فصل: الجزء الثامن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


وأنت تعلم أن المقام لا يساعد على ذلك لأنه إن لم يقتض حمل الظلم على أعظم أفراده وهو الشرك فلا أقل من أنه يقتضي حمله على ما يدخل ذلك فيه دخولاً أولياً، والظاهر أن جملة ‏{‏قَضَى‏}‏ مستأنفة، وجوز أن تكون معطوفة على جملة ‏{‏رَأَوْاْ‏}‏ فتكون داخلة في حيز لما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السموات والارض‏}‏ أي إن له سبحانه لا لغيره تعالى ما وجد في هذه الأجرام العظيمة داخلاً في حقيقتها أو خارجاً عنها متمكناً فيها، وكلمة ‏{‏مَا‏}‏ لتغليب غير العقلاء على العقلاء، وهو تذييل لما سبق وتأكيد واستدلال عليه بأن من يملك جميع الكائنات وله التصرف فيها قادر على ما ذكر وقيل‏:‏ إنه متصل بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الارض لاَفْتَدَتْ بِهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 54‏]‏ كأنه بيان لعقدهم ما يفتدون به وعدم ملكهم شيئاً حيث أفاد أن جميع ما في السموات والأرض ملكه لا ملك لأحد فيه سواه جل وعلا وليس بشيء وإن ذكره بعض الأجلة واقتصر عليه ‏{‏أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله‏}‏ أي جميع ما وعد به كائناً ما كان فيندرج فيه العذاب الذي استعجلوه وما ذكر في أثناء بيان حاله اندراجاً أولياً، فالمصدر بمعنى اسم المفعول، ويجوز أن يكون باقياً على معناه المصدري أي وعده سبحانه بجميع ما ذكر ‏{‏حَقّ‏}‏ أي ثابت واقع لا محالة أو مطابق للواقع، والظاهر أن حمل الوعد على العموم بحيث يندرج فيه العذاب المذكور والعقاب للعصاة أو الوعد بهما يستدعي اعتبار التغليب في الكلام، وبعضهم حمل الوعد على ما وعد به صلى الله عليه وسلم من نصره وعقاب من لم يتبعه وقال‏:‏ إن اعتبار التغليب توهم وليس بالمتعين، وإظهار الاسم الجليل لتفخيم شأن الوعد والإشعار بعلة الحكم، وتصدير الجملتين بحرفي التنبيه والتحقيق للتسجيل على تحقق مضمونها المقرر لمضمون ما سلف من الآيات الكريمة والتنبيه على وجوب استحضاره والمحافظة عليه‏.‏

وذكر الإمام في توجيه ذكر أداة التنبيه في الجملة الأولى أن أهل هذا العالم مشغولون بالنظر إلى الأسباب الظاهرة فيضيفون الأشياء إلى ملاكها الظاهرة المجازية ويقولون مثلاً الدار لزيد والغلام لعمرو والسلطنة للخليفة والتصرف للوزير فكانوا مستغرقين في نوم الجهل والغفلة حيث يظنون صحة تلك الإضافات فلذلك زادهم سبحانه بقوله عز اسمه‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ للَّهِ‏}‏ الخ، واستناد جميع ذلك إليه جل شأنه بالمملوكية لما ثبت من وجوب وجوده لذاته سبحانه وأن جميع ما سواه ممكن لذاته وأن الممكن لذاته مستند إلى الواجب لذاته إما ابتداء أو بواسطة وذلك يقتضي أن الكل مملوك له تعالى، والكلام في ذكر الأداة في الجملة الثانية على هذا النمط لا يخلو عن تكلف، والحق ما أشرنا إليه في وجه التصدير، ووجه اتصال هذه الجملة بما تقدم ظاهر مما قررنا وللطبرسي في توجيه ذلك كلام ليس بشيء ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ‏}‏ لسواء استعداداتهم وقصور عقولهم واستيلاء الغفلة عليهم ‏{‏لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ فيقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ‏}‏ في الدنيا من غير دخل لأحد في ذلك، وهذا على ما يفهم من كلام البعض استدلال على البعث والنشور على معنى أنه تعالى يفعل الإحياء والإماتة في الدنيا فهو قادر عليهما في العقبى لأن القادر لذاته لا تزول قدرته والمادة القابلة بالذات للحياة والموت قابلة لهما أبداً، ولا يخفى أن ذكر القدرة على الإماتة استطرادي لا دخل له في الاستدلال على ذلك، والظاهر عندي أنه كالذي قبله تذييل لما سبق ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ في الآخرة بالبعث والحشر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏تُرْجَعُونَ ياأيها الناس قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء لِمَا فِى الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ التفات ورجوع إلى استمالتهم نحو الحق واستنزالهم إلى قبوله واتباعه غب تحذيرهم من غوائل الضلال بما تلا عليهم من القوارع وإيذان بأن جميع ذلك مسوق لمصالحهم وهذا وجه الربط بما تقدم‏.‏ وقال أبو حبان في ذلك‏:‏ أنه تعالى لما ذكر الأدلة على الألوهية والوحدانية والقدرة ذكر الدلائل الدالة على صحة النبوة والطريق المؤدي إليها وهو المتصف بهذه الأوصاف والأول أولى ولا يأباه عموم الخطاب كما هو الظاهر واختاره الطبري خلافاً لمن جعله خاصاً بقريش، والموعظة كالوعظ والعظة تذكير ما يلين القلب من الثواب والعقاب، وقيل‏:‏ زجر مقترن بتخويف، والشفاء الدواء ويجمع على أشفية وجمع الجمع أشافي، والهدى معلوم مما مر غير مرة، والرحمة الإحسان أو إرادته أو صفة غيرهما لائقة بمن قامت به، و‏{‏مّن رَّبّكُمْ‏}‏ متعلق بجاء و‏{‏مِنْ‏}‏ ابتدائية أو بمحذوف وقع صفة لموعظة و‏{‏مِنْ‏}‏ تبعيضية والكلام على حذف مضاف أي موعظة من مواعظ ربكم و‏{‏لَّمّاً‏}‏ إما متعلق بما عنده واللام مقوية وأما متعلق بمحذوف وقع نعتاً له وكذا يقال على ما قيل فيما بعد، والمراد قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد والمنافع كاشف عن أحوال الأعمال حسناتها وسيئاتها مرغب في الأولى ورادع عن الأخرى ومبين للمعارف الحقة المزيلة لأدواء الشكوك وسوء مزاج الاعتقاد وهاد إلى طريق الحق واليقين بالإرشاد إلى الاستدلال بالدلائل الآفاقية والأنفسية ورحمة للمؤمنين حيث نجوا به من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإيمان وتخلصوا من دركات النيران وارتقوا إلى درجات الجنان‏.‏ قال بعض المحققين‏:‏ إن في ذلك إشارة إلى أن للنفس الإنسانية مراتب كمال من تمسك بالقرآن فاز بها‏.‏ أحدها‏:‏ تهذيب الظاهر عن فعل ما لا ينبغي وإليه الإشارة ‏{‏بالموعظة‏}‏ بناءً على أن فيها الزجر عن المعاصي وثانيها‏:‏ تهذيب الباطن عن العقائد الفاسدة والملكات الردية وإليه الإشارة ‏{‏وَشِفَاء لِمَا فِى الصدور‏}‏ وثالثها‏:‏ تحلي النفس بالعقائد الحقة والأخلاق الفاضلة ولا يحصل ذلك إلا بالهدى‏.‏ ورابعها‏:‏ تجلي أنوار الرحمة الإلهية وتختص بالنفوس الكاملة المستعدة بما حصل لها من الكمال الظاهر والباطن لذلك‏.‏ وقال الإمام‏:‏ الموعظة إشارة إلى تطهر ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة، والشفاء إلى تطهر الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة، والهدى إلى ظهور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة، والرحمة إلى بلوغ الكمال والأشراق حتى يكمل غيره ويفيض عليه وهو النبوة والخلافة فهذه درجات لا يمكن فيها تقديم ولا تأخير، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر جداً والذي يقتضيه الظاهر كون المذكورات أوصافاً للقرآن باعتبار كونه سبباً وآلة لها، وجعلت عينه مبالغة وبينها تلازم في الجملة، والتنكير فيها للتفخيم، والهداية إن أخذت بمعنى الدلالة مطلقاً فعامة أو بمعنى الدلالة الموصولة فخاصة وحينئذٍ يكون ‏{‏لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ قيد الأمرين، ويؤيد تقييد الهدى بذلك قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هُدًى لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ فالقرآن واعظ بما فيه من الترهيب والترغيب أو بما فيه من الزجر عن المعاصي كيفما كانت المقترن بالتخويف فقط بناءً على التفسير الثاني للموعظة، وشاف لما في الصدور من الأدواء المفضية إلى الهلاك كالجهل والشك والشرك والنفاق وغيرها، ومرشد ببيان ما يليق وما لا يليق إلى ما فيه النجاة والفوز بالنعيم الدائم أو موصل إلى ذلك، وسبب الرحمة للمؤمنين الذين آمنوا به وامتثلوا ما فيه من الأحكام، وأما إذا ارتكب خلاف الظاهر فيقال غير ما قيل أيضاً مما ستراه إن شاء الله تعالى في باب الإشارة‏.‏

واستدل كما قال الجلال السيوطي بالآية على أن القررن يشفي من الأمراض البدنية كما يشفي من الأمراض القلبية فقد أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ إني أشتكي صدري فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «اقرأ القرآن يقول الله تعالى شفاء لما في الصدور ‏"‏ وأخرج البيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع أن رجلاً شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجع حلقه فقال‏:‏ ‏"‏ عليك بقراءة القرآن ‏"‏ وأنت تعلم أن الاستدلال بها على ذلك مما لا يكاد يسلم، والخبر الثاني لا يدل عليه إذ ليس فيه أكثر من أمره صلى الله عليه وسلم الشاكي بقراءة القرآن إرشاداً له إلى ما ينفعه ويزول به وجعه ونحن لا ننكر أن لقراءة القرآن بركة قد يذهب الله تعالى بسببها الأمراض والأوجاع وإنما ننكر الاستدلال بالآية على ذلك؛ والخبر الأول وإن كان ظاهراً في المقصود لكن ينبغي تأويله كأن يقال‏:‏ لعله صلى الله عليه وسلم اطلع على أن في صدر الرجل مرضاً معنوياً قلبياً قد صار سبباً للمرض الحسي البدني فأمره عليه الصلاة والسلام بقراءة القرآن ليزول عنه الأول فيزول الثاني، ولا يستبعد كون بعض الأمراض القلبية قد يكون سبباً لبعض الأمراض القالبية فإنا نرى أن نحو الحسد والحقد قد يكون سبباً لذلك، ومن كلامهم لله تعالى در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله‏:‏ وهذا أولى من إخراج الكلام مخرج الأسلوب الحكيم‏.‏

والحسن البصري ينكر كون القرآن شفاء للأمراض، فقد أخرج أبو الشيخ عنه‏.‏ أنه قال‏:‏ إن الله تعالى جعل القرآن شفاء لما في الصدور ولم يجعله شفاء لأمراضكم، والحق ما ذكرنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمر الناس بأن يغتنموا ما في القرآن العظيم من الفضل والرحمة أي قل لهم ‏{‏بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ‏}‏ متعلق بمحذوف، وأصل الكلام ليفرحوا بفضل الله تعالى وبرحمته ثم قدم الجار والمجرور على الفعل لإفادة اختصاصه بالمجرور ثم أدخل عليه الفاء لإفادة معنى السببية فصار بفضل الله وبرحمته فليفرحوا ثم جىء بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ‏}‏ للتأكيد والتقرير ثم حذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه، والفاء الأولى قيل جزائية والثانية زائدة للتأكيد، والأصل أن فرحوا بشيء فبذلك ليفرحوا لا بشيء آخر ثم زيدت الفاء لما ذكر ثم حذف الشرط، وقيل‏:‏ إن الأولى هي الزائدة لأن جواب الشرط في الحقيقة فليفرحوا وبذلك مقدم من تأخير لما أشير إليه، وزيدت فيه الفاء للتحسين، ولذلك جوز أن يكون بدلاً من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ‏}‏ وحينئذٍ لا يحتاج إلى القول بحذف متعلقه ونظير ذلك في الاختلاف في تعيين الزائد فيه قول النمر بن تولب‏:‏ لا تجزعي إن منفساً أهلكته *** فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي

ومن غريب العربية ما أشار إليه بعضهم إن الآية من باب الاشتغال وقد أقيم اسم الإشارة مقام ضمير المعمول وتوحيده باعتبار ما ذكر ونحوه كما هو شائع فيه، ووجه غرابته أن المعروف في شرط الباب اشتغال العامل بضمير المعمول ولم يذكر أحد من النحاة اشتغاله باسم الإشارة إليه، وجوز أن يقدر متعلق الجار والمجرور ‏{‏فليعتنوا‏}‏ أي بفضل الله ورحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا، والقرينة على تقدير ذلك أن ما يفرح به يكون مما يعتني ويهتم بشأنه، أو تقديم الجار والمجرور على ما قيل، وقال الحلبي‏:‏ الدلالة عليه من السباق واضحة وليس شرط الدلالة أن تكون لفظية، فقول أبي حيان‏:‏ إن ذلك إضمار لا دليل عليه مما لا وجه له، وأن يقدر جاءتكم بعد ‏{‏اثنين قُلْ‏}‏ مدلولاً عليه بما قبل أي قل جاءتكم موعظة وشفاء وهدى ورحمة بفضل الله وبرحمته ولا يجوز تعلقه بجاءتكم المذكور لأن ‏{‏قُلْ‏}‏ تمنع من ذلك، وذلك على هذا إشارة إلى المصدر المفهوم من الفعل وهو المجىء أي فبمجىء المذكورات فليفرحوا، وتكرير الباء في برحمته على سائر الأوجه للإيذان باستقلالها في استيجاب الفرح، والمراد بالفضل والرحمة إما الجنس ويدخل فيه ما في مجىء القرآن من الفضل والرحمة دخولاً أولياً وإما ما في مجيئه من ذلك، ويؤيده ما روي عن مجاهد أن المراد بالفضل والرحمة القرآن‏.‏

وأخرج أبو الشيخ‏.‏ وابن مردويه عن أنس قال قال‏:‏ «رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله»

وروي ذلك عن البراء‏.‏ وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما موقوفاً‏.‏ وجاء عن جمع جم أن الفضل القرآن والرحمة الإسلام وهو في معنى الحديث المذكور‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الفضل العلم والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج الخطيب‏.‏ وابن عساكر عنه تفسير الفضل بالنبي عليه الصلاة والسلام والرحمة بعلي كرم الله تعالى وجهه، والمشهور وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة كما يرشد إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏ دون الأمير كرم الله تعالى وجهه، وإن كان رحمة جليلة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقيل‏:‏ المراد بهما الجنة والنجاة من النار‏.‏ وقيل غير ذلك، ولا يجوز أن يراد بالرحمة على الوجه الأخير من أوجه الإعراب ما أريد بها أولاً بل هي فيه غير الأولى كما لا يخفى‏.‏ وروى رويس عن يعقوب أنه قرأ ‏{‏فلتفرحوا‏}‏ بتاء الخطاب ولام الأمر على أصل المخاطب المتروك بناءً على القول بأن أصل صيغة الأمر الأمر باللام فحذفت مع تاء المضارعة واجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الابتداء بالساكن لا على القول بأنها صيغة أصلية، وقد وردت هذه القراءة في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخرجه جماعة منهم أبو داود‏.‏ وأحمد‏.‏ والبيهقي من طرق عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه مرفوعاً، وقرأ بها أيضاً ابن عباس‏.‏ وقتادة‏.‏ وغيرهما‏.‏ وفي تعليقات الزمخشري على كشافه كأنه صلى الله عليه وسلم إنما آثر القراءة بالأصل لأنه أدل على الأمر بالفرح وأشد تصريحاً به إيذاناً بأن الفرح بفضل الله تعالى وبرحمته بليغ التوصية به ليطابق التقرير والتكرير وتضمين معنى الشرط لذلك، ونظيره مما انقلب فيه ما ليس بفصيح فصيحاً قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الصمد‏:‏ 4‏]‏ من تقديم الظرف اللغو ليكون الغرض اختصاص التوحيد انتهى، وهو مأخوذ من كلام ابن جني في توجيه ذلك، ونقل عن «شرح اللب» في توجيهه أنه لما كان النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الحاضر والغائب جمع بين اللام والتاء قيل‏:‏ وكأنه عنى أن الأمر لما كان لجملة المؤمنين حاضرهم وغائبهم غلب الحاضرون في الخطاب على الغائبين وأتى باللام رعاية لأمر الغائبين، وهي نكتة بديعة إلا أنه أمر محتمل، وما نقل عن صاحب الكشاف أولى بالقبول‏.‏

وقرىء ‏{‏فافرحوا‏}‏ وهي تؤيد القراءة السابقة لأنها أمر المخاطب على الأصل‏.‏ وقرىء ‏{‏فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ‏}‏ بكسر اللام ‏{‏هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ من الأموال والحرث والإنعام وسائر حطام الدنيا فإنها صائرة إلى الزوال مشرفة عليه وهو راجع إلى لفظ ذلك باعتبار مدلوله وهو مفرد فروعي لفظه وإن كان عبارة عن الفضل والرحمة‏.‏

ويجوز إرجاع الضمير إليهما ابتداء بتأويل المذكور كما فعل في ذلك أو جعلهما في حكم شيء واحد، ولك أن تجعله راجعاً إلى المصدر أعني المجىء الذي أشير إليه و‏{‏مَا‏}‏ تحتمل الموصولية والمصدرية‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏تجمعون‏}‏ بالخطاب لمن خوطب ‏{‏يا أَيُّهَا الناس‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 57‏]‏ سواء كان عاماً أو خاصاً بكفار قريش، وضمير ‏{‏فَلْيَفْرَحُواْ‏}‏ للمؤمنين أي فبذلك فليفرح المؤمنون فهو خير مما تجمعون أيها المخاطبون وعلى قراءة ‏{‏فلتفرحوا‏}‏ ‏{‏وافرحوا‏}‏ يكون الخطاب على ما قيل للمؤمنين، وجوز أن يكون لهم على قراءة الغيبة أيضاً التفاتاً، وتعقب بأن الجمع أنسب بغيرهم وإن صح وصفهم به في الجملة فلا ينبغي أن يلتزم القول بما يستلزمه ما دام مندوحة عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏يَجْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ‏}‏ أي ما قدر لانتفاعكم من ذلك وإلا فالرزق ليس كله منزلاً، واستعمال أنزل فيما ذكر مجاز من إطلاق المسبب على السبب، وجوز أن يكون الإسناد مجازياً بأن أسند الإنزال إلى الرزق لأن سببه كالمطر منزل، وقيل‏:‏ إن هناك استعارة مكنية تخيلية وهو بعيد، وجعل الرزق مجازاً عن سببه أو تقدير لفظ سبب مما لا ينبغي و‏{‏مَا‏}‏ إما موصولة في موضع النصب على أنها مفعول أول لأرأيتم والعائد محذوف أي أنزله والمفعول الثاني ما ستراه إن شاء الله تعالى قريباً و‏{‏مَا‏}‏ استفهامية في موضع النصب على أنه مفعول ‏{‏أَنَزلَ‏}‏ وقدم عليه لصدارته، وهو معلق لما قبله إن قلنا بالتعليق فيه أي أي شيء أنزل الله تعالى من رزق ‏{‏فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً‏}‏ أي فبعضتموه وقسمتموه إلى حرام وحلال وقلتم، ‏{‏هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 138‏]‏ و‏{‏مَا فِى بُطُونِ هذه الانعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 139‏]‏ إلى غير ذلك‏.‏

‏{‏قُلِ الله أَذِنَ لَكُمْ‏}‏ في جعل البعض منه حراماً والبعض الآخر حلالاً ‏{‏أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ‏}‏ ‏{‏أَمْ‏}‏ والهمزة متعادلتان والجملة في موضع المفعول الثاني لأرأيتم و‏{‏قُلْ‏}‏ مكرر للتأكيد فلا يمنع من ذلك، والعائد على المفعول الأول مقدر، والمعنى أرأيتم الذي أنزله الله تعالى لكم من رزق ففعلتم فيه ما فعلتم أي الأمرين كائن فيه الإذن فيه من الله تعالى بجعله قسمين أم الافتراء منكم، وكان أصل ‏{‏الله أَذِنَ لَكُمْ‏}‏ الخ آلله أذن أم غيره فعدل إلى ما في النظم الجليل دلالة على أن الثابت هو الشق الثاني وهم نسبوا ذلك إليه سبحانه فهم مفترون عليه جل شأنه لا على غيره وفيه زجر عظيم كما لا يخفى، ولعل هذا مراد من قال‏:‏ إن الاستفهام للاستخبار ولم يقصد به حقيقته لينافي تحقق العلم بانتفاء الإذن وثبوت الافتراء بل قصد به التقرير والوعيد وإلزام الحجة‏.‏

وجوز أن يكون الاستفهام لإنكار الإذن وتكون ‏{‏أَمْ‏}‏ منقطعة بمعنى بل الإضرابية، والمقصود الإضراب عن ذلك لتقرير افترائهم، والجملة على هذا معمولة للقول وليست متعلقة بأرأيتم وهو قد اكتفى بالجملة الأولى كما أشرنا إليه، ومن الناس من جوز كون ‏{‏أَمْ‏}‏ متصلة وكونها منفصلة على تقدير تعلق الجملة بفعل القول وأوجب الاتصال على تقدير تعلقها بأرأيتم وجعل الاسم الجليل مبتدأ مخبراً عنه بالجملة للتخصيص عند بعض ولتقوية الحكم عند آخر، والإظهار بعد في مقام الإضمار للإيذان بكمال قبح افترائهم، وتقديم الجار والمجرور للقصر مطلقاً في رأي ولمراعاة الفواصل على الوجه الأول وللقصر على الوجه الثاني في آخر‏.‏

واستدل المعتزلة بالآية على أن الحرام ليس برزق ولا دليل لهم فيها على ما ذكرناه لأن المقدر للانتفاع هو الحلال فيكون المذكور هنا قسماً من الرزق وهو شامل للحلال والحرام والكفرة إنما أخطأوا في جعل بعض الحلال حراماً، ومن جعل أهل السنة نظيراً لهم في جعلهم الرزق مطلقاً منقسماً إلى قسمين فقد أعظم الفرية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب‏}‏ كلام مسوق من جهته تعالى لبيان هول ما سيلقونه غير داخل تحت القول المأمور به، والتعبير عنهم بالموصول لقطع احتمال الشق الأول من الترديد والتسجيل عليهم بالافتراء، وزيادة الكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذلك لإظهار لإظهار كمال قبح ما افتعلوا وكونه كذباً في اعتقادهم أيضاً، و‏{‏مَا‏}‏ استفهامية مبتدأ و‏{‏ظَنَّ‏}‏ خبرها هو مصدر مضاف إلى فاعله ومفعولاه محذوفان‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏ ظرف لنفس الظن لا بيفترون لعدم صحته معنى ولا بمقدر لأن التقدير خلاف الظاهر، أي أي شيء ظنهم في ذلك اليوم أني فاعل بهم، والمقصود التهديد والوعيد، ويدل على تعلقه بالظن قراءة عيسى ابن عمر ‏{‏وَمَا ظَنُّ‏}‏ بصيغة الماضي و‏{‏مَا‏}‏ في هذه القراءة بمعنى الظن في محل نصب على المصدرية، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع وأكثر أحوال القيامة يعبر عنها بذلك في القرآن لما ذكر، والعمل في الظرف المستقبل لا يمنع لتصييره الفعل نصاً في الاستقبال التجوز المذكور لأنه يقدر لتحققه أيضاً ماضياً، وقيل‏:‏ الظرف متعلق بما يتعلق به ظنهم اليوم من الأمور التي ستقع يوم القيامة تنزيلاً له ولما يقع فيه من الأهوال لمكان وضوح أمره في التحقق والتقرر منزلة المسلم عندهم، أي أي شيء ظنهم لما سيقع يوم القيامة أيحسبون أنهم لا يسألون عن افترائهم أو لا يجازون عليه أو يجازون جزاءً يسيراً ولذلك ما يفعلون يفعلون كلا إنهم لفي أشد العذاب لأن معصيتهم أشد المعاصي، والآية السابقة قيل متصلة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 31‏]‏ الخ كأنه قيل‏:‏ حيث أقروا أنه سبحانه الرازق قل لهم أرأيتم ما أنزل الله الخ ونقل ذلك عن أبي مسلم، وقيل‏:‏ بقوله تعالى ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 57‏]‏ الخ، وذلك أنه جل شأنه لما وصف القررن بما وصفه وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرغب باغتنام ما فيه عقب ذلك بذكر مخالفتهم لما جاء به وتحريمهم ما أحل، وقيل‏:‏ إنها متصلة بالآيات الناعية عليهم سوء اعتقادهم كأنه سبحانه بعد أن نعى عليهم أصولهم بين بطلان فروعهم، ولعل خير الثلاثة وسطها‏.‏

‏{‏إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ‏}‏ أي عظيم لا يقدر قدره ولا يكتنه كنهه ‏{‏عَلَى الناس‏}‏ جميعاً حيث أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وبين لهم ما لا تستقل عقولهم بإدراكه وأرشدهم إلى ما يهمهم من أمر المعاش والمعاد ورغبهم ورهبهم وشرح لهم الأحوال وما يلقاه الحائد عن الرشاد من الأهوال‏.‏

‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ ذلك الفضل فلا ينتفعون به، ولعل الجملة تذييل لما سبق مقرر لمضمونه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ‏}‏ أي في أمر معتنى به، من شأنه بالهمز كسأله إذا قصده وقد تبدل همزته ألفاً، وهو في الأصل مصدر وقد أريد المفعول ‏{‏وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ‏}‏ الضمير المجرور للشأن؛ والتلاوة أعظم شؤونه صلى الله عليه وسلم ولذا خصت بالذكر أو للتنزيل، والإضمار قبل الذكر لتفخيم شأنه أو لله عز وجل، و‏{‏مِنْ‏}‏ قيل تبعيضية على الاحتمالين الأولين وابتدائية على الثالث والتي في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِن قُرْءانٍ‏}‏ زائدة لتأكيد النفي على جميع التقادير وإلى ذلك ذهب القطب‏.‏ وقال الطيبي‏:‏ إن ‏{‏مِنْ‏}‏ الأولى على الاحتمال الأخير ابتدائية والثانية مزيدة، وعلى الاحتمال الأول الأولى للتبعيض والثانية للبيان، وعلى الثاني الأولى ابتدائية والثانية للبيان‏.‏

وفي إرشاد العقل السليم أن الضمير الأول للشأن والظرف صفة لمصدر محذوف أي تلاوة كائنة من الشأن أو للتنزيل و‏{‏مِنْ‏}‏ ابتدائية أو تبعيضية أو لله تعالى شأنه و‏{‏مِنْ‏}‏ ابتدائية و‏{‏مِنْ‏}‏ الثانية مزيدة وابتدائية على الوجه الأول وبيانية أو تبعيضية على الوجه الثاني والثالث‏.‏ وأنت تعلم أنه قد يكون الظرف متعلقاً بما عنده، والتزام تعلقه بمحذوف وقع صفة لمصدر كذلك في جميع الاحتمالات مما لا حاجة إليه‏.‏ نعم اللازم بناءً على المشهور أن لا يتعلق حرفان بمعنى بمتعلق واحد، وذهب أبو البقاء إلى أن الضمير الأول للشأن و‏{‏مِنْ‏}‏ الأولى للأجل كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 25‏]‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ الثانية مزيدة وما بعدها مفعول به لتتلو وله وجه، ومما يقضي منه العجب ما قاله بعضهم إنه يحتمل أن يكون ضمير ‏{‏مِنْهُ‏}‏ للشأن إما على تقدير ما تتلو حال كون القراءة بعض شؤونك وإما أن يحمل الكلام على حذف المضاف أي وما تتلو من أجل الشأن بأن يحدث لك شأن فتتلو القرآن من أجله فإن الحالية مما لا تكاد تخطر ببال من له أدنى ذوق في العربية ولم نر القول بتقدير مضاف في الكلام إذا كان فيه ‏{‏مِنْ‏}‏ الأجلية أو نحوها، وما في كلام غير واحد من الأفاضل في أمثال ذلك تقدير معنى لا تقدير إعراب، ويبعد حمل هذا البعض على ذلك كما لا يخفى ‏{‏هذا‏}‏ ثم إن القرآن عام للمقروء كلاً وبعضاً وهو حقيقة في كل كما حقق في موضعه، والقول بأنه مجاز في البعض بإطلاق الكل وإرادة الجزء مما لا يلتفت إليه ‏{‏وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ‏}‏ أي أي عمل كان، والخطاب الأول خاص برأس النوع الإنساني وسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم وهذا عام ويشمل سائر العباد برهم وفاجرهم لا الأخيرين فقط، وقد روعي في كل من المقامين ما يليق به فعبر في مقام الخصوص في الأول بالشأن لأن عمل العظيم عظيم وفي الثاني بالعمل العام للجليل والحقير، وقيل‏:‏ الخطاب الأول عام للأمة أيضاً كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا‏}‏ استثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة أي وما تلابسون بشيء منها في حال من الأحوال إلا حال كوننا رقباء مطلعين عليه حافظين له كذا قالوا، ويفهم منه أن الجار والمجرور متعلق بما بعده، ولعل تقديمه للاهتمام بتخويف من أريد تخويفه من المخاطبين، وكأنه للمبالغة فيه جىء بضمير العظمة، وأن المقصود من الاطلاع عليهم الاطلاع على عملهم ‏{‏إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ‏}‏ أي تشرعون فيه وتتلبسون به، وأصل الإفاضة الاندفاع بكثرة أو بقوة، وحيث أريد بالأفعال السابقة الحالة المستمرة الدائمة المقارنة للزمان الماضي أيضاً أوثر في الاستثناء صيغة الماضي، وفي الظرف كلمة ‏{‏إِذْ‏}‏ التي تفيد المضارع معنى الماضي كذا قيل، ولم أر من تعرض لبيان وجه اختيار النفي بما التي تخلص المضارع للحال ععند الجمهور عند انتفاء قرينة خلافه في الجملتين الأوليين والنفي بلا التي تخلص المضارع للاستقبال عند الأكثرين خلافاً لابن مالك في الجملة الثالثة، ولعل ذلك من آثار اختلاف الخطاب خصوصاً وعموماً فتأمله فإنه دقيق جداً ‏{‏وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ‏}‏ أي ما يبعد وما يغيب، ومنه يقال‏:‏ الروض العازب وروض عزيب إذا كان بعيداً من الناس، والكلام على حذف مضاف أي وما يعزب عن علم ربك عز وجل أو هو كناية عن ذلك، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من الإشعار باللطف ما لا يخفى‏.‏

وقرأ الكسائي‏.‏ والأعمش‏.‏ ويحيى بن وثاب بكسر الزاي ‏{‏مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ‏}‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ مزيدة لتأكيد النفي، والمثقال اسم لما يوازن الشيء ويكون في ثقله وهو في الشرع أربعة وعشرون قيراطاً‏.‏ وأخرج ذلك ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي جعفر، والصحيح أنه لم يختلف جاهلية وإسلاماً فقد نقل الجلال السيوطي عن الرافعي أنه قال‏:‏ أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن وهو أن الدرهم ستة دوانيق وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا في الإسلام‏.‏ والذرة واحدة الذر وهو النمل الأحمر الصغير، وسئل ثعلب عنها فقال‏:‏ إن مائة نملة وزن حبة والذرة واحدة منها، وقيل‏:‏ الذرة ليس لها وزن ويراد بها ما يرى في شعاع الشمس الداخل في الناذة ‏{‏فِي الارض وَلاَ فِى السماء‏}‏ أي في جهتي السفل والعلو أو في دائرة الوجود والإمكان لأن العامة لا تعرف سواهما ممكناً ليس فيهما ولا متعلقاً بهما، والكلام شامل لهما أنفسهما أيضاً كما لا يخفى، وتقديم الأرض على السماء مع أنها قدمت عليها في كثير من المواضع ووقعت أيضاً في سبأ في نظير هذه الآية مقدمة لأن الكلام في حال أهلها والمقصود إقامة البرهان على إحاطة علمه سبحانه بتفاصيلها، وذكر السماء لئلا يتوهم اختصاص إحاطة علمه جل وعلا بشيء دون شيء، وحاصل الاستدلال أنه سبحانه لا يغيب عنه شيء ومن يكون هذا شأنه كيف لا يعلم حال أهل الأرض وما هم عليه مع نبيه صلى الله عليه وسلم، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ‏}‏ جملة مستقلة ليست معطوفة على ما قبلها، و‏{‏لا‏}‏ نافية للجنس و‏{‏أَصْغَرَ‏}‏ اسمها منصوب لشبهه بالمضاف وكذا ‏{‏أَكْبَرَ‏}‏ لتقدير عمله، وقول السمين‏:‏ إنهما مبنيان على الفتح ضعيف وهو مذهب البغداديين، وزعم أنه سبق قلم متأخر عن حيز القبول، و‏{‏فِى كتاب‏}‏ متعلق بمحذوف وقع خبراً‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ ويعقوب‏.‏ وخلف‏.‏ وسهل بالرفع على الابتداء والخبر، و‏{‏لا‏}‏ يجوز الغاؤها إذا تكررت، وأما قولهم‏:‏ إن الشبيه بالمضاف يجب نصبه فالمراد منه المنع من البناء لا المنع من الرفع والإلغاء كما توهمه بعضهم، وجوز أن يكون ذلك على جعل ‏{‏لا‏}‏ عاملة عمل ليس، وقيل‏:‏ إن ‏{‏أَصْغَرَ‏}‏ على القراءة الأولى عطف على ‏{‏مِثْقَالَ‏}‏ أو ‏{‏ذَرَّةٍ‏}‏ باعتبار اللفظ، وجيء بالفتح بدلا عن الكسر لأنه لا ينصرف للوصف ووزن الفعل، وعلى القراءة الأخرى معطوف على ‏{‏مِثْقَالَ‏}‏ باعتبار محله لأنه فاعل‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ كما عرفت مزيد‏.‏ واستشكل بأنه يصير التقدير ولا يعزب عنه أصفر من ذلك ولا أكبر منه إلا في كتاب فيعزب عنه ومعناه غير صحيح‏.‏ وأجيب بأن هذا على تقدير اتصال الاستثناء وأما على تقدير انقطاعه فيصير التقدير لكن لا أصغر ولا أكبر إلا هو في كتاب مبين، وهو مؤكد لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 3‏]‏ الخ، وأجاب بعضهم على تقدير الاتصال بأنه على حد ‏{‏لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 56‏]‏ ‏{‏وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ في رأي، فالمعنى لا يبعد عن علمه شيء إلا ما في اللوح الذي هو محل صور معلوماته تعالى شأنه بناء على تفسير الكتاب المبين به أو إلا ما في علمه بناء على ما قيل‏:‏ إن الكتاب العلم، فإن عد ذلك من العزوب فهو عازب عن علمه وظاهر أنه ليس من العزوب قطعاً فلا يعزب عن علمه شيء قطعاً‏.‏ ونقل عن بعض المحققين في دفع الأشكال أن العزوب عبارة عن مطلق البعد، والمخلوقات قسمان قسم أوجده الله تعالى من غير واسطة كالأرض والسماء والملائكة عليهم السلام وقسم أوجده بواسطة القسم الأول مثل الحوادث في العالم وقد تتباعد سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود سبحانه، فالمعنى لا يبعد عن مرتبة وجوده تعالى ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين أثبت فيه سبحانه تلك المعلومات، فهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال، وإثبات العزوب بمعنى البعد عنه تعالى في سلسلة الإيجاد لا محذور فيه وهو وجه دقيق إلا أنه أشبه بتدقيقات الحكماء وأن خالف ما هم عليه في الجملة‏.‏

وقال الكواشي‏:‏ معنى يعزب يبين وينفصل، أي لا يصدر عن ربك شيء من خلقه إلا وهو في اللوح وتلخيصه أن كل شيء مكتوب فيه‏.‏ واعترض بأن تفسيره بيبين وينفصل غير معروف، وقيل‏:‏ المراد بالبعد عن الرب سبحانه البعد والخروج عن غيبه أي لا يخرج عن غيبه إلا ما كان في اللوح فيعزب عن الغيب ويبعد إذ لا يبقى ذلك غيباً حينئذ لاطلاع الملائكة عليهم السلام وغيرهم عليه فيفيد إحاطة علمه سبحانه بالغيب والشهادة‏.‏

ومن هنا يظهر وجه آخر لتقديم الأرض على السماء، وقيل‏:‏ إن ‏{‏إِلا‏}‏ عاطفة بمنزلة الواو كما قال بذلك الفراء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون إَلاَّ مَن ظَلَمَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 01 11‏]‏ والأخفش في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 150‏]‏ وقوم في قوله جل شأنه‏:‏ ‏{‏الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 32‏]‏ وهو مقدر بعدها، والكلام قد تم عند قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلا أَكْبَرَ‏}‏ ثم ابتدأ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ فِى كتاب‏}‏ أي وهو في كتاب ونقل ذلك مكي عن أبي علي الحسن بن يحيى الجرجاني ثم قال‏:‏ وهو قول حسن لولا أن جميع البصريين لا يعرفون ‏{‏إِلا‏}‏ بمعنى الواو، والانصاف أنه لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى العزيز على ذلك ولو اجتمع الخلق إنسهم وجنهم على مجيء إلا بمعنى الواو، وقيل‏:‏ آن الاستثناء من محذوف دل عليه الكلام السابق أي ولا شيء إلا في كتاب؛ ونظيره ‏{‏مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ ويكون من مجموع ذلك إثبات العلم لله تعالى في كل معلوم وإن كل شيء مكتوب في الكتاب، ويشهد لهذا على ما قيل كثير من أساليب كلام العرب‏.‏ ونقل عن صاحب كتاب تبصرة المتذكر أنه يجوز أن يكون الاستثناء متصلاً بما قبل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَعْزُبُ‏}‏ ويكون في الآية تقديم وتأخير، وترتيبها وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا في كتاب مبين إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه إلى ولا أكبر، وتلخيصه وما من شيء إلا وهو في اللوح المحفوظ ونحن نشاهده في كل آن‏.‏ ونظر فيه البلقيني في رسالته المسماة بالاستغناء بالفتح المبين في الاستثناء في ‏{‏وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ‏}‏ بأنه على ما فيه من التكلف يلزم عليه القول بتركيب في الكلام المجيد لم يوجد في كلام العرب مثله أعني إلا في كتاب مبين إلا كنا عليكم شهوداً وليس ذلك نظير‏.‏

أمرر بهم الا الفتى إلا العلا‏.‏ كما لا يخفى‏.‏

وأنت تعلم أن أقل الأقوال تكلفا القول بالانقطاع، وأجلها قدراً وأدقها سراً القول بالاتصال وإخراج الكلام مخرج ‏{‏إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ ونظائره الكثيرة نثراً ونظماً، ولا عيب فيه إلا أن الآية عليه أبلغ فليفهم، ثم إنه تعالى لما عمم وعده ووعيده في حق كافة من أطاع وعصى أتبعه سبحانه بشرح أحوال أوليائه تعالى المخلصين

‏[‏بم فقال عز من قائل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ وفي ارشاد العقل السليم أنه بيان على وجه التبشير والوعد لما هو نتيجة لأعمال المؤمنين وغاية لما ذكر قبله من كونه سبحانه مهيمناً على نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته في كل ما يأتون ويذرون وإحاطة علمه جل وعلا بعد ما أشير إلى فظاعة حال المفترين على الله تعالى يوم القيامة وما سيعتريهم من الهول إشارة إجمالية على طريق التهديد والوعيد، وصدرت الجملة بحرف التنبيه والتحقيق لزيادة تقرير مضمونها، والأولياء جمع ولي من الولي بمعنى القرب والدنو يقال‏:‏ تباعد بعد ولي أي قرب، والمراد بهم خلص المؤمنين لقربهم الروحاني منه سبحانه كما يفصح عنه تفسيرهم الآتي، ويفسر الولي بالمحب وبين المعنيين تلازم، وسيأتي تمام الكلام على ذلك قريباً إن شاء الله تعالى، وجاء بمعنى النصير ويشير كلام البعض إلى صحة اعتبار هذا المعنى هنا، والمراد من الجملتين المنفيتين المتعاطفتين دوام انتفاء مدلولهما كما مر تحقيقه غير مرة، قيل‏:‏ والمعنى لا خوف عليه من لحوق مكروه ولا هم يحزنون من فوات مطلوب في جميع الأوقات أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك أصلاً لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوف وحزن أصلاً بل يستمرون على النشاط والسرور، كيف لا واستشعار الخوف استعظاماً لجلال الله تعالى واستقصاراً للجد والسعي في إقامة حقوق العبودية من خصائص الخواص والمقربين بل كلما ازداد العبد قرباً من ربه سبحانه ازداد خوفاً وخشية منه سبحانه، ويرشد إلى ذلك غير ما خبر وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏ وإنما لا يعتريهم ذلك لأن مقصدهم ليس إلا الله تعالى ونيل رضوانه المستتبع للكرامة والزلفى وذلك مما لا ريب في حصوله ولا احتمال لفواته بموجب الوعد الإلهي، وأما ما عدا ذلك من الأمور الدنيوية المترددة بين الحصول والفوات فهي عندهم أحقر من ذبالة عن الحجاج بل الدنيا بأسرها في اعينهم أقذر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب في يد مجذوم فهيهات أن تنتظم في سلك مقصدهم وجوداً وعدماً حتى يخافوا من حصول ضارها أو يحزنوا من فوات نافعها‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بانتفاء الخوف والحزن أمنهم من ذلك يوم القيامة بعد تحقق مالهم من القرب والسعادة وإلا فالخوف والحزن يعرضان لهم قبل ذلك سواء كان سببهما دنيوياً أو أخروياً، ولا يجوز أن يراد أمنهم مما ذكر في الدنيا أو فيما يعمها والآخرة لأن في ذلك أمناً من مكر الله تعالى ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون وهذا مبني على أن الخوف المنفي مسند إليهم وليس بالمتعين، فقد ذهب بعض الجلة إلى أنه مسند إلى غيرهم أي غيرهم لا يخاف عليهم ولا يلزم من ذلك أنهم لا يخافون ليجيء حديث لزوم الأمن، وجعل ذلك نكتة اختلاف أسلوب الجملتين، والعدول عن لا هم يخافون الأنسب بلا هم يحزنون إلى ما في النظم الجليل، وقد يقال‏:‏ إذا كان المراد أنهم لا يعتريهم ما يوجب الخوف والحزن لا يبقى لحديث لزوم الأمن من مكر الله تعالى مجال على ما لا يخفى على المتدبر لكن لا يظهر عليه نكتة اختلاف أسلوب الجملتين وكونها اختلاف شأن الخوف والحزن بشيوع وصف الأخير بعدم الثبات كما قيل

‏:‏ فلا حزن يدوم ولا سرور *** دون الأول ولذا ناسب أن يعبر بالاسم في الأول وبالفعل المفيد للحدوث والتجدد في الثاني كما ترى‏.‏

وقيل‏:‏ إن المراد نفي استيلاء الخوف عليهم ونفي الحزن أصلاً ومفاد ذلك اتصافهم بالخوف في الجملة، ففيه إشارة إلى أنهم بين الرجاء والخوف غير آيسين ولا آمنين، ولهذا لم يؤت بالجملتين على طرز واحد، وكذا لم يقل لا خوف لهم مثلا، والأوجه عندي ما نقل عن بعض الجلة من أن معنى ‏{‏لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ لا يخاف عليهم غيرهم ويجعل الجملة الأولى عليه كناية عن حسن حالهم، وأنت في الجملة الثانية بالخيار، والخوف على ما قال الراغب توقع المكروه وضده الأمن، والحزن من الحزن بالفتح وهو خشونة في النفس لما يحصل من الغم ويضاده الفرح، وعلى هذا قالوا في بيان المعنى لا خوف عليهم من لحوق مكروه ولا هم يحزنون من فوات مأمول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏الذين آمَنُواْ‏}‏ أي بكل ما جاء من عند الله تعالى ‏{‏وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ عما يحق الاتقاء منه من الأفعال والتروك اتقاء دائماً حسبما يفيده الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل والموصول في محل الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والجملة استئناف بياني كأنه قيل‏:‏ من أولئك وما سبب فوزهم بما أشار إليه الكلام السابق‏؟‏ فقيل‏:‏ هم الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى المفضيين إلى كل خير المجنبين عن كل شر‏؟‏ ولك أن تقصر في السؤال على من أولئك فيكون ذلك بياناً وتفسيراً للمراد من الأولياء فقط، وعلى الأول هذا مع الإشارة إلى ما به نالوا مالوا، وقيل‏:‏ محله النصب أو الرفع على المدح أو على أنه وصف للأولياء‏.‏ ورد بأن في ذلك الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر‏.‏ وقد أباه النحاة‏.‏ نعم جوزه الحفيد، وجوز فيه البدلية أيضاً، والمراد من التقوى عند جمع المرتبة الثالثة منها وهي التقوى المأمور بها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏ وفسرت بتنزه الإنسان عن كل ما يشغل سره عن الحق والتبتل إليه بالكلية، وبذلك يحصل الشهود والحضور والقرب الذي يدور إطلاق الاسم عليه، وهكذا كان حال من دخل معه صلى الله عليه وسلم تحت الخطاب بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 61‏]‏ الخ خلا أن لهم في شأن التبتل والتنزه درجات متفاوتة حسبما درجات تفاوت استعداداتهم، وأقصى الدرجات ما انتهى إليه همم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حتى جمعوا بذلك بين رياسة النبوة والولاية ولم يعقهم التعلق بعالم الأشباح عن الاستغراق في عالم الأرواح ولم تصدهم الملابسة بمصالح الخلف عن التبتل إلى جناب الحق سبحانه عز وجل لكمال استعداد نفوسهم الزكية المؤيدة بالقوة القدسية كذا قيل، وفي كون حال كل من دخل معه صلى الله عليه وسلم تحت الخطاب مراداً به جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما أشار إليه من التقوى الحقيقية المأمور بها في الآية التي بها يحصل الشهود والحضور والقرب بحث، وقصارى ما تحقق بعد نزاع طويل ذكرناه في جوابنا لبسؤال أهل لاهور أن الصحابة كلهم عدول من لابس منهم الفتنة ومن لم يلابسها ودعوى أن العدالة تستلزم الولاية بالمعنى السابق أن تمت تم المقصود وإلا فلا، والآية ظاهرة في أن الأولياء هم المؤمنون المتقون وأقل ما يكفي في إطلاق الولي التقرب إليه سبحانه بالفرائض من امتثال الأوامر واجتناب الزواجر، والأكمل التقرب إليه جل شأنه بكل ما يمكن من القرب، وفي المبين المعين الولي هو من يتولى الله تعالى بذاته أمره فلا تصرف له أصلاً إذ لا وجود له ولا ذات ولا فعل ولا وصف، والتركيب يدل على القرب فكأنه قريب منه عز وجل لاستدامة عباداته واستقامة طاعاته أو لاستغراقه في بحر معرفته ومشاهدة طلعة عظمته انتهى، وفيه القول بأن الولي فعيل بمعنى مفعول، وجوز أن يكون بمعنى فاعل، وفسر بأنه من يتولى عبادة الله تعالى وطاعته على التوالي من غير تخلل معصية، وعن القشيري أن كلا الوصفين تولى الله تعالى أمره وتولية عبادة الله تعالى وطاعته شرط في الولاية غير أن الوصف الأول غالب على المجذوب المراد والثاني على السالك المريد، ولا يخفى أن هذا الكلام وكذا ما قبله يدل على أن تخلل المعصية مناف للولاية وهو الذي يشير إليه كلام غير واحد من الفضلاء، وليس في ذلك قول بالعصمة التي لم يثبتها الجماعة إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل قصارى ما فيه القول بالحفظ، وقد قيل‏:‏ الأولياء محفوظون وفسر بعدم صدور الذنب مع إمكانه، والقيد لإخراج العصمة‏.‏

نعم جاءت العصمة بمعنى الحفظ المفسر بما ذكر، وعلى ذلك خرج قول صاحب حزب البحر اللهم اعصمني في الحركات والسكنات لأن الدعاء بما هو من خواص الأنبياء عليهم السلام لا يجوز كالدعاء بسائر المستحيلات كما حقق في محله‏.‏ وأطلق بعضهم القول بأن تخلل ذلك غير مناف احتجاجاً بما حكى عن الجنيد قدس سره أنه سئل هل يزني العارف‏؟‏ فقال‏:‏ نعم ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 38‏]‏، وتعقب بأنه محمول على الإمكان سؤال وجواباً ولا كلام فيه وإنما الكلام في أن الوقوع مناف أو غير مناف، وقال بعضهم‏:‏ لا شبهة في عدم بقاء وصف الولاية حال التلبس بالمعصية إذ لا تقوى حينئذ بالإجماع ومدار هذا الوصف عليها وكذا على الإيمان، وهو غير كامل إذ ذاك عند أهل الحق وغير متحقق أصلاً بل المتحقق الفسق المعنى بالواسطة أو الكفر عند آخرين، وكذا لا شبهة في عدم منافاة وقوع المعصية الاتصاف بالولاية بعده بأن يعود من ابتلى بذلك إلى تقوى الله تعالى ويتصف بما تتوقف الولاية عليه، وهو نظير من يتصف بالإيمان أو بالعدالة مثلاً بعد أن لم يكن متصفاً بذلك بقي الكلام في منافاة الوقوع الاتصاف قبل، فإن قيل‏:‏ إنه مناف له بمعنى أنه لذلك لم يكن متصفاً قبل بما هو إيمان وتقوى عند الناس فلا شبهة أيضاً في عدم المنافاة بهذا المعنى وهو ظاهر وإن قيل‏:‏ إنه مناف له بمعنى أنه لم يكن لذلك متصفاً بما ذكر عند الله تعالى بناء على أن المراد بالتقوى التي هي شرط الولي التقوى الكاملة التي يترتب عليها حب الله تعالى المترتب عليه الحفظ كما أشير إليه فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى قال من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه ولا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها»

الحديث‏.‏

وقد قال غير واحد في معنى الشرطية فإذا أحببته كنت حافظاً حواسه وجوارحه فلا يسمع ولا يبصر ولا يأخذ ولا يمشي إلا فيما ارضى وأحب وينقلع عن الشهوات ويستغرق في الطاعات، وقريب منه قول الخطابي‏:‏ المراد من ذلك توفيقه في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، يعني ييسر عليه فيها سبيل ما يحبه ويعصمه عن موافقة ما يكرهه من إصغاء إلى لهو يسمعه ونظر إلى ما نهى عنه ببصره وبطش بما لا يحل بيده وسعى في باطل برجله، وكذا قول بعضهم المعنى أجعل سلطان حبي غالباً عليه حتى أسلب عنه الاهتمام بشيء غير ما يقر بها إلي فيصير متخلياً عن اللذات متجنباً عن الشهوات متى ما يتقلب وأينما يتوجه لقى الله تعالى بمرأى فيه وسمع منه ويأخذ حب الله تعالى مجامع قلبه فلا يسمع ولا يرى ولا يفعل إلا ما يحبه ويكون له في ذلك عوناً ومؤيداً ووكيلاً يحمي جوارحه وحواسه فله وجه لأنه إذا وقعت المعصية يعلم أنه لم يكن محفوظاً وبه يعلم أنه لم يكن محبوباً وبذلك يعلم أنه لم يكن متقرباً إليه تعالى شأنه ومتقياً إياه حق تقاته وان ظنه الناس كذلك فهو ليس من أوليائه سبحانه في نفس الأمر‏.‏ نعم من اتصف بصفات الأولياء ظاهراً يجب تعظيمه واحترامه والتأدب معه والكف عن إيذائه بشيء من أنواع الإيذاء التي لا مسوغ لها شرعاً كالإنكار عليه عناداً أو حسداً دون المنازعة في محاكمة أو خصومة راجعة لاستخراج حق أو كشف غامض ونحو ذلك لما دل عليه الحديث السابق المشتمل من تهديد المؤذي على الغاية القصوى والحكم على من ذكره لولاية إذا لم يكن هناك نص من معصوم على ما يدل على تحققها في نفس الأمر إنما هو بالنظر إلى الظاهر لا إلى ما عند الله تعالى لما أن من الذنوب ما لا يمكن أن يطلع عليه إلا علام الغيوب ومنها الذنوب القلبية التي هي أدواء قاتلة وسموم ناقعة من أن الأعمال بخواتيمها وهي مجهولة إلا للمبدىء المعيد جل جلاله ‏{‏هذا‏}‏ وهو تحقيق يلوح عليه مخايل القبول، ومن الناس من قسم الولاية إلى صغرى قد يقع فيها الذنب على الندرة لكن يبادر للتنصل منه فوراً وعد العلامة ابن حجر عليه الرحمة من وقع منه الذنب كذلك فبادر للتنصل منه محفوظاً فالوقوع عنده على الندرة مع المبادرة للتنصل لا ينافي الحفظ وإنما ينافيه تكرر الوقوع وكثرته وكذا ندرته مع عدم المبادرة للتنصل، وكبرى لا يقع فيها الذنب أصلاً مع إمكان الوقوع ولو قيل أو مع استحالته كما في ولاية الأنبياء عليهم السلام وادعى أن ذلك من خصوصيات ولايتهم فيكون الحفظ أعم من العصمة لم يبعد‏.‏

وأنت تعلم أن قولهم الأنبياء معصومون ظاهر في كون العصمة من توابع النبوة ومعللة بها وهو مخالف لتلك الدعوى كما لا يخفى، وما ذكر من التقسيم حسن ويعلم منه أن الكثير ممن يدعي الولاية في زماننا أو تدعى له ليس له منها سوى الدعوى لإصراره والعياذ بالله تعالى على كبائر تقع منه في اليوم مراراً عافانا الله تعالى والمسلمين من ذلك‏.‏ وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الأولياء ما يظن أنه مخالف لما دلت عليه الآية في ذلك‏.‏ فقد أخرج ابن المبارك‏:‏ والترمذي في نوادر الأصول وأبو الشيخ‏.‏ وابن مردويه‏.‏ وآخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ قيل‏:‏ يا رسول الله من أولياء الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ والذين إذا رؤا ذكر الله تعالى ‏"‏ أي لحسن سمتهم وأخباتهم‏.‏

وأخرج أحمد‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والبيهقي‏.‏ وجماعة عن أبي مالك الأشعري قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن للهتعالى عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله تعالى‏.‏ قال أعرابي‏:‏ يا رسول الله انعتهم لنا قال‏:‏ «هم أناس من افناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متفاربة تحابوا في الله وتصافوا في الله يضع الله تعالى لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها يفزع الناس وهم لا يفزعون وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ‏"‏ ولا مخالفة في الحقيقة فإن ما أشير إليه من حسن السمات والأخبات والتحاب في الله تعالى من الأحكام اللازمة للإيمان والتقوى والآثار الخاصة بهما الحقيقة بالتخصيص بالذكر لظهورها وقربنا من أفهام الناس، وقد أورد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا من ذلك حسبما يقتضيه مقام الإرشاد والتذكير ترغيباً لسائل أو حاضر فيما خصه بالذكر من أحكامهما، وأريد بوصهفهم بأنهم يغبطهم النبيون على مجالسهم وقربهم الإشارة إلى راحتهم مما يعتري الأنبياء عليهم السلام من الاشتغال بأممهم، والمراد أنهم يغبطونهم على مجموع الأمرين، وعن الكواشي أن ذلك خارج مخرج المبالغة، والمعنى أنه لو فرض قوم بهذه الصفة لكانوا هؤلاء‏.‏ وقال بعض المحققين‏:‏ إن ذلك تصوير لحسن حالهم على طريقة التمثيل، وأيا ما كان فلا دليل فيه على أن الولاية أفضل من النبوة وقد كفر معتقد ذلك، وقد يؤول له بحمل ذلك على أن ولاية النبي أفضل من نبوته كما حمل ما قاله العز بن عبد السلام المخالف للأصح من أن النبوة أفضل من الرسالة على نحو ذلك، وكذا لنظير ما ذكرنا لا يخالف ما دلت الآية عليه تفسير عيسى عليه السلام لذلك‏.‏

فقد أخرج أحمد في الزهد‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وأبو الشيخ عن وهب قال‏:‏ قال الحواريون‏:‏ يا عيسى من أولياء الله تعالى الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏؟‏ فقال عليه السلام‏:‏ الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها وأماتوا منها ما يخشون أن يميتهم وتركوا ما علموا أن سيتركهم فصار استكثارهم منها استقلالاً وذكرهم إياها فواتاً وفرحهم بما أصابوا منها حزناً وما عارضهم من نائلها رفضوه وما عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه، خلقت الدنيا عندهم فليسوا يجددونها وخربت بينهم فليسوا يعمرونها وماتت في صدورهم فليسوا يحيونها، يحدمونها فيبنون بها آخرتهم ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، رفضوها فكانوا برفضها هم الفرحين، باعوها فكانوا ببيعها هم الرابحين ونظروا إلى أهلها صرعى قد خلت فيهم المثلات فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة، يحبون الله سبحانه وتعالى ويستضيؤون بنوره ويضيؤون به لهم خبر عجيب وعندهم الخبر العجيب، بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا وبهم علم الكتاب وبه علموا، ليس يرون نائلاً مع نالوا ولا أماني دون ما يرجون ولا فرقاً دون ما يحذرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِى الاخرة‏}‏ استئناف جيء به في موضع التعليل لنفي حزنهم والخوف عليهم في قول، وفي آخر جيء به بياناً لما أولاهم سبحانه من خيرات الدارين بعد أن أخبر جل وعلا بانجائهم من شرورهما ومكارههما وكأنه على هذا قيل‏:‏ هل لهم وراء ذلك من نعمة وكرامة‏؟‏ فقيل‏:‏ لهم البشرى الخ، وتقديم الأول لما أن التخلية سابقة على التحلية مع ما فيه من رعاية حق المقابلة بين حسن حال المؤمنين وسوء حال المفترين وتعجيل إدخال المسرة بتبشير الخلاص عن الأهوال، وتوسيط البيان السابق بين التخلية والتحلية لإظهار كمال العناية به مع الإيذان بأن انتفاء ما تقدم لإيمانهم واتقائهم عما يؤدي إليه من الأسباب، ومن الناس من فسر الأولياء بالذين يتولنه تعالى بالطاعة ويتولاهم بالكرامة وجعل ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 63‏]‏ الخ تفسيراً لتوليهم إياه تعالى، وهذه الجملة تفسيراً لتوليته تعالى إياهم‏.‏

وتعقب بأنه لا ريب في أن اعتبار القيد الأخير في مفعوم الولاية غير مناسب لمقام ترغيب المؤمنين في تحصيلها والثبات عليها وبشارتهم بآثارها ونتائجها بل مخل بذلك إذ التحصيل إنما يتعلق بالمقدور والاستبشار لا يحصل إلا بما علم وجود سببه والقيد المذكور ليس بمقدور لهم حتى يحصلوا الولاية بتحصيله ولا بمعلوم لهم عند حصوله حتى يعرفوا حصول الولاية لهم ويستبشروا بمحاسن آثارها بل التولي بالكرامة عين نتيجة الولاية فاعتباره في عنوان الموضوع ثم الأخبار بعدم الخوف والحزن مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل انتهى، وأنت تعلم أن ما ارتكبه ذلك البعض تكلف وعدول عن الظاهر فلا ينبغي العدول إليه وإن كان ما ذكره المتعقب لا يخلو عن نظر‏.‏

وجوز كون الموصول مبتدأ وهذه الجملة خبره، وفي بعض الأخبار ما يؤيده، و‏{‏البشرى‏}‏ في الأصل الخبر بما يظهر السرور في بشرة الوجه ومثلها البشارة وتطلق على المبشر به من ذلك وإلى إرادة كل ذهب بعض، والظرفان بعده على الأول متعلقان به وعلى الثاني في موضع الحال منه، والعامل ما في الخبر من معنى الاستقرار أي لهم البشرى حال كونها في الدنيا وحال كونها في الآخرة أي عاجلة وآجلة؛ أو من الضمير المجرور أي حال كونهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والثابت في أكثر الروايات أن البشرى في الحياة الدنيا هي الرؤيا الصالحة التي هي جزء من ستة وأربعين جزأ من النبوة كما هو المشهور، أو جزء من سبعين جزأ منها كما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر‏.‏ وأبي هريرة‏.‏ وهو‏.‏ وابن ماجه عن الأول‏.‏ فقد أخرج الطيالسي‏.‏ وأحمد‏.‏ والدارمي‏.‏ والترمذي‏.‏ وابن ماجه‏.‏ والطبراني‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ والبيهقي‏.‏ وغيرهم عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا‏}‏ قال‏:‏ هي

«الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له» وأخرج ابن جردويه عن ابن مسعود أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجيب بما ذكر أيضاً، وأخرج من طريق أبي سفيان عن جابر مثل ذلك، وأخر ابن أبي الدنيا‏.‏ وأبو الشيخ‏.‏ وأبو القاسم بن منده من طريق أبي جعفر عن جابر المذكور قال‏:‏ أتى رجل من أهل البادية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ البشرى‏}‏ الخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا‏}‏ فهي الرؤيا الحسنة ترى للمؤمن فيبشر بها في دنياه وأما قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَفِي الاخرة‏}‏ فإنها بشارة المؤمن عند الموت أن الله قد غفر لك ولمن حملك إلى قبرك» وجاء مرفوعاً وموقوفاً عن غير واحد تفسيرها بما ذكر، وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن البشرى في الحياة الدنيا هي قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَبَشّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 47‏]‏ وعن الزجاج‏.‏ والفراء أنها هذا وما يشاكله من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 2‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 21‏]‏، وقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏وَبَشّرِ الصابرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 155‏]‏ إلى غير ذلك، وأخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وغيره عن الضحاك أنه قال في ذلك‏:‏ إنهم يعلمون أين هم قبل أن يموتوا‏.‏ وجاء في تفسير البشرى في الآخرة ما سمعت في الخبر عن جابر الأخير‏.‏

وأخرج ابن جرير‏.‏ وغيره عن أبي هريرة مرفوعاً أنها الجنة، وعن عطاء أن البشرى في الدنيا أن تأتيهم الملائكة عند الموت بالرحمة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏ وأما البشرى في الآخرة فتلقى الملائكة اياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرأون منها وغير ذلك من البشارات، وقيل‏:‏ المراد بالبشرى العاجلة نحو النصر والفتح والغنيمة والثناء الحسن والذكر الجميل ومحبة الناس وغير ذلك، وأما البشرى الآجلة فغنية عن البينا، وأنت تعلم أنه لا ينبغي العدول عما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير ذلك إذا صح وحيث عدل من عدل لعدم وقوفه على ذلك فيما أظن، فالأولى أن يحمل البشرى في الدارين على البشارة بما يحقق نفي الخوف والحزن كائناً ما كان، ويرشد إلى ذلك السباق، ومن أجل ذلك بشرى الملائكة لهم بذلك وقتاً فوقتاً حتى يدخلوا الجنة، وقد نطق الكتاب العزيز في غير موضع بهذه البشرى من الله تعالى علينا بها برحمته وكرمه ‏{‏لاَ تَبْدِيلَ لكلمات الله‏}‏ أي لا تغيير لأقواله التي من جملتها مواعيده الواردة بشارة للمؤمنين المتقين فيدخل فيها البشارات الواردة ههنا دخولاً أولياً ويثبت امتناع الاخلاف فيها لطفاً وكرماً ثبوتاً قطعياً، وأريد من عدم تبديل كلماته سبحانه على تقدير أن يراد من البشرى الرؤيا الصالحة عدم الخلف بينها وبين ما دل على ثبوتها ووقوعها فيما سيأتي بطريق الوعد من قوله تبارك اسمه‏:‏ ‏{‏لَهُمُ البشرى‏}‏ لا عدم الخلف بينها وبين نتائجها الدنيوية والأخروية ولم يظهر لي وجهه بعد الندبر، والمشهور أن الرؤيا الصالحة لا يتخلف ما تدل عليه‏.‏

وقد جاء من حديث الحكيم الترمذي‏.‏ وغيره عن عبادة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال له في الرؤيا الصالحة «كلام يكلم به ربكعبده في المنام» ‏{‏ذلك‏}‏ أي ما ذكر من أن لهم البشرى في الدارين ‏{‏هُوَ الفوز العظيم‏}‏ الذي لا فوز وراءه، وجوز أن تكون الإشارة إلى البشرى بمعنى التبشير وقيل‏:‏ إن ذلك إشارة إلى النعيم الذي وقعت به البشرى وجعل غير واحد الجملة الأولى وهذه الجملة اعتراضاً جيء به لتحقيق المبشر به لتعظيم شأنه وهو مبني على جواز تعدد الاعتراض وعلى أنه يجوز أن يكون في آخر الكلام‏.‏ ولذا قال العلامة الطيبي‏:‏ لو جعلت الأولى معترضة والثانية تذييلاً للمعترض والمعترض فيه ومؤكدة لهما كان أحسن بناء على أن ما في آخر الكلام يسمى تذييلاً لا اعتراضاً وهو مجرد اصطلاح‏.‏

‏[‏بم ومن جعل قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ‏}‏ معطوفاً على الجملة قبل أي ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فلا يحزنك قول أعداء الله تعالى فالاعتراض عنده بين متصلين لا في آخر الكلام لكنه ليس بشيء، والذي عليه الجمهور أنه استئناف سيق تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما كان يلقاه من جهة الاعداء من الأذية الناشئة من مقالاتهم الرديئة الوحشية وتبشيراً له عليه الصلاة والسلام بالنصر والعز إثر بيان أن له ولأتباعه أمناً من كل محذور وفوزاً بكل مطلوب فهو متصل بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62‏]‏ الخ معنى‏.‏ وقيل‏:‏ إنه متصل بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لّى عَمَلِى ولكن *عَمَلُكُمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 41‏]‏ الآية واختاره على ما فيه من البعد الطبرسي‏.‏

وقرأ نافع ‏{‏وَلاَ يَحْزُنكَ‏}‏ من أحزن وهو في الحقيقة نهى له صلى الله عليه وسلم عن الحزن كأنه قيل‏:‏ لا تحزن بقولهم ولا تبال بكل ما يتفوهون به في شأنك مما لا خير فيه، وإنما عدل عنه إلى ما في النظم الجليل للمبالغة في النهي عن الحزن لما أن النهي عن التأثير نهى عن التأثر بأصله ونفى له بالمرة، ونظير ذلك كما مر غير مرة قولهم لا أرينك ههنا ولا يأكلك السبع ونحوه، وقد وجه فيه النهي إلى اللازم والمراد هو النهي عن الملزوم، قيل‏:‏ وتخصيص النهي عن الحزن بالإيراد مع شمول النفي السابق للخوف أيضاً لما أنه لم يكن فيه صلى الله عليه وسلم شائبة خوف حتى ينهى عنه وربما كان يعتريه صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات حزن فسلى عنه، ولا يخفى أنه إذا قلنا أن الخوف والحزن متقاربان فإذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا كما علمت آنفاً كان النهي عن الحزن نهياً عن الخوف أيضاً إلا أن الأولى عدم اعتبار ما فيه توهم نسبة الخوف إلى ساحته عليه الصلاة والسلام وإن لم يكن في ذلك نقص‏.‏ فقد جاء نهي الأنبياء عليهم السلام عن الخوف كنهيهم عن الحزن بل قد ثبت صريحاً نسبة ذلك إليهم وهو مما لا يخل بمرتبة النبوة إذ ليس كل خوف نقصاً لينزهوا عنه كيف كان‏.‏

‏{‏إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً‏}‏ كلام مستأنف سيق لتعليل النهي، وقيل‏:‏ جواب سؤال مقدر كأنه قيل‏:‏ لم لا يحزنه‏؟‏ فقيل‏:‏ لأن الغلبة والقهر لله سبحانه لا يملك أحد شيئاً منها أصلاً لا هم ولا غيرهم فلا يقهر ولا يغلب أولياءه بل يقهرهم ويغلبهم ويعصمك منهم‏.‏ وقرأ أبو حيوة ‏{‏ءانٍ‏}‏ بالفتح على صريح التعليل أي لأن، وحمل قتيبة بن مسلم ذلك على البدل ثم أنكر القراءة لذلك لأنه يؤدي إلى أن يقال‏:‏ فلا يحزنك أن العزة لله جميعاً وهو فاسد‏.‏

وذكر الزمخشري أنه لو حمل على البدل لكان له وجه أيضاً على أسلوب ‏{‏فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 86‏]‏ ‏{‏وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏ فيكون للتهييج والإلهاب والتعريض بالغير وفيه بعد ‏{‏هُوَ السميع العليم‏}‏ يسمع أقوالهم في حقك ويعلم ما يضمرونه عليك فيكافؤهم على ذلك وما ذكرناه في الآية هو الظاهر المتبادر‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ لما لم ينتفعوا بما جاءهم من الله تعالى وأقاموا على كفرهم كبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه من الله سبحانه فيما يعاتبه ‏{‏وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السميع العليم‏}‏ يسمع ما يقولون ويعلمه فلو شاء بعزته لانتصر منهم ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جداً مع ما فيه من تعليق العلم بما علق بالسمع، ولعل روايته عن الحبر غير معول عليها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الارض‏}‏ أي من الملائكة والثقلين كما يدل عليه التعبير بمن الشائع في العقلاء، والتغليب غير مناسب هنا، ووجه تخصيصهم بالذكر الإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بغيرهم فإنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم إذا كانوا عبيداً لله مملوكين له سبحانه فما عداهم من الموجودات أولى بذلك، والجملة مع ما فيها من التأكيد لما سبق من اختصاص العزة به جل شأنه الموجب لسلوته عليه الصلاة والسلام وعدم مبالاته بمقالات المشركين تمهيد لما لحق من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَاء‏}‏ ودليل على بطلان ظنونهم وأعمالهم المبنية عليها والاقتصار على أحد الأمرين قصور فلا تكن من القاصرين، و‏{‏مَا‏}‏ نافية ‏{‏وشركاء‏}‏ مفعول ‏{‏وَمَا يَتَّبِعُ‏}‏ ومفعول ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ محذوف لظهوره، أي ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء في الحقيقة وان سموها شركاء لجهلهم فالمراد سلب الصفة في الحقيقة ونفس الأمر فما ذكره أبو البقاء من عدم جواز هذا الوجه من الإعراب لأنه يدل على نفي اتباعهم الشركاء مع أنهم اتبعوهم ناشىء من الغفلة عما ذكرنا، وجوز أن يكون ‏{‏شُرَكَاء‏}‏ المذكور مفعول ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ ويكون مفعول ‏{‏يَتَّبِعُ‏}‏ محذوفاً لانفهامه من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن‏}‏ أي ما يتبعون يقيناً وإنما يتبعون ظنهم الباطل أو ظنهم أنها شركاء بتقدير معمول الظن أو تنزيله منزلة اللازم، وقدر بعضهم مفعول ‏{‏يَتَّبِعُونَ‏}‏ شركاء ميلاً إلى إعمال الثاني في التنازع، وتعقب بأنه لا يصح أن يكون من ذلك الباب لأن مفعول الفعل الأول مقيد دون الثاني فلا يتحد المعمول والاتحاد شرط في ذلك، وكون التقييد عارضاً بعد الإعمال بقرينة عاملة فلا ينافي ما شرط في الباب بالباب كما لا يخفى، وجوز أيضاً أن تكون ‏{‏مَا‏}‏ استفهامية منصوبة بيتبع و‏{‏شُرَكَاء‏}‏ مفعول ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ أي أي شيء يتبع المشركون أي ما يتبعونه ليس بشيء، وأن تكون موصولة معطوفة على ‏{‏مِنْ‏}‏ أي وله تعالى ما يتبعه المشركون خلقاً وملكاً فكيف يكون شريكاً له سبحانه، وتخصيص ذلك بالذكر مع دخوله فيما سبق عبارة أو دلالة للمبالغة في بيان بطلان الاتباع وفساد ما بنوه عليه من الظن الذي هو من الفساد بمكان، وجوز على احتمال الموصولية أن تكون مبتدأ خبره محذوف أي باطل ونحوه أو الخبر قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِن يَتَّبِعُونَ‏}‏ والعائد محذوف أي في عبادته أو اتباعه‏.‏

وقرأ السلمي ‏{‏تَدْعُونَ‏}‏ بالتاء الخطابية، وروي ذلك عن علي كرم الله وجهه وهي قراءة متجهة خلافاً لزاعم خلافه فإن ‏{‏مَا‏}‏ فيها استفهامية للتبكيت والتوبيخ والعائد على ‏{‏الذين‏}‏ محذوف و‏{‏شُرَكَاء‏}‏ حال منه، والمراد من ‏{‏الذين‏}‏ الملائكة والمسيح وعزير عليهم الصلاة والسلام فكأنه قيل‏:‏ أي شيء يتبع الذين تدعونهم حال كونهم شركاء في زعمكم من الملائكة والنبيين تقريراً لكونهم متبعين لله تعالى مطيعين له وتوبيخاً لهم على عدم اقتدائهم بهم في ذلك كقوله سبحانه‏:‏

‏{‏أولئك الذين تَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 57‏]‏ وحاصله أن الذين تعبدونهم يعبدون الله تعالى ولا يعبدون غيره فما لكم لا تقتدون بهم ولا تتبعونهم في ذلك ثم صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة فقيل‏:‏ إن يتبع هؤلاء إلا الظن ولا يتبعون ما يتبعه الملائكة والنبيون عليهم السلام من الحق ‏{‏وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ‏}‏ أي يحزرون ويقدرون أنهم شركاء تقديراً باطلاً أو ييكذبون فيما ينسبونه إليه سبحانه وتعالى على أن الخرص إما بمعنى الحزر والتخمين كما هو الأصل الشائع فيه وإما بمعنى الكذب فإنه جاء استعماله في ذلك لغلبته في مثله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً‏}‏ تنبيه على تفرده تعالى بالقدرة الكاملة والنعمة الشاملة ليدلهم على توحده سبحانه باستحقاق العبادة فتعريف الطرفين للقصر وهو قصر تعيين، وفي ذلك أيضاً تقرير لما سلف من كون جميع الموجودات الممكنة تحت قدرته وملكته المفصح عن اختصاص العزة به سبحانه‏.‏

والجعل إن كان بمعنى الإبداع والخلق فمبصراً حال وإن كان بمعنى التصيير فلكم المفعول الثاني أو حال كما فيي الوجه الأول فالمفعول الثاني ‏{‏لِتَسْكُنُواْ فِيهِ‏}‏ أو هو محذوف يدل عليه المفعول الثاني من الجملة الثانية كما أن العلة الغائية منها محذوفة اعتماداً على ما في الأولى، والتقدير هو الذي جعل لكم الليل مظلماً لتسكنوا فيه والنهار مبصراً لتتحركوا فيه لمصالحكم فحذف من كل ما ذكر في الآخر اكتفاءً بالمذكور عن المتروك؛ وفيه على هذا صنعة الاحتباك والآية شائعة في التمثيل بها لذلك وهو الظاهر فيها وإن كان أمراً غير ضروري، ومن هنا ذهب جمع إلى أنه لا احتباك فيها، والعدول عن لتبصروا فيه الذي يقتضيه ما قبل إلى ما في النظم الجليل للتفرقة بين الظرف المجرور والظرف الذي هو سبب يتوقف عليه في الجملة وإسناد الإبصار إلى النهار مجازي كالذي في قول جرير‏:‏ لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى *** ونمت وما ليل المطي بنائم

وقولهم‏:‏ نهاره صائم وغير ذلك مما لا يحصي كثرة‏.‏ وإلى هذا ذهب ابن عطية‏.‏ وجماعة، وقيل‏:‏ إن ‏{‏مُبْصِراً‏}‏ للنسب كلابن وتامر أي ذا إبصار ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ أي في الجعل المذكور أو في الليل والنهار، وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه وعلو رتبته ‏{‏لايات‏}‏ أي حججاً ودلالات على توحيد الله تعالى كثيرة أو آيات أخر غير ما ذكر ‏{‏لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ‏}‏ أي الحجج مطلقاً سماع تدبر واعتبار أو يسمعون هذه الآيات المتلوة ونظائرها المنبهة على تلك الآيات التكوينية الآمرة بالتأمل فيها ذلك السماع فيعملون بمقتضاها، وتخصيص هؤلاء بالذكر مع أن الآيات منصوبة لمصلحة الكل لما أنهم المنتفعون بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا‏}‏ شروع في ذكر ضرب آخر من أباطيل المشركين وبيان بطلانه، والمراد بهؤلاء المشركين على ما قيل‏:‏ كفار قريش والعرب فإنهم قالوا‏:‏ الملائكة بنات الله تعالى، واليهود والنصارى القائلون‏:‏ عزير وعيسى عليهما السلام ابناه عز وجل والاتخاذ صريح في التبني، وظاهر الآية يدل على أن ذلك قول كل المشركين وإذا ثبت أن منهم من يقول بالولادة والتوليد حقيقة كان ما هنا قول البعض ولينظر هل يجري فيه احتمال إسناد ما للبعض للكل لتحقق شرطه أم لا يجري لفقد ذلك والولد يستعمل مفرداً وجمعاً‏.‏

وفي «القاموس» الولد محركة وبالضم والكسر والفتح واحد وجمع وقد يجمع على أولاد وولدة وإلدة بالكسر فيهما وولد الضم وهو يشمل الذكر والأنثى ‏{‏سبحانه‏}‏ تنزيه وتقديس له تعالى عما نسبوا إليه على ما هو الأصل في معنى سبحانه وقد يستعمل للتعجب مجازاً ويصح إرادته هنا، والمراد التعجب من كلمتهم الحمقى، وجمع بعضهم بين التنزيه والتعجب ولعله مبني على أن التعجب معنى كنائي وأنه يصح إرادة المعنى الحقيقي في الكناية وهو أحد قولين في المسألة، وقيل‏:‏ إنه لا يلزم استفادة معنى التعجب منه باستعمال اللفظ فيه بل هو من المعاني الثواني، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هُوَ الغنى‏}‏ أي عن كل شيء في كل شيء علة لتنزهه تعالى وتقدس عن ذلك وإيذان بأن اتخاذ الولد مسبب عن الحاجة وهي التقوى أو بقاء النوع مثلاً، وقوله تعالى‏:‏

‏{‏لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الارض‏}‏ أي من العقلاء وغيرهم تقرير لمعنى الغنى لأن المالك لجميع الكائنات هو الغني وما عداه فقير، وقيل‏:‏ هو علة أخرى للتنزه عن التبني لأنه ينافي المالكية، وقوله جل شأنه‏:‏ ‏{‏إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ‏}‏ أي حجة ‏{‏بهذا‏}‏ أي بما ذكر من القول الباطل توضيح لبطلانه بتحقيق سلامة ما أقيم من البرهان الساطع عن المعارض والمنافي فإن نافية و‏{‏مِنْ‏}‏ زائدة لتأكيد النفي ومجرورها مبتدأ والظرف المقدم خبره أو مرتفع على أنه فاعل له لاعتماده على النفي وب ‏{‏بهذا‏}‏ متعلق إما بسلطان لأنه بمعنى الحجة كما سمعت وإما بمحذوف وقع صفة له، وقيل‏:‏ وقع حالاً من الضمير المستتر في الظرف الراجع إليه وإما بما في ‏{‏عِندَكُمْ‏}‏ من معنى الاستقرار، ويتعين على هذا كون ‏{‏سلطان‏}‏ فاعلاً للظرف لئلا يلزم الفصل بين العامل المعنوي ومتعلقه بأجنبي، والالتفات إلى الخطاب لمزيد المبالغة في الإلزام والإفحام وتأكيد ما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ من التوبيخ والتقريع على جهلهم واختلاقهم، وفي الآية دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة وأن العقائد لا بد لها من قاطع وأن التقليد بمعزل من الاهتداء ولا تصلح متمسكاً لنفي القياس والعمل بخبر الآحاد لأن ذلك في الفروع وهي مخصوصة بالأصول لما قام من الأدلة على تخصيصها وإن عم ظاهرها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم ليبين سوء مغبتهم ووخامة عاقبتهم وفي ذلك إنذار لهم عن الاستمرار على ما هم فيه ولغيرهم عن الوقوع في مثله ‏{‏إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب‏}‏ في كل أمر ويدخل الافتراء بنسبة الولد والشريك إليه تعالى دخولاً أولياً وهو أولى من الاقتصار على ما الكلام فيه، وحينئذٍ فالمراد بالموصول ما يعم أولئك المخاطبين وغيرهم، أي إن من تكون هذه صفتهم كائناً ما كانوا ‏{‏لاَ يُفْلِحُونَ‏}‏ لا ينجون من مكروه ولا يفوزون بمطلوب أصلاً ويندرج في ذلك عدم النجارة من النار وعدم الفوز بالجنة والاقتصار عليه في مقام المبالغة في الزجر عن الافتراء عليه سبحانه دون التعميم في المناسبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏متاع فِى الدنيا‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هو أو ذلك متاع، والتنوين للتحقير والتقليل، والظرف متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع نعتاً له، والجملة كلام مستأنف سيق جواباً لسؤال مقدر عما يتراءى فيهم بحسب الظاهر من نيل المطالب والفوز بالحظوظ الدنيوية على الإطلاق أو في ضمن افترائهم وبياناً لأن ذلك بمعزل من أن يكون من جنس الفلاح كأنه قيل‏:‏ كيف لا يفلحون وهم في غبطة ونعيم‏؟‏ فقيل‏:‏ هو أو ذلك متاع حقير قليل في الدنيا وليس بفوز بالمطلوب، ثم أشير إلى انتفاء النجاة عن المكروه أيضاً بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ‏}‏ أي إلى حكمنا رجوعهم بالموت فيلقون الشقاء المؤبد ‏{‏ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ‏}‏ أي بسبب كفرهم المستمر أو بكفرهم في الدنيا فأين هم من الفلاح وما ذكرنا من كون متاع خبر مبتدأ محذوف هو الذي ذهب إليه غير واحد من المعربين، غير أن أبا البقاء وآخرين منهم قدروا المبتدأ حياتهم أو تقلبهم أو افتراؤهم، واعترض على تقدير الأخير بأن المتاع إنما يطلق على ما يكون مطبوعاً عند النفس مرغوباً فيه في نفسه يتمتع به وينتفع وإنما عدم الاعتداد به لسرعة زواله، ونفس الافتراء عليه سبحانه أقبح القبائح عند النفس فضلاً عن أن يكون مطبوعاً عندها‏.‏ وأجيب بأن إطلاق المتاع على ذلك باعتبار أنه مطبوع عند نفوسهم الخبيثة وفيه انتفاع لهم به حسبما يرونه انتفاعاً وإن كان من أقبح القبائح وغير منتفع به في نفس الأمر، ولا يخفى أن الوجه الأول مع هذا أوجه، وقيل‏:‏ إن المذكور مبتدأ محذوف الخبر أي لهم متاع الخ وليس ببعيد، والآية إما مسوقة من جهته سبحانه لتحقيق عدم إفلاحهم غير داخلة في الكلام المأمور به وهو الذي يتقضيه ظاهر قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نُذِيقُهُمُ‏}‏ وإما داخلة فيه على أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بنقله وحكايته عنه تعالى شأنه وله نظائر في الكتاب العزيز‏.‏