فصل: تفسير الآية رقم (40)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا‏}‏ غاية لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَصْنَعُ الفلك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 38‏]‏ و‏{‏حتى‏}‏ إما جارة متعلقة به، و‏{‏إِذَا‏}‏ لمجرد الظرفية، وإما ابتدائية داخلة على الشرط وجوابه، والجملة لا محل لها من الاعراب، وحال ما وقع في البين قد مرت الإشارة إليه، والأمر إما واحد الأوامر أي الأمر بركوب السفينة‏.‏ أو بالفوران‏.‏ أو للسحاب بالارسال‏.‏ أو للملائكة عليهم السلام بالتصرف فيما يراد‏.‏ أو نحو ذلك، وإما واحد الأمور وهو الشأن أعني نزول العذاب بهم ‏{‏وَفَارَ التنور‏}‏ أي نبع منه المار وارتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها وفيه من الاستعارة ما لا يخفى، والمراد من التنور تنور الخبز عند الجمهور، وكان على ما روي عن الحسن‏.‏ ومجاهد تنوراً لحواء تخبز فيه ثم صار لنوح عليه السلام وكان من حجارة، وقيل‏:‏ هو تنور في الكوفة في موضع مسجدها عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وجاء ذلك في رواية عن علي كرم الله تعالى وجهه، وقيل‏:‏ تنور بالهند، وقيل‏:‏ بعين وردة من أرض الجزيرة العمرية أو من أرض الشام، وقيل‏:‏ ليس المراد به تنوراً معيناً بل الجنس، والمراد فار الماء من التنانير، وفي ذلك من عجيب القدرة ما لا يخفى، ولا تنافي بين هذا وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَفَجَّرْنَا الارض عُيُوناً‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 12‏]‏ إذ يمكن أن يكون التفجير غير الفوران فحصل الفوران للتنور والتفجير للأرض، أو يراد بالأرض أماكن التنانير، ووزنه تفعول من النور، وأصله تنوور فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها، ثم حذفت تخفيفاً، ثم شددت النون عوضاً عما حذف، ونقل هذا عن ثعلب، وقال أبو على الفارسي‏:‏ وزنه فعول، وقيل‏:‏ على هذا أنه أعجمي ولا اشتقاق له، ومادته تنر، وليس في كلام العرب نون قبل راء، ونرجس معرب أيضاً، والمشهور أنه مما اتفق فيه لغة العرب‏.‏ والعجم كالصابون‏.‏ والسمور، وعن ابن عباس‏.‏ وعكرمة‏.‏ والزهري أن ‏{‏التنور‏}‏ وجه الأرض هنا، وعن قتادة أنه أشرف موضع منها أي أعلاه وأرفعه، وأخرج ابن جرير‏.‏ وأبو الشيخ‏.‏ وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه تنوير الصبح، والظاهر أنه لم يستعمل في اللغة العجمية بهذه المعاني الأخيرة، وجوز أن يكون فوران التنور مجازاً عن ظهور العذاب وشدة الهول، وهذا كما جاء في الخبر حمى الوطيس مجازاً عن شدة الحرب وليس بين الجملتين كثير فرق في المعنى وهو معنى حسن لكنه بعيد عما جاءت به الأخبار ‏{‏قُلْنَا احمل فِيهَا‏}‏ أي في الفلك، وأنث الضمير لأنه بمعنى السفينة، والجملة استئناف أو جواب إذا ‏{‏مِن كُلّ‏}‏ أي من كل نوع من الحيوانات ينتفع به الذين ينجون من الغرق وذراريهم بعد، ولم تكن العادة جارية بخلقه من غير ذكر وأنثى، والجار والمجرور متعلق باحمل أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله أعني قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏زَوْجَيْنِ‏}‏ وهو تثنية زوج، والمراد به الواحد المزدوج بآخر من جنسه، فالذكر زوج للأنثى كما هي زوج له، وقد يطلق على مجموعهما، وليس بمراد، وإلا لزم أن يحمل من كل صنف أربعة، ولئلا يراد ذلك وصف بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اثنين‏}‏ وحاصل المعنى احمل ذكراً وأنثى من كل نوع من الحيوانات، وقرأ الأكثرون دمن كل زوجين‏}‏ بالإضافة فاثنين على هذا مفعول احمل و‏{‏‏}‏ بالإضافة فاثنين على هذا مفعول احمل و‏{‏مِن كُلّ زَوْجَيْنِ‏}‏ حال منه، ولو أخر لكان صفة له أي احمل اثنين من كل زوجين أي صنف ذكر وصنف أنثى، وقيل‏:‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ زائدة وما بعدها مفعول احمل، و‏{‏اثنين‏}‏ نعت لزوجين بناءاً على جواز زيادة ‏{‏مِنْ‏}‏ في الموجب ثم ما ذكرناه في تفسير العموم هو الذي مال إليه البعض وأدرج فيه أناس الهوام والطير، وذكر أنه روي أنه عليه السلام جعل للسفينة ثلاثة بطون وحمل في البطن الأسفل الوحوش‏.‏

والسباع‏.‏ والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد، وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعله معترضاً بين الرجال والنساء، وكان حمله بوصية منه عليه السلام توارثها ولده حتى وصلت إلى نوح عليه السلام، ويعارض هذا التقسيم ما روي أن الطبقة السفلى للوحش‏.‏ والوسطى للطعام‏.‏ والعليا له عليه السلام ولمن آمن، وتوسع بعضهم في العموم فأدرج فيه ما ليس من جنس الحيوان، وأيد بما أخرجه إسحق بن بشر‏.‏ وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعاً أن نوحاً عليه السلام حمل معه في السفينة من جميع الشجر، وبما أخرجه أبو الشيخ عن جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ أمر نوح عليه السلام أن يحمل معه ‏{‏مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين‏}‏ فحمل من التمر العجوة واللون‏.‏

وأخرج النسائي عن أنس بن مالك أن نوحاً عليه السلام نازعه الشيطان في عود الكرم، فقال‏:‏ هذا لي، وقال نوح‏:‏ هو لي فاصطلحا على أن لنوح ثلثها‏.‏ وللشيطان ثلثيها ولا يكاد يعول على مثل هذه الأخبار عند التنقير، ومما يحمل معها في سفينة ما أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ تأذى أهل السفينة بالفأر فعطس الأسد فخرج من منخريه سنوران ذكر وأنثى فأكلا الفأر إلا ما أراد الله تعالى أن يبقى منه، وتأذوا بأذى أهل السفينة فعطس الفيل فخرج من منخريه خنزيران ذكر وأنثى فأكلا أذى أهل السفينة، وفي رواية الحكيم الترمذي في نوادر الأصول‏.‏

وابن جرير‏.‏ وغيرهما عنه أن نوحاً عليه السلام شكا إلى الله تعالى قرض الفأر حبال السفينة فأوحى الله إليه فمسح جبهة الأسد فخرج سنوران، وشكا عذرة في السفينة فأوحى إليه سبحانه، فمسح ذنب الفيل فخرج خنزيران فأكل العذرة‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم عن أبيه مرفوعاً أن أهل السفينة شكوا الفأرة فقالوا‏:‏ الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا فأوحى الله تعالى إلى الأسد فعطس فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها، ولم يذكر فيه بحث الخنزير، ويفهم منها على ما فيها أن الهرة لم تكن عند الحمل، ومن الأولين أنها والخنزير لم يكونا، وفي بعض الآثار ما يخالفه، فقد أخرج أحمد في الزهد‏.‏ وأبو الشيخ عن وهب بن منبه قال لما أمر الله تعالى نوحاً عليه السلام بالحمل قال‏:‏ كيف أصنع بالاسد‏.‏ والبقرة‏.‏ وكيف أصنع بالعناق‏.‏ والذئب، وكيف أصنع بالحمام‏.‏ والهر‏؟‏ فقال الله تعالى‏:‏ من ألقى بينهما العداوة‏؟‏ قال‏:‏ أنت يا رب قال‏:‏ فإني أؤلف بينهم حتى لا يتضارون، ولا يخفى ما بين هذا وبين التقسيم الأول أيضاً، وجاء في شأن الأسد روايات مختلفة‏:‏ ففي رواية أن أصحابه عليه السلام قالوا‏:‏ كيف نطمئن ومعنا الأسد‏؟‏ فسلط الله تعالى عليه الحمى، وكانت أولى حمى نزلت الأرض‏.‏

وفي رواية أنه كان يؤذيهم في السفينة فألقيت عليه الحمى ليشتغل بنفسه، وفي أخرى أنه عليه السلام حين أمر بالحمل قال‏:‏ يا رب كيف بالأسد‏.‏ والفيل‏؟‏ فقال له سبحانه‏:‏ سألقي عليهما الحمى وهي ثقيلة؛ وفي أخرى عن أبي عبيدة أنه عليه السلام حين أمر بالحمل لم يستطع أن يحمل الأسد حتى ألقيت عليه الحمى فحمله فأدخله، ولا يخفى أنها مع دلالة بعضها على أن إلقاء الحمى قبل الدخول، وبعضها على أنه بعده، وكان يغني عن إلقائها بعد دفعاً لأذاء التأليف بينه وبين الإنسان كما ألف بين ما مر بعضه مع بعض، ولعل لدفع الأذى بالحمى دون التأليف إن صح ذلك حكمة لكنها غير ظاهرة لنا، وجاء في بعض الآثار ما يفهم منه أنه كان معه عليه السلام في السفينة من الجن ما كان، وفي بعضها أن إبليس عليه اللعنة كان أيضاً‏.‏

فعن ابن عباس أنه لما أراد الله تعالى أن يدخل الحمار السفينة أخذ نوح بأذني الحمار وأخذ إبليس بذنبه فجعل نوح يجذبه وجعل إبليس يجذبه فقال نوح عليه السلام‏:‏ ادخل شيطان فدخل الحمار ودخل إبليس معه فلما سارت السفينة جلس في ذنبها يتغنى فقال له نوح‏:‏ ويلك من أذن لك‏؟‏ قال‏:‏ أنت قال‏:‏ متى‏؟‏ قال‏:‏ إذ قلت للحمار ادخل شيطان فدخلت بإذن منك، وفي رواية أخرى عنه أن نوحاً عليه السلام قال للحمار‏:‏ ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك كلمة جرت على لسانه فدخل ودخل معه الشيطان‏.‏

وأخرج ابن عساكر عن عطاء أن اللعين جاء ليركب السفينة فدفعه نوح عليه السلام فقال‏:‏ يا نوح إني منظور ولا سبيل لك علي فعرف أنه صادق فأمره أن يجلس على خيزران السفينة، وهو بظاهره مخالف لما روي عن ابن عباس، واختلفوا في أنه كيف جمعت الحبوانات على تفرقها في أكناف الأرض، فقيل‏:‏ إنها أحست بالعذاب فاجتمعت؛ وعن الزهري أن الله تعالى بعث ريحاً فحمل إليه من كل زوجين اثنين من الطير والسباع والوحش والبهائم‏.‏

وعن جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى بعث جبريل عليه السلام فحشرها فجعل عليه السلام يضرب بيديه على الزوجين فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيدخلهما السفينة حتى أدخل عدة ما أمر الله تعالى به، وروي إسحق بن بشر‏.‏ وغيره عن زيد بن ثابت أنه استعصت عليه عليه السلام الماعزة فدفعها في ذنبها فمن ثم انكسر وبدا حياها ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على ذنبها فستر حياها‏.‏

وفي كتب الأخبار كثير من هذه الآثار التي يقضي منها العجب، وأنا لا أعتقد سوى أن الله عزت قدرته خلق الماعزة والنعجة من قبل على ما هما عليه اليوم وأنه سبحانه لم يخلق الهرة من الأسد وإن أشبهته صورة ولا الخنزير من الفيل وإن كان بينهما شبه مّا كما شاهدناه عام مجيء الفيل إلى بغداد ولو كلف الفيل أكل العذرة لكان أحب إلى أهل السفينة من زيادة خنزير فيها وأحب من ذلك كله إليهم أن لا يكون في السفينة غيرهم أو يكون حيوان واحد يخلق لهم من عطاسه ما يريدونه من الحيوانات ويحتاجون إليه بعد‏.‏

والذي يميل القلب إليه أن الطوفان لم يكن عاماً كما قال به البعض وأنه عليه السلام لم يؤمر بحمل ما جرت العادة بتكونه من عفونة الأرض كالفأر والحشرات بل أمر بحمل ما يحتاج إليه إذا نجا ومن معه من الغرق لئلا يغتموا لفقده ويتكلفوا مشقة جلبه من الأصقاع النائية التي لم يصلها الغرق فكأنه قيل‏:‏ قلنا احمل فيها من كل ما تحتاجونه إذا نجوتم زوجين اثنين، وإن قلنا بعموم الغرق نقول أيضاً‏:‏ إنه عليه السلام لم يكلف بحمل شيء من المتكونات من العفونة بل كلف بالحمل مما يتناسل من الحيوانات لمصلحة بقاء النوع، وكانت السفينة بحيث تسع ذلك عادة أو معجزة وقدرة الله تعالى أجل من أن تضيق عن ذلك، وإن قيل بالعموم على وجه يبقى معه بعض الجبال جاز أن يقال‏:‏ إنه عليه السلام لم يحمل إلا مما لا مهرب له ويضر فقده بجماعته، ولو قيل‏:‏ إن العموم على إطلاقه وأنه عليه السلام لم يحمل في السفينة إلا ما تتسع له عادة مما يحتاج إليه لئلا يضيق أصحابه ذرعاً بفقده بالكلية حسبما تقتضيه الطباع البشرية وغرق ما عدا ذلك لكن الله تعالى جلت قدرته خلق نظير ما غرق بعد على الوجه الذي فعل قبل لم يكن ذلك بدعاً ممن أمره بين الكاف والنون جل شأنه وعظم سلطانه‏.‏

هذا وإنما قدم ذلك على أهله وسائر المؤمنين قيل‏:‏ لكونه عريقاً بالحمل المأمور به لأنه يحتاج إلى مزاولة الأعمال منه عليه السلام في تمييز بعض عن بعض وتعيين الأزواج، وأما البشر فإنما يدخل الفلك باختياره فيخف فيه معنى الحمل، أو لأن ذلك إنما يحمل بمباشرة البشر وهم إنما يدخلونها بعد حملهم إياه، ويجوز أن يكون التقديم حفظاً للنظم الكريم عن الانتشار، وأياً مّا كان فقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَهْلَكَ‏}‏ عطف على ‏{‏زَوْجَيْنِ‏}‏ أو على ‏{‏اثنين‏}‏ والمراد بأهله على ما في بعض الآثار امرأته المسلمة وبنوه منها وهم سام عليه السلام وهو أبو العرب وأصله على ما قال البكري‏:‏ بالشين المعجمة، وحام وهو أبو السودان قيل‏:‏ إنه أصاب زوجته في السفينة فدعا نوح عليه السلام أن تغير نطفته فغيرت، وأخرج ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن أبي صالح، ويافث كصاحب وهو أبو الترك ويأجوج ومأجوج وزوجة كل منهم ‏{‏إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول‏}‏‏]‏ بأنه من المغرقين لظلمهم، وذلك في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 37‏]‏ الآية، والمراد زوجة له أخرى تسمى واعلة بالعين المهملة، وفي رواية والقة‏.‏ وابنه منها كنعان وكان اسمه فيما قيل‏:‏ يام وهذا لقبه عند أهل الكتاب وكانا كافرين، وفي هذا دلالة على أن الأنبياء عليهم السلام يحل لهم نكاح الكافرة بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اأيها النبى إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏ الآية، والاستثناء جوز أن يكون متصلاً إن أريد بالأهل الأهل إيماناً، وأن يكون منقطعاً إن أريد به الأهل قرابة، ويكفى في صحة الاستثناء المعلومية عند المراجعة إلى أحوالهم والتفحص عن أعمالهم، وجيء بعلي لكون السابق ضاراً لهم كما جيء باللام فيما هو نافع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 171‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏ ‏{‏وَمَنْ ءامَنَ‏}‏ عطف على الأهل أي والمؤمنين من غيرهم وإفراد أولئك منهم للاستثناء المذكور، وإيثار صيغة الافراد في ‏{‏مِن‏}‏ محافظة على لفظ ‏{‏مِنْ‏}‏ للإيذان بالقلة كما أفصح عن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ‏}‏ قيل‏:‏ كانوا سبعة زوجته‏.‏ واتاؤه الثلاثة‏.‏ وكنائنه الثلاث، وروي هذا عن قتادة‏.‏ والحكم بن عقبة‏.‏ وابن جريج‏.‏ ومحمد بن كعب، ويرده عطف ‏{‏وَمَنْ ءامَنَ‏}‏ على الأهل إلا أن يكون الأهل بمعنى الزوج فإنه قد ثبت بهذا المعنى لكن قبل‏:‏ إنه خلاف الظاهر، والاستثناء عليه منقطع أيضاً، وعن ابن إسحق أنهم كانوا عشرة خمسة رجال وخمس نسوة، وعنه أنهم كانوا مع نوح عليه السلام عشرين نصفهم رجال ونصفهم الآخر نساؤهم، وقيل‏:‏ كانوا ثمانية وسبعين نصفهم ذكور ونصفهم أناث، وقيل‏:‏ كانوا ثمانين رجلاً وثمانين امرأة وقيل‏:‏ وقيل والرواية الصحيحة أنهم كانوا تسعة وسبعين، زوجته‏.‏ وبنوه الثلاثة‏.‏ ونسائهم‏.‏ واثنان وسبعون رجلاً‏.‏ وامرأة من غيرهم من بني شيث، واعتبار المعية في الإيمان للإيماء إلى المعية في مقر الإيمان والنجاة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ‏}‏ أي نوح عليه السلام لمن معه من المؤمنين كما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ الضمير لله تعالى، وفيه أنه لو كان كذلك لكان المناسب إن ربكم الخ، ولعل هذا القول بعد إدخال ما أمر بحمله في الفلك من الأزواج كأنه قيل‏:‏ فحمل الأزواج حسبما أمر أو أدخلها في الفلك، وقال للمؤمنين ‏{‏اركبوا فِيهَا‏}‏ أي صيروا فيها، وجعل ذلك ركوباً لأنها في الماء كالمركوب في الأرض ففيه استعارة تبعية من حيث تشبيه الصيرورة فيها بالركوب، وقيل‏:‏ استعارة مكنية والتعدية بفي لاعتبار الصيرورة وإلا فالفعل يتعدى بنفسه، وإلى هذا ذهب القاضي البيضاوي، وقيل‏:‏ التعدية بذلك لأنه ضمن معنى ادخلوا، وقيل‏:‏ تقديره اركبوا الماء فيها، وقيل‏:‏ في زائدة للتوكيد، وكأن الأول أولى، وقال بعض المحققين‏:‏ الركوب العلو على شيء متحرك ويتعدى بنفسه واستعماله ههنا بفي ليس لأن المأمور به كونهم في جوفها لا فوقها كما ظن فإن أظهر الروايات أنه عليه السلام ركب هو ومن معه في الأعلى بل لرعاية جانب المحلية والمكانية في الفلك‏.‏

والسر فيه أن معنى الركوب العلو على شيء له حركة إما إرادية كالحيوان أو قسرية كالسفينة والعجلة ونحوهما فإذا استعمل في الأول توفر له حظ الأصل فيقال‏:‏ ركبت الفرس، وعليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 8‏]‏ وإن استعمل في الثاني يلوح بمحلية المفعول بكلمة في فيقال‏:‏ ركبت في السفينة، وعليه الآية الكريمة، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 65‏]‏ و‏{‏حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة خَرَقَهَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 71‏]‏ انتهى، وظاهره أن الركوب ههنا حقيقي، وصرح بعضهم أنه ليس به‏.‏

وقال الراغب‏:‏ الركوب في الأصل كون الإنسان على ظهر حيوان، وقد يستعمل في السفينة، وفيه تأكيد لما صرح بع البعض ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ‏}‏ حال من فاعل ‏{‏اركبوا‏}‏ والباء للملابسة ولما كانت ملابسة اسم الله عز اسمه بذكره قالوا‏:‏ المعنى اركبوا مسمين الله، وجوزوا أن تكون الحال محذوفة وهذا معمول لها سادّ مسدّها ولذلك سموه حالا، والأصل ‏{‏اركبوا‏}‏ قائلين ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ‏}‏ ‏{‏مجراها ومرساها‏}‏ نصب على الظرفية أي وقت إجرائها وإرسائها على أنهما اسما زمان أو مصدران ميميان بمعنى الإجراء والإرساء، ويقدر مضاف محذوف وهو وقت كما في قولك‏:‏ أتيتك خفوق النجم فإن التقدير وقت خفوقه إلا أنه لما حذف المضاف سدّ المضاف إليه مسده وانتصب انتصابه وهو كثير في المصادر، ويجوز أن يكونا اسمى مكان وانتصابهما بالاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور أو بقائلين، ولا يجوز أن يكون باركبوا إذ ليس المعنى على ‏{‏قَلِيلٌ وَقَالَ اركبوا‏}‏ في وقت الإجراء والإرساء، أو في مكانهما وإنما المعنى متبركين أو قائلين فيهما، وتعقب القول بانتصهابهما مطلقاً بأنهما محدودان ومحدود المكان لا بد له من في، وبعضهم يجوز النصب في مثل ذلك بما فيه من الابهاج، وجوز رفعهما فاعلين بالظرف لاعتماده على ذي الحال أو على أنهما مبتدأ ومعطوف عليه؛ و‏{‏بِسْمِ اللَّهِ‏}‏ خبراً والخبر محذوف تقديره متحققان ونحوه وهو صلة لهما، والجملة إما مقتضية منقطعة عما قبلها لاختلافهما خبراً وطلبا على أن نوحاً عليه السلام أمرهم بالركوب في السفينة ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بسم الله تعالى أو بأن إجراءها وإرساءها باسمه تعالى متحققان لا يشك فيهما، وفي ذلك حث على الركوب وإزالة لما عسى يختلج في قلوبهم من خوف الغرق ونحوه، ويروى عن ضحاك أنه عليه السلام كان إذا أراد أن يجريها، يقول ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ‏}‏ فتجري، وإذا أراد أن يرسيها قال‏:‏ ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ‏}‏ فترسو، وإما في موضع الحال من ضمير الفلك أي اركبوا فيها مجراة ومرساة باسم الله وهي حال مقدرة إذ لا إجراء ولا إرساء وقت الركوب كذا قيل، وتعقبه في التقريب بأن الحال إنما تكون مقدرة إذا كانت مفردة كمجراة أما إذا كانت جملة فلا لأن معنى الجملة اركبوا وإجراؤها ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ‏}‏ وهذا واقع حال الركوب انتهى، وأجاب عنه في «الكشف» بأنه لا فرق بين قوله تعالى‏:‏

‏{‏ادخلوها خالدين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ وقول القائل‏:‏ ادخلوها وأنتم مخلدون في عدم المقارنة والرجوع إلى الحال المقدرة فكذلك ما نحن فيه، واعترض على المجيب بأن مراد ذلك القائل إجراؤها مجرى المفرد على نحو كلمته فوه إلى في بأنه تكلف لا حاجة إليه، وهو غير مسلم في المستشهد به أيضاً، وإنما ذلك في قول القائل كلمته فاه إلى في انتهى، وكأنه لم ينكشف له مراد صاحب التقريب فإنهم ذكروا أن الفرق بين الحال إذا كانت مفردة وإذا كانت جملة أن الثانية تقتضي التحقق في نفسها والتلبس بها، وربما أشعرت بوقوعها قبل العامل واستمرارها معه كما إذا قلت‏:‏ جاءني وهو راكب فإنه يقتضي تلبسه بالركوب واستمراره عليه، وهذا ينافي كونها منتظرة ولا أقل من أن لا يحسن الحمل عليه حيث تيسر الإفراد فافهم، وجوز أن تكون حالاً مقدرة أيضاً من فاعل ‏{‏اركبوا‏}‏، واعترض بأنه لا عائد على ذي الحال، وضمير ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ‏}‏ للمبتدأ وتقديره أي فاجراؤها معكم أو بكم كائن ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ‏}‏ تكلف، والقول بأن الرضى قد ذكر أن الجملة الحالية إذا كانت اسمية قد تخلو من الرابطين عند ظهور الملابسة نحو خرجت زيد على الباب ليس بشيء لضعف ما ذكر في العربية فلا ينبغي التخريج عليه نعم كون الاسمية لا بد فيها من الواو والقول بأن الحال المقدرة لا تكون جملة مطلقاً كل منهما في حيز المنع كما لا يخفى‏.‏

وجوز أن يكون الاسم مقحماً كما في قول لبيد‏:‏

فقوما وقولا بالذي قد عرفتما *** ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا الشعر

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما *** ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر

ويراد بالله إجراؤها وإرساؤها أي بقدرته أو بأمره أو بإذنه، ويقدر ذلك أو يراد معنى، وخص بعضهم هذا الجواز بما إذا لم يقدر مسمين أو قائلين إذ لا يظهر المعنى حينئذٍ، ويجري على تقديري الكلام الواحد والكلامين، وكذا على تقدير الزمان والمكان في رأي، ويعتبر الإسناد مجازياً من قبيل نهاره صائم وطريق بر‏.‏

وقرأ مجراها ومرساها بفتح الميم مصدرين‏.‏ أو زمانين‏.‏ أو مكانين على أنهما من جرى ورسا الثلاثيين، وقرأ مجاهد مجريها ومرسيها بصيغة اسم الفاعل، وخرج ذلك أبو البقاء على أنهما صفتان للاسم الجليل، وقيل عليه‏:‏ إن أضافة اسم الفاعل إذا كان بمعنى المستقبل لفظية فهو نكرة لا يصح توصيف المعرفة به فالحق البدلية، والقول بأن مراد المعرب الصفة المعنوية لا النعت النحوي فلا ينافي البدلية بعيد لكن عن الخليل إن ما كانت إضافته غير محضة قد يصح أن تجعل محضة فتعرف إلا ما كان من الصفة المشبهة فلا تتمحض إضافتها فلا تعرف، والرسو الثبوت والاستقرار، ومنه قول الشاعر‏:‏

فصبرت نفساً عند ذلك حرة *** ‏(‏ترسو‏)‏‏}‏ إذا نفس الجبان تطلع

‏{‏إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ قيل‏:‏ الجملة مستأنفة لبيان الموجب أي لولا مغفرته لفرطانكم ورحمته إياكم لما أنجاكم من هذه الطامة إيمانكم، وفيه دلالة على أن نجاتهم لم تكن عن استحقاق بسبب أنهم كانوا مؤمنين بل بمحض رحمة الله تعالى وغفرانه على ما عليه أهل السنة، ومنع صلاحية كونها علة لاركبوا لعدم المناسبة فيقدر ما يصح به الكلام بأن يقال‏:‏ امتثلوا هذا الحكم لينجيكم من الهلاك بمغفرته ورحمته، أو يقال‏:‏ ‏{‏اركبوا فِيهَا‏}‏ ذاكرين الله تعالى ولا تخافوا الغرق لما عسى فرط منكم من التقصير لأن الله تعالى شأنه غفور للخطايا والذنوب رحيم بعباده، وجعلها بعضهم تعليلاً بالنظر إلى ما فيها من الإشارة إلى النجارة فكأنه قيل‏:‏ اركبوا لينجيكم الله سبحانه

‏[‏بم وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كالجبال‏}‏ جوز فيه ثلاثة أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أن يكون مستأنفاً، الثاني‏:‏ أن يكون حالاً من الضمير المستتر في ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ‏}‏ أي جريانها استقر ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 41‏]‏ حال كونها جارية، الثالث‏:‏ أنه حال من شيء محذوف دل عليه السياق أي فركبوا فيها جارية، والفاء المقدرة للعطف، و‏{‏بِهِمُ‏}‏ متعلق بتجري أو بمحذوف أي ملتبسة والمضارع لحكاية الحال الماضية ولا معنى للحالية من الضمير المستتر في الحال الأولى كما لا يخفى، والموج ما ارتفع من الماء عند اضطرابه، واحده موجة و‏{‏كالجبال‏}‏ في موضع الصفة لموج أي في موج مرتفع متفاوت في الارتفاع متراكم، قيل‏:‏ إنها جرت بهم في موج كذلك وقد بقي منها فوق الماء ستة أذرع، واستشكل هذا الجريان مع ما روي أن الماء طبق ما بين السماء والأرض وأن السفينة كانت تجري في داخله كالسمك، وأجيب بأن الرواية مما لا صحة لها ويكاد العقل يأبى ذلك، نعم أخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن عساكر‏.‏ وعبد بن حميد من طريق مجاهد عن عبيد بن عمير قال‏:‏ إن الماء علا رأس كل جبل خمسة عشر ذراعاً على أنه لو سلم صحة ما ذكر فهذا الجريان كان في ابتداء الأمر قبل أن يتفاقم الخطب كما يدل عليه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ونادى نُوحٌ ابنه‏}‏ الخ فإن ذلك إنما يتصور قبل أن تنقطع العلاقة بين السفينة والبر إذ حينئذٍ يمكن جريان ما جرى بين نوح عليه السلام وبين ابنه من المفاوضة والاستدعاء إلى السفينة، والجواب بالاعتصام بالجبل‏.‏

وقال بعض المحققين‏:‏ إن هذا النداء إنما كان قبل الركوب في السفينة والواو لا تدل على الترتيب، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ ابنها على أن ضمير التأنيث لامرأته، وفي إضافته إليها إشعار بأنه ربيبه لأن الإضافة إلى الأم مع ذكر الأب خلاف الظاهر، وإن جوزوه، ووجه بأنه نسب إليها لكونه كافراً مثلها، وما يقال من أنه كان لغير رشدة لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَخَانَتَاهُمَا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 10‏]‏ فارتكاب عظيمة لا يقادر قدرها فإن الله تعالى قد طهر الأنبياء عليهم السلام عما هو دون ذلك من النقص بمراحل فحاشاهم ثم حاشاهم أن يشار إليهم بأصبع الطعن وإنما المراد بالخيانة الخيانة في الدين، ونسبة هذا القول إلى الحسن‏.‏ ومجاهد كما زعم الطبرسي كذب صريح، وقرأ محمد بن علي‏.‏ وعروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهم ‏{‏ابنه‏}‏ بهاء مفتوحة دون ألف اكتفاءاً بالألف عنها وهو لغة كما قال ابن عطية ومن ذلك قوله‏:‏ أما تقود بها شاة فتأكلها *** أو أن تبيعه في بعض الأراكيب

قيل‏:‏ وهو ضعيف في العربية حتى خصه بعضهم بالضرورة والضمير للأم أيضاً، وقرأ ابن عباس ابنه بسكون الهاء، وهي على ما قال ابن عطية‏.‏ وأبو الفضل الرازي‏.‏ لغة أزد فإنهم يسكنون هاء الكناية من المذكر، ومنه قوله‏:‏ ونضواي مشتاقان له أرقان *** وقيل‏:‏ إنها لغة لبني كلاب‏.‏ وعقيل، ومن النحويين من يخص هذا السكون بالضرورة وينشد‏:‏ وأشرب الماء ما بي نحوه عطش *** إلا لأن عيونه سيل واديها

وقرأ السدي ابناه بألف وهاء سكت، وخرج ذلك على الندبة، واستشكل بأن النحاة صرحوا بأن حرف النداء لا يحذف في الندبة، وأجيب بأن هذا حكاية، والذي منعوه في الندبة نفسها لا في حكايتها، وعن ابن عطية أبناه بفتح همزة القطع‏.‏ التي للنداء، وفيه أنه لا ينادي المندوب بالهمزة، وأن الرواية بالوصل فيها والنداء بالهمزة لم يقع في القرآن، ويبعد القول بالندبة أنها لا تلائم الاستدعاء إلى السفينة بعد كما لا يخفى ولو قيل‏:‏ إن ابناه على هذه القراءة مفعول نادى أيضاً كما في غيرها من القراءات، والألف للإشباع والهاء الساكنة هاء الضمير في بعض اللغات لم يكن هناك محذور من جهة المعنى وهو ظاهر، نعم يتوقف القول بذلك على السماع في مثله؛ ومتى ثبت تعين عندي تخريج القراءة إن صحت عليه، وقرأ الجمهور ‏{‏ابنه‏}‏ بالإضافة إلى ضمير نوح، ووصلوا بالهاء واواً وتوصل في الفصيح، وتنوين ‏{‏نُوحٌ‏}‏ مكسور عند الجمهور دفعاً لالتقاء الساكنين، وقرأ وكيع بضمه اتباعاً لحركة الإعراب‏.‏

وقال أبو حاتم‏:‏ هي لغة سوء لا تعرف ‏{‏وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ‏}‏ أي مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وإخوته ومن آمن من قومه، والمراد بعده عنهم إما حساً أو معنى، وحاصله المخالفة لهم في الدين فمعزل بالكسر اسم مكان العزلة، وهي إما حقيقية أو مجازية، وقد يكون اسم زمان، وإذا فتح كان مصدراً، وقيل‏:‏ المراد كان في معزل عن الكفار قد انفرد عنهم، وظن نوح عليه السلام أنه يريد مفارقتهم ولذلك دعاه إلى السفينة، وقيل‏:‏ إنما ناداه لأنه كان ينافقه فظن أنه مؤمن، واختاره كثير من المحققين كالماتريدي‏.‏ وغيره، وقيل‏:‏ كان يعلم أنه كافر إلى ذلك الوقت لكنه عليه السلام ظن أنه عند مشاهدة تلك الأهوال وبلوغ السيل الزبي ينزجر عما كان عليه ويقبل الإيمان، وقيل‏:‏ لم يجزم بدخوله في الاستثناء لما أنه كان كالمجمل فحملته شفقة الأبوة على أن ناداه ‏{‏يبَنِى‏}‏ بفتح الياء التي هي لام الكلمة اجتزاءاً بالفتحة عن الألف المبدلة من ياء الإضافة في قوله يا بنيا، وقيل‏:‏ إنها سقطت لالتقائها ساكنة مع الراء الساكنة بعدها، ويؤيد الأول أنه قرىء كذلك حيث لا ساكن بعد‏.‏

ومن الناس من قال‏:‏ فيه ضعف على ما حكاه يونس من ضعف يا أب ويا أم بحذف الألف والاجتزاء عنها بالفتحة‏.‏

وقرأ الجمهور بالكسر اقتصاراً عليه من ياء الإضافة، وقيل‏:‏ إنها حذفت لالتقاء الساكنين كما قيل ذلك في الألف، ونداؤه بالتصغير من باب التحنن والرأفة، وكثيراً ما ينادي الوالد ولده كذلك ‏{‏اركب مَّعَنَا‏}‏ أي في السفينة ولتعينها وللإيذان بضيق المقام حيث حال الجريض دون القريض مع إغناء المعية عن ذكرها لم تذكر، وأطلق الركوب وتخفيف الباء وإدغامها في الميم قراءتان سبعيتان ووجه الإدغام التقارب في المخرج ‏{‏وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين‏}‏ تأكيد للأمر وهو نهي عن مشايعة الكفرة والدخول في غمارهم، وقطع بأن الدخول فيه يوجب الغرق على الطريق البرهاني‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أي سأنضم ‏{‏سَاوِى إلى جَبَلٍ‏}‏ من الجبال، وقيل‏:‏ عنى طور زيتا ‏{‏يَعْصِمُنِى‏}‏ أي يحفظني بارتفاعه ‏{‏مِنَ الماء‏}‏ فلا يصل إلي‏.‏ قال ذلك زعماً منه أن ذلك كسائر المياه في أزمنة السيول المعتادة التي ربما يتقي منها بالصعود إلى مرتفع، وجهلاً منه بأن ذلك إنما كان لإهلاك الكفرة فلا بد أن يدركهم ولو كانوا في قلل الجبال ‏{‏قَالَ‏}‏ مبيناً له حقيقة الحال وصارفاً له عن ذلك الفكر المحال ‏{‏لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ نفي لجنس العاصم المنتظم لنفي جميع أفراده ذاتاً وصفة للمبالغة في نفي كون الجبل عاصماً، وزاد ‏{‏اليوم‏}‏ للتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام التي تقع فيها الوقائع وتلم فيها الملمات المعتادة التي ربما يتخلص منها بالالتجاء إلى بعض الأسباب العادية، وعبر عن الماء في محل إضماره بأمر الله أي عذابه الذي أشير إليه أولاً بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 40‏]‏ تفخيماً لشأنه وتهويلاً لأمره وتنبيهاً لابنه على خطئه في تسميته ماءاً وتوهمه أنه كسائر المياه التي يتخلص منها بالهرب إلى بعض المهارب المعهودة، وتعليلاً للنفي المذكور فإن أمر الله سبحانه لا يغالب وعذابه لا يرد، وتمهيداً لحصر العصمة في جناب الله تعالى عز جاره بالاستثناء كأنه قيل‏:‏ لا عاصم من أمر الله تعالى إلا هو تعالى، وإنما قيل‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَن رَّحِمَ‏}‏ تفخيماً لشأنه الجليل جل شأنه وإشعاراً بعلية رحمته بموجب سبقها غضبه كل ذلك لكمال عنايته عليه السلام بتحقيق ما يتوخاه من نجاة ابنه ببيان شأن الداهية وقطع أطماعه الفارغة وصرف عنانه عن التعلل بما لا يغني عنه شيئاً وإرشاده إلى العياذ بالمعاذ الحق عز حماه، ولذا عدل عما يقتضيه الظاهر من الجواب بقوله‏:‏ لا يعصمك الجبل منه كذا ذكره بعض المحققين وهو أحد أوجه في الآية وأقواها‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أن عاصماً صيغة نسبة، والمراد بالموصول المرحوم أي لا ذا عصمة أي معصوم إلا من رحمه الله تعالى، وأيد ذلك بأنه قرىء ‏{‏إِلاَّ مَن رَّحِمَ‏}‏ بالبناء للمفعول، واعترضه في «الكشف» بأن فاعلاً بمعنى النسبة قليل، وأجيب بأنه إن أراد قلته في نفسه فممنوع وإن بالنسبة إلى الوصف فلا يضر‏.‏

والثالث‏:‏ أن عاصماً على ظاهره، و‏{‏مَن رَّحِمَ‏}‏ بمعنى المرحوم والاستثناء منقطع لا متصل كما في الوجهين الأولين أي لا عاصم من أمر الله لكن من رحمه الله تعالى فهو معصوم، وأورد عليه بأن مثل هذا المنقطع قليل لأنه في الحقيقة جملة منقطعة تخالف الأولى لا في النفي والإثبات فقط بل في الاسمية والفعلية أيضاً، والأكثر فيه مثل ما جاءني القوم إلا حماراً، والرابع‏:‏ أن عاصماً بمعنى معصوم كدافق بمعنى مدفوق وفاتن بمعنى مفتون في قوله

‏:‏ بطيء القيام رخيم الكلا *** م أمسى فؤادي به ‏(‏فاتنا‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِن رَّحْمَتِهِ‏}‏ بمعنى الراحم، والاستثناء منقطع أيضاً أي لا معصوم إلا الراحم على معنى لكن الراحم يعصم من أراد، والخامس‏:‏ أن الكلام على إضمار المكان والاستثناء متصل أي لا عاصم إلا مكان من رحمه الله من المؤمنين وهو السفينة، قيل‏:‏ وهو وجه حسن فيه مقابلة لقوله‏:‏ ‏{‏يَعْصِمُنِى‏}‏ وهو المرجح بعد الأول، والعاصم على هذا حقيقة لكن إسناده إلى المكان مجازي، وقيل‏:‏ إنه مجاز مرسل عن مكان الاعتصام، والمعنى لا مكان اعتصام إلا مكان من رحمه الله، وادعى أنه أرجح من الكل لأنه ورد جواباً عن قوله‏:‏ ‏{‏سَاوِى إلى جَبَلٍ‏}‏ الخ وليس بمسلم، والسادس‏:‏ ما أبداه صاحب الكشف من عنده وهو أن المعنى لا معصوم إلا مكان من رحمه الله تعالى، ويراد به عصمة من فيه على الكناية فإن السفينة إذا عصمت عصم من فيها، والسابع‏:‏ أن الاستثناء مفرغ، والمعنى لا عاصم اليوم أحداً أو لأحد إلا من رحمه الله أو لمن رحمه الله سبحانه، وعده بعضهم أقربها، ولا أظنك تعدل بالوجه الأول وجهاً وهو الذي اختاره، والظاهر على ما قال أبو حيان‏:‏ أن خبر لا محذوف للعلم به أي ‏{‏لاَ عَاصِمَ‏}‏ موجود، والأكثر الحذف في مثل ذلك عند الحجازيين، والتزم الحذف فيه بنو تميم ويكون اليوم منصوباً على إضماره فعل يدل عليه ‏{‏عَاصِمَ‏}‏ أي ‏{‏لاَ عَاصِمَ‏}‏ يعصم اليوم؛ والجار والمجرور متعلق بذلك الفعل ومنع جواز أن يكون ‏{‏اليوم‏}‏ منصوباً باسم لا وأن يكون الجار متعلقاً به لأنه يلزم حينئذٍ أن يكون معرباً منوناً للطول‏.‏

وجوز الحوفي أن يكون ‏{‏اليوم‏}‏ متعلقاً بمحذوف وقع خبراً للا والجار متعلق بذلك المحذوف أيضاً، وأن يكون متعلقاً بمحذوف هو الخبر، و‏{‏اليوم‏}‏ في موضع النعت لعاصم، ورد أبو البقاء خبرية اليوم بأنه ظرف زمان وهو لا يكون خبراً للا والجار متعلق بذلك المحذوف أيضاً، وأن يكون متعلقاً بمحذوف هو الخبر، و‏{‏اليوم‏}‏ في موضع النعت لعاصم، ورد أبو البقاء خبرية اليوم بأنه ظرف زمان وهو لا يكون خبراً عن الجثة، والتزم كونه معمول من أمر الله وكون الخبر هو الجار والمجرور، ورد أبو حيان جواز النعتية بأن ظرف الزمان لا يكون نعتاً للجثث كما لا يكون خبراً عنها ‏{‏وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج‏}‏ أي بين نوح عليه السلام وابنه فانقطع ما بينهما من المجاوبة، قيل‏:‏ كانا يتراجعان الكلام فما استتمت المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة وكان راكباً على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه، وليس في الآية هنا إلا إثبات الحياة له، وأما علمه عليه السلام بغرقه فلم يحصل إلا بعد، وقال الفراء‏:‏ بينهما أي بين ابن نوح عليه السلام والجبل، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم‏.‏

وأبو الشيخ عن القاسم بن أبي بزة، وتعقبه العلامة أبو السعود بأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَانَ مِنَ المغرقين‏}‏ إنما يتفرع على حيلولة الموج بينه عليه السلام وبين ابنه لا بينه وبين الجبل لأنه بمعزل عن كونه عاصماً وإن لم يحل بينه وبين الملتجأ إليه موج، وأجيب بأن التفريع لا ينافي ذلك لأن المراد فكان من غير مهلة أو هو بناءً على ظنه أن الماء لا يصل إليه، وفي الآية دلالة على غرق ساء الكفرة على أبلغ وجه، فكأن ذلك أمر مقرر الوقوع غير مفتقر إلى البيان، وفي إيراد كان دون صار مبالغة في كونه منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏وَقِيلَ ياأرض ابلعى‏}‏ أي انشفي استعير من ازدراد الحيوان ما يأكله للدلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتاد التدريجي، وتخصيص البلع بما يؤكل هو المشهور عن اللغويين، وقال الليث‏:‏ يقال‏:‏ بلع الماء إذا شربه وهو ظاهر في أنه غير خاص بالمأكول، وذكر السيد أن ذلك مجاز، وأخرج ابن المنذر‏.‏ وغيره عن وهب بن منبه أن البلع بمعنى الازدراد لغة حبشية، وأخرج أبو الشيخ عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه بمعنى الشرب لغة هندية ‏{‏مَاءكِ‏}‏ أي ما على وجهك من ماء الطوفان وعبر عنه بالماء بعد ما عبر عنه فيما سلف بأمر الله تعالى لأن المقام مقام النقص والتقليل لا مقام التفخيم والتهويل ‏{‏وياسماء أَقْلِعِى‏}‏ أي امسكي عن إرسال المطر يقال‏:‏ أقلعت السماء إذا انقطع مطرها؛ وأقلعت الحمى إذا كفت، والظاهر أن المطر لم ينقطع حتى قيل للسماء ما قيل، وهل فوران الماء كان مستمراً حتى قيل للأرض ما قيل أم لا‏؟‏ لم أر فيه شيئاً، والآية ليست نصاً في أحد الأمرين ‏{‏وَغِيضَ الماء‏}‏ أي نقص يقال‏:‏ غاضه إذا نقصه وجميع معانيه راجعة إليه‏.‏

وقول الجوهري‏:‏ غاض الماء إذا قل ونضب، وغيض الماء فعل به ذلك لا يخالفه فإن القلة عين النقصان، وتفسير ذلك بالنقص مروى عن مجاهد ‏{‏وَقُضِىَ الامر‏}‏ أي أنجز ما وعد الله تعالى نوحاً عليه السلام من إهلاك كفار قومه وإنجائه بأهله المؤمنين، وجوز أن يكون المعنى أتم الأمر ‏{‏واستوت‏}‏ استقرت يقال‏:‏ استوى على السرير إذا استقر عليه ‏{‏عَلَى الجودى‏}‏ بتشديد الياء، وقرأ الأعمش‏.‏ وابن أبي عبلة بتخفيفها وهما لغتان كما قال ابن عطية وهو جبل بالموصل‏.‏ أو بالشام‏.‏ أو بآمل بالمد وضم الميم والمشهور الأول‏.‏

وجاء في بعض الآثار أن الجبال تشامخت إذ ذاك وتواضع هو لله تعالى شأنه فأكرمه سبحانه باستواء السفينة عليه، ومن تواضع الله سبحانه رفعه، وكان استواؤها عليه يوم عاشوراء، فقد أخرج أحمد‏.‏ وغيره عن أبي هريرة قال‏:‏ «مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء فقال‏:‏ ما هذا الصوم‏؟‏ فقيل‏:‏ هذا اليوم الذي أنجى الله تعالى فيه موسى عليه السلام وبني إسرائيل من الغرق وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح وموسى عليهما السلام شكراً لله تعالى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أنا أحق بموسى عليه السلام وأحق بصوم هذا اليوم فصامه وأمر أصحابه بالصوم ‏"‏ وأخرج الأصبهاني في الترغيب عنه رضي الله تعالى عنه أنه اليوم الذي ولد فيه عيسى عليه السلام أيضاً وأن صيامه يعدل سنة مبرورة، وكان ركوبه عليه السلام فيما روي عن قتادة في عشر خلون من رجب‏.‏

وأخرج ابن جرير عن عبد العزيز بن عبد الغفور عن أبيه مرفوعاً أنه عليه السلام ركب في أول يوم من رجب فصام هو ومن معه وجرت بهم السفينة ستة أشهر فانتهى ذلك إلى المحرم فأرست السفينة على الجودي يوم عاشوراء فصام نوح عليه السلام وأمر جميع من معه من الوحش والدواب فصاموا شكراً لله‏.‏

وفي بعض الآثار أنها طافت بهم الأرض كلها ولم تدخل الحرم لكنها طافت به أسبوعاً وأن الحجر الأسود خبىء في جبل أبي قبيس وأن البيت رفع إلى السماء، وفي رواية ابن عساكر عن مجاهد أنه لم يدخل الحرم من الماء شيء، والظاهر على هذا أنه لا خبء كما أنه لا رفع، وعندي أن رواية ثبوتهما جميعاً مما لا تكاد تصح، وبفرض صحتها لا يظهر لي سر رفع البيت بلا حجر وخبء الحجر بلا بيت بل عندي في رفع البيت مطلقاً تردد، وإن كنت ممن لا يتردد في أن الله تعالى على كل شيء قدير ‏{‏وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظالمين‏}‏ أي هلاكاً لهم، واللام صلة المصدر، وقيل‏:‏ متعلق بقيل وأن المعنى قيل لأجلهم بعداً وهو خلاف الظاهر، والتعرض لوصف الظلم للإشعار بعليته للهلاك ولتذكير ما سبق في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 37‏]‏ ولا يخفى ما في هذه الآية أيضاً من الدلالة على عموم هلاك الكفرة‏.‏ ويشهد لذلك آيات أخر وأخبار كثيرة بل فيها ما هو على علاته ظاهر في عموم هلاك من على الأرض ما عدا أهل السفينة فعن عبيد بن عمير أن فيمن أصاب الغرق امرأة معها صبي لها فوضعته على صدرها فلما بلغها الماء وضعته على منكبها فلما بلغها الماء وضعته على يديها فقال الله سبحانه‏:‏ لو رحمت أحداً من أهل الأرض لرحمتها ولكن حق القول مني‏.‏

وزعم بعضهم أنه لم ينج أحد من الكفار سوى عوج بن عوق وكان الماء يصل إلى حجزته، وسبب نجاته أن نوحاً عليه السلام احتاج إلى خشب ساج فلم يمكنه نقله فحمله عوج من الشام إليه عليه السلام فنجاه الله تعالى من الغرق لذلك، وظاهر كلام «القاموس» يقتضي نجاته‏.‏ فقد ذكر فيه عوج بن عوق بضمهما رجل ولد في منزل آدم عليه السلام فعاش إلى زمن موسى عليه السلام، والحق أنه لم ينج أحد من الكفار أصلاً، وخبر عوج يرويه هيان ابن بيان فلا تعج إلى القول به ولا يشكل إغراق الأطفال الذين لا ذنب لهم لما أنه مجرد سبب للموت بالنسبة إليهم وأي محذور في إماتة من لا ذنب له وفي كل وقت يميت الله سبحانه من ذلك ما لا يحصى وهو جل شأنه المالك الحق والمتصرف المطلق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يحتاج في الجواب إلى ما أخرجه إسحاق بن بشر‏.‏

وابن عساكر عن عبد الله بن زياد بن سمعان عن رجال سماهم أن الله تعالى أعقم رجالهم قبل الطوفان بأربعين عاماً وأعقم نساءهم فلم يتوالدوا أربعين عاماً منذ دعا نوح عليه السلام حتى أدرك الصغير فبلغ الحنث وصارت لله تعالى عليهم الحجة ثم أنزل السماء عليهم بالطوفان إذ يبقى عليه مع ضعفه والتعارض بينه وبين الخبر السابق آنفاً أمر إهلاك ما لم يكن في السفينة من الحيوانات وقد جاء عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أن نوحاً عليه السلام لما حمل من حمل في السفينة رأت البهائم والوحش والسباع العذاب فجعلت تلحس قدمه عليه السلام وتقول‏:‏ احملنا معك فيقول‏:‏ إنما أمرت أن أحمل من كل زوجين اثنين ولم يحملها وكذا لا يحتاج إلى الجواب بأن الله تعالى إنما أهلك أولئك الأطفال لعلمه جل شأنه بما كانوا فاعلين وذلك كما يقال في وجه إدخال أطفال الكفار النار يوم القيامة على قول من يراه لما أن فيه ما فيه، وبالجملة إماتة الأحياء بأي سبب كان دفعة أو تدريجاً مما لا محذور فيه ولا يسئل عنه‏.‏

هذا واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان وكانت من سمهرى البلاغة مكان السنان، يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوماً لتصوف أذهانهم فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض‏:‏ هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا، ويروى أيضاً أن ابن المقفع وكان كما في «القاموس» فصيحاً بليغاً، بل قيل‏:‏ إنه أفصح أهل وقته رام أن يعارض القرآن فنظم كلاماً وجعله مفصلاً وسماه سوراً فاجتاز يوماً بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال‏:‏ أشهد أن هذا لا يعارض أبداً وما هو من كلام البشر، ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزاً لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعاً، وهي تشتمل على شيئين‏:‏ الأول‏:‏ الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني‏:‏ ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضاً؛ ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني، فلا يضر تفاوتها في البلاغة وهو الذي قاله علماء هذا الشأن، وأنشد بعض الفرس في ذلك‏:‏

در بيان ودر فصاحت كي بود يكسان سخن *** ورجه كوينده بودوجون حافظ وجون أصمعي

در كلام ايزد بيجون كه وحى منزلست *** كي بود تيت يداجون قيل‏:‏ يا أرض ابلعي

وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل وتذكير لفاضل غافل، فنقول‏:‏ ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات‏:‏ من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة‏.‏ ومن جهة الفصاحة المعنوية‏.‏ ومن جهة الفصاحة اللفظية، أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نردّ ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد‏.‏ وأن نقطع طوفان السماء فانقطع‏.‏ وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض‏.‏ وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى‏.‏ وأن نسوي السفينة عل الجودي فاستوت وأبقينا الظلمة غرقى، بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه لكمال هيبته من الآمر العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويراً لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السموات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجاداً وإعداماً ولمشيئته فيها تغييراً وتبديلاً كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معفرته وأحاطوا علماً بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده وتصوروا مزيد اقتداره فعظمت مهابته في نفوسهم وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدماً، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمماً لا تلقى لإشارته بغير الإمضاء والانقياد ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال، ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا‏:‏ ‏{‏قِيلَ‏}‏ على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب لأن الإرادة تكون سبباً لوقوع القول في الجملة وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو ‏{‏تَكُنْ أَرْضُ‏}‏ ‏{‏كُلّ سَمَاء‏}‏ إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له ثم قال سبحانه كما ترى‏:‏ ‏{‏تَكُنْ أَرْضُ‏}‏ ‏{‏كُلّ سَمَاء‏}‏ مخاطباً لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه ودخول حرف النداء عليه وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلاً‏.‏

وقد يقال‏:‏ أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناءاً على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادى المخاطب وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداءاً بل تبعاً للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلاً لمتبوعه‏؟‏ا على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل، ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو أعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي‏.‏

وفي «الكشاف» جعل البلع مستعاراً لنشف الأرض الماء وهو أولى، فإن النشف دال على جذب من أجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعدياً، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيهاً له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظة ‏{‏ابلعى‏}‏ لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء‏.‏

ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون ‏{‏ابلعى‏}‏ استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ‏{‏يَنقُضُونَ عَهْدَ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 27‏]‏ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقياً على حقيقته كالإنبات في أنبت الربيع البقل وهو بعيد، أو يجعل مستعاراً لأمر متوهم كما في نطقت الحال، فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور، ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر ترشيحاً لاستعارة النداء‏.‏

والحاصل أن في لفظ ‏{‏ابلعى‏}‏ باعتبار جوهره استعارة لغور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحاً لها، وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحاً لها فقد عرفت ما فيه، ثم قال جل وعلا‏:‏ ‏{‏مَاءكِ‏}‏ بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيهاً لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك، واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيخ، وحاصله أن هناك مجازاً لغوياً في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي ولهذا جعل الخطاب ترشيحاً لهذه الاستعارة من حيث أن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية فما قيل‏:‏ إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء، ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل ففي ‏{‏أَقْلِعِى‏}‏ استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضاً وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ، والخطاب فيه أيضاً ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في ‏{‏ابلعى‏}‏ ثم قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَغِيضَ الماء وَقُضِىَ الامر واستوت عَلَى الجودى وَقِيلَ بُعْدًا‏}‏ فلم يصرح جل وعلا بمن غاض الماء ولا بمن قضى الأمر وسوى السفينة وقال بعداً كما لم يصرح سبحانه بقائل ‏{‏تَكُنْ أَرْضُ‏}‏ ‏{‏كُلّ سَمَاء‏}‏ في صدر الآية سلوكاً في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية لأن تلك الأمور العظام لا تصدر إلا من ذي قدرة لا يكتنه قهار لا يغالب فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائلاً‏:‏ ‏{‏تَكُنْ أَرْضُ‏}‏ و‏{‏كُلّ سَمَاء‏}‏ ولا غائض ما غاض ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل، أو أن يكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره‏.‏

والحاصل أن الفعل إذا تعين لفاعلبعينه استتبع لذلك أن يترك ذكره ويبني الفعل لمفعوله، أو يذكر ما هو أثر لذلك الفعل على صيغة المبني للفاعل، ويسند إلى ذلك المفعول فيكون كناية عن تخصيص الصفة التي هي الفعل بموصوفها، وهذا أولى مما قيل في تقرير الكناية هنا‏:‏ إن ترك ذكر الفاعل وبناء الفعل للمفعول من لوازم العلم بالفعل وتعينه لفاعلية ذلك الفعل فذكر اللازم وأريد الملزوم لما أن استوت غير مبني للمفعول كقيل وغيض ثم إنه تعالى ختم الكلام بالتعريض تنبيهاً لسالكي مسلك أولئك القوم في تكذيب الرسل عليهم السلام ظلماً لأنفسهم لا غير ختم إظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه وأن قيامه الطوفان وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلا لظلمهم كما يؤذن بذلك الدعاء بالهلاك بعد هلاكهم والوصف بالظلم مع تعليق الحكم به، وذكر بعضهم أن البعد في الأصل ضد القرب وهو باعتبار المكان ويكون في المحسوس، وقد يقال في المعقول نحو ‏{‏ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 167‏]‏ واستعماله في الهلاك مجاز، قال ناصر الدين‏:‏ يقال بعد بعداً بضم فسكون وبعداً بالتحريك إذا بعد بعداً بعيداً بحيث لا يرجى عوده، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء ولم يفرق في القاموس بين صيغتي الفعل في المعنيين حيث قال‏:‏ البعد معروف والموت وفعلهما ككرم‏.‏ وفرح بعداً وبعداً فافهم‏.‏

وزعم بعضهم أن الأرض والسماء أعطيتا ما يعقلان به الأمر فقيل لهما حقيققة ما قيل، وأن القائل ‏{‏بُعْدًا‏}‏ نوح عليه السلام ومن معه من المؤمنين، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر ولا أثر فيه يعول عليه، والكلام على الأول أبلغ، وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها فذلك أنه اختير ‏{‏يا‏}‏ دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال وأنها دالة على بعد المبادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به ولم يقل ‏{‏تَكُنْ أَرْضُ‏}‏ بالكسر لأن الإضافة إلى نفسه جل شأنه تقتضي تشريفاً للأرض وتكريماً لها فترك إمداداً للتهاون لم يقل يا أيتها الأرض مع كثرته في نداء أسماء الأجناس قصداً إلى الاختصار والاحتراز عن تكلف التنبيه المشعر بالغفلة التي لا تناسب ذلك المقام، واختير لفظ الأرض والسماء على سائر أسمائهما كالمقلة والغبراء وكالمظلة والخضراء لكونهما أخصر وأورد في الاستعمال وأوفى بالمطابقة، فإن تقابلهما إنما اشتهر بهذين الاسمين، واختير لفظ ‏{‏ابلعى‏}‏ على ابتعلي لكونه أخصر وأوفر تجانساً باقلعي لأن همزة الوصل إن اعتبرت تساوياً في عدد الحروف وإلا تقاربا فيه بخلاف ابتلعي، وقيل‏:‏ دماءك‏}‏ بالافراد دون الجمع لما فيه من صورة الاستكثار المتأبى عنها مقام إظهار الكبرياء وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء وإنما لم يقل ‏{‏‏}‏ بالافراد دون الجمع لما فيه من صورة الاستكثار المتأبى عنها مقام إظهار الكبرياء وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء وإنما لم يقل ‏{‏ابلعى‏}‏ بدون المفعول لئلا يستلزم تركه ما ليس بمراد كم تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن نظراً إلى مقام عظمة الآمر المهيب وكمال انقياد المأمور، ولما علم أن المراد بلع الماء وحده علم أن المقصود بالاقلاع إمساك المساء عن إرسال الماء فلم يذكر متعلق ‏{‏أَقْلِعِى‏}‏ اختصاراً واحترازاً عن الحشو المستغنى عنه وهذا هو السبب في ترك ذكر حصول المأمور به بعد الأمر فلم يقل ‏{‏قِيلَ يانوح أَرْضُ ابلعى‏}‏ فبلعت ‏{‏مَاءكِ وياسماء أَقْلِعِى‏}‏ فقلت لأن مقام الكبرياء وكمال الانقياد يغني عن ذكره الذي ربما أوهم إمكان المخالفة، واختير غيض على غيض المشدد لكونه أخصر‏.‏

وقيل‏:‏ الماء دون ماء طوفان السماء، وكذا الأمر دون أمر نوح وهو إنجاز ما وعد لقصد الاختصار، والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك لأنه إما بدل من المضاف إليه كما هو مذهب الكوفية، وإما لأنه يغني غناء الإضافة في الإشارة إلى المعهود، واختير استوت على سويت أي أقرت مع كونه أنسب بأخواته المبنية للمفعول اعتباراً لكون الفعل المقابل للاستقرار أعني الجريان منسوباً إلى السفينة على صيغة المبني للفاعل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 42‏]‏ مع أن ‏{‏استوت‏}‏ أخصر من سويت، واختير المصدر أعني ‏{‏أَلاَ بُعْدًا‏}‏ على ليبعد القوم طلباً لتأكيد معنى الفعل بالمصدر مع الاختصار في العبارة وهو نزول ‏{‏بُعْدًا‏}‏ وحده منزلة ليبعدوا بعداً مع فائدة أخرى هي الدلالة على استحقاق الهلاك بذكر اللام، وإطلاق الظلم عن مقيداته في مقام المبالغة يفيد تناول كل نوع فيدخل فيه ظلمهم على أنفسهم لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في التكذيب من حيث أن تكذيبهم للرسل ظلم على أنفسهم لأن ضرره يعود إليهم، هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم، وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل فذلك أنه قدم النداء على الأمر فقيل‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ ياأرض ابلعى‏}‏ ‏{‏مَاءكِ وياسماء أَقْلِعِى‏}‏ دون أن يقال‏:‏ ابلعي يا أرض، واقلعي يا سماء جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأموراً حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادي قصداً بذلك لمعنى الترشيح للاستعارة المكنية في الأرض والسماء، ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء لكونها الأصل نظراً إلى كون ابتداء الطوفان منها حيث فار تنورها أولا، ثم جعل قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَغِيضَ الماء‏}‏ تابعاً لأمر الأرض والسماء لاتصاله بقصة الماء وأخذه بحجزتها، ألا ترى أصل الكلام ‏{‏قِيلَ يانوح أَرْضُ ابلعى مَاءكِ‏}‏ فبلعت ماءها ‏{‏مَاءكِ وياسماء أَقْلِعِى‏}‏ عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله ‏{‏وَغِيضَ الماء‏}‏ النازل من السماء فغاض‏.‏

وقيد الماء بالنازل وإن كان في الآية مطلقاً لأن ابتلاع الأرض ماءها فهم من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ابلعى مَاءكِ‏}‏‏.‏

واعترض بأن الماء المخصوص بالأرض إن أريد به ما على وجهها فهو يتناول القبيلين الأرضي والسمائي وإن أريد به ما نبع منها فاللفظ لا يدل عليه بوجهه، ولهذا حمل الزمخشري الماء على مطلقه، وأشعر كلامه بأن غيض الماء إخبار عن الحصول المأمور به من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏المغرقين وَقِيلَ ياأرض ابلعى مَاءكِ وياسماء أَقْلِعِى‏}‏ فالتقدير قيل لهما ذلك فامتثلا الأمر ونقص املاء‏.‏

ورجح الطيبي ما ذهب إليه الكساكي زاعماً أن معنى الغيض حينئذ ما قاله الجوهري، وهو عنده مخالف للمعني الذي ذكره الزمخشري فقال‏:‏ إن إضافة الماء إلى الأرض لما كانت ترشيحاً للاستعارة تشبيهاً لاتصاله بها باتصال الملك بالمالك ولذا جيء بضمير الخطاب اقتضت إخراج سائر المياه سوى الذي بسببه صارت الأرض مهيأة للخطاب بمنزلة المأمور المطيع وهو المعهود في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَفَارَ التنور‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 40‏]‏ وبهذا الاعتبار يحصل التواغل في تناسي التشبيه والترشيح، ولو أجريت الإضافة على غير هذا تكون كالتجريد وكم بينهما، هذا ولو حمل على العموم لاستلزم تعميم ابتلاعه المياه بأسرها لورود الأمر من مقام العظمة كما علمت من كلام السكاكي، وليس بذاك، وتعقبه في الكشف بأنه دعوى بلا دليل ورد يمين إذ لا معهود، والظاهر ما على وجه الأرض من الماء ولا ينافي الترشيح وإضافة المالكية، ثم الظاهر من تنزيل الماء منزلة الغذاء أن تجعل الإضافة من باب إضافة الغذاء إلى المغتذي في النفع والتقوية وصيرورته جزءاً منه ولا نظر فيه إلى كونه مملوكاً أو غير ذلك، وأما التعميم فمطلوب وحاصل على التفسيرين لانحصار الماء في الأرض والسمائي، وقد قلتم بنضوبهما من قوله سبحانه فبلعت‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَغِيضَ‏}‏ ولا شك أن ما عندنا من الماء غير ماء الطوفان، هذا والمطابق تفسير الزمخشري، ألا ترى إلى قوله جل وعلا‏:‏

‏{‏فَالْتَقَى الماء‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 12‏]‏ أي الأرضي والسمائي، وههنا تقدم الماءان في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَاءكِ وياسماء سَمَاء *أَقْلِعِى‏}‏ لأن تقديره عن إرسال الماء على زعمهم، فإذا قيل‏:‏ وغيض المار رجع إليهما لا محالة لتقدمهما، ثم إذا جعل من توابع ‏{‏أَقْلِعِى‏}‏ خاصة لم يحسن عطفه على أصل القصة أعني ‏{‏وَقِيلَ ياأرض أَرْضُ *ابلعى‏}‏ كيف وفي إيثار هذا التفسير الإشارة إلى أنه زال كونه طوفانا لأن نقصان الماء غير الإذهاب بالكلية، وإلى أن الأجزاء الباطنة من الأرض لم تبق على ما كانت عليه من قوة الانباع ورجعت إلى الاعتدال المطلوب وليس في الاختصاص بالنضوب هذا المعنى البتة انتهى‏.‏

وزعم الطبرسي أن أئمة البيت رضي الله تعالى عنهم على أن الماء المضاف هو ما نبع وفار وأنه هو الذي ابتلع‏.‏ وغاض لا غير، وأن ماء السماء صار بحاراً وأنهاراً‏.‏

وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن ابن عباس ما يؤيده، وهذا مخالف لما يقتضيه كلام السكاكي مخالفة ظاهرة، وفي القلب من صحته ما فيه، ثم إنه تعالى أتبع غيض الماء ما هو المقصود الأصلي من القصة، وهو قوله جلت عظمتته‏:‏ ‏{‏وَقُضِىَ الامر‏}‏ ثم أتبع ذكر المقصود حديث السفينة لتأخره عنه في الوجود، ثم ختمت القصة بالتعريض الذي علمته، هذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة، وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف‏.‏ وتأدية لها ملخصة مبينة لا تعقيد يعثر الكفر في طلب المراد ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد بل إذا جربت نفسك عند استماعها‏.‏ وجدت ألفاظها تسابق معانيها ومعانيها تسابق ألفاظها فما من لفظة فيها تسبق إلى أذنك إلا ومعناها أبق إلى قلبك، وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة جارية على قوانين اللغة سليمة عن التنافر بعيدة عن البشاعة عذبة على العذبات سلسة على الاسلات كل منها كالماء في السلالة والكعسل في الحلاوة والكنسيم في الرقة، ولله تعالى در التنزيل ماذا جمعت ياته‏:‏

وعلى تفنن واصفيه بحسنه *** يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف

وما ذكر في مزايا هذه الآية بالنسبة إلى ما فيها قطرة من حياض‏.‏ وزهرة من رياض، وقد ذكر ابن أبي الاصبع أن فيها عشرين ضرباً من البديع من أنها سبع عشرة لفظة وذلك المناسبة التامة في ‏{‏ابلعى‏}‏ و‏{‏أَقْلِعِى‏}‏ والاستعارة فيهما والطباق بين الأرض والسماء والمجاز في ‏{‏كُلّ سَمَاء‏}‏ فإن الحقيقة يا مطر السماء، والإشارة في ‏{‏وَغِيضَ الماء‏}‏ فإنه عبر به عن معان كثيرة لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها فينقص ما على وجه الأرض، والإرداف في ‏{‏واستوت‏}‏ والتمثيل في ‏{‏وَقُضِىَ الامر‏}‏ والتعليل فإن غيض الماء علة للاستواء وصحة التقسيم فإنه استوعب أقسام الماء حال نقصه والاحتراس في الدعاء لئلا يتوهم أن الغرق لعمومه شمل من لا يستحق الهلاك فإن عدله تعالى يمنع أن يدعو على غير مستحق، وحسن النسق وائتلاف اللفظ مع المعنى والايجاز فإنه سبحانه قص القصة مستوعبة بأخصر عبارة، والتسهيم لأن أول الآية يدل على آخرها، والتهذيب لأن مفرداتها موصوفة بصفات الحسن، وحسن البيان من جهة أن السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام ولا يشكل عليه شيء منه، والتمكين لأن الفاصلة مستقرة من محلها مطمئنة في مكانها، والانسجام، وزاد الجلال السيوطي بعد أن نقل هذا عن ابن أبي الأصبع الاعتراض، وزاد آخرون أشياء كثيرة إلا أنها ككلام ابن أبي الأصبع قد أشير إليها بأصبع الاعتراض، وقد ألف شيخنا علاء الدين أعلى الله تعالى درجته في أعلى عليين رسالة في هذه الآية الكريمة جمع فيها ما ظهر له ووقف عليه من مزاياها فبلغ ذلك مائة وخمسين مزية، وقد تطلبت هذه الرسالة لأذكر شيئاً من لطائفها فلم أظفر بها وكأن طوفان الحوادث أغرقها، ولعل فيما نقلناه سداداً من عوز، والله تعالى الموفق للصواب وعنده علم الكتاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ‏}‏ أي أراد ذلك بدليل تفريع قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى‏}‏ عليه، وقيل‏:‏ النداء على حقيقته والعطف بالفاء لكون حق التفصيل يعقب الإجمال ‏{‏وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق‏}‏ أي وإن وعدك ذلك أوكل وعد تعده حق لا يتطرق إليه خلف فيدخل فيه الوعد المعهود دخولاً أولياً‏.‏

‏{‏وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين‏}‏ لأنك أعلمهم وأعدلهم، وقد ذكر أنه إذا بني أفعل من الشيء الممتنع من التفضيل والزيادة يعتبر فيما يناسب معناه معنى الممتنع، وقال العز بن عبد السلام في أماليه‏:‏ إن هذا ونحوه من أرحم الراحمين وأحسن الخالقين مشكل لأن أفعل لا يضاف إلا إلى جنسه، وهنا ليس كذلك لأن الخلق من الله سبحانه بمعنى الإيجاد ومن غيره بمعنى الكسب وهما متباينان يعني على المشهور من مذهب الأشاعرة، والرحمة من الله تعالى إن حملت على الإرادة أو جعلت من مجاز التشبيه صح وإن أريد إيجاد فعل الرحمة كان مشكلاً أيضاً إذ لا موجد سواه سبحانه، وأجاب الآمدي بأنه بمعنى أعظم من يدعي بهذا الاسم، واستشكل بأن فيه جعل التفاضل في غير ما وضع اللفظ بإزائه وهو يناسب مذهب المعتزلة فافهم، وقيل‏:‏ المعنى هنا أنك أكثر حكمة من ذوي الحكم على أن الحاكم من الحكم كالدارع من الدرع، واعترض عليه بأن الباب ليس بقياسي وأنه لم يسمع حاكم بمعنى حكيم وأنه لا يبنى منه أفعل إذاً لأنه ليس جارياً على الفعل لا يقال‏:‏ ألبن وأتمر من فلان إذ لا فعل بذلك المعنى، والجواب بأنه قد كثر في كلامهم فجوز على أن يكون وجهاً مرجوحاً وبأنه من قبيل أحنك الشاتين لا يخلو عن تعسف كما في الكشف، وتعقب بأن للحكمة فعلا ثلاثياً وهو حكم، وأفعل من الثلاثي مقيس، وأيضاً سمع احتنك الجراد‏.‏ وألبن‏.‏ وأتمر فغايته أن يكون من غير الثلاثي ولا يخفى ما فيه، ومنهم من فسره على هذا بأعلمهم بالحكمة كقولهم؛ آبل من أبل بمعنى أعلم‏.‏ وأحذف بأمر الإبل، وأياً مّا كان فهذا النداء منه عليه السلام يقطر منه الاستعطاف، وجميل التوسل إلى من عهده منعاً مفضلاً في شأنه أولاً وآخراً وهو على طريقة دعاء أيوب عليه السلام ‏{‏إِذْ نادى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 83‏]‏ فيكون ذلك قبل الغرق، والواو لا تقتضي الترتيب، وقيل‏:‏ إن النداء إنما كان بعده والمقصود منه الاستفسار عن سبب عدم إنجائه مع سبق وعده تعالى بإنجاء أهله وهو منهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريباً تمام الكلام في ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ‏}‏ استئناف بياني كأنه قيل، ما قال له ربه سبحانه حين ناداه بذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ قال‏:‏ ‏{‏قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ‏}‏ أي ليس منهم أصلا لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية وقد انقطعت بالكفر فلا علاقة بين مسلم وكافر ولذا لم يتوارثا، وقد ذكروا أن قرابة الدين أقرب من قرابة النسب كما أشار إلى ذلك أبو فراس بقوله‏:‏

كانت مودة سلمان له نسبا *** ولم يكن بين نوح وابنه رحم

أو ‏{‏لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ‏}‏ الذين أمرتك بحملهم في الفلك لخروجه عنه بالاستثناء، وحكى هذا عن ابن جرير‏.‏ وعكرمة، والأول عن ابن عباش رضي الله تعالى عنهما؛ وعلى القولين ليس هو من الذين وعد بإنجائهم، وكأنه لما كان دعاؤه عليه السلام بتذكير وعده جل ذكره مبنياً على كون كنعان من أهله نفى أولا كونه منهم، ثم علل عدم كونه منهم على طريقة الاستئناف التحقيقي بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح‏}‏ وأصله إنه ذو عمل فاسد فحذف ذو للمبالغة بجعله عين عمله لمداومته عليه، ولا يقدر المضاف لأنه حينئذ تفوت المبالغة المقصودة منه، ونظير ذلك ما في قول الخنساء ترثي أخاها صخراً‏:‏

ما أم سقب على بو تحن له *** قد ساعدتها على التحنان آظار

ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت *** فإنما هي إقبال وإدبار

يوماً بأوجع مني حين فارقني *** صخر وللعيش إحلاء وإمرار

وأبدل فاسد بغير صالح إما لأن الفاسد ربما يطلق على ما فسد ومن شأنه الصلاح فلا يكون نصاً فيما هو من قبيل الفاسد المحض كالمظالم، وإما للتلويح بأن نجاة من نجاة إنما هو لصلاحه‏.‏

وقرأ الكسائي‏.‏ ويعقوب ‏{‏إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح‏}‏ على صيغة الفعل الماضي، ونصب ‏{‏غَيْرِ‏}‏ وهي قراءة على كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وابن عباس‏.‏ وأنس‏.‏ وعائشة، وقد روتها هي وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل عمل عملاً غير صالح، وبه قرء أيضاً كما روي عن عكرمة فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه، وذلك شائع مطرد عند انكشاف المعنى وزوال اللبس، وضعفه بعضهم هنا بأن العرب لا تكاد تقول‏:‏ ‏{‏عَمَلٌ غَيْرُ صالح‏}‏ وإنما تقول عمل عملاً غير صالح، وليس بشيء، وأيد بهذه القراءة كون ضمير إنه في القراءة الأولى لابن نوح لأنه فيها له قطعاً فيضعف ما قيل‏:‏ إنه في الأولى لترك الركوب معهم والتخلف عنهم أي إن ذلك الترك ‏{‏عَمَلٌ غَيْرُ صالح‏}‏ على أنه خلاف الظاهر في نفسه كما لا يخفى‏.‏ ومثله في ذلك ما قيل‏:‏ إنه لنداء نوح عليه السلام أي إن نداءك هذا ‏{‏عَمَلٌ غَيْرُ صالح‏}‏ وتخرج بذلك الجملة عن أن تكون تعليلاً لما تقدم ويفوتما في ذاك من الفائدة ولا يكون الكلام على مساق واحد، نعم روي عن ابن عباس ما يقتضيه فقد أخرج ابن أبي حاتم‏.‏

وأبو الشيخ عنه أنه قال‏:‏ إن نساء الأنبياء عليهم السلام لا يزنين، ومعنى الآية مسألتك إياي يا نوح ‏{‏عَمَلٌ غَيْرُ صالح‏}‏ لا أرضاه لك‏.‏

وفي رواية ابن جرير عنه سؤال ما ليس لك به علم عمل غير صالح، ولعل ذلك لم يثبت عن هذا الحبر لأن الظاهر من الرواية الأولى أنه إنما جعل الضمير للمسألة دون ابن نوح لما في ذلك من نسبة الزنا إلى من لا ينسب إليه وهو رضي الله تعالى عنه أجل قدراً من أن يخفى عليه أنه لا يلزم من ذلك هذا المحذور، ثم إنه لما كان دعاؤه عليه السلام مبنياً على كون كنعان من أهله وقد نفى ذلك وحقق ببيان علته فرع على ذلك النهي عن سؤال إنجائه إلا أنه جيء بالنهي على وجه عام يندرج فيها ما ذكر اندراجاً أولياً فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلا‏}‏ أي إذا وقفت على جلية الحال فلا تطلب مني ‏{‏تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ أي مطلباً لا تعلم يقيناً أن حصوله صواب وموافق للحكمة على تقدير كون ‏{‏مَا‏}‏ عبارة عن المسؤول الذي هو مفعول للسؤال أو طلباً لا تعلم أنه صواب على تقدير كونه عبارة عن المصدر الذي هو مفعول مطلق فيكون انلهي وارداً بصريحه في كل من معلوم الفساد ومشتبه الحال قاله شيخ الإسلام، وجوز أن يكون ما ليس لك علم بأنه صواب أو غير صواب وهو الذي ذهب إليه القاضي فيكون النهي وارداً في مشتبه الحال ويفهم منه حال معلوم الفساد بالطريق الأولى، وأياً مّا كان فهو عام يندرج تحته ما نحن فيه كما ذكرنا، وسمي النداء سؤال لتضمنه إياه وإن لم يصرح به كما لا يخفى، وبه على ما نقل عن أبي علي إما متعلق بما يدل عليه العلم المذكور وإن لم يتسلط عليه كقوله‏:‏

ربيته حتى إذا تمعددا

كان جزائي بالعصا أن أجلدا *** وإما أن يتعلق بالمستقر في ذلك وكذا الكلام فيما سيأتي إن شاء الله تعالى، والآية ظاهرة في أن نداءه عليه السلام لم يكن استفساراً عن سبب عدم إنجائه مع تحقق سبب الإنجاء فيما عنده كما جوزه القاضي بناءاً على أنه كان بعد الفرق بل هو دعاء منه عليه السلام لانجاء ابنه حين حال الموج بينهما ولم يعلم بهلاكه بعد إما بتقريبه إلى الفلك بتلاطم الأمواج مثلاً أو بتقريبها إليه، وقيل‏:‏ أو بإنجائه بسبب آخر ويأباه تذكير الوعد في الدعاء فإنه مخصوص بالإنجاء في الفلك، ومجرد حيلولة الموج لا يستوجب الهلاك فضلاً عن العلم به لظهور إمكان عصمة لله تعالى عليه إياه برحمته، وقد وعده بإنجاء أهله ولم يعتقد أن فيه مانعاً من الانتظام في سلكهم لمكان النفاق وعدم المجاهرة بالكفر لما في ذلك لفظاً من الاحتياج إلى القول بالحذف والايصال، ومعنى من أن النهي عن الاستفسار عما لا يعلم غير موافق للحكمة إذ عدم العلم بالشيء داع إلى الاستفسار عنه لا إلى تركه‏.‏

وقيل‏:‏ إن السؤال عن موجب عدم النجاة مع ما فيه من الجرأة، وشبه الاعتراض فيه أنه تعين له عليه السلام أنه من المستثنين بهلاكه فهو غير سديد كيف ونداؤه ذاك مما يقطر منه الاستعطاف‏.‏

وقيل‏:‏ إن النهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة إليه إما لأنه لا يهمّ أو لأنه قامت القرائن على حاله لا عن السؤال للاسترشاد فلا ضير إذن في كلام القاضي وهو كما ترى‏.‏

ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر *** فالحق أن ذلك مسألة الانجاء، وكان قبل تحقق الغرق عند رؤية المشارفة عليها ولم يكن عالماً بكفره إذ ذاك لأنه لم يكن مجاهراً به وإلا لم يدع له بل لم يدعه أيضاً ‏{‏وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 24‏]‏ لا يدل على أنه كافر عنده بل هو نهي عن الدخول في غمارهم، وقطع بأن ذلك يوجب الغرق على الطريق البرهاني كما قدمنا، وكأنه عليه السلام حمل مقاولته على غير المكابرة والتعنت لغلبة المحبة وذهوله عن إعطاء التأمل حقه فلذلك طلب ما طلب، فعوتب بأن مثله في معرض الإرشاد والقيام بأعباء الدعوة تلك المدة المتطاولة لا ينبغي أن يشتبه عليه كلام المسترشد والمعاند، ويرجع هذا إلى ترك الأولى، وهو المراد بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين‏}‏‏.‏

وذكر شيخ الإسلام أن اعتزاله قصده الالتجاء إلى الجبل ليس بنص في الإصرار على الكفر لظهور جواز أن يكون ذلك لجهله بانحصار النجاة في الفلك، وزعمه أن الجبل أيضاً يجري مجراه أو لكراهة الاحتباس في الفلك بل قوله‏:‏ ‏{‏سَاوِى إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 43‏]‏ بعد ما قال له نوح ‏{‏وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين‏}‏ ربما يطمعه عليه السلام في إيمانه حيث لم يقل أكون معهم أو سنأوي أو يعصمنا فإن إفراد نفسه بنسبة الفعلين المذكورين ربما يشعر بانفراده من الكافرين واعتزاله عنهم وامتثاله ببعض ما أمره به نوح عليه السلام إلا أنه عليه السلام لو تأمل في شأنه حق التأمل وتفحص عن أحواله في كل ما يأتي وما يذر لما اشتبه عليه أنه ليس بمؤمن وأنه مستثنى من أهله ولذلك قيل له‏:‏ ‏{‏إِنّى‏}‏ الخ، وهو ظاهر في أن مدار العتاب الاستباه كما ذكرنا، وإليه ذهب الزمخشري قال‏:‏ إن الله تعالى قدم إليه عليه السلام الوعد بانجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم فكان عليه أن يعتقد أن في الجملة من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح وأن كلهم ليسوا بناجين وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثني منهم فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه، وكأنه أراد أن الاستثناء دل على أن المعنى المعتبر الصلاح لا القرابة فكان ينبغي أن يجعله الأصل ويتفحص في الأهل عن وجوده، وأن يجعل كلهم سواسية في استحقاق العذاب إلا من علم صلاحه وإيمانه لا أن يجعل كونه من الأهل أصلاً فيسأل إنجاءه مع الشك في إيمانه فقد قصر فيما كان عليه بعض التقصير وأولى العزم مؤاخذون بالنقير والقطمير وحسنات الأبرار سيئات المقربين، وابن المنير لم يرض كون ذلك عتاباً قال‏:‏ وفي كلام الزمخشري ما يدل على أنه يعتقد أن نوحاً عليه السلام صدر منه ما أوجب نسبة الجهل إليه ومعاتبته على ذلك وليس الأمر كما تخيله، ثم قال‏:‏ ونحن نوضح أن الحق في الآية منزلاً على نصها مع تبرئة نوح عليه السلام مما توهم الزمخشري نسبته إليه فنقول‏:‏ لما وعد عليه السلام بتنجية أهله إلا من سبق عليه القول منهم ولم يكن كاشفاً لحال ابنه ولا مطلعاً على باطن أمره بل كان معتقداً بظاهر الحال أنه مؤمن بقي على التمسك بصيغة العموم للأهلية الثابتة ولم يعارضها يقين في كفر ابنه حتى يخرج من الأهل ويدخل في المستثنين فسأل الله تعالى فيه بناءاً على ذلك فبين له أنه في علمه من المستثنين وأنه هو لا علم له بذلك فلذلك سأل فيه، وهذا بأن يكون إقامة عذر أولى منه من أن يكون عتبا فإن نوحاً عليه السلام لا يكلفه الله تعالى علم ما استأثر به غيباً؛ وأما قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنّى أَعِظُكَ‏}‏ الخ فالمراد النهي عن وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه سبحانه باطن أمره وأنه إن وقع في المستقبل في السؤال كان من الجاهلين، والغرض من ذلك تقديم ما يبقيه عليه السلام على سمت العصمة، والموعظة لا تستدعي وقوع ذنب بل المقصد منها أن لا يقع الذنب في الاستقبال ولذلك امتثل عليه السلام ذلك واستعاذ بالله سبحانه أن يقع منه ما نهى عنه بم كما يدل عليه قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ‏}‏ ولا يخفي سقوطه على ما علمت وهو خلاف الظاهر جداً، وقد جاء عن الفضيل بن عياض أنه قال‏:‏ بلغني أن نوحاً عليه السلام بكى عن قول الله تعالى له ما قال أربعين يوماً، وأخرج أحمد في الزهد عن وهيب بن الورد الحضرمي قال‏:‏ لما عاتب الله تعالى نوحاً في ابنه وأنزل عليه ‏{‏إِنّى أَعِظُكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 46‏]‏ بكى ثلثمائة عام حتى صار تحت عينيه مثل الجدول من البكاء‏.‏

وزعم الواحدي أن السؤال قبل الغرق ومع العلم بكفره، وذلك أن نوحاً عليه السلام لم يعلم أن سؤاله ربه نجاة ولده محظور عليه مع إصراره على الكفر حتى أعلمه الله تعالى ذلك، واعترض بأنه إذا كان عالماً بكفره مع التصريح بأن في أهله من يستحق العذاب كان طلب النجاة منكراً من المناكير فتدبر، والظاهر على ما قررنا أن قوله‏:‏ ‏{‏رَبّ‏}‏ الخ توبة مما وقع منه عليه السلام وما هنا أيضاً عبارة إما عن المسؤول أو عن السؤال أي أعوذ بك أن أطلب منك من بعد مطلوباً لا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة أو طلباً لا أعلم أنه صواب سواء كان معلوم الفساد أو مشتبه الحال، أولا أعلم أنه صواب أو غير صواب، ولم يقل أعوذ بك منك أو من ذلك مبالغة في التوبة وإظهاراً للرغبة والنشاط فيها وتبركا بذكر ما لقنه الله تعالى وهو أبلغ من أن يقول‏:‏ أتوب إليك أن أسألك لما فيه من الدلالة على كون ذلك أمراً هائلاً محذوراً لا محيص منه إلا بالعوذ بالله تعالى وأن قدرته عليه السلام قاصرة عن النجاة من المكاره إلا بذلك كما في إرشاد العقل السليم، واحتمال أن يكون فيه رد وإنكار نظير ما في ‏[‏البقرة‏:‏ 67‏]‏ من قول موسى عليه السلام ‏{‏أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين‏}‏ مما لا يكاد يمر بفكر أحد من الجاهلين‏.‏

هذا وفي مصحف ابن مسعود ‏{‏إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح‏}‏ أن تسألني، ورجح به كون ضمير ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ في القراءة المتواترة للنداء المتضمن للسؤال، وقرأ ابن كثير ‏{‏فَلاَ تَسْأَلْنى‏}‏ بفتح اللام وتشديد النون مفتوحة وهي قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكذا قرأ نافع‏.‏ وابن عامر غير أنهما كسرا النون على أن أصله تسألنني فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء ثم حذفت الياء اكتفاءاً بالكسرة، وقرأ أبو جعفر‏.‏ وشيبة‏.‏ وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما كذلك إلا أنهم أثبتوا الياء بعد النون وأمره ظاهر، وقرأ الحسن‏.‏ وابن أبي مليكة ‏{‏تَسْأَلْنى‏}‏ من غير همز من سال يسال فهما يساولان، وهي لغة سائرة، وقرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام وكسر النون وتخفيفها‏.‏

وأثبت الياء في الوصل ورش‏.‏ وأبو عمرو، وحذفها الباقون ‏{‏وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى‏}‏ ما صدر عني من السؤال المذكور ‏{‏وَتَرْحَمْنِى‏}‏ بقبول توبتي ‏{‏أَكُن مّنَ الخاسرين‏}‏ أعمالاً بسبب ذلك وتأخير ذكر هذا عن حكاية الأمر الوارد على الأرض والسماء وما يتلوه مع أن حقه أن يذكر عقيب قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَكَانَ مِنَ المغرقين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 43‏]‏ حسبما وقع في الخارج على ما علمت من أن النداء كان لطلب الإنجاء قبل العلم بالهلاك قيل‏:‏ ليكون على أسلوب قصة البقرة في سورتها دلالة على استقلال هذا المعنى بالغرض لما فيه من النكت من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب وأن لا يقدم في الأمور الدينية الأصولية إلا بعد اليقين، وتعقب بالفرق بين ما هنا وما هناك عند من كان ذا قلب، وما ذكر من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب الخ لا يفوت على تقديرسوق الكلام على ترتيب الوقوع أيضاً‏.‏

واختار بعض المحققين أن ذلك لأن ذكر هذا النداء كما ترى مستدع لما مر من الجواب المستدعي لذكر توبته عليه السلام المؤدي إلى ذكر قبولها في ضمن الأمر بهبوطه عليه السلام من الفلك بالسلام والبركات الفائضة عليه وعلى المؤمنين حسبما يجيء إن شاء الله تعالى، ولا ريب أن هذه المعاني آخذ بعضها بحجرة بعض بحيث لا تكاد تفرق الآيات الكريمة المنطوية عليها بعضها من بعض وأن ذلك إنما يتم بتمام القصة، وذلك إنما يكون بتمام الطوفان فلا جرم اقتضى الحال ذكر تمامها قبل هذا النداء وهو إنما يكون عند ذكر كون كنعان من المغرقين، ولهذه النكتة ازداد حسن موقع الإيجاز البليغ، وفيه فائدة أخرى هي التصريح بهلاكه من أول الأمر ولو ذكر النداء بعد ‏{‏فَكَانَ مِنَ المغرقين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 43‏]‏ لربما توهم من أول الأمر إلى أن يرد أنه ليس من أهلك الخ أنه ينجو بدعائه فنص على هلاكه، ثم ذكر القصة على وجه أفحم مصاقع البلغاء، ثم تعرض لما وقع في تضاعيف ذلك مما جرى بين نوح عليه السلام ورب العزة جلت حكمته وعلت كلمته، ثم ذكر بعد توبته عليه السلام قبولها

‏[‏بم بقوله عز وجل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏قِيلَ يانوح نُوحٌ اهبط‏}‏ الخ وهو من الحسن بمكان، وبنى الفعل لما لم يسم فاعله لظهور أن القائل هو الله تعالى، وقيل‏:‏ القائل الملائكة عليهم السلام والهبوط النزول قيل‏:‏ أي أنزل من الفلك، وقيل‏:‏ من الجبل إلى الأرض وذلك أنه روي أن السفينة استوت على الجودى في عاشر ذي الحجة فأقام بمن معه هناك شهراً، ثم قليل له‏:‏ اهبط فهبط بأرض الموصل وبنى قرب الجبل قرية يقال لها‏:‏ قرية الثمانين عدد من في السفينة، وفي رواية عن ابن عباس أنه بنى كل منهم بيتاً فسميت سوق الثمانين‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن عمر رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ لما استقرت السفينة على الجودي لبث نوح عليه السلام ما شاء الله تعالى، ثم إنه أذن له بالهبوط فهبط على الجبل فدعا الغراب فقال‏:‏ ائتني بخبر الأرض، فانحدر إلى الأرض وفيها الغرقى من قوم نوح فوقع على جيفة منهم فأبطأ عليه فلعنه، ودعا الحمامة فوقفت على كفه فقال‏:‏ اهبطي فأتني بخبر الأرض فانحدرت فلم تلبث قليلاً حتى جاءت تنفض ريشها بمنقارها فقالت‏:‏ اهبط فقد أنبتت الأرض فقال نوح‏:‏ بارك الله تعالى فيك وفي بيت يأويك وحببك إلى الناس ولولا أن يغلبك الناس على نفسك لدعوت الله سبحانه أن يجعل رأسك من الذهب، والظاهر عندي أن الهبوط من الجودي الذي استقرت عليه السفينة إلى الأرض، وليس في الكلام ما يستدعي أن يكون بعد الاستقرار بلا مهلة ليقال‏:‏ إن ما تحت الجبل مغمور إذ ذاك بالماء، والتعبير بالهبوط على هذا في غاية الظهور، ولعل ذلك على أن يكون المراد من السفينة لمكان الركوب، وخبر الحمامة‏.‏ والغراب قد طار في الآفاق وأولع به القصاصون، والله تعالى أعلم بصحته، وغالب الظن أنه لم يصح، وكذا اشتهر خبر قرية الثمانين في أرض الموصل وأنها لما ضاقت عليهم تحولوا إلى باب فبنوها‏.‏

وأخرج ابن عساكر عن كعب الأحبار أنه قال‏:‏ أول حائط وضع على وجه الأرض بعد الطوفان حائط حران ودمشق ثم بابل‏.‏ وقرىء ‏{‏اهبط‏}‏ بضم الباء ‏{‏بسلام‏}‏ أي ملتبساً بسلامة مما تكره كائنة ‏{‏مِنَّا‏}‏ أي من جهتنا، ويجوز أن يكون السلام بمعنى التسليم والتحية أي مسلماً عليك من جهتنا ‏{‏وبركات عَلَيْكَ‏}‏ أي خيرات نامية في نسلك وما يقوم به معاشك ومعاشهم من أنواع الأرزاق، أو مباركاً عليك أي مدعواً لك بالبركة بأن يقال‏:‏ بارك الله تعالى فيك وهو مناسب لكون السلام بمعنى التسليم فيكون كقوله‏:‏ السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، وأصل البرك كما قال الراغب صدر البعير يقال‏:‏ برك البعير إذا ألقى بركه، واعتبر فيه اللزوم ولذا سمي محتبس الماء بركة، والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء سمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة‏.‏

ولما كان الخير الإلهي يصدر على وجه لا يحس ولا يحصى قيل لكل ما يشاهد فيه زيادة غير محسوسة‏:‏ هو مبارك وفيه بركة، ولما في ذلك من الإشعار باللزوم وكونه غير محسوس اختص تبارك بالاستعمال في الله تبارك وتعالى كما قيل، وفي «الكشف» كل شيء ثبت وأقام فقد برك وأخذ بروك البعير منه، ثم البرك بمعنى الصدر من الثاني لأنه آلة بروكه أظهر، وحكى عبد العزيز بن يحيى عن الكسائي أنه قرأ وبركة بالتوحيد، وفي الآية على القراءتين صنعة الاحتباك لأنه حذف من الثاني ما ذكر في الأول، وذكر فبه ما حذف من الأول، والتقدير سلام منا عليك وبركات، أو وبركة منا عليك، وهذا منه تعالى إعلام وبشارة بقبول توبته عليه السلام وخلاصة من الخسران مع الإشارة إلى عود الأرض إلى حالها من الإنبات وغيره ‏{‏وعلى أُمَمٍ‏}‏ ناشئة ‏{‏مّمَّن مَّعَكَ‏}‏ متشعبة منهم فمن ابتدائية، والمراد الأمم المؤمنة المتناسلة ممن معه إلى يوم القيامة، والمراد ممن معه أولاده من إطلاق العام وإرادة الخاص بناءاً على ما قيل‏:‏ إنه لم يعقب غيرهم، فالناس كلهم على هذا من نسل نوح عليه السلام؛ ومن هنا سمي عليه السلام آدم الثاني‏.‏ وآدم الأصغر، واستدل لذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 77‏]‏ وقد يقال ببقاء من على عمومه بناءاً على ما عليه أكثر المفسرين من عدم اختصاص النسل بأولاده عليه السلام بل لمن معه نسل باق أيضاً، والكلام في استدلال الأولين سيأتي إن شاء الله تعالى، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأُمَمٌ‏}‏ بالرفع وهو على ما ذهب إليه الزمخشري مبتدأ، وجملة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَنُمَتّعُهُمْ‏}‏ صفته، والخبر محذوف أي ومنهم أمم، وساغ ذلك لدلالة ما سبق عليه فإن إيراد الأمم المبارك عليهم المتشعبة منهم نكرة يدل على أن بعض من يتشعب منهم ليسوا على صفتهم، والمعنى ليس جميع من يتشعب منهم مشاركاً له في السلام والبركات بل منهم أمم يمتعون في الدنيا ‏{‏ثُمَّ يَمَسُّهُمْ‏}‏ فيها أو في الآخرة أو فيهما ‏{‏مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ وجوز أبو حيان أن يكون ‏{‏أُمَمٌ‏}‏ مبتدأ محذوف الصفة وهي المسوغة للابتداء بالنكرة، والتقدير وأمم منهم، وجملة ‏{‏سَنُمَتّعُهُمْ‏}‏ هو الخبر كما قالوا‏:‏ السمن منوان بدرهم، وأن يكون مبتدأ ولا يقدر له صفة والخبر أيضاً ‏{‏سَنُمَتّعُهُمْ‏}‏ ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل فكان مثل قول الشاعر

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له *** بشق وشق عندنا لم يحول

وقول القرطبي‏:‏ إنه ارتفع ‏{‏أُمَمٌ‏}‏ على معنى ويكون أمم إن أراد به تفسير معنى فحسن وإن أراد الإعراب فليس بجيد لأن هذا ليس من مواضع إضمار يكون، وقال الأخفش‏:‏ هذا كما تقول‏:‏ كلمت زيداً‏.‏

وعمرو جالس يحتمل أن يكون من باب العطف، ويحتمل أن يكون الواو للحال وتكون الجملة هنا حالاً مقدرة لأن وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ إن ‏{‏أُمَمٌ‏}‏ معطوف على الضمير في ‏{‏اهبط‏}‏ والتقدير اهبط أنت وأمم وكان الفصل بينهما مغنياً عن التأكيد، و‏{‏سَنُمَتّعُهُمْ‏}‏ نعت لأمم، وفيه إن الذين كانوا مع نوح عليه السلام في السفينة كلهم مؤمنون لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ ءامَنَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 40‏]‏ ولم يكونوا قسمين كفاراً ومؤمنين ليؤمر الكفار بالهبوط معه اللهم إلا أن يلتزم أن من أولئك المؤمنين من علم الله سبحانه أنه يكفر بعد الهبوط فأخبر عنهم بالحالة التي يؤولون إليها وفيه بعد‏.‏

وجوز أن تكون من في ‏{‏مّمَّن مَّعَكَ‏}‏ بيانية أي وعلى أمم هم الذين معك، وسموا أمماً لأنهم أمم متحزبة وجماعات متفرقة أو لأن جميع الأمم إنما تشعبت منهم فهم أمم مجازاً فحينئذٍ يكون المراد بالأمم المشار إليهم في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ‏}‏ بعض الأمم المتشعبة منهم وهي الأمم الكافرة المتناسلة منهم إلى يوم القيامة‏.‏

وفي «الكشاف» إن الوجه هو الأول قيل‏:‏ ليقابل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ‏}‏ ولأنه أشمل ولأن من الابتدائية لا سيما في المنكر أكثر وللنكتة في إدخال الناشئين في المسلم عليهم، وقطع الممتعين عنهم من الدلالة على ما صرح به في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 46‏]‏ ولهذه النكتة حذف منهم في الثاني، واكتفى بسلام نوح عليه السلام عن سلام مؤمني قومه لأن النبي زعيم أمته وكفاهم هذا التعظيم والاتحاد معه عليه السلام، فلا يرد أن الحمل على البيانية أرجح لئلا يلزم أن لا يكون مسلماً عليهم على أن لفظ الأمم في الإطلاق على من معه بأحد الاعتبارين لا فخامة فيه لأن تسمية الجماعة القليلة بالأمة لا يناسب فكيف بالأمم، ولا مبالغة في هذا المقام فيه فلا يعدل عن الحقيقة، وإن جعل من باب ‏{‏إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏ لم يلائم تفخيم نوح عليه السلام، وقد ذكر أنه يبقى على البيانية أمر الأمم المؤمنة الناشئة من الذين معه عليه السلام مبهماً غير متعرض له ولا مدلول عليه إلا أن يقال‏:‏ حيث كان المراد بمن معك المؤمنين يعلم أن المشاركين لهم في وصف الإيمان مثلهم فيما تقدم، نعم قيل‏:‏ إن في دلالة المذكور على الخبر المحذوف على ذلك الوجه خفاءاً لأن من المذكورة بيانية، والمحذوفة تبعيضية‏.‏ أو ابتدائية، وربما يجاب عنه أيضاً بإلزام أن لا حذف أصلاً كما هو أحد الأوجه التي ذكرناها آنفاً فتدبر جميع ما ذكر‏.‏

والمأثور عدم تخصيص الأمم في الموضعين بمؤمنين معينين وكافرين كذلك، فقد أخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وغيرهما عن محمد القرظي قال‏:‏ دخل في ذلك السلام والبركات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ودخل في ذلك المتاع والعذاب الأليم كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة، وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنه قال في الآية ما زال الله تعالى يأخذ لنا بسهمنا وحظنا ويذكرنا من حيث لا نذكر أنفسنا كلما هلكت أمة خلقنا في أصلاب من ينجو بلطفه حتى جعلنا في خير أمة أخرجت للناس، وقيل‏:‏ المراد بالأمم الممتعة قوم هود‏.‏ وصالح‏.‏ ولوط‏.‏ وشعيب عليهم السلام، وبالعذاب ما نزل بهم، وبالغ بعضهم في عموم الأمم في الأول فجعلها شاملة لسائر الحيوانات التي كانت معه عليه السلام فإن الله تعالى جعل فيها البركة وليس بشيء كما لا يخفى، وههنا لطيفة وهي أنه قد تكرر في هذه الآية حرف واحد مرات مع غاية الخفة ولم تتكرر الراء مثله في قوله‏:‏ وقبر حرب بمكان قفر *** وليس قرب قبر حرب قبر

ومع ما ترى فيه من غاية الثقل وعسر النطق، ولله تعالى شأن التنزيل ما أكثر لطائفه‏.‏