏ إن المرفوع تأكيد للضمير أو بدل منه، وجاز لأن ‏(‏توليتم‏)‏ في معنى النفي أي لم يفوا، وقد خرّج غير واحد قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فيما صح على الصحيح‏:‏ «العالمون هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر» وقول الشاعر‏:‏

وبالصريمة منهم منزل خلق *** عاف تغير إلا النوء والوتد

على ذلك، وقول أبي حيان إنه ليس بشيء إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بنفي فيلزم جواز قام القوم إلا زيد بالرفع على التأويل والإبدال ولم يجوزه النحويون ليس بشيء كما لا يخفى، وقيل‏:‏ إن ‏(‏إلا‏)‏ صفة بمعنى غير ظهر إعرابها فيما بعدها، وقد عقد سيبويه لذلك باباً في «كتابه» فقال‏:‏ هذا باب ما يكون فيه إلا وما بعدها وصفاً بمنزلة غير ومثل، وذكر من أمثلة هذا الباب لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا و‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏ وقوله‏:‏

أينخت فألقت بلدة فوق بلدة *** قليل بها الأصوات إلا بغامها

وخرج جمع جميع ما سلف على هذا، وفيه أن ذلك فيما نحن فيه لا يستقيم إلا على مذهب ابن عصفور حيث ذهب إلى أن الوصف ب ‏(‏إلا‏)‏ يخالف الوصف بغيرها من حيث إنه يوصف بها النكرة والمعرفة، والظاهر والمضمر وأما على مذهب غيره وهو ابن شاهين بالنسبة إليه من أنه لا يوصف بها إلا إذا كان الموصوف نكرة أو معرفة بلام الجنس فلا، والمبرد يشترط في الوصف بها صلاحية البدل في موضعه؛ وقيل‏:‏ إنه مبتدأ خبره محذوف أي لم يقولوا ولا يرد عليه شيء مما تقدم إلا أن فيه كلاماً سنذكره إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مّنَ الساجدين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 11‏]‏‏.‏

‏{‏وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ‏}‏ جملة معترضة أي وأنتم قوم عادتكم الإعراض والتولي عن المواثيق، ويؤخذ كونه عادتهم من الاسمية الدالة على الثبوت، وقيل‏:‏ حال مؤكدة والتولي والإعراض شيء واحد ويجوز فصل الحال المؤكدة بالواو عند المحققين وفرق بعضهم بين التولي والإعراض بأن الأول قد يكون لحاجة تدعو إلى الانصراف مع ثبوت العقد والإعراض هو الانصراف عن الشيء بالقلب‏.‏ وقيل‏:‏ إن التولي أن يرجع عوده إلى بدئه، والإعراض أن يترك المنهج ويأخذ في عرض الطريق والمتولي أقرب أمراً من المعرض لأنه متى عزم سهل عليه العود إلى سلوك المنهج والمعرض حيث ترك المنهج وأخذ في عرض الطريق يحتاج إلى طلب منهجه فيعسر عليه العود إليه‏.‏

ومن الناس من جوز أن يكون ‏(‏معرضون‏)‏ على ظاهره، والجملة حال مقيدة أي لم يتول القليل وأنتم معرضون عنهم ساخطون لهم فيكون في ذلك مزيد توبيخ لهم ومدحاً للقليل فهو بعيد كالقول بأنها مقيدة ومتعلق التولي والإعراض مختلف أي توليتم على المضي في الميثاق وأعرضتم عن اتباع هذا النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مّن دياركم‏}‏ على نحو ما سبق في ‏{‏لاَ تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 38‏]‏ والمراد أن لا يتعرض بعضكم بعضاً بالقتل والإجلاء وجعل قتل الرجل غيره قتل نفسه لاتصاله نسباً أو ديناً، أو لأنه يوجبه قصاصاً، ففي الآية مجاز، إما في ضمير كم حيث عبر به عمن يتصل به أو في ‏{‏تَسْفِكُونَ‏}‏ حيث أريد به ما هو سبب السفك‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لا ترتكبوا ما يبيح سفك دمائكم وإخراجكم من دياركم، أو لا تفعلون ما يرديكم ويصرفكم عن لذات الحياة الأبدية فإنه القتل في الحقيقة ولا تقترفوا ما تمنعون به عن الجنة التي هي داركم، وليس النفي في الحقيقة جلاء الأوطان بل البعد من رياض الجنان ولعل ما يسعده سياق النظم الكريم هو الأول‏.‏ والدماء جمع دم معروف وهو محذوف اللام وهي ياء عند بعض لقوله‏:‏

جرى الدميان بالخبر اليقين *** وواو عند آخرين لقولهم دموان ووزنه فعل أو فعل، وقد سمع مقصوراً وكذا مشدداً، وقرأ طلحة وشعيب ‏{‏تَسْفِكُونَ‏}‏ بضم الفاء وأبو نهيك بضم التاء وفتح السين وكسر الفاء مشددة وابن أبي إسحق كذلك إلا أنه سكن السين وخفف الفاء ‏{‏ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ‏}‏ أي بالميثاق واعترفتم بلزومه خلفاً بعد سلف فالإقرار ضد الجحد ويتعدى بالباء قيل ويحتمل أنه بمعنى إبقاء الشيء على حاله من غير اعتراف به وليس بشيء إذ لا يلائمه حينئذ

‏{‏وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ‏}‏ حال مؤكدة رافعة احتمال أن يكون الإقرار ذكر أمر آخر لكنه يقتضيه، ولا يجوز العطف لكمال الاتصال ولا الاعتراض إذ ليس المعنى وأنتم عادتكم الشهادة بل المعنى على التقييد وقيل‏:‏ وأنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم فيكون إسناد الإقرار إليهم جازاً، وضعف بأن يكون حينئذ استبعاد القتل والإجلاء منهم مع أن أخذ الميثاق والإقرار كان من أسلافهم لاتصالهم بهم نسباً وديناً بخلاف ما إذا اعتبر نسبة الإقرار إليهم على الحقيقة فإنه يكون بسبب إقرارهم وشهادتهم وهو أبلغ في بيان قبيح صنيعهم وادعى بعضهم أن الأظهر‏:‏ أن المراد أقررتم حال كونكم شاهدين على إقراركم بأن شهد كل أحد على إقرار غيره كما هو طريق الشهادة ولا يخفي انحطاظ المبالغة حينئذ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ‏}‏ نزلت كما في «البحر» في بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير من اليهود، كان بنو قينقاع أعداء بني قريظة، وكانت الأوس حلفاء بني قينقاع، والخزرج حلفاء بني قريظة، والنضير والأوس والخزرج إخوان؛ وبنو قريظة والنضير إخوان ثم افترقوا فصارت بنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فكانوا يقتتلون ويقع منهم ما قص الله تعالى فعيرهم الله تعالى بذلك‏.‏ و‏{‏ثُمَّ‏}‏ للاستبعاد في الوقوع لا للتراخي في الزمان لأنه الواقع في نفس الأمر كما قيل به و‏(‏ أنتم‏)‏ مبتدأ، وهؤلاء خبره على معنى أنتم بعد ذلك المذكور من الميثاق والإقرار والشهادة هؤلاء الناقضون، كقولك‏:‏ أنت‏:‏ ذلك الرجل الذي فعل كذا، وكان مقتضى الظاهر، ثم أنتم بعد ذلك التوكيد في الميثاق نقضتم العهد فتقتلون أنفسكم الخ أي صفتكم الآن غير الصفة التي كنتم عليها، لكن أدخل ‏(‏هؤلاء‏)‏ وأوقع خبراً ليفيد أن الذي تغير هو الذات نفسها نعياً عليهم لشدة وكادت الميثاق ثم تساهلهم فيه وتغيير الذات فهم من وضع اسم الإشارة الموضوع للذات موضع الصفة لا من جعل ذات واحد في خطاب واحد مخاطباً وغائباً، وإلا لفهم ذلك من نحو ‏{‏بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 55‏]‏ أيضاً‏.‏ وصح الحمل مع اعتبار التغير لأنه ادعائي وفي الحقيقة واحد وعدوا حضوراً مشاهدين باعتبار تعلق العلم بما أسند إليهم من الأفعال المذكورة سابقاً وغيباً باعتبار عدم تعلق العلم بهم لما سيحكى عنهم من الأفعال بعد، لا لأن المعاصي توجب الغيبة عن غير الحضور إذ المناسب حينئذ الغيبة في ‏(‏تقتلون‏)‏ و‏(‏ تخرجون‏)‏ قاله الساليكوتي، و‏(‏ تقتلون‏)‏ إما حال والعامل فيه معنى الإشارة أو بيان كأنه لما قيل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء‏}‏ قالوا كيف نحن فجيء بـ ‏{‏تَقْتُلُونَ‏}‏ تفسيراً له، ويحتمل أن تجعل مفسرة لها من غير تقدير سؤال، وذهب ابن كيسان وغيره إلى أن ‏{‏أَنتُمْ‏}‏ مبتدأ و‏{‏تَقْتُلُونَ‏}‏ الخبر و‏{‏هَؤُلاء‏}‏ تخصيص للمخاطبين لما نبهوا على الحال التي هم عليها مقيمون فيكون إذ ذاك منصوباً بأعنى وفيه أن النحاة نصوا على أن التخصيص لا يكون بأسماء الإشارة ولا بالنكرة والمستقر من لسان العرب أنه يكون يأيتها كاللهم اغفر لنا أيتها العصابة وبالمعرف باللام كنحن العرب أقرى الناس للضيف أو الإضافة كنحن معاشر الأنبياء لا نورث وقد يكون بالعلم ك

بنا تميما نكشف الضبابا‏.‏ *** وأكثر ما يأتي بعد ضمير متكلم وقد يجيء بعد ضمير المخاطب كبك الله نرجو الفضل، وقيل‏:‏ ‏(‏هؤلاء‏)‏ تأكيد لغوي ‏(‏لأنتم‏)‏ فهو إما بدل منه أو عطف بيان عليه وجعله من التأكيد اللفظي بالمرادف توهم، والكلام على هذا خال عن تلك النكتة، وقيل‏:‏ هؤلاء بمعنى الذين والجملة صلته والمجموع هو الخبر، وهذا مبني على مذهب الكوفيين حيث جوزوا كون جميع أسماء الإشارة موصولة سواء كانت بعد ‏(‏ما‏)‏ أولا والبصريون يخصونه إذا وقعت بعد ‏(‏ما‏)‏ الاستفهامية وهو المصحح على أن الكلام يصير حينئذ من قبيل‏:‏

أنا الذي سمتني أمي حيدرة *** وهو ضعيف كما قاله الشهاب وقرأ الحسن ‏{‏تَقْتُلُونَ‏}‏ على التكثير وفي «تفسير المهدوي» أنها قراءة أبي نهيك

‏{‏وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم مّن ديارهم‏}‏ عطف على ما قبله وضمير ديارهم للفريق وإيثار الغيبة مع جواز دياركم كما في الأول للاحتراز عن توهم كون المراد إخراجهم من ديار المخاطبين من حيث ديارهم لا ديار المخرجين ‏{‏تظاهرون علَيْهِم بالإثم والعدوان‏}‏ حال من فاعل ‏{‏تُخْرَجُونَ‏}‏ أو من مفعوله قيل‏:‏ أو من كليهما لأنه لاشتماله على ضميرهما يبين هيئتهما، والمعنى على الأول تخرجون متظاهرين عليهم وعلى الثاني تخرجون فريقاً متظاهراً عليهم، وعلى الثالث تخرجون واقعاً التظاهر منهم عليهم والتظاهر التعاون وأصله من الظهر كأن المتعاونين يسند كل واحد منهما ظهره إلى صاحبه و‏(‏ الاثم‏)‏ الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم واللوم، وقيل‏:‏ ما تنفر منه النفس ولا يطمئن إليه القلب، وفي الحديث‏:‏ «الاثم ما حاك في صدرك» وهو متعلق بتظاهرون حال من فاعله أي متلبسين بالإثم، وكونه هنا مجازاً عما يوجبه من إطلاق المسبب على سببه كما سميت الخمر إثماً في قوله‏:‏

شربت ‏(‏الاثم‏)‏ حتى ضل عقلي *** كذال ‏(‏الاثم‏)‏ تذهب بالعقول

مما لا يدعو إليه داع، والعدوان تجاوز الحد في الظلم، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي ‏{‏تظاهرون‏}‏ بتخفيف الظاء وأصله بتاءين حذفت ثانيتهما عند أبي حيان وأولاهما عند هاشم وقرأ باقي السبعة بالتشديد على ادغام التاء في الظاء وأبو حيوة ‏{‏تظاهرون‏}‏ بضم التاء وكسر الهاء ومجاهد وقتادة باختلاف عنهما ‏{‏تُظْهِرُونَ‏}‏ بفتح التاء والظاء والهاء مشددتين دون ألف ورويت عن أبي عمرو أيضاً وبعضهم تتظاهرون على الأصل‏.‏

‏{‏وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى تفادوهم‏}‏ أي تخرجوهم من الأسر باعطاء الفداء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وابن عامر ‏(‏تفدوهم‏)‏ وعليه حمل بعض قراءة الباقين إذ لا مفاعلة، وفرق جمع بين فادى وفدى بأن معنى الأول‏:‏ بادل أسيراً بأسير والثاني‏:‏ جمع الفداء ويعكر عليه قول العباس رضي الله تعالى عنه فاديت نفسي وفاديت عقيلا إذ من المعلوم إنه ما بادل أسيراً بأسير، وقيل‏:‏ ‏(‏تفادوهم‏)‏ بالعنف و‏(‏ تفدوهم‏)‏ بالصلح؛ وقيل‏:‏ ‏(‏تفادوهم‏)‏ تطلبوا الفدية من الأسير الذي في أيديكم من أعدائكم ومنه قوله‏:‏

قفي فادي أسيرك إن قومي *** وقومك لا أرى لهم احتفالاً

وقال أبو علي‏:‏ معناه لغة تطلقونهم بعد أن تأخذوا منهم شيئاً، وأراه هنا كسابقه في غاية البعد، والقول بأن معنى الآية وإن يأتوكم أسارى في أيدي الشياطين تتصدون لانقاذهم بالإرشاد والوعظ من تضييعكم أنفسكم إلى البطون أقرب كما لا يخفى، والأسارى قيل‏:‏ جمع أسير بمعنى مأسور وكأنهم حملوا أسيراً على كسلان فجمعوه جمعه كما حملوا كسلان عليه فقالوا كسلى كذا قال سيبويه، ووجه الشبه أن الأسير محبوس عن كثير من تصرفه للأسر والكسلان محبوس عن ذلك لعادته، وقيل‏:‏ إنه مجموع كذا ابتداء من غير حمل كما قالوا في قديم قدامى، وسمع بفتح الهمزة وليست بالعالية خلافاً لبعضهم حيث زعم أن الفتح هو الأصل والضم ليزداد قوة، وقيل‏:‏ جمع أسرى وبه قرأ حمزة وهو جمع أسير كجريح وجرحى فيكون أسارى جمع الجمع قاله المفضل، وقال أبو عمرو‏:‏ الأسرى من في اليد، والأسارى من في الوثاق ولا أرى فرقاً بل المأخوذون على سبيل القهر والغلبة مطلقاً أسرى وأسارى‏.‏

‏{‏وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ‏}‏ حال من فاعل ‏{‏تُخْرَجُونَ فَرِيقًا مّنكُم‏}‏ أو مفعوله بعد اعتبار التقييد بالحال السابقة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن يَأْتُوكُمْ‏}‏ اعتراض بينهما لا معطوف على ‏{‏تظاهرون‏}‏ لأن الاتيان لم يكن مقارناً للإخراج وقيد الإخراج بهذه الحال لإفادة أنه لم يكن عن استحقاق ومعصية موجبة له، وتخصيصه بالتقييد دون القتل للإهتمام بشأنه لكونه أشد منه ‏{‏والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 191‏]‏ وقيل‏:‏ لا بل لكونه أقل خطراً بالنسبة إلى القتل فكان مظنة التساهل، ولأن مساق الكلام لذمهم وتوبيخهم على جناياتهم وتناقض أفعالهم وذلك مختص بصورة الإخراج إذ لم ينقل عنهم تدارك القتلى بشيء من دية أو قصاص وهو السر في تخصيص التظاهر فيما سبق، وقيل‏:‏ النكتة في إعادة تحريم الإخراج وقد أفاده لا تخرجون أنفسكم بأبلغ وجه، وفي تخصيص تحريم الإخراج بالإعادة دون القتل أنهم امتثلوا حكماً في باب المخرج وهو الفداء وخالفوا حكماً وهو الإخراج فجمع مع الفداء حرمة الإخراج ليتصل به ‏{‏أَفَتُؤْمِنُونَ‏}‏ الخ أشد اتصال ويتضح كفرهم بالبعض وإيمانهم بالبعض كمال اتضاح حيث وقع في حق شخص واحد، والضمير للشأن والجملة بعده خبره‏.‏ وقيل‏:‏ خبره ‏(‏محرم‏)‏ و‏(‏ إخراجهم‏)‏ نائب فاعل وهو مذهب الكوفيين وتبعهم المهدوي، وإنما ارتكبوه لأن الخبر المتحمل ضميراً مرفوعاً لا يجوز تقديمه على المبتدأ فلا يجيزون قائم زيد على أن يكون قائم خبراً مقدماً، والبصريون يجوزون ذلك ولا يجيزون هذا الوجه لأن ضمير الشأن لا يخبر عنه عندهم إلا بجملة مصرح بجزأيها، وقيل‏:‏ إنه ضمير مبهم مبتدأ أيضاً و‏(‏ محرم‏)‏ خبره و‏(‏ إخراجهم‏)‏ بدل منه مفسر له، وهذا بناء على جواز إبدال الظاهر من الضمير الذي لم يسبق ما يعود إليه، ومنهم من منعه وأجازه الكسائي، وقيل‏:‏ راجع إلى الإخراج المفهوم من ‏(‏تخرجون‏)‏ و‏(‏ إخراجهم‏)‏ عطف بيان له أو بدل منه أو من ضمير محرم، وضعف بأنه بعد عوده إلى الإخراج لا وجه لإبداله منه‏.‏

ومن الغريب ما نقل عن الكوفيين أنه يحتمل أن يكون هو ضمير فصل، وقد تقدم مع الخبر والتقدير وإخراجهم هو محرم عليكم فلما قدم خبر المبتدأ عليه قدم هو معه ولا يجوزه البصريون لأن وقوع الفصل بين معرفة ونكرة لا تقارب المعرفة لا يجوز عندهم وتوسطه بين المبتدأ والخبر أو بين ما هما أصله شرط عندهم أيضاً، ولابن عطية في هذا الضمير كلام يجب إضماره

‏{‏أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ‏}‏ عطم على ‏{‏تَقْتُلُونَ‏}‏ أو على محذوف أي أتفعلون ما ذكر فتؤمنون الخ والاستفهام للتهديد والتوبيخ على التفريق بين أحكام الله تعالى إذ العهد كان بثلاثة أشياء ترك القتل وترك الإخراج ومفاداة الأسارى فقتلوا وأخرجوا على خلاف العهد وفدوا بمقتضاه، وقيل‏:‏ المواثيق أربعة فزيد ترك المظاهرة، وقد أخرج ابن جرير عن أبي العالية أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادى من النساء ما لم يقع عليه العرب ولا يفادى من وقع عليه العرب فقال له عبد الله بن سلام‏:‏ أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن فادوهن كلهن، وروى محيي السنة عن السدي أن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه فأعتقوه، ولعل كفرهم بما ارتكبوا لاعتقادهم عدم الحرمة مع دلالة صريح التوراة عليها لكن ما في «الكشاف» من أنه قيل لهم‏:‏ كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم‏؟‏ فقالوا‏:‏ أمرنا بالفداء وحرم علينا القتال لكنا نستحي من حلفائنا يدل على أنهم لا ينكرون حرمة القتال فاطلاق الكفر حينئذ على فعل ما حرم إما لأنه كان في شرعهم كفراً أو أنه للتغليظ كما أطلق على ترك الصلاة ونحوه ذلك في شرعنا، والقول بأن المعنى أتستعملون البعض وتتركون البعض فالكلام محمول على المجاز بهذا الاعتبار لا اعتبار به كالقول بأن المراد بالبعض المؤمن به نبوة موسى عليه السلام، والبعض الآخر نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي الحياة الدنيا‏}‏ الإشارة إلى الكفر ببعض الكتاب والإيمان ببعض، أو إلى ما فعلوه من القتل والاجلاء مع مفاداة الأسارى والجزاء المقابلة؛ ويطلق في الخير والشر‏.‏

والخزي الهوان، والماضي خزي بالكسر، وقال ابن السكيت‏:‏ معنى خزي وقع في بلية وخزي الرجل خزاية إذا استحى وهو خزيان وقوم خزايا وامرأة خزيا والمراد به هنا الفضيحة والعقوبة أو ضرب الجزية غابر الدهر أو غلبة العدو أو قتل قريظة وإجلاء النضير من منازلهم إلى أريحاء وأذرعات‏.‏

وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ كان عادة بني قريظة القتل وعادة بني النضير الإخراج فلما غلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلى بني النضير وقتل رجال قريظة وأسر نساءهم وأطفالهم وتنكير الخزي للإيذان بفظاعة شأنه وأنه بلغ مبلغاً لا يكنه كنهه، ومن هنا لم يخصه بعضهم ببعض الوجوه، وادعى أن الأظهر ذلك وجعل الإشارة إلى الكفر ببعض الكتاب والإيمان ببعض أي بعض كان ولذلك أفردها، وحينئذ يتناول الكفرة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونظيره من يفعل جميع ذلك، و‏(‏ الدنيا‏)‏ مأخوذة من دنا يدنو وياؤها منقلبة عن واو ولا يحذف منها الألف واللام إلا قليلاً، وخصه أبو حيان في الشعر، و‏(‏ ما‏)‏ نافية و‏(‏ مَنْ‏)‏ إن جعلت موصولة فلا محل ليفعل من الإعراب، وإن جعلت موصوفة فمحله الجر على أنه صفتها، و‏(‏ منكم‏)‏ حال من فاعل يفعل‏.‏ و‏(‏ إلا خزي‏)‏ استثناء مفرغ وقع خبراً للمبتدأ ولا يجوز النصب في مثل ذلك على المشهور‏.‏ ونقل عن يونس إجازته في الخبر بعد ‏(‏إلا‏)‏ كائنا ما كان، وقال بعضهم‏:‏ إن كان ‏(‏ما‏)‏ بعد إلا هو الأول في المعنى أو منزل منزلته لم يجز فيه إلا الرفع عند الجمهور، وأجاز الكوفيون النصب فيما كان الثاني فيه منزلاً منزلة الأول، وإن كان وصفاً أجاز فيه الفراء النصب ومنعه البصريون وحكى عنهم أنهم لا يجوزون النصب في غير المصادر إلا أن يعرف المعنى فيضمر ناصب حينئذ وتحقيقه في محله‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدّ العذاب‏}‏ أي يصيرون إليه فلا يلزم كينونتهم قبل ذلك في أشد العذاب، وقد يراد بالرد الرجوع إلى ما كانوا فيه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فرددناه إلى أُمّهِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 3 1‏]‏ وكأنهم كانوا في الدنيا، أو في القبور في أشد العذاب أيضاً فردوا إليه، والمراد به الخلود في النار وأشديته من حيث إنه لا انقضاء له، أو المراد أشد جميع أنواع العذاب ولكن بالنسبة إلى عذاب من لم يفعل هذا العصيان لأن عصيانهم أشد من عصيان هؤلاء وجزاء سيئة سيئة مثلها ويدل على ما قررناه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ‏}‏ فلا يرد ما أورده الإمام الرازي أنه كيف يكون عذاب اليهود أشد من الدهرية المنكرين للصانع ولا يفيد ما قيل لأنهم كفروا بعد معرفتهم إنه كتاب الله تعالى وإقرارهم وشهادتهم إذ الكافر الموحد كيف يقال إنه أشد عذاباً من المشرك‏؟‏ا أو النافي للصانع وإن كان كفره عن علم ومعرفة، وضمير ‏(‏يردون‏)‏ راجع إلى ‏(‏مَنْ‏)‏ وأوثر صيغة الجمع نظراً إلى معناها بعد ما أوثر الإفراد نظراً إلى لفظها لما أن الرد إنما يكون بالاجتماع وغير السبك حيث لم يقل مثلا وأشد العذاب يوم القيامة للايذان بكمال التنافي بين جزاءي النشأتين، وتقديم اليوم على ذكر ما يقع فيه لتهويل الخطب وتفظيع الحال من أول الأمر، وقرأ الحسن وابن هرمز باختلاف عنهما، وعاصم في رواية المفضل تردون على الخطاب، والجمهور على الغيبة، ووجه ذلك أن ‏(‏يردون‏)‏ راجع إلى من يفعل فمن قرأ بصيغة الغيبة نظر إلى صيغة ‏(‏مَنْ‏)‏ ومن قرأ بصيغة الخطاب نظر إلى دخوله في ‏(‏منكم‏)‏ لا أن الضمير حينئذ راجع إلى ‏(‏كُمْ‏)‏ كما وهم

‏{‏وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ اعتراض وتذييل لتأكيد الوعيد المستفاد مما قبله أي إنه بالمرصاد لا يغفل عما تعملون من القبائح التي من جملتها هذا المنكر؛ والمخاطب به من كان مخاطباً بالآية قبل، وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ إن بني إسرائيل قد مضوا وأنتم تعنون بهذا يا أمة محمد وبما يجري مجراه، وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر يعملون بالياء على أن الضمير لمن والباقون بالتاء من فوق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏أُولَئِكَ الذين اشتروا الحياة الدنيا بالاخرة‏}‏ أي آثروا الحياة الدنا واستبدلوها بالآخرة وأعرضوا عنها مع تمكنهم من تحصيلها ‏{‏فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب‏}‏ الموعودون به يوم القيامة أو مطلق ‏(‏العذاب‏)‏ دنيوياً كان أو أخروياً‏.‏

‏{‏وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ‏}‏ بدفع الخزي إلى آخر الدنيا أو بدفع الجزية في الدنيا، والتعذيب في العقبى، وعلى الاحتمال الأول في الأمرين يستفاد نفي دفع العذاب من نفي تخفيفه بأبلغ وجه وآكده، ورجحه بعضهم بأن المقام على الثاني يستدعي تقديم نفي الدفع على نفي التخفيف، وتقديم المسند إليه لرعاية الفاصلة والتقوى لا للحصر إذ ليس المقام مقامه، ولذا لم يقل فلا عنهم يخفف العذاب، والجملة معطوفة على الصلة‏.‏ ويجوز أن يوصل الموصول بصلتين مختلفتين زماناً، وجوز أن يكون ‏(‏أولئك‏)‏ مبتدأ و‏(‏ الذين‏)‏ خبره، وهذه الجملة خبر بعد خبر، والفاء لما أن الموصول إذا كانت صلته فعلاً كان فيها معنى الشرط، وفيه أن معنى الشرطية لا يسري إلى المبتدأ الواقعة خبراً عنه، وجوز أيضاً أن يكون ‏(‏أولئك‏)‏ مبتدأ و‏(‏ الذين‏)‏ مبتدأ ثان، وهذه الجملة خبر الثاني، والمجموع خبر الأول، ولا يحتاج إلى رابط لأن الذين هم أولئك، ولا يخفى ما فيه هذا

ومن باب الإشارة في هذه الآيات ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ‏}‏ بميلكم إلى هوى النفس وطباعها ومتاركتكم حياتكم الحقيقية لأجل تحصيل لذاتكم الدنية ومآربكم الدنيوية ‏{‏وَلاَ تُخْرِجُونَ‏}‏ ذواتكم من مقارّكم الروحانية، ورياضتكم القدسية ‏{‏ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ‏}‏ بقبولكم لذلك ‏{‏وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 48‏]‏ عليه باستعداداتكم الأولية وعقولكم الفطرية ‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء‏}‏ الساقطون عن الفطرة المحتجبون عن نور الاستعداد ‏{‏تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ‏}‏ وتهلكونها بغوايتكم ومتابعتكم الهوى ‏{‏وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم‏}‏ من أوطانهم القديمة باغوائهم وإضلالهم وتحريضهم على ارتكاب المعاصي تتعاونون عليهم بارتكاب الفواحش ليروكم فيتبعوكم فيها وبالزامكم إياهم رذائل القوتين البهيمية والسبعية وتحريضكم لهم عليها ‏{‏وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى‏}‏ في قيد ما ارتكبوه ووثاق شين ما فعلوه قد أخذتهم الندامة وعيرتهم عقولهم وعقول أبناء جنسهم بما لحقهم من العار والشنار تفادوهم بكلمات الحكمة والموعظة الدالة على أن اللذات المستعلية هي العقلية والروحية وأن اتباع النفس مذموم رديء فيتعظوا بذلك ويتخلصوا من هاتيك القيود سويعة ‏{‏أَفَتُؤْمِنُونَ‏}‏ ببعض كتاب العقل والشرع قولاً وإقراراً ‏{‏وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ‏}‏ فعلاً وعملاً فلا تنتهون عما نهاكم عنه ‏{‏فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ‏}‏ ذلة وافتضاح في الحياة الدنيا ويوم مفارقة الروح البدن ‏{‏تُرَدُّونَ إلى أَشَدَّ العذاب‏}‏ وهو تعذيبهم بالهيآت المظلمة الراسخة في نفوسهم واحترافهم بنيرانها ‏{‏وَمَا الله بغافل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5 8‏]‏ عن أفعالكم أحصاها وضبطها في أنفسكم وكتبها عليكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب‏}‏ شروع في بيان بعض آخر من جناياتهم، وتصديره بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء به، والايتاء الاعطاء، و‏(‏ الكتاب‏)‏ التوراة في قول الجمهور وهو مفعول ثان لآتينا وعند السهيلي مفعول أول، والمراد باتيانها له إنزالها عليه‏.‏ وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن التوراة نزلت جملة واحدة فأمر الله تعالى موسى عليه السلام بحملها فلم يطق فبعث بكل حرف منها ملكاً فلم يطيقوا حملها فخففها الله تعالى لموسى عليه السلام فحملها، وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون آتينا الخ افهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام والأنباء والقصص وغير ذلك مما فيه، والكلام على حذف مضاف أي علم الكتاب أو فهمه وليس بالظاهر

‏{‏وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل‏}‏ يقال قفاه إذا اتبعه وقفاه به إذا أتبعه إياه من القفا وأصل هذه الياء واو لأنها متى وقعت رابعة أبدلت كما تقول عريت من العرو أي أرسلناهم على أثره كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 44‏]‏ وكانوا إلى زمن عيسى عليه السلام أربعة آلاف، وقيل‏:‏ سبعين ألفاً وكلهم على شريعته عليه السلام منهم يوشع وشمويل وشمعون‏.‏ وداود وسليمان وشعياء وارمياء وعزيز وحزقيل والياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم عليهم الصلاة والسلام، وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر بالرسل بتسكين السين، وهو لغة أهل الحجاز والتحريك لغة تميم

‏{‏وَءاتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات‏}‏ أي الحجج الواضحة الدالة على نبوته فتشمل كل معجزة أوتيها عليه السلام وهو الظاهر، وقيل‏:‏ الانجيل، وعيسى أصله بالعبرانية أيشوع بهمزة ممالة بين بين، أو مكسورة ومعناه السيد وقيل‏:‏ المبارك فعرب، والنسبة إليه عيسي وعيسوي وجمعه عيسون بفتح السين وقد تضم وأفرده عن الرسل عليه السلام لتميزه عنهم لكونه من أولي العزم وصاحب كتاب، وقيل‏:‏ لأنه ليس متبعاً لشريعة موسى عليه السلام حيث نسخ كثيراً من شريعته، وأضافه إلى أمه رداً على اليهود إذ زعموا أن له أباً، ومريم بالعبرية الخادم وسميت أم عيسى به لأن أمها نذرتها لخذمة بيت المقدس، وقيل‏:‏ العابدة، وبالعربية من النساء من تحب محادثة الرجال فهي كالزير من الرجال، وهو الذي يحب محادثة النساء، قيل‏:‏ ولا يناسب مريم أن يكون عربياً لأنها كانت برية عن محبة محادثة الرجال اللهم إلا أن يقال سميت بذلك تمليحاً كما يسمى الأسود كافوراً، وقال بعض المحققين‏:‏ لا مانع من تسميتها بذلك بناء على أن شأن من تخدم من النساء ذلك، وفي «القاموس» هي التي تحب محادثة الرجال ولا تفجر وعليه لا بأس بالتسمية كما ذكره المولى عصام والأولى عندي أن التسمية وقعت بالعبري لا بالعربي بل يكاد يتعين ذلك كما لا يخفى على المنصف؛ وعن الأزهري المريم المرأة التي لا تحب مجالسة الرجال وكأنه قيل لها ذلك تشبيهاً لها بمريم البتول ووزنه عربياً مفعلاً لا فعيلاً لأنه لم يثبت في الأبينة على المشهور، وأثبته الصاغاني في «الذيل»، وقال‏:‏ إنه مما فات سيبويه، ومنه عثير للغبار، وضهيد بالمهملة والمعجمة للصلب واسم موضع، ومدين على القول بأصالة ميمه، وضهيا بالقصر وهي المرأة التي لا تحيض أو لا ثدي لها من المضاهاة كأنها أطلق عليها ذلك بمشابهتها الرجل؛ وابن جني يقول‏:‏ إن ضهيد وعثير مصنوعان فلا دلالة فيهما على إثبات فعيل، وذكر الساليكوتي أن عثير بمعنى الغبار بكسر العين وإذا كان مفعلاً فهو أيضاً على خلاف القياس إذ القياس إعلاله بنقل حركة الياء إلى الراء وقبلها ألفاً نحو مباع لكنه شذ كما شذ مدين، ومزيد، وإذا كان من رام يريم إذا فارق وبرح فالقياس كسريائه أيضاً

‏{‏وأيدناه بِرُوحِ القدس‏}‏ أي قويناه بجبريل عليه السلام وإطلاق روح القدس عليه شائع فقد قال سبحانه‏:‏

‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 102‏]‏ وقال صلى الله عليه وسلم لحسان رضي الله تعالى عنه‏:‏ ‏"‏ اهجهم وروح القدس معك ‏"‏ ومرة قال له‏:‏ «وجبريل معك» وقال حسان‏:‏

وجبريل وروح القدس فينا *** ‏(‏وروح القدس‏)‏ ليس له كفاء و‏(‏ قدس‏)‏ الطهارة والبركة، أو التقديس ومعناه التطهير‏.‏ والإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة في الاختصاص، وهي معنوية بمعنى اللام فإذا أضيف العلم كذلك يكون مؤلا بواحد من المسمين به‏.‏ وقال مجاهد والربيع‏:‏ ‏(‏القدس‏)‏ من أسماء الله تعالى كالقدوس وزعم بعضهم أن إطلاق الروح على جبريل مجاز لأنه الريح المتردد في مخارق الإنسان ومعلوم أن جبريل ليس كذلك لكنه أطلق عليه سبيل التشبيه من حيث إن الروح سبب الحياة الجسمانية، وجبريل سبب الحياة المعنوية بالعلوم، وكأن هذا الزعم نشأ من كثافة روح الزاعم وعدم تغذيها بشيء من العلوم، وخص عيسى عليه السلام بذكر التأييد بروح القدس لأنه تعالى خصه به من وقت صباه إلى حال كبره، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس تُكَلّمُ الناس فِى المهد وَكَهْلاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 0 11‏]‏ ولأنه حفظه حتى لم يدن منه الشيطان، ولأنه بالغ إثنا عشر ألف يهودي لقتله، فدخل عيسى بيتاً فرفعه عليه السلام مكاناً علياً‏.‏ وقيل‏:‏ الروح هنا اسم الله تعالى الأعظم الذي كان يحيي به الموتى وروي ذلك كالأول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال ابن زيد‏:‏ الإنجيل كما جاء في شأن القرآن قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏ وذلك لأنه سبب للحياة الأبدية والتحلي بالعلوم والمعارف التي هي حياة القلوب وانتظام المعاش الذي هو سبب الحياة الدنيوية، وقيل‏:‏ روح عيسى عليه السلام نفسه، ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان، أو لكرامته عليه تعالى ولذلك أضافها إلى نفسه أو لأنه لم يضمه الأصلاب ولا أرحام الطوامث، بل حصل من نفخ جبريل عليه السلام في درع أمه فدخلت النفخة في جوفها‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏(‏القدس‏)‏ بسكون الدال حيث وقع، وأبو حيوة ‏(‏القدوس‏)‏ بواو‏.‏

‏{‏أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم استكبرتم‏}‏ مسبب عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا‏}‏ بحيث لا يتم الكلام السابق بدونه كالشرط بدون الجزاء، وقد أدخلت الهمزة بين السبب والمسبب للتوبيخ على تعقيبهم ذلك بهذا، والتعجيب من شأنهم على معنى‏)‏ ولقد آتينا موسى الكتاب وأنعمنا عليكم بكذا وكذا لتشكروا بالتلقي بالقبول فعكستم بأن كذبتم ويحتمل أن يكون ابتداء كلام والفاء للعطف على مقدر كأنه قيل‏:‏ أفعلتم ما فعلتم فكلما جاءكم ثم المقدر يجوز أن يكون عبارة عما وقع بعد الفاء فيكون العطف للتفسير، وأن يكون غيره مثل ‏{‏أَكْفَرْتُمْ النعمة عَنِ الهوى‏}‏ فيكون لحقيقة التعقيب، وضعف هذا الاحتمال بما ذكره الرضى أنه لو كان كذلك لجاز وقوع الهمزة في الكلام قبل أن يتقدمه ما كان معطوفاً عليه ولم تجيء إلا مبنية على كلام متقدم، وفي كون الهمزة الداخلة على جملة معطوفة بالواو، أو الفاء، أو ثم في محلها الأصلي، أو مقدمة من تأخير حيث إن محلها بعد العاطف خلاف مشهور بين أهل العربية، وبعض المحققين يحملها في بعض المواضع على هذا وفي البعض على ذلك بحسب مقتضى المقام ومساق الكلام والقلب يميل إليه قيل‏:‏ ولا يلزم بطلان صدارة الهمزة إذ لم يتقدمها شيء من الكلام الذي دخلت هي عليه، وتعلق معناها بمضمونه غاية الأمر أنها توسطت بين كلامين لإفادة إنكار جمع الثاني مع الأول، أو لوقوعه بعده متراخياً أو غير متراخ، وهذا مراد من قال‏:‏ إنها مقحمة مزيدة لتقرير معنى الإنكار أو التقرير، أي مقحمة على المعطوف مزيدة بعد اعتبار عطفه، ولم يرد أنها صلة و‏(‏ تهوى‏)‏ من هوي بالكسر إذا أحب، ومصدره هوى بالقصر، وأما هوى بالفتح فبمعنى سقط، ومصدره هوى بالضم وأصله فعول فأعل‏.‏ وقال المرزوقي‏:‏ هوى انقض انقضاض النجم والطائر، والأصمعي يقول‏:‏ هوت العقاب إذا انقضت لغير الصيد، وأهوت إذا انقضت للصيد، وحكى بعضهم أنه يقال‏:‏ هوى يهوي هوياً بفتح الهاء إذا كان القصد من أعلى إلى أسفل، وهوى يهوي هوياً بالضم إذا كان من أسفل إلى أعلى وما ذكرناه أولا هو المشهور والهوى يكون في الحق وغيره، وإذا أضيف إلى النفس فالمراد به الثاني في الأكثر، ومنه هذه الآية‏.‏

وعبر عن المحبة بذلك للإيذان بأن مدار الرد والقبول عندهم هو المخالفة لأهواء أنفسهم والموافقة لها لا شيء آخر، ومتعلق ‏(‏استكبرتم‏)‏ محذوف أي عن الإيمان بما جاء به مثلاً، واستفعل هنا بمعنى تفعل‏.‏

‏{‏فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ‏}‏ الظاهر أنه عطف على ‏{‏استكبرتم‏}‏ والفاء للسببية إن كان التكذيب والقتل مرتبين على الاستكبار، وللتفصيل إن كانا نوعين منه، وجوز الراغب أن يكون عطفاً على ‏{‏وأيدناه‏}‏ ويكون ‏{‏أَفَكُلَّمَا‏}‏ مع ما بعده فصلا بينهما على سبيل الإنكار، وقدم ‏{‏فَرِيقاً‏}‏ في الموضعين للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم لا للقصر، وثمّ محذوف أي‏:‏ فريقاً منهم، وبدأ بالتكذيب لأنه أول ما يفعلونه من الشر ولأنه المشترك بين المكذب والمقتول، ونسب القتل إليهم مع أن القاتل آباؤهم لرضاهم به ولحوق مذمته بهم، وعبر بالمضارع حكاية للحال الماضية واستحضاراً لصورتها لفظاعتها واستعظامها، أو مشاكلة للأفعال المضارعة الواقعة في الفواصل فيما قبل، أو للدلالة على أنكم الآن فيه فإنكم حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم ولولا أني أعصمه لقتلتموه ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة، فالمضارع للحال ولا ينافيه قتل البعض‏.‏ والمراد من القتل مباشرة الأسباب الموجبة لزوال الحياة سواء ترتب عليه أولا، وقيل‏:‏ لا حاجة إلى التعميم لأنه صلى الله عليه وسلم قتل حقيقة بالسم الذي ناولوه على ما وقع في الصحيح بلفظ «وهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم» وفيه أنه لم يتحقق منهم القتل زمان نزول الآية بل مباشرة الأسباب فلا بد من التعميم‏.‏