فصل: تفسير الآية رقم (36)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَان‏}‏ غلامان كانا للملك الأكبر الريان بن الوليد أحدهما خبازه وصاحب طعامه والآخر ساقيه وصاحب شرابه، وكان قد غضب عليهما الملك بسبب أن جماعة من أشراف مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله فضمنوا لهما مالاً على أن يسماه في طعامه وشرابه فأجابا إلى ذلك ثم إن الساقي ندم فرجع عن ذلك وقبل الخباز الرشوة وسم الطعام فلما حضر بين يدي الملك قال الساقي‏:‏ لا تأكل أيها الملك فإن الطعام مسموم، وقال الخباز‏:‏ لا تشرب فإن

الشراب مسموم، فقال للساقي‏:‏ اشربه فشربه فلم يضره، وقال للخباز‏:‏ كل من طعامك فأبى فأطعم من ذلك لدابة فهلكت فأمر الملك بحبسهما فاتفق أن أدخلا معه السجن، ولعله إنما عبر - بدخل - الظاهر في كون الدخول بالاختيار مع أنه لم يكن كذلك للإشارة على ما قيل‏:‏ إلى أنهما لما رأيا يوسف هان عليهما أمر السجن لما وقع في قلوبهما من محبته‏:‏

وهوى كل نفس حيث حل حبيبهارضي الله عنR *** فقد أخرج غير واحد عن ابن إسحق أنهما لما رأياه قالا له‏:‏ يا فتى لقد والله أحببناك حين رأيناك، فقال لهما عليه السلام‏:‏ أنشدكما الله تعالى أن لا تحباني فوالله ما أحبني أحد قط الا دخل عليَّ من حبه بلاء، لقد أحبتني عمتي فدخل عليَّ من حبها بلاء، ثم أحبني أبي فدخل عليَّ من حبه بلاء، ثم أحبتني زوجة صاحبي هذا فدخل عليَّ بحبها إياي بلاء فلا تحباني بارك الله تعالى فيكما فأبيا إلا حبه والله حيث كان‏.‏ وقيل‏:‏ عبر بذلك لما أن ذكر ‏{‏معه‏}‏ يفيد اتصافه عليه السلام

بما ينسب إليهما، والمناسب في حقه نسبة الدخول لمكان قوله عليه السلام‏:‏ ‏{‏رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 33‏]‏ لا الادخال المفيد لسلب الاختيار، ولو عبر بأدخل لأفاد ذلك نسبة الإدخال إليه فلم يكن بدّ من التعبير بالدخول ترجيحاً لجانبه عليه السلام‏.‏ والظاهر أن - مع - تدل على الصحبة والمقارنة لفاعل الفعل في ابتداء تلبسه بالفعل، فتفيد أن دخولهما مصاحبين له وأنهم سجنوا الثلاثة في ساعة واحدة، وتعقب بأن هذا منتقض بقوله سبحانه‏:‏

‏{‏وأسلمت مع سليمان‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 44‏]‏ حكاية عن بلقيس إذ ليس إسلامها مقارناً لابتداء إسلام سليمان عليه السلام، وأجيب بأن الحمل على المجاز هنالك للصارف ولا صارف فيما نحن فيه فيحمل على الحقيقة، ويشهد لذلك ما ذكره الزمخشري في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فلما بلغ معه السعي‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏ من أنه بيان متعلق بمحذوف لتعذر التعلق - ببلغ - أو السعي معنى أو لفظاً وقال صاحب «الكشف»‏:‏ إنه لا يتعين المحكي عنها لمعية الفاعل فجاز أن يراد أسلمت لله ولرسوله مثلاً، وتقديم مع للإشعار بأنها كانت تظنّ أنها على دين قبل وأنها كانت مسلمة فيما كاتن تعبد من الشمس فدل على أنه إسلام يعتدّ به من أثر متابعة نبيه لا إسلام كالأول فاسد، وهذا معنى صحيح حمل الآية عليه أولى، وإن حمل على معية الفاعل لم يكن بدّ من محذوف نحو مع بلوغ دعوته وإظهار معجزته لأن فرق ما بين المعية ومطلق الجمع معلوم بالضرورة اه‏.‏

وفرق بعضهم بين الفعل الممتدّ كالإسلام وغيره كالدخول بأن الأول لا يقتضي مقارنتهما في ابتدائه بخلاف الثاني، وهو على ما قيل‏:‏ راجع إلى الجمع وليس من المعية في شيء على أنه حينئذ لا يحتاج إلى تأويل في آية ‏{‏فلما بلغ معه السعي‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏ واختير أن المقارنة هي الأصل ولا يعدل عنها ما أمكنت فتأمل‏.‏

وتأخير الفاعل عن المفعول لما مر غير مرة من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ليتمكن عند النفس حين وروده فضل تمكن، ولعل تقديم الظرف على السجن لأن الاهتمام بأمر المعية اشدّ من الاهتمام بأمره لما أنها المنشأ لما كان، وقيل‏:‏ إنما قدم لأن تأخيره يوهم أن يكون خبراً مقدماً على المبتدأ، وتكون الجملة حالاً من فاعل - دخل - وتعقب بأن حاصل التركيب الأول مصاحبة الفتيين له عند دخولهما، وحاصل الثاني مصاحبة الفتيين له عند دخوله، ويؤول الأمران إلى دخولهما ودخوله متصاحبين فافهم‏.‏ والجملة على ما قيل‏:‏ معطوف على محذوف ينساق إليه الذهن كأنه قيل‏:‏ فلما بدا لهم ذلك سجنوه ودخل معه الخ‏.‏ وقرأ ‏{‏السجن‏}‏ بفتح السين على معنى موضع السجن‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف مبني على سؤال من يقول‏:‏ ما صنعا بعدما دخلا‏؟‏ فأجيب بأنه قال ‏{‏أَحَدُهُمَا‏}‏ وهو الشرابي واسمه بنو ‏{‏إنِّي أَرَاني‏}‏ أي رأيتني في المنام والتعبير بالمضارع لاستحضار الصور الماضية ‏{‏أَعْصر خَمْراً‏}‏ أي عنباً‏.‏ روي أنه قال‏:‏ رأيت حبلة من كرم حسنة لها ثلاثة أغصان فيها عناقيد عنب فكنت أعصرها وأسقي الملك‏.‏ وسماه بما يؤول إلى الخمر وكون الذي يؤول إليه ماؤه لا جرمه لا يضر لأنه المقصود منه فما عداه غير منظور إليه فليس فيه تجوزان

بالنظر إلى المتعارف فيه‏.‏ وقيل‏:‏ الخمر بلغة غسان اسم للعنب، وقيل‏:‏ في لغة أزدعمان‏.‏ وقرأ أبيّ وعبد الله - أعصر عنباً - قال في «البحر»‏:‏ وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته لسواد المصحف والثابت عنهما بالتواتر قراءتهما ‏{‏أعصر خمراً‏}‏ انتهى، وقد أخرج القراءة كذلك عن الثاني البخاري في «تاريخه» وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق، وذكروا أنه قال‏:‏ والله لقد أخذتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا فافهم‏.‏

وقال ابن عطية ‏(‏‏(‏ يجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة لأن العصر من أجلها‏)‏‏)‏‏}‏ فليس ذلك من مجاز الأول، والمشهور أنه منه كما قال الفراء‏:‏ مؤنثة وربما ذكرت، وعن السجستاني أنه سمع التذكير ممن يوثق به من الفصحاء‏.‏ ورأى الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى، ولا يجوز ذلك في غير ما ذكر، فلا يقال‏:‏ أضربني ولا أكرمني، وحاصله أرى نفسي أعصر خمراً‏.‏

‏{‏وَقَالَ الآخَرُ‏}‏ وهو الخباز واسمه مجلث ‏{‏إنّي أَراني أَحْملُ فَوْقَ رَأْسي خُبْزاً‏}‏، وفي مصحف ابن مسعود - ثريداً‏.‏ ‏{‏تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ‏}‏ وهذا كما قيل أيضاً‏:‏ تفسير لا قراءة، روي أنه قال‏:‏ رايت أني أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها خبز والطير تأكل من أعلاه‏.‏

والخبز معروف، وجمعه أخباز وهو مفعول ‏(‏أحمل‏)‏ والظرف متعلق - بأحمل - وتأخيره عنه لما مرّ، وقيل‏:‏ متعلق بمحذوف وقع حالاً منه، وجملة ‏{‏تأكل‏}‏ الخ صفة له أو استئناف مبني على السؤال ‏{‏نَبِّئْنَا‏}‏ أي أخبرنا ‏{‏بتَأْويله‏}‏ بتعبيره وما يؤول إليه أمره، والضمير للرؤيتين بتأويل ما ذكر أو ما رؤي وقد أجري الضمير مجرى ذلك بطريق الاستعارة فإن اسم الإشارة يشار به إلى متعدد كما مرت الإشارة إليه غير مرة؛ هذا إذا قالاه معاً أو قاله أحدهما من جهتهما معاً، وأما إذا قاله كل منهما إثر ما قص ما رآه فالمرجع غير متعدد ولا يمنع من هذا الاحتمال صيغة المتكلم مع الغير لاحتمال أن تكون واقعة في الحكاية دون المحكي على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسل كلوا من الطيبات‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏ فإنهم لم يخاطبوا دفعة بل خوطب كل منهم في زمان بصيغة مفردة

خاصة به‏.‏

‏{‏إِنَّا نَرَاكَ‏}‏ تعليل لعرض رؤياهما عليه واستفسارهما منه عليه السلام أي إنا نعتقدك ‏{‏منَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ اي من الذين يحسنون تأويل الرؤيا لما رأياه يقص عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤوّلها لهم تأويلاً حسناً، وكان عليه السلام حين دخل السجن قد قال‏:‏ إني أعبر الرؤيا وأجيد أو من العلماء كما في قول علي كرم الله تعالى وجهه‏:‏ قيمة كل امرئ ما يحسنه وذلك لما سمعاه يذكر للناس ما يدل على علمه وفضله‏.‏ أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن قتادة قال‏:‏ لما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوماً قد انقطع رجاؤهم واشتد بلاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول‏:‏ أبشروا واصبروا تؤجروا إن لهذا لأجراً فقالوا‏:‏ يا فتى بارك الله تعالى فيك ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وخلقك لقد بورك لنا في جوارك ما نحب أنا كنا في غير هذا منذ جئتنا لما تخبرنا من الأجر والكفارة والطهارة، فمن أنت يا فتى‏؟‏ قال‏:‏ أنا يوسف ابن صفي الله تعالى يعقوب ابن ذبيح الله تعالى إسحاق ابن خليل الله تعالى إبراهيم فقال له عامل السجن‏:‏ يا فتى لو استطعت خليت سبيلك ولكن سأحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت، أو من المحسنين إلى أهل السجن أي فأحسن إلينا بكشف غمتنا إن كنت قادراً على ذلك، وإلى هذا ذهب الضحاك، أخرج سعيد بن منصور والبيهقي وغيرهما عنه أنه سئل ما كان إحسان يوسف‏؟‏ فقال‏:‏ كان إذا مرض إنسان في

السجن قام عليه، وإذا ضاق عليه مكان أوسع له، وإذا احتاج جمع له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ لاَ يَأْتيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانه‏}‏ في الحبس حسب عادتكما المطردة ‏{‏إلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بتَأْويله‏}‏ استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلا حال ما نبأتكما به بأن بينت لكما ماهيته وكيفيته وسائر أحواله ‏{‏قَبْلَ أَن يَأْتيَكُمَا‏}‏، وحاصله لا يأتيكما طعام إلا أخبرتكما قبل إتيانه إياكما بأنه يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت‏.‏ وإطلاق التأويل على ذلك - مع أن حقيقته في المشهور تفسير الألفاظ المراد منها خلاف الظاهر ببيان المراد بطريق الاستعارة فإن ذلك يشبه تفسير المشكل، أو أنه بالنسبة إلى الطعام المبهم بمنزلة التأويل بالتأويل بالنسبة إلى ما رؤي في المنام وشبيه له‏.‏ ويحسن هذه الاستعارة ما في ذلك من المشاكلة لما وقع في عبارتهما من قولهما‏:‏ ‏{‏نبئنا بتأويله‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 36‏]‏ وكون المراد بالتأويل الأمر الآيل لا المآل بناءاً على أنه في الأصل جعل شيء آيلاً إلى شيء آخر وكما يجوز أن يراد به الثاني يجوز أن يراد به الأول، ويكون المعنى إلا نبأتكما بما يؤول إليه من الكلام والخبرِ المطابق للواقع، في غاية البعد بل لا يكاد يلتفت إليه كما لا يخفى على المنصف‏.‏ وكأنه عليه السلام أراد أن يعرض عليهما التوحيد ويزينه لهما ويقبح لهما الشرك بالله تعالى قبل أن يجيبهما عما سألاه من تعبير رؤياهما ثم يجيبهما عن ذلك‏.‏

وهذه طريقة على كل ذي عقل أن يسلكها مع الجهلة والفسقة إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الإرشاد والنصيحة أولاً ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجبه عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه، ولعل ذلك كان مغترضاً عليه عليه السلام فوصف نفسه أولاً بما هو فوق علم العلماء وهو الإخبار بالمغيبات وجعله تخلصاً لما أراد كالتخلصات المعروفة عندهم فإن الإخبار بالغيب يناسب ما سألاه من تأويل رؤياهما وأن من كان هكذا لا محالة يكون بغيره صادقاً، ويقوي أمر المناسبة تخصيص الطعام بالذكر من بين سائر المغيبات كما لا يخفى، ويناسب ما أراده من الدعوة إلى التوحيد لأنه ثبت صدقه ونبوته وكونه من المرتضين عند الله تعالى الصادقين في أقوالهم وأفعالهم، وفي حكاية الله تعالى ذلك إرشاد لمن كان له قلب، وقد أدمج فيه أن وصف العالم نفسه لينتفع به لا يحرم ولا يعد ذلك من التزكية المحظورة‏.‏ وإلى ما ذكرنا من حمل الإتيان على الإتيان في اليقظة ذهب غير واحد من الأجلة وروي عن ابن جريج، وحمله بعضهم على الإتيان مناماً‏.‏ قال السدي وابن إسحاق‏:‏ إنه عليه السلام لما علم من رؤية الخباز أنه يقتل أخذ في حديث آخر تنسية لهما أمر المنام وطماعية في إيمانهما ليأخذ المقتول بحظه من الإيمان وتسلم له آخرته فقال بعظيم علمه بالتعبير‏:‏ إنه لا يجيئكما طعام في نومكما تريان أنكما ترزقانه إلا أعلمتكما بما يؤول إليه أمره في اليقظة قبل أن يظهر ذلك‏.‏

ولا يخفى أن حديث الطماعية المذكورة مما لا بأس إلا أن حديث التنسية لا يخلو عن منع‏.‏ وجاء في رواية أخرى عن ابن جريج أخرجها ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عنه ما يقرب من هذا الحديث من وجه فإنه قال‏:‏ إنه عليه السلام كره العبارة لهما فأجابهما بأن له علماً بما يأتيهما من الطعام ولم يصرح بما تدل عليه رؤياهما شفقة على الهالك منهما، وكان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاماً معلوماً فأرسل به إليه فلما لم يكتفيا بذلك وطلبا منه التعبير أيضاً دعاهما إلى التوحيد كراهة للعبارة أيضاً، فلما لم يكتفيا عبر لهما وأوضح ما تدل عليه رؤياهما وهو كما ترى‏.‏ وأياً مّا كان فالضمير في ‏(‏تأويله‏)‏ يعود على الطعام، وجوز عوده على ما قصاه عليه من الرؤيتين على معنى لا يأتيكما طعام ترزقانه حسب عادتكما إلا أخبرتكما بتأويل ما قصصتما عليَّ قبل أن يأتيكما ذلك الطعام الموقت، والمراد الإخبار بالاستعجال بالتنبئة وفيه أنه خلاف الظاهر مع أن الإخبار بالاستعجال مما ليس فيه كثير مناسبة لما هو بصدده‏.‏ وقد يقال‏:‏ يجوز عود الضمير إلى ما قصاه ويكون المراد من الطعام المرزوق ما رأياه في النوم، ولا يخفى ما فيه أيضاً لكن التأويل على هذين الوجهين لا يحتاج إلى التأويل بل يراد منه ما أريد من تأويله في كلامهما، وكذا الضمير المستتر في ‏{‏يأتيكما‏}‏ يعود على الطعام وعوده على التأويل وإن كان أقرب بعيد‏.‏

ثم إنه عليه السلام أخبرهما بأن علمه ذلك ليس من علوم الكهنة والمنجمين بل هو فضل إلهي يؤتيه من يشاء فقال‏:‏ ‏{‏ذَلكُمَا‏}‏ ويروى أنهما قالا له‏:‏ من أين لك ما تدعيه من العلم وأنك لست بكاهن ولا منجم‏؟‏‏!‏ وقيل‏:‏ قالا إن هذا كهانة أو تنجيم فقال‏:‏ أي ذلك التأويل والكشف عن المغيبات، ومعنى البعد في ‏(‏ذلك‏)‏‏}‏ للإشارة إلى بعد منزلته وعلو درجته ‏{‏ممَّا عَلَّمَني رَبِّي‏}‏ بالوحي أو ينحو ذلك مما يحصل به العلم كما يكون للأولياء أهل الكشف رضي الله تعالى عنهم، واقتصر بعضهم على الأول وادعى أن الآية دليل على أنه عليه السلام كان إذ ذاك نبياً، وأياً مّا كان فالمراد أن ذلك بعض مما علمنيه الله تعالى أو من ذلك الجنس الذي لا يناله إلا الأصفياء، ولقد

دلهما بذلك على أن له علوماً جمة ما سمعاه قطرة من تيارها وزهرة من أزهارها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إنِّي تَرَكْتُ ملَّةَ قَوْم لاَّ يُؤمنُونَ بالله‏}‏ استئناف وقع جواباً عن سؤال نشأ مما تقدم وتعليلاً له كأنه قيل‏:‏ لماذا علمك ربك تلك العلوم الجليلة الشأن‏؟‏ فقال‏:‏ لأني تركت دين الكفر الذي اجتمعوا عليه من الشرك وعبادة الأوثان‏.‏

وقيل‏:‏ تعليل للتعليم الواقع صلة وهو يؤدي إلى معنى أنه مما علمني ربي لهذا السبب دون غيره وليس بمراد‏.‏ وقيل‏:‏ لمضمون الجملة الخبرية‏.‏ وفيه أن ما ذكر ليس بعلة لكون التأويل المذكور بعضاً مما علمه ربه أو لكونه من جنسه بل لنفس التعليم‏.‏ والمراد بالترك الامتناع فإنه لم يتلوث بتلك قط كما يفصح عنه ما يأتي من كلامه عليه السلام قريباً إن شاء الله تعالى لكن عبر به عن ذلك استجلاباً لهما لأن يتركا تلك الملة التي هم عليها على أحسن وجه‏.‏ والتعبير عن كفرهم بالله تعالى بسلب الإيمان به سبحانه للتنصيص على أن عبادتهم له تعالى مع عبادة الأوثان ليست بإيمان به تعالى كما يزعمونه‏.‏ وأراد بأولئك القوم المتصفين بعنوان الصلة حيث كانوا، وقيل‏:‏ أهل مصر فإنهم كانوا عبدة إذ ذاك ‏{‏وَهُم بالآخرَة‏}‏ وما فيها من الجزاء ‏{‏هُمْ كَافِرُونَ‏}‏ أي على الخصوص دون غيرهم من الكنعانيين الذين هم على ملة إبراهيم عليه السلام على ما يفيده توسيط ضمير الفصل هنا عند البعض، وذكر أن تقديم الضمير للتخصيص وتكريره للتأكيد، ولعله إنما أكد إنكارهم للمعاد لأنه كان أشد من إنكارهم للمبدأ فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏وَاتَّبَعْتَ ملَّةَ ءَابَاءي إبراهيم وَإسْحَاق وَيَعْقُوبَ‏}‏ داخل في حيز التعليل كأنه قال‏:‏ إنما فزت بما فزت بسبب أني لم أتبع ملة قوم كفروا بالمبدأ والمعاد واتبعت ملة آبائي الكرام المؤمنين بذلك، وإنما قاله عليه السلاة ترغيباً لصاحبيه في الإيمان والتوحيد وتنفيراً لهما عما كانا عليه من الشرك والضلال، وقدم ذكر تركه لملتهم على ذكر اتباعه لملة آبائه عليهم السلام لأن التخلية مقدمة على التحلية‏.‏ وجوز بعضهم أن لا يكون هناك تعليل وإنما الجملة الأولى مستأنفة ذكرت تمهيداً للدعوة والثانية إظهاراً لأنه من بيت النبوة لتقوى الرغبة فيه، وفي كلام أبي حيان ما يقتضي أنه الظاهر وليس بذاك‏.‏ وقرأ الأشهب العقيلي والكوفيون ‏{‏آبائي‏}‏ بإسكان الياء وهي مروية عن أبي عمرو ‏{‏مَا كَانَ‏}‏ ما صح وما استقام فضلاً عن الوقوع ‏{‏لَنَا‏}‏ معاشر الأنبياء لقوة نفوسنا، وقيل‏:‏ أي أهل هذا البيت لوفور عناية الله تعالى بنا ‏{‏أَن نُّشْركَ بالله من شَيْء‏}‏ أي شيئاً أي شيء كان من ملك أو جني أو إنسي فضلاً عن الصنم الذي لا يسمع ولا يبصر - فمن - زائدة في المفعول به لتأكيد العموم، ويجوز أن يكون المعنى شيئاً من الإشراك قليلاً كان أو كثيراً فيراد من ‏{‏شيء‏}‏ المصدر وأمر العموم بحاله، ويلزم من عموم ذلك عموم المتعلقات‏.‏

‏{‏ذَلكَ‏}‏ أي التوحيد المدلول عليه بنفي صحة الشرك ‏{‏من فَضْل الله عَلَيْنَا‏}‏ أي ناشئ من تأييده لنا بالنبوة والوحي بأقسامه، والمراد أنه فضل علينا بالذات ‏{‏وَعَلَى النَّاس‏}‏ بواسطتنا ‏{‏وَلَكنَّ أَكْثَرَ النَّاس لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ أي لا يوحدون، وحيث عبر عن ذلك بذلك العنوان عبر عن التوحيد الذي يوجبه بالشكر لأنه مع كونه من آثار ما ذكر من التأييد شكر لله عز وجل‏.‏ ووضع الظاهر موضع الضمير الراجع إلى الناس لزيادة التوضيح والبيان ولقطع توهم رجوعه إلى مجموع الناس وما كنى عنه - بنا - الموهم لعدم اختصاص غير الشاكر بالناس، وفيه من الفساد ما فيه‏.‏ وجوز أن يكون المعنى ذلك التوحيد ناشئ من فضل الله تعالى علينا حيث نصب لنا أدلة ننظر فيها ونستدل بها على الحق، وقد نصب مثل تلك الأدلة لسائر الناس أيضاً من غير تفاوت ولكن أكثرهم لا ينظرون ولا يستدلون بها اتباعاً لأهوائهم فيبقون كافرين غير شاكرين، والفضل على هذا عقلي وعلى الأول سمعي‏.‏ وجوز المولى أبو السعود أن يقال‏:‏ المعنى ذلك التوحيد من فضل الله تعالى علينا حيث أعطانا عقولاً ومشاعر نستعملها في دلائل التوحيد التي مهدها في الأنفس والآفاق، وقد أعطى سائر الناس أيضاً مثلها ولكن أكثرهم لا يشكرون أي لا يصرفون تلك القوى والمشاعر إلى ما خلقت هي له ولا يستعملونها فيما ذكر من أدلة التوحيد الآفاقية والأنفسية والعقلية والنقلية انتهى‏.‏

ولك أن تقول‏:‏ يجوز أن تكون الإشارة إلى ما اشير إليه بـ ‏{‏ذلكما‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 37‏]‏ ويراد منه ما يفهم مما قبل من علمه بتأويل الرؤيا‏.‏ و‏{‏من‏}‏ في قوله ‏{‏من فضل الله‏}‏ تبعيضية، ويكون قد أخبر عنه أولاً بأنه مما علمه إياه ربه وثانياً بأنه بعض فضل الله تعالى عليه وعلى آبائه بالذات وعلى الناس بواسطتهم لأنهم يعبرون لهم رؤياهم فيكشفون لهم ما أبهم عليهم ويزيلون عنهم ما أشغل أذهانهم مع ما في ذلك من النفع الذي لا ينكره إلا نائم أو متناوم، ومن وقف على ما ترتب على تعبير رؤيا الملك من النفع الخاص والعلم لم يشك في أن علم التعبير من فضل الله تعالى على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون فضل الله تعالى مطلقاً أو فضله عليهم بوجود من يرجعون إليه في تعبير رؤياهم، ويكون ذلك نظير قولك لمن سألك عن زيد‏:‏ ذلك أخي ذلك حبيبي، لكنه وسط ههنا ما وسط وتفنن في التعبير فأتى باسم الإشارة أولاً مقروناً بخطابهما ولم يأت به ثانياً كذلك وأتى بالرب مضافاً إلى ضميره أولاً وبالاسم الجليل ثانياً، ويجوز أن يكون المشار إليه في الموضعين الإخبار بالمغيبات مطلقاً، والكلام في سائر الآية عليه لا أظنه مشكلاً، وعلى الوجهين لا ينافي تعليل نيل تلك الكرامة - بتركه ملة الكفرة واتباعه ملة آبائه الكرام - الإخبار بأن ذلك من فضل الله تعالى عليه وعلى من معه كما لا يخفى، نعم إن حمل الإشارة على ما ذكر وتوجيه الآية عليه بما وجهت لا يخلو عن بعد‏.‏ ومن الناس من جعل الإشارة إلى النبوة وفيه ما فيه أيضاً‏.‏

هذا أوجب الإمام كون المراد في قوله‏:‏ ‏{‏لا يشكرون‏}‏ لا يشكرون الله تعالى على نعمة الإيمان، ثم قال‏:‏ وحكي أن واحداً من أهل السنة دخل على بشر بن المعتمر فقال‏:‏ هل تشكر الله تعالى على الإيمان أم لا‏؟‏ فإن قلت‏:‏ لا فقد خالفت الإجماع، وإن شكرته فكيف تشكره على ما ليس فعلاً له‏؟‏‏!‏ فقال بشر‏:‏ إنا نشكره على أن أعطانا القدرة والعقل والآلة، وأما أن نشكره على الإيمان مع أنه ليس فعلاً له فذلك باطل، وصعب الكلام على بشر فدخل عليهم ثمامة بن الأشرس، فقال‏:‏ إنا لا نشكر الله تعالى على الإيمان بل الله تعالى يشكره علينا كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏فأولئك كان سعيهم مشكوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 19‏]‏ فقال بشر‏:‏ لما صعب الكلام سهل، وتعقب ذلك عليه الرحمة بأن الذي التزمه ثمامة باطل ‏(‏وهو على طرف الثمام‏)‏ بنص هذه الآية لأنه سبحانه بين فيها أن عدم الإشراك من فضل الله تعالى، ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة، وقد ذكر سبحانه ذلك على سبيل الذم فدل على أنه يجب على ‏[‏كل‏]‏ مؤمن أن يشكر الله تعالى على الإيمان لئلا يدخل في الذم وحينئذ تقوى الحجة وتكمل الدلالة اه‏.‏ ولعل الوجه في الآية ما تقدم فليفهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏يَا صَاحبَي السِّجْن‏}‏ أي يا صاحبي فيه إلا أنه أضيف إلى الظرف توسعاً كما في قولهم‏:‏ يا سارق الليلة أهل الدار؛ ولعله إنما ناداهما بعنوان الصحبة في مدار الأشجان ودار الأحزان التي تصفو فيها المودة وتتمحض النصيحة ليقبلا عليه ويقبلا مقالته؛ ويجوز أن يراد بالصحبة السكنى كما يقال‏:‏ أصحاب النار وأصحاب الجنة لملازمتهم لهما، والإضافة من باب إضافة الشيء إلى شبه المفعول عند أبي حيان وإلى المفعول عند غيره ولا اتساع في ذلك، وقيل‏:‏ بل هناك اتساع أيضاً، وأنه أضافهما إلى السجن دونه لكونهما كافرين وفيه نظر، ولعل في ندائهما بذلك على هذا الوجه حثاً لهما على الإقرار بالحق كأنه قال لهما‏:‏ يا ساكني هذا المكان الشاق والمحل الضنك إني ذاكر لكم أمراً فقولوا الحق فيه ولا تزيغوا عن ذلك فأنتم تحت شدة ولا ينبغي لمن كان كذلك أن يزيغ عن الحق، وإنما حمل الصاحب على ما سمعت لأن صاحب السجن في الاستعمال المشهور السجان أو الملك، والنداء - بيا - بناءاً على الشائع من أنها للبعيد للإشارة إلى غفلتهما وهيمانهما في أودية الضلال‏.‏

وقد تلطف عليه السلام بهما في ردهما إلى الحق وإرشادهما إلى الهدى حيث أبرز لهما ما يدل على بطلان ما هما عليه بصورة الاستفهام حتى لا تنفر طباعهما من المفاجأة بإبطال ما ألفاه دهراً طويلاً ومضت عليه أسلافهما جيلاً فجيلاً فقال‏:‏ ‏{‏ءَأرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ‏}‏ متعددون متكثرون يستعبدكما منهم هذا وهذا، والكلام على ما صرح به أبو حيان على حذف مضاف أي أعبادة أرباب متفرقين ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ لكما ‏{‏أَم اللهُ‏}‏ أي أم عبادة الله سبحانه ‏{‏الْوَاحدُ‏}‏ المنفرد بالألوهية ‏{‏الْقَهَّارُ‏}‏ الغالب الذي لا يغالبه أحد جل وعلا، وهو أولى مما قاله الخطابي من أنه الذي قهر الجبابرة بالعقوبة والخلق بالموت‏.‏

وذكر الزمخشري أن هذا مثل ضرب لعبادة الله تعالى وحده ولعبادة الأصنام، واعترضه القطب بأن ذلك إنما يصح لو نسبا تارة إلى أرباب شتى وأخرى إلى رب واحد كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 29‏]‏ الآية لكنهما نسبا إلى أرباب وإلى الله تعالى، فكيف يكون مثلاً‏؟‏‏!‏ وأجاب بأنه يفسر الله تعالى برب واحد لأنه في مقابلة أرباب، وإنما عبر عن رب واحد بالله تعالى لانحصاره فيه جل جلاله‏.‏ وقال الطيبي أيضاً‏:‏ إن في ذلك إشكالاً لأن الظاهر من الآية نفي استواء الأصنام وعبادتها بالله تعالى وعبادته فأين المثل‏؟‏ ثم قال‏:‏ لكن التقدير أسادات شتى تستعبد مملوكاً واحداً خير من سيد واحد قهار فوضع موضع الرب، والسيد الله لكونه مقابلاً لقوله‏:‏ ‏{‏أأرباب‏}‏ فيكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء‏}‏

‏[‏الزمر‏:‏ 29‏]‏ الآية‏.‏

وقرر في «الكشف» ما ادعى معه ظهور كونه مثلاً ظهوراً لا إشكال فيه، والحق أنه ظاهر في نفي الاستواء وإنّ جعله مثلاً يحتاج إلى تأويل حسبما سمعت عن الطيبي إلا أنه لا يخلو عن لطف؛ ولعله الأولى وإن أحوج إلى ما أحوج‏.‏ وحمل التفرق على التفرق في العدد والتكاثر مما ذهب إليه غير واحد، وحمله بعضهم على الاختلاف في الكبر والصغر والشكل ونحو ذلك مما يحصل لها بواسطة تأثير الغير فيها، وجعله إشارة إلى كونها مقهورة عاجزة‏.‏ وأما التعدد فيشير إليه جمع أرباب باعتبار أنه جمع فيكون ذكر الواحد على هذا في مقابلة ما أشير إليه من التعدد، والقهار في مقابلة ما أشير إليه من المقهورية والعجز، والمعنى أمتعددون سميتموهم أرباباً عجز مقهورون متأثرون من غيرهم خير أم الله أي صاحب هذا الاسم الجليل الواحد الذي يستحيل عليه التكثر بوجه من الوجوه القهار الذي لا موجود إلا وهو مسخر تحت قهره وقدرته عاجز في قبضته‏.‏ وقيل‏:‏ المراد من ‏{‏متفرقون‏}‏ مختلفو الأجناس والطبائع كالملك والجن والجماد مثلاً، ويجوز أن يراد منه من لا ارتباط بينهم ولا اتفاق، وكثيراً ما يكنى بذلك عن العجز واختلال الحال، وقد استنبط الإمام من الآية غير ما حجة على بطلان عبادة الأصنام، وظاهر كلامه أنه لم يعتبرها مثلاً فليتأمل‏.‏

ثم إنه عليه السلام زاد في الإرشاد ببيان سقوط آلهتهما عن درجة الاعتبار رأساً فضلاً عن الألوهية، وأخرج ذلك على أتم وجه فقال معمماً للخطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر كما هو الظاهر، وقيل‏:‏ مطلقاً، وقيل‏:‏ من معهما من أهل السجن‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏مَا تَعْبُدُونَ من دُونه‏}‏ أي من دون الله تعالى شيئاً ‏{‏إلا أَسْمَاءَ‏}‏ أي ألفاظاً فارغة لا مطابق لها في الخارج لأن ما ليس فيه مصداق إطلاق الاسم عليه لا وجود له أصلاً فكانت عبادتهم لتلك الألفاظ فقط ‏{‏سَمَّيْتُمُوهَا‏}‏ جعلوها أسماء ‏{‏أَنتُمْ وءَابَاؤُكُمْ‏}‏ بمحض الجهل والضلالة ‏{‏مَا أَنْزَلَ اللهُ بهَا‏}‏ أي بتلك التسمية المستتبعة للعبادة ‏{‏من سُلْطَان‏}‏ أي حجة تدل على صحتها، قيل‏:‏ كانوا يطلقون على معبوداتهم الباطلة اسم الآلهة ويزعمون الدليل على ذلك فردوا بأنكم سميتم ما لم

يدل على استحقاقه هذا الاسم عقل ولا نقل ثم أخذتم تعبدون ذلك باعتبار ما تطلقونه عليه، وإنما لم يذكر المسميات تربية لما يقتضيه المقام من إسقاطها عن مرتبة الوجود وإيذاناً بأن تسميتهم في البطلان حيث كانت بلا مسمى كعبادتهم حيث كانت بلا معبود، ويلحق بهؤلاء الذين يزعمون أنهم يعبدون الله تعالى وهم يتخيلونه سبحانه جسماً عظيماً جالساً فوق العرش أو نحو ذلك مما ينزهه العقل والنقل عنه تعالى - تعالى الله عما يقول الظالمون - علواً كبيراً لأن ما وضع له الاسم الجليل في نفس الأمر ليس هو الذي تخيلوه بل هو أمر وراء ذلك وهو المستحق للعبادة وما وضعوه هم له ليس بإله في نفس الأمر ولا مستحق للعبادة وهو الذي عبدوه فما عبدوا في الحقيقة إلا اسماً لا مطابق له في الخارج لأن ما في الخارج أمر وما وضعوا الاسم له أمر آخر‏.‏

‏{‏إن الْحُكْمُ‏}‏ أي ما الحكم في شأن العبادة المتفرعة على تلك التسمية وفي صحتها ‏{‏إلاَّ لله‏}‏ عزَّ سلطانه لأنه المستحق لها بالذات إذ هو الواجب بالذات الموجد للكل والمالك لأمره ‏{‏أَمَرَ ألاَّ تَعْبُدُوا‏}‏ أي بأن لا تعبدوا أحداً ‏{‏إلاَّ إيَّاهُ‏}‏ حسبما يقتضي به قضية العقل أيضاً‏.‏ والجملة استئناف مبني على سؤال ناشئ من الجملة السابقة كأنه قيل‏:‏ فماذا حكم الله سبحانه في هذا الشأن‏؟‏ فقيل‏:‏ أمر الخ، وقيل‏:‏ في موضع التعليل لمحذوف كأنه قيل‏:‏ حيث لم يكن الحكم في أمر العبادة إلا له فلا تكون العبادة إلا له سبحانه أو لمن يأمر بعبادته وهو لا يأمر بذلك ولا يجعله لغيره لأنه سبحانه أمر أن لا تعبدوا إلا إياه، وهو خلاف الظاهر‏.‏ وجوز أن يكون سرد هذه الجمل على هذا الطرز لسدّ الطرق في توجيه صحة عبادة الأصنام عليهم أحكم سدّ فإنهم إن قالوا‏:‏ إن الله تعالى قد أنزل حجة في ذلك ردوا بقوله‏:‏ ‏{‏ما أنزل الله بها من سلطان‏}‏ وإن قالوا‏:‏ حكم لنا بذلك كبراؤنا ردوا بقوله‏:‏ ‏{‏إن الحكم إلا لله‏}‏ وإن قالوا‏:‏ حيث لم ينزل حجة في ذلك ولم يكن حكم لغيره بقي الأمر موقوفاً إذ عدم إنزال حجة تدل على الصحة لا يستلزم إنزال حجة على البطلان ردوا بقوله‏:‏ ‏{‏أمر ألاَّ تعبدوا إلا إياه‏}‏‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي تخصيصه تعالى بالعبادة ‏{‏الدِّينُ الْقَيِّمُ‏}‏ الثابت الذي دلت عليه البراهين العقلية والنقلية ‏{‏وَلكنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن ذلك هو الدين القيم لجهلهم تلك البراهين أو لا يعلمون شيئاً أصلاً فيعبدون أسماء سموها من عند أنفسهم معرضين عما يقتضيه العقل ويسوق إليه سائق النقل، ومنشأ هذا الإعراض الوقوف عند المألوفات والتقيد بالحسيات وهو مركوز في أكثر الطباع ومن ذلك جاء التشبيه والتجسيم ونسبة الحوادث الكونية إلى الشمس والقمر وسائر الكواكب ونحو ذلك‏.‏

ثم إنه عليه السلام بعد تحقيق الحق وبيانه لهما مقدار علمه الواسع شرع في إنبائهما عما استنبآه عنه، ولكونه بحثاً مغايراً لما سبق فصله عنه بتكرير الخطاب فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏يَا صَاحِبَىِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا‏}‏ أراد به الشرابي، وإنما لم يعينه عليه السلام ثقة بدلالة التعبير مع ما فيه من رعاية حسن الصحبة ‏{‏فَيَسْقي رَبَّهُ‏}‏ أي سيده ‏{‏خَمْراً‏}‏ روي أنه عليه السلام قال له‏:‏ ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه‏.‏ وقرئ ‏{‏فيسقى‏}‏ بضم الياء والبناء للفاعل من أسقى قال صاحب «اللوامح»‏:‏ يقال‏:‏ سقى وأسقى بمعنى، وقرئ في السبعة وأسقاه جعل له سقياً، ونسب ضم الياء لعكرمة والجحدري، وذكر بعضهم أن عكرمة قرأ ‏{‏فيسقى‏}‏ بالبناء للمفعول، و- ريه - بالياء المثناة والراء المكسورة، والمراد به ما يروى به وهو مفعول ثان - ليسقى - والمفعول الأول الضمير النائب عن الفاعل العائد على ‏(‏أحد‏)‏، ونصب ‏{‏خمراً‏}‏ حينئذ على التمييز ‏{‏وَأَمَّا الآخَرُ‏}‏ وهو الخباز ‏{‏فَيُصْلَبُ فتأكُلُ الطَّيْرُ من رَّأسه‏}‏ روي أنه عليه السلام قال له‏:‏ ما رأيت من السلال الثلاث ثلاثة أيام تمر ثم تخرج فتصلب‏.‏

‏{‏قُضيَ‏}‏ أتم وأحكم ‏{‏الأَمْرُ الَّذي فيه تَسْتَفْتيَان‏}‏ وهو ما يؤول إليه حالكما وتدل عليه رؤياكما من نجاة أحدكما وهلاك الآخر، ومعنى استفتائهما فيه سؤالهما عنه، أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ ما رأى صاحبا يوسف شيئاً إنما تحالما ليجريا علمه فلما أول رؤياهما قالا‏:‏ إنما كنا نلعب ولم نر شيئاً، فقال عليه السلام قضي الأمر الخ يقول‏:‏ وقعت العبارة اه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالأمر ما اتهما به، والكلام حينئذ على حذف مضاف أي عاقبة ذلك‏.‏ وذهب بعض المحققين غلى أن المراد به ما رأياه من الرؤييين، ونفى أن يكون المراد ما يؤول إليه أمرهما، قال‏:‏ لأن الاستفتاء إنما يكون في الحادثة لا في حكمها يقال‏:‏ استفتي الفقيه في الحادثة أي طلب منه بيان حكمها ولا يقال‏:‏ استفتاه في حكمها وكذا الإفتاء، يقال‏:‏ أفتى في الواقعة الفلانية بكذا ولا يقال‏:‏ أفتى في حكمها بكذا، ومما هو علم في ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 43‏]‏ ومعنى استفتائهما فيه طلبهما لتأويله بقولهما ‏{‏نبئنا بتأويله‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 36‏]‏ وعبر عن ذلك بالأمر وعن طلب تأويله بالاستفتاء تهويلاً لأمره وتفخيماً لشأنه إذ الاستفتاء إنما يكون في النوازل المشكلة الحكم المبهمة الجواب‏.‏ وإيثار صيغة المضارع لما أنهما بصدد الاستفتاء إلى أن يقضي عليه السلام من الجواب وطره وإسناد القضاء إليه مع أنه

من أحوال مآله لأنه في الحقيقة عين ذلك المآل، وقد ظهر في عالم المثال بتلك الصورة، وأما توحيده مع تعدد رؤياهما فوارد على حسب ما وحداه في قولهما‏:‏

‏{‏نبئنا بتأويله‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 36‏]‏ لا لأن الأمر ما اتهما به وسجنا لأجله من سم الملك فإنهما لم يستفتيا فيه ولا فيما هو صورته بلفيما هو صورة لمآله وعاقبته فتأمل اه‏.‏

وتعقب بأنه لا مانع من أن يراد بالأمر المآل كما يقتضيه ظاهر إسناد القضاء إليه وإليه ذهب الكثير، وتجعل - في - للسببية مثلها في قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «دخلت امرأة النار في هرة» ويكون معنى الاستفتاء فيه الاستفتاء بسببه أي طلب بيان حكم الرؤييين لأجله، وهما إنما طلبا ذلك لتعرف حالهما ومآل أمرهما‏.‏ وإن أبيت ذلك فأي مانع من أن يكون الاستفتاء في الأمر مع أن الاستفتاء إنما يكون في الحادثة، وهي هنا الرؤييان لما أن بين الأمر وتلك الحادثة اتحاداً كما ادعاه

هو، ووجه به إسناد القضاء إلى الأمر بالمعنى الذي حمله عليه مع أنه من أحوال مآله، وليس له أن يقول بصحة اعتبار العينية في إسناد القضاء وعدم صحة اعتبارها في تعلق الاستفتاء إذ بعد اعتبارالعينية بين شيئين يكون صحة نسبة ما هو من أحوال أحدهما إلى الآخر دون صحة نسبة ما هو من أحوال ذلك الآخر إليه ترجيحاً بلا مرجح، ومنع ذلك مكابرة، ويرجح ما ذهب إليه الكثير أن فيه سلامة من نزع الخف قبل الوصول إلى الماء كما لا يخفى على من تيمم كعبة الإنصاف، وبأن ما ذكره في تعليل عدم صحة تفسير الأمر بما اتهما به وسجنا لأجله لا يخلو عن دغدغة على أن ذلك كان تعريضاً بصاحب «الكشاف» وهو على ما قال الطيبي‏:‏ ما عنى بالأمر إلا العاقبة، نعم صدر كلامه ظاهر فيما ذكر والأمر فيه سهل، ولعل وجه الأمر بالتأمل في كلام هذا المحقق مجموع ما ذكرناه فتأمل‏.‏ ثم إن هذا الإخبار كما يحتمل أن يكون للرد عليهما حسبما ورد في الأثر يحتمل أن يكون تحقيقاً لتعبيرة وتأكيداً له، ولا يشكل على الأول أنه لا داعي لجحود الشرابي لأنا نقول على تقدير كذبهما في ذلك يحتمل أن يكون لمراعاة جانب صاحبه الخباز‏.‏ وجاء في بعض الآثار أن الذي جحد هو الخباز‏.‏ فحينئذ الأمر واضح‏.‏ واستدل بذلك على ما هو المشهور من أ ن الرؤيا تقع كما تعبر، ولذا قيل‏:‏ المنام على جناج طائر إذا قص وقع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ‏}‏ أي يوسف عليه السلام‏.‏ ‏{‏للَّذي ظَنَّ أَنَّهُ نَاج‏}‏ أوثر على صيغة المضارع مبالغة في الدلالة على تحقيق النجاة حسبما يفيده قوله‏:‏ ‏{‏قضي الأمر‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 41‏]‏ الخ، وهو السر في إيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال‏:‏ للذي ظنه ناجياً ‏{‏مِّنْهُمَا‏}‏ أي من صاحبيه، وإنما ذكر بوصف النجاة تمهيداً لمناط التوصية بالذكر بما يدور عليه الامتياز بينه وبين صاحبه المذكور بوصف الهلاك‏.‏ والظانّ هو يوسف عليه السلام لا صاحبه، وإن ذهب إليه بعض السلف لأن التوصية لا تدور على ظنّ الناجي بل على ظنّ يوسف عليه السلام وهو بمعنى اليقين كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 46‏]‏ ونظائره‏.‏ ولعل التعبير به من باب إرخاء العنان والتأدب مع الله تعالى، فالتعبير على هذا بالوحي كما ينبئ عنه قوله‏:‏ ‏{‏قضي الأمر‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 41‏]‏ الخ، وقيل‏:‏ هو بمعناه، والتعبير بالاجتهاد والحكم بقضاء الأمر أيضاً اجتهادي‏.‏ واستدل به من قال‏:‏ إن تعبير الرؤيا ظني لا قطعي، والجار والمجرور إما في موضع الصفة - لناج - أو الحال من الموصول ولا يجوز أن يكون متعلقاً - بناج - لأنه ليس المعنى عليه ‏{‏اذْكُرْنِي‏}‏ بما أنا عليه من الحال والصفة‏.‏ ‏{‏عنْدَ رَبِّكَ‏}‏ سيدك، روي أنه لما انتهى بالناجي في اليوم الثالث إلى باب السجن قال له‏:‏ أوصني بحاجتك، فقال عليه السلام‏:‏ حاجتي أن تذكرني عند ربك وتصفني بصفتي التي شاهدتها ‏{‏فَأَنْسَاهُ الشيْطَانُ‏}‏ أي أنسى ذلك الناجي بوسوسته وإلقائه في قلبه أشغالاً حتى يذهل عن الذكر، وإلا فالإنساء حقيقة لله تعالى، والفاء للسببية فإن توصيته عليه السلام المتضمنة للاستعانة بغيره سبحانه وتعالى كانت باعثة لما ذكر من إنسائه ‏{‏ذكْرَ رَبِّه‏}‏ أي ذكر يوسف عليه السلام عند الملك، والإضافة لأدنى ملابسة، ويجوز أن تكون من إضافة المصدر إلى المفعول بتقدير مضاف أي ذكر إخبار ربه‏.‏

‏{‏فَلَبثَ‏}‏ أي فمكث يوسف عليه السلام بسبب ذلك القول أو الإنساء ‏{‏في السِّجْن بضْعَ سنينَ‏}‏ البضع ما بين الثلاث إلى التسع كما روي عن قتادة، وعن مجاهد أنه من الثلاث إلى دون المائة والألف، وهو مأخوذ من البضع بمعنى القطع؛ والمراد به هنا في أكثر الأقاويل سبع سنين وهي مدة لبثه كلها فميا صححه البعض، وسنتان منها كانت مدة لبثه بعد ذلك القول، ولا يأبى ذلك فاء السببية لأن لبث هذا المجموع مسبب عما ذكر، وقيل‏:‏ إن هذه السبع مدة لبثه بعد ذلك القول، وقد لبث قبلها خمساً فجميع المدة اثنتا عشرة سنة، ويدل عليه خبر «رحم الله تعالى أخي يوسف لو لم يقل‏:‏ ‏{‏اذكرني عند ربك‏}‏ لما لبث في السجن سبعاً بعد خمس»‏.‏

وتعقب بأن الخبر لم يثبت بهذا اللفظ وإنما الثابت في عدة روايات «ما لبث في السجن طول ما لبث» وهو لا يدل على المدعى‏.‏ وروى ابن أبي حاتم عن طاوس والضحاك تفسير البضع ههنا بأربع عشرة سنة وهو خلاف المعروف في تفسيره، والأولى أن لا يجزم بمقدار معين كما قدمنا‏.‏ وكون هذا اللبث مسبباً عن القول هو الذي تظافرت عليه الأخبار كالخبر السابق والخبر الذي روي عن أنس قال‏:‏ «أوحى الله تعالى إلى يوسف عليه السلام من استنقذك من القتل حين هم إخوتك أن

يقتلوك، قال‏:‏ أنت يا رب، قال‏:‏ فمن استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه، قال‏:‏ أنت يا رب، قال‏:‏ فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك، قال‏:‏ أنت يا رب، قال‏:‏ فما بالك نسيتني وذكرت آدمياً، قال‏:‏ يا رب كلمة تكلم بها لساني، قال‏:‏ وعزتي لأدخلنك في السجن بضع سنين» وغير ذلك من الأخبار‏.‏ ولا يشكل على هذا أن الاستعانة بالعباد في كشف الشدائد مما لا بأس به، فقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وتعاونوا على البر والتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ فكيف عوتب عليه السلام في ذلك لأن ذلك مما يختلف باختلاف الأشخاص، واللائق بمناصب الأنبياء عليهم السلام ترك ذلك والأخذ بالعزائم، واختار أبو حيان أن يوسف عليه السلام إنما قال للشرابي ما قال ليتوصل بذلك إلى هداية الملك وإيمانه بالله تعالى كما توصل إلى إيضاح الحق لصاحبيه، وإن ذلك ليس من باب الاستعانة بغير الله تعالى في تفريج كربه وخلاصه من السجن، ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر، وموجب للطعن في غير ما خبر، نعم إنه اللائق بمنصبه عليه الصلاة والسلام‏.‏ وجوز بعضهم كون ضمير - أنساه - و‏{‏ربه‏}‏ عائدين على يوسف عليه السلام، وإنساء الشيطان ليس من الإغواء في شيء بل هو تك الأولى بالنسبة لمقام الخواص الرافعين للأسباب من البين، وأنت تعلم أن الأول هو المناسب لمكان الفاء، ولقوله تعالى الآتي‏:‏ ‏{‏وادّكر بعد أمّة‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 45‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلكُ‏}‏ وهو الريان وكان كافراً، ففي إطلاق ذلك عليه دلالة على ما قيل‏:‏ على جواز تسمية الكافر ملكاً، ومنعه بعضهم، وكذا منع أن يقال له أمير احتجاجاً بأنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل «عظيم الروم» ولم يكتب ملك الروم أو أميرهم لما فيه من إيهام كونه على الحق، وجعل هذا حكاية اسم مضى حكمه وتصرم وقته، ومثله لا يضر أي قال لمن عنده‏:‏ ‏{‏إنِّي أَرَى‏}‏ أي رأيت، وإيثار صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية ‏{‏سَبْعَ بَقَرَات سمَان‏}‏ ممتلئات لحماً وشحماً

من سمن كسمع سمانة بالفتح وسمناً كعنباً فهو سامن وسمين، وذكر أن سميناً وسمينة تجمع على سمان، فهو ككرام جمع كريم وكريمة، يقال‏:‏ رجال كرام ونسوة كرام ‏{‏يَأْكُلُهُنَّ‏}‏ أي أكلهن، والعدول إلى المضارع لاستحضار الصورة تعجيباً‏.‏ والجملة حال من البقرات أو صفة لها ‏{‏سَبْعٌ عجَافٌ‏}‏ أي سبع بقرات مهزولة جداً من قولهم‏:‏ نصل أعجف أي دقيق وهو جمع عجفاء على خلاف القياس، والقياس عجف كحمراء وحمر، فإن فعلاء وأفعل لا يجمع على فعال لكنهم بنوه على سمان وهم قد يبنون الشيء على ضده كقولهم‏:‏ عدوة بالهاء لمكان صديقة، وفعول بمعنى فاعل لا تدخله الهاء، وأجري ‏(‏سمان‏)‏ على المميز فجر على أنه وصف له، ولم ينصب على أن يكون صفة للعدد المميز لأن وصف تمييزه وصف له معنى، وقد ذكروا أنه إذا وصف التمييز كان التمييز بالنوع وإذا وصف المميز كان التمييز بالجنس، ولا شك أن الأول أولى وأبلغ لاشتمال النوع على الجنس فهو أزيد في رفع الإبهام المقصود من التمييز، فلهذا رجح ما في النظم الكريم على غيره‏.‏ ولم يقل‏:‏ ‏{‏سبع عجاف‏}‏ بالإضافة، وجعله صفة للتمييز المقدر على قياس ما قبله لأن التمييز لبيان الجنس والحقيقة والوصف لا يدل عليه بل على شيء ما له حال وصفة، فلذا ذكروا أن التمييز يكون باسم الجنس الجامد ولا يكون بالوصف المشتق في فصيح الكلام، فتقول‏:‏ عندي ثلاثة قرشيون ولا تقول قرشيين بالإضافة، وأما قولك‏:‏ ثلاثة فرسان وخمسة ركبان فلجريان الفارس والراكب مجرى الأسماء لاستعمالها في الأغلب من غير موصوف‏.‏

واعترض صاحب «الفرائد» بأن الأصل في العدد التمييز بالإضافة فإذا وصف السبع بالعجاف فلا بد من تقدير المضاف غليه، وكل واحد من الوصف وتقدير المضاف إليه خلاف الأصل أما إذا أضيف كانت الصفة قائمة مقام الموصوف فقولنا‏:‏ ‏{‏سبع عجاف‏}‏ في قوة قولنا‏:‏ سبع بقرات عجاف، فالتمييز المطلوب بالإضافة حاصل بالإضافة إلى الصفة لقيامها مقام الموصوف، فكما يجوز سبع بقرات عجاف يجوز سبع عجاف، وإنما لم يضف لأنه قائم مقام البقرات وهي موصوفة بعجاف فكانت من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة وهي غير جائزة إلا بتأويل‏.‏

وتعقب ذلك القطب بأنه هب أن الأصل في العدد التمييز بالإضافة لكن لما سبق ذكر ‏{‏سبع بقرات سمان‏}‏ تبين أن السبع العجاف بقرات فهذا السبع مميز بما تقدم فقد حصل التمييز بالإضافة فلو أضيف إلى العجاف لكان العجاف قائماً مقام البقرات في التمييز فيكون التمييز بالوصف وهو خلاف الأصل، وأما أن السبع قائم مقام البقرات فإنما يكون إذا وصف بالعجاف أما إذا أضيف بكون العجاف قائمة مقام البقرات فلا يلزم إضافة الموصوف إلى الصفة اه وفيه تأمل‏.‏

وذكر العلامة الطيبي في هذا المقام أنه يمكن أن يقال‏:‏ إن المميز إذا وصف ثم رفع به الإبهام والإجمال من العدد آذن بأنهما مقصودان في الذكر بخلافه إذا ميز ثم وصف بل الوصف أدعى لأن المميز إنما استجلب للوصف، ومن ثمّ ترك التمييز في القرائن الثلاث والمقام يقتضي ذلك لأن المقصود بيان الابتلاء بالشدة بعد الرخاء، وبيان الكمية بالعدد والكيفية بالبقرات تابع فليفهم، ويعلم من ذلك وجه العدول إلى ما في النظم الكريم عن أن يقال‏:‏ إني أرى سبع بقرات عجاف يأكلن سبعاً سماناً الأخصر منه‏.‏ وقيل‏:‏ إن التعبير بذلك بأنه أول ما رأى السمان، فقد روي أنه رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس ثم خرج عقيبهنّ سبع بقرات عجاف فابتلعت السمان ولم يتبين عليها منهن شيء‏.‏

‏{‏وَسَبْعَ سُنْبُلاَت خُضْر‏}‏ قد انعقد حبها ‏{‏وَأُخَرَ‏}‏ أي وسبعاً أخر ‏{‏يَابسَات‏}‏ قد أدركت والتوت على الخضر حتى غلبتها ولم يبق من خضرتها شيء على ما روي، ولعل عدم التعرض لذكر العدد للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات، ولا يجوز عطف أخر على سنبلات لأن العطف على المميز يقتضي أن يكون المعطوف والمعطوف عليه بياناً للمعدود سواء قيل‏:‏ بالانسحاب أو بتكرير العامل لأن المعنى على القولين لا يختلف؛ وإنما الاختلاف في التقدير اللفظي؛ وحينئذٍ يلزم التدافع في الآية لأن العطف يقتضي أن تكون السنبلات خضرها ويابسها سبعاً، ولفظ ‏{‏أخر‏}‏ يقتضي أن يكون غير السبع وذلك لأن تباينها في الوصف أعني الخضرة واليبس منطوق، واشتراكهما في السنبلية فيكون مقتضى لفظ ‏{‏أخر‏}‏ تغايرهما في العدد ولزم التدافع، وعلى هذا يصح أن تقول‏:‏ عندي سبعة رجال قيام وقعود بالجر لأنك ميزت سبعة رجال موصوفين بالقيام والقعود على أن بعضهم كذا وبعضهم كذا، ولا يصح سبعة رجال قيام وآخرين قعود لما علمت، فالآية والمثال في هذا المبحث على وزان واحد كما يقتضيه كلام «الكشاف»، ونظر في ذلك صاحب «الفرائد» فقال‏:‏ إن الصحيح أن العطف في حكم تكرير العامل لا الانسحاب فلو عطف آخرين على رجال قيام لكان سبعة مكررة في المعطوف أي وسبعة آخرين أي رجال آخرين قعود، ويفسد المعنى لأن المفروض أن الرجال سبعة، وأما الآية فلو كرر فيها وقيل‏:‏ وسبع أخر أي وسبع سنبلات أخر استقام لأن الخضر سبع واليابسات سبع، نعم لو خرج ذلك على المرجوح وهو الانسحاب أدى إلى أن السبع المذكورة مميزة بسنبلات خضر وسنبلات أخر يابسات، وفسد إذ المراد أن كلاً منهما سبعة لا أنها سبعة، فالمثال والآية ليسا على وزان إذ هو على تكرير العامل يفسد وعلى الانسحاب يصح، والآية بالعكس، ثم بنى على ما زعمه من أن الصحيح قول التكرير جواز العطف‏.‏

وادعى أن الأولى أن يكون العطف على ‏{‏خضر‏}‏ لا على ‏{‏يابسات‏}‏ ليدل على موصوف آخر، وهو سنبلات ولا يقدر موصوفها بقرينة السياق، ولا يخفى أن الكلام إنما هو على تقدير أن يكون مميز السبع ما علمت، وعلى ذلك يلزم التدافع، ولا يبنى على فرض أنهم سبعة أو أربعة عشر فيصح في الآية ولا يصح في المثال فإنه وهم‏.‏ ومن ذلك يظهر نه لا مدخل للتكرير والانسحاب في هذا الفرض، ثم إن المختار قول الانسحاب على ما نص عليه الشيخ ابن الحاجب وحققه في غير موضع، وأما الاستدلال بالآية على الانسحاب لا التقدير وإلا لكان لفظ ‏{‏أخر‏}‏ تطويلاً يصان كلام الله تعالى المعجز عنه فغير سديد على ما في «الكشف» لأن القائل بالتقدير يدعي الظهور في الاستقلال، وكذلك القائل بالانسحاب يدعي الظهور في المقابل على ما نص عليه أئمة العربية فلا يكون التأكيد - بأخر - لإرادة النصوص تطويلاً بل إطناباً يكون واقعاً في حاق موقعه هذا‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمَلأُ‏}‏ خطاب للأشراف ممن يظن به العلم‏.‏ يروى أنه جمع السحرة والكهنة والمعبرين فقال لهم يا أيها الملأ ‏{‏أَفْتُوني في رُءيَايَ‏}‏ هذه أي عبروها وبينوا حكمها وما تؤول إليه من العاقبة‏.‏ وقيل‏:‏ هو خطاب لجلسائه وأهل مشورته، والتعبير عن التعبير بالإفتاء لتشريفهم وتفخيم أمر رؤياه ‏{‏إن كُنتُمْ للرُّءْيَا تَعْبُرُونَ‏}‏ أي تعلمون عبارة جنس الرؤيا علماً مستمراً وهي الانتقال من الصورة المشاهدة في المنام إلى ما هي صورة ومثال لها من الأمور الآفاقية والأنفسية الواقعة في الخارج من العبور وهو المجاوزة، تقول‏:‏ عبرت النهر إذا قطعته وجاوزته، ونحوه أولتها أي ذكرت ما تؤول غليه وعبرت الرؤيا بالتخفيف عبارة أقوى وأعرف عند أهل اللغة من عبرت بالتشديد تعبيراً حتى أن بعضهم أنكر التشديد، ويرد عليه ما أنشده المبرد في «الكامل»

لبعض الأعراب وهو‏:‏

رأيت رؤيا ثم عبرتها *** وكنت للأحلام عبارا

والجمع بين الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار كما أشير إليه‏.‏ واللام قيل‏:‏ متعلقة بمحذوف والمقصود بذاك البيان كأنه لما قيل‏:‏ ‏{‏تعبرون‏}‏ قيل‏:‏ لأي شيء‏؟‏ فقيل‏:‏ للرؤيا فهي للبيان كما في سقيا له إلا أن تقديم البيان على المبين لا يخلو عن شيء‏.‏

وقيل - واختاره أبو حيان - إنها لتقوية الفعل المذكور لأنه ضعف بالتأخير، ويقال لها‏:‏ لام التقوية وتدخل في الفصيح على المعمول إذا تقدم على عامله مطلقاً وعلى معمول غير الفعل إذا تأخر كزيد ضارب لعمرو، وفي كونها زائدة أو لا خلاف، وقيل‏:‏ إنه جئ بها لتضمين الفعل المتعدي معنى فعل قاصر يتعدى باللام أي إن كنتم تنتدبون لعبارتها، وجوز أن يكون ‏{‏للرؤيا‏}‏ خبر كان كما تقول‏:‏ كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقبلاً به متمكناً منه، وجملة ‏{‏تعبرون‏}‏ خبر آخر أو حال، ولا يخفى ما في ذلك من التكلف، وكذا فيما قبله‏.‏ وقرأ أبو جعفر بالإدغام في الرؤيا وبابه بعد قلب الهمزة واواً ثم قلب الواو ياءاً لسبقها إياها ساكنة، ونصوا على شذوذ ذلك لأن الواو بدل غيرلازم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُوا‏}‏ استئناف بياني كأنه قيل‏:‏ فماذا قال الملأ للملك إذ قال لهم ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ قالوا‏:‏ هي ‏{‏أَضْغَاثُ أَحْلاَم‏}‏ أي هي أضغاث الخ، وهي جمع ضغث وهو أقل من الحزمة وأكثر من القبضة من أخلاط النبات، وقد يطلق على ما كان من جنس واحد كما في قوله‏:‏

خود كأن فراشها وضعت به *** أضغاث ريحان غداة شمال

وجعل من ذلك ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 44‏]‏ فقد روي أن أيوب عليه السلام أخذ عثكالاً من النخل فضرب به‏.‏ وفي «الكشاف» ‏(‏‏(‏ أن أضغاث الأحلام تخاليطها وأباطيلها وما يكون منها من حديث نفس أو وسوسة شيطان، وقد استعيرت لذلك، وأصلها ما جمع من أخلاط النبات وحزم وإضافتها على معنى نم أي أضغاث من أحلام‏)‏‏)‏ وأورد عليه أن الأضغاث إذا استعيرت للأحلام الباطلة والأحلام مذكورة، ولفظ هي المقدر عبارة عن رؤيا مخصوصة فقد ذكر المستعار والمستعار له، وذلك مانع ن الاستعارة على الصحيح عندهم، وقد أجاب الكثير عن ذلك بما لا يخلو عن بحث‏.‏ وذكر بعض المحققين في تقرير ذاك وجهين‏:‏ الأول‏:‏ أنه يريد أن حقيقة الأضغاث أخلاط النبات فشبه به التخاليط والأباطيل مطلقاً سواء كانت أحلاماً أم غيرها، ويشهد له قول «الصحاح» و«الأساس»‏:‏ ضغث الحديث خلطه، ثم أريد هنا بواسطة الإضافة أباطيل مخصوصة فطرفا الاستعارة أخلاط النبات والأباطيل الملفقات، فالأحلام ورؤيا الملك خارجان عنهما فلا يضر ذكرهما كما إذا قلت‏:‏ رايت أسد قريش فهو قرينة أو تجريد، وقوله‏:‏ تخاليطها تفسير له بعد التخصيص، وقوله‏:‏ وقد استعيرت لذلك إشارة إلى التخاليط‏.‏ الثاني‏:‏ أن الأضغاث استعيرت للتخاليط الواقعة في الرؤيا الواحدة فهي أجزاؤها لا عينها فالمستعار منه حزم النبات والمستعار له أجزاء الرؤيا، وهذا كما إذا استعرت الورد للخد، ثم قلت‏:‏ شممت ورد هند مثلاً فإنه لا يقال‏:‏ إنه ذكر فيه الطرفان اه، ولا يخفى ما فيه من التكلف وارتكاب غير الظاهر‏.‏ واستظهر بعضهم كون ‏{‏أضغاث أحلام‏}‏ من قبيل لجين الماء، ولا يخفى أنه سالم عما أورد على الزمخشري إلا أن صاحب «الأساس» قد صرح بأن ذلك من المجاز، والمتبادر منه المجاز المتعارف الذي لا يطلق على ما ذكر، ولعل الأمر في ذلك سهل‏.‏

والأحلام جمع حلم بضمة وبضمتين المنامات الباطلة على ما نص عليه جمع، وقال بعضهم‏:‏ الرؤيا والحلم عبارة عما يراه النائم مطلقاً لكن غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن، وغلب الحلم على خلافه، وفي الحديث «الرؤيا من الله تعالى والحلم من الشيطان» وقال التوربشتي‏:‏ الحلم عند العرب يستعمل استعمال الرؤيا والتفريق من الاصطلاحات التي سنها الشارع صلى الله عليه وسلم للفصل بين الحق والباطل كأنه كره أن يسمى ما كان من الله وما كان من الشيطان باسم واحد فجعل الرؤيا عبارة عن القسم الصالح لما فيها من الدلالة على مشاهدة الشيء بالبصر والبصيرة، وجعل الحلم عبارة عما كان من الشيطان لأن أصل الكلمة لم تستعمل إلا فيما يخيل للحالم في منامه من قضاء الشهوة بما لا حقيقة له اه وهو كلام حسن‏.‏

ومما يشهد له في دعوى كون الحلم يستعمل عند العرب استعمال الرؤيا البيت السابق الذي أنشده المبرد كما لا يخفى‏.‏ وإنما قالوا ‏{‏أضغاث أحلام‏}‏ بالجمع مع أن الرؤيا ما كانت إلا واحدة للمبالغة في وصف ذلك بالبطلان، وهذا كما يقال‏:‏ فلان يركب الخيل ويلبس عمائم الخز لمن لا يركب إلا فرساً واحداً وما له إلا عمامة فردة‏.‏

وفي «الفرائد» لما كانت ‏{‏أضغاث أحلام‏}‏ مستعارة لما ذكر وهي تخاليطها وأباطيلها وهي متحققة في رؤيا واحدة بحسب أنها متركبة من أشياء كل منها حلم فكانت أحلاماً، قال الشهاب‏:‏ وهو واه وإن استحسنه العلامة الطيبي، نعم ليس هذا من إطلاق الجمع على الواحد لوجود ذلك في هذا الجنس إذ الإضافة على معنى في، ثم نقل عن الرضي أنه قال في «شرح الشافية» إن جمع القلة ليس بأصل في الجمع لأنه لا يذكر إلا حيث يراد بيان القلة فلا يستعمل لمجرد الجمعية والجنسية كما يستعمل له جمع الكثرة، يقال‏:‏ فلان حسن الثياب في معنى حسن الثوب ولا يحسن حسن الثوب وكم عندك من الثوب أو من الثياب ولا يحسن من الأثواب اه، ثم قال‏:‏ وقد ذكره الشريف في «شرح المفتاح» وهو مخالف لما ذكروه هنا فتأمله، ولعل ما ذكر بعد تسليمه إنما هو في جمع القلة الذي معه جمع كثرة كما ذكره في المثال لا في ذلك وجمع القلة الذي ليس معه جمع كثرة كماهنا، فإنا لم نجد في «كتب اللغة» جمعاً لمفرد هذا الجمع غير هذا الجمع، وقد ذكر غير واحد أن جمع القلة إذا لم يوجد معه جمع كثرة يستعمل استعمال جمع الكثرة، ثم لا يخفى حسن موقع الأضغاث مع السنابل، فيالله در شأن التننزيل ما أبدع رياض بلاغته‏.‏

‏{‏وَمَا نَحْنُ بتَأْويل الأَحْلاَم‏}‏ أي المنامات الباطلة ‏{‏بعَالمينَ‏}‏ لأنها لا تأويل لها وإنما التأويل للمنامات الصادقة، وهذا إما لشيوع الأحلام في أباطيلها وإما لكون اللام للعهد والمعهود الأضغاث منها، والكلام وارد على أسلوب‏:‏

على لا حب لا يهتدى بمنارهرضي الله عنR *** وهو إشارة إلى كبرى قياس ساقوه للعذر عن جهلهم كأنهم قالوا هذه رؤيا باطلة وكل رؤيا كذلك لا نعلم تأويلها أي لا تأويل لها حتى نعلمه ينتج هذه رؤيا لا تأويل لها‏.‏

وجوز أن يكون المراد من الأحلام الرؤى مطلقاً، وأل فيه للجنس، والكلام اعتراف منهم بقصور علمهم وأنهم ليسوا بنحارير في تأويل الرؤى مع أن لها تأويلاً، واختاره ابن المنير وادعى أنه الظاهر، وأن قول الملك لهم أولاً ‏{‏إن كنتم للرؤيا تعبرون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 43‏]‏ دليل على أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها لأنه أتى بكلمة الشك فجاء اعترافهم بالقصور مطابقاً لشك الملك الذي أخرجه مخرج استفهامهم عن كونهم عالمين، وأن قول الفتى‏:‏ ‏{‏أنا أنبئكم بتأويله‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 45‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 46‏]‏ دليل على ذلك أيضاً‏.‏

وذكر بعض المحققين أنه يشعر به عدولهم عما وقع في كلام الملك من العبارة المعربة عن مجرد الانتقال من الدال إلى المدلول حيث لم يقولوا بتعبير الأحلام أو عبارتها إلى التأويل المنبئ عن التصرف، والتكلف في ذلك لما بين الآيل والمآل من البعد‏.‏ واعترض بأنه على هذا يبقى قولهم‏:‏ ‏{‏أضغاث أحلام‏}‏ ضائعاً إذ لا دخل له في العذر، وأجيب بأنه يمكن أن يكون المقصود منه إزالة خوف الملك من تلك الرؤيا فلا يبقى ضائعاً‏.‏

وقال صاحب «الكشف»‏:‏ إن وجه ذلك أن يجعل الأول جواباً مستقلاً والثاني كذلك أي ههنا أمران‏:‏ أحدهما من جانب الرائي والثاني من جانب المعبر، ووجه تقديم الظرف علىعامله أنا أصحاب الآراء والتدابير وعلمنا بذلك رصين لا بتأويل الرؤى، ووجهه على الأول ظاهر، وادعى أن المقام يطابقه، ووروده على ذلك الأسلوب مقوله لا موهن خلافاً لما في «الانتصاف» ويقوى عند اختيار الوجه الثاني إذا كان الخطاب لجلسائه وأهل مشورته من أهل الحل والعقد لأن الأغلب على أمثالهم الجهل بمثل هذا العلم الذي لا يعلمه إلا أفراد من الناس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الَّذي نَجَا منْهُمَا‏}‏ أي صاحبي يوسف عليه السلام وهو الشرابي ‏{‏وَادَّكَرَ‏}‏ بالدال غير المعجمة عند الجمهور، وأصله اذتكر أبدلت التاء دالاً وأدغمت الدال فيها‏.‏ وقرأ الحسن غ- اذكر - بإبدال التاء ذالاً معجمة وإدغام الذال المعجمة فيها، والقراءة الأولى أفصح، والمعنى على كليهما تذكر ما سبق له مع يوسف عليه السلام ‏{‏بَعْدَ أُمَّة‏}‏ أي طائفة من الزمان ومدة طويلة‏.‏ وقرأ الأشهب العقيلي ‏{‏إمة‏}‏ بكسر الهمزة وتشديد الميم أي نعمة عليه بعد نعمة، والمراد بذلك خلاصه من القتل والسجن وإنعام ملكه عليه، وعلى هذا جاء قوله‏:‏

ألا لا أرى ذا ‏(‏إمة‏)‏‏}‏ أصبحت به *** فتتركه الأيام وهي كما هي

وقال ابن عطية ‏(‏‏(‏ المراد بعد نعمة أنعم الله تعالى بها على يوسف عليه السلام وهي تقريب إطلاقه‏)‏‏)‏ ولا يخفى بعده‏.‏ وقرأ ابن عباس وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم - وأمة - وأمه بفتح الهمزة والميم المخففة وهاء منونة من أمه يأمه أمهاً إذا نسي، وجاء في المصدر - أمه - بسكون الميم أيضاً فقد روي عن مجاهد وعكرمة وشبيل بن عزرة الضبعي أنهم قرأوا بذلك ولا عبرة بمن أنكر‏.‏ والجملة اعتراض بين القول والمقول، وجوز أن تكون حالاً من الموصول أو من ضميره في الصلة، ويحتاج ذلك إلى تقدير قد على المشهور، وقيل‏:‏ معطوفة على ‏(‏نجا‏)‏ وليس بشيء - كما قال بعض المحققين - لأن حق كل من الصلة والصفة أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصول والموصوف عند المخاطب كما عند المتكلم، ومن هنا قيل‏:‏ الأوصاف قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها أوصاف، وأنت تعلم أن تذكره بعد أمة إنما علم بهذه الجملة فلا معنى لنظمه مع نجاته المعلومة من قبل في سلك الصلة‏.‏

‏{‏أَنا أُنَبِّئُكُم بتَأْويله‏}‏ أي أخبركم بتأويل ذلك الذي خفي أمره بالتلقي ممن عنده علمه لا من تلقاء نفسي ولذلك لم يقل أفتيكم في ذلك، وعقبه بقوله‏:‏ ‏{‏فَأَرْسلُون‏}‏ إلى من عنده علمه، وأراد به يوسف عليه السلام وإنما لم يصرح به حرصاً على أن يكون هو المرسل إليه فإنه لو ذكره فلربما أرسلوا غيره وضمير الجمع إما لأنه أراد الملك وحده لكن خاطبه بذلك على سبيل التعظيم كما هو المعروف في خطاب الملوك، ويؤيده ما روي أنه لما سمع مقالة القوم جثى بين يدي الملك وقال‏:‏ إن في السجن رجلاً عالماً يعبر الرؤيا فابعثوني إليه فبعثوه وكان السجن - على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - في غير مدينة الملك، وقيل‏:‏ كان فيها، قال أبو حيان ‏(‏‏(‏ ويرسم الناس اليوم سجن يوسف عليه لاسلام في موضع على النيل بينه وبين الفسطاط ثمانية أميال‏)‏‏)‏ والله تعالى أعلم بحقيقة الحال‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه كان يقرأ - أنا آتيكم - مضارع أتى من الإتيان فقيل له‏:‏ إنما هو أنا أنبئكم فقال‏:‏ أهو كان ينبئهم‏؟‏‏!‏، وأخرج ابن المنذر وغيره عن أبيّ أنه قرأ أيضاً كذلك‏.‏ وفي «البحر» أنه كذا في الإمام أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدّيقُ‏}‏ في الكلام حذف اي فأرسلوه فأتاه فقال‏:‏ يا يوسف‏.‏ ووصفه بالمبالغة في الصدق حسبما علمه وجرب أحواله في مدة إقامته معه في السجن لكونه بصدد اغتنام آثاره واقتباس أنواره، فهو من باب براعة الاستهلال‏.‏ وفيه إشارة إلى أنه ينبغي للمستفتي أن يعظم المفتي، واستدل بذلك على أنهما لم يكذبا على يوسف في منامهما وأنهما كذبا في قولهما‏:‏ كذبنا إن ثبت‏.‏

‏{‏أَفْتنَا في سَبْع بَقَرَات سمَان يَأكُلُهُنَّ سَبْعٌ عجَافٌ وَسَبْع سُنْبُلاَت خُضْر وَأُخَرَ يَابِسَات‏}‏ أي في رؤيا ذلك، وإنما لم يصرح به لوضوح مرامه بقرينة ما سبق من معاملتهما ولدلالة مضمون الحادثة عليه حيث إن مثله لا يقع في عالم الشهادة، والمعنى بين لنا مآل ذلك وحكمه‏.‏ وعبر عن ذلك بالإفتاء ولم يقل كما قال هو وصاحبه أولاً ‏{‏نبئنا بتأويله‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 36‏]‏ تفخيماً لشأنه عليه السلام حيث عاين رتبته في الفضل، ولم يقل‏:‏ أفتني مع أنه المستفتي وحده إشعاراً بأن الرؤيا ليست له بل لغيره ممن له ملابسة بأمور العامة وأنه في ذلك معبر وسفير، ولذا لم يغير لفظ الملك، ويؤذن بهذا قوله‏:‏ ‏{‏لَّعَلِّي أَرْجعُ إلَى النَّاس‏}‏ أي غلى الملك ومن عنده أو إلى أهل البلد فأنبئهم بما أفتيت ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك ويعملون بمقتضاه أو يعلمون فضلك ومكانك مع ما أنت فيه من الحال فتتخلص منه‏.‏ والجملة عند أبي حيان على الأول كالتعليل للرجوع وعلى الثاني كالتعليل لأفتنا - وإنما لم يبت القول بل قال‏:‏ ‏{‏لعلي‏}‏ و‏{‏لعلهم‏}‏ مجاراة معه عليه السلام على نهج الأدب واحترازاً عن المجازفة إذ لم يكن على يقين من الرجوع‏:‏

فبينما المرء في الأحياء مغبط *** إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير

ولا من علمهم بذلك فربما لم يعلموه إما لعدم فهمهم أو لعدم اعتمادهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏قَالََ‏}‏ مستأنف على قياس ما مر غير مرة ‏{‏تَزْرَعُونَ سَبْعَ سنينَ دَأَباً‏}‏ قرأ حفص بفتح الهمزة والجمهور بإسكانها، وقرئ - داباً - بألف من غير همز على التخفيف، وهو في كل ذلك مصدر لدأب وأصل معناه التعب، ويكنى به عن العادة المستمرة لأنها تنشأ من مداومة العمل اللازم له التعب، وانتصابه على الحال من ضمير ‏{‏تزرعون‏}‏ أي دائبين أو ذوي دأب، وأفرد لأن المصدر الأصل فيه الإفراد أو على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف أي تدأبون دأباً‏.‏ والجملة حالة أيضاً، وعند المبرد مفعول مطلق - لتزرعون - وذلك عنده نظير قعد القرفصاء وليس بشيء‏.‏ وقد أول عليه السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، فأخبرهم بأنهم يوظبون على الزراعة سبع سنين ويبالغون فيها إذ بذلك يتحقق الخصب الذي هو مصداق البقرات السمان وتأويلها، وقيل‏:‏ المراد الأمر بالزراعة كذلك، فالجملة خبر لفظاً أمر معنى، وأخرج على صورة الخبر مبالغة في إيجاب إيجاده حتى كأنه وقع وأخبر عنه‏.‏

وأيد بأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا حَصَدتُّمْ‏}‏ أي في كل سنة ‏{‏فَذَرُوهُ في سُنبُله‏}‏ ولا تذروه كيلا يأكله السوس كما هو شأن غلال مصر ونواحيها إذا مضى عليها نحو عامين، ولعله استدل على ذلك بالسنبلات الخضر يناسب كونه أمراً مثله، قيل‏:‏ لأنه لو لم يؤوّل ذلك بالأمر لزم عطف الإنشاء على الخبر لأن - ما - إما شرطية أو موصولة متضمنة لمعنى الشرط، وعلى كل حال فلكون الجزاء إنشاء تكون إنشائية معطوفة على خبرية‏.‏ وأجيب بأنا لا نسلم أن الجملة الشرطية التي جوابها إنشائي إنشائية، ولو سلم فلا نسلم العطف بل الجملة مستأنفة لنصحهم وإرشادهم إلى ما ينبغي أن يفعلوه حيث لم يكن معتاداً لهم كما كان الزرعكذلك، أو هي جواب شرط مقدر أي إن زرعتم فما حصدتم الخ، وأيضاً يحتمل الأمر عكس ما ذكروه بأن يكون ذروه بمعنى تذروه، وأبرز في صورة الأمر لأنه بإرشاده فكأنهم أمرهم به‏.‏ والتحقيق ما في «الكشف» من أن الأظهر أن ‏{‏تزرعون‏}‏ على أصله لأنه تأويل المنام بدليل قوله الآتي‏:‏ ‏{‏ثم يأتي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 48‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فما حصدتم فذروه‏}‏ اعتراض اهتماماً منه عليه السلام بشأنهم قبل تتميم التأويل، وفيه ما يؤكد أمر السابق واللاحق كأنه قد كان فهو يأمرهم بما فيه صلاحهم وهذا هو النظم المعجز انتهى‏.‏ وذكر بعضهم أن - ما حصدتم - الخ على تقدير كون ‏{‏تزرعون‏}‏ بمعنى ازرعوا داخل في العبارة فإن أكل السبع العجاف السبع السمان وغلبة السنبلات اليابسات الخضر دال على أنهم يأكلون في السنين المجدبة ما حصل في السنين المخصبة، وطريق بقائه تعلموه من يوسف عليه السلام فبقي لهم في تلك المدة‏.‏ وقيل‏:‏ إن تزرعون على هذا التقدير وكذا ما بعده خارج عن العبارة، والكل كما ترى‏.‏

‏{‏إلاَّ قَليلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ‏}‏ أي اتركوا ذلك في السنبل إلا ما لا غنى عنه من القليل الذي تأكلونه في تلك السنين، وفيه إرشاد إلى التقليل في الأكل‏.‏ وقرأ السلمي ‏(‏مما يأكلون‏)‏‏}‏ بالياء على الغيبة أي يأكل الناس، والاقتصار على استثناء المأكول دون البذر لكون ذلك معلوماً من قوله عليه السلام‏:‏ ‏{‏تزرعون سبع سنين‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ يَأتي من بَعْد ذَلكَ‏}‏ أي من بعد السنين السبع المذكورات، وإنما لم يقل من بعدهن قصداً غلى تفخيم شأنهن ‏{‏سَبْعٌ شدَادٌ‏}‏ اي سبع سنين صعاب على الناس، وحذف التمييز لدلالة الأول عليه ‏{‏يَأكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ‏}‏ أي ما ادخرتم في تلك السنين من الحبوب المتروكة في سنابلها لأجلهن‏.‏ وإسناد الأكل إليهن مع أنه حال الناس فيهن مجازي كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والنهار مبصراً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 67‏]‏ واللام في ‏{‏لهن‏}‏ ترشيح لذلك، وكان الداعي إليه التطبيق بين المعبر والمعبر به، ويجوز أن يكون التعبير بذلك للمشاكلة لما وقع في الواقعة‏.‏ وفسر بعضهم الأكل بالإفناء كما في قولهم‏:‏ أكل السير لحم الناقة أي أفناه وذهب به ‏{‏إلاَّ قَليلاً مِّمَّا تُحْصنُونَ‏}‏ أي تحرزونه وتخبئونه لبزور الزراعة مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ يَأتي من بَعْد ذَلكَ‏}‏ أي السنين الموصوفة بما ذكر من الشدة وأكل المدخر من الحبوب ‏{‏عَامٌ‏}‏ هو كالسنة لكن كثيراً ما يستعمل فيما فيه الرخاء والخصب، والسنة فيما فيه الشدة والجدب ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة، وكأنه تحاشياً عن ذلك وتنبيهاً من أول الأمر على اختلاف الحال بينه وبين السوابق عبر به دون السنة ‏{‏فيه يُغَاثُ النَّاسُ‏}‏ أي يصيبهم غ يث أي مطر كما قال ابن عباس ومجاهد والجمهور فهو من غاث الثلاثي اليائي، ومنه قول الأعرابية‏:‏ غثنا ما شئنا؛ وقول بعضهم أذى البراغيث إذا البُرُّ أُغيث، وقيل‏:‏ هو من الغوث أي الفرج، يقال‏:‏ أغاثنا الله تعالى إذا أمدّنا برفع المكاره حين أظلتنا فهو رباعي واوي ‏{‏وَفيه يَعْصرُونَ‏}‏ من العصر المعروف أي يعصرون ما من شأنه أن يعصر من العنب والقصب والزيتون والسمسم ونحوها من الفواكه لكثرتها‏.‏ والتعرض لذكره كما قال بعض المحققين مع جواز الاكتفاء عنه بذكر الغيث المستلزم له عادة كما اكتفى به عن ذكر تصرفهم في الحبوب‏:‏ إما لأن استلزام الغيث له ليس كاستلزامه للحبوب إذ المذكورات يتوقف صلاحها على أمور أخرى غير المطر، وإما لمراعاة جانب المستفتي باعتبار حالته الخاصة به بشارة له، وهي التي يدور عليها حسن موقع تغليبه على الناس في قراءة حمزة والكسائي بالفوقانية‏.‏ وعن ابن عباس تفسير ذلك بيحلبون وكأنه مأخوذ من العصر المعروف لأن في الحلب عصر الضرع ليخرج الدر‏.‏ وتكرير ‏(‏فيه‏)‏ إما كما قيل‏:‏ للإشعار باختلاف ‏[‏أوقات‏]‏ ما يقع فيه زماناً وعنواناً، وإما لأن المقام مقام تعداد منافع ذلك العام، ولأجله قدم في الموضعين على العامل فإن المقام بيان أنه يقع في ذلك العام هذا وذاك لا بيان أنهما يقعان في ذلك العام كما يفيده التأخير، وجوز أن يكون التقديم للقصر علىمعنى أن غيثهم في تلك السنين كالعدم بالنسبة إلى عامهم ذلك وأن يكون ذلك في الأخير لمراعاة الفواصل، وفي الأول لرعاية حاله‏.‏

وقرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما والأعرج وعيسى البصرة ‏(‏يعصرون‏)‏‏}‏ على البناء للمفعول، وعن عيسى - تعصرون - بالفوقانية مبنياً للمفعول أيضاً من عصره الله تعالى إذا أنجاه أي ينجيهم الله سبحانه مما هم فيه من الشدة، وهو مناسب لقوله‏:‏ ‏{‏يغاث الناس‏}‏ وعن أبي عبيدة بالضم بالمنجاة وأنشد قول أبي زبيد في عثمان رضي الله تعالى عنه‏:‏

صادياً يستغيث غير مغاث *** ولقد كان عصرة المنجود

وقال ابن المستنير معناه يمطرون من أعصرت السحابة عليهم أي حان وقت عصر الرياح لها لتمطر فعلي صلة الفعل كما في عصرت الليمون على الطعام فحذفت وأوصل الفعل بنفسه أو تضمن أعصرت معنى مطرت فتعدى تعديته‏.‏

وفي «الصحاح» عصر القوم أي أمطروا، ومنه قراءة بعضهم ‏{‏وفيه يعصرون‏}‏ وظاهره أن اللفظ موضوع لذلك فلا يحتاج إلى التضمين عليه‏.‏ وحكى النقاش أنه قرئ ‏{‏يعصرون‏}‏ بضم الياء وكسر الصاد وتشديدها من عصر مشدداً للتكثير، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏وفيه تعصرون‏}‏ بكسر التاء والعين والصاد وتشديدها، وأصله تعتصرون فأدغم التاء في الصاد ونقل حركتها إلى العين، وأتبع حركة التاء لحركة العين، واحتمل أن يكون من اعتصر العنب ونحوه أو من اعتصر بمعنى نجا، ومن ذلك قوله‏:‏

لو بغير الماء حلقي شرق *** كنت كالغصان بالماء اعتصاري

ثم إن أحكام هذا العام المبارك كما أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة علم آتاه الله تعالى علمه لم يكن فيما سئل عنه، وروي مثل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعنيا أن ذلك بالوحي وهو الظاهر‏.‏ ولقد أتى عليه السلام بما يدل على فضله في آخر فتواه على عكس ما فعل بالوحي وهو الظاهر‏.‏ ولقد أتى عليه السلام بما يدل على فضله في آخر فتواه على عكس ما فعل أولاً عند الجواب عن رؤيا صاحبيه حيث أتى بذلك في أولها ووجه ذلك ظاهر‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذه البشارة منه عليه السلام لم تكن عن وحي بل لأن العادة جارية بأن انتهاء الجدب الخصب، أو لأن السنة الإلهية على أن يوسع على عباده سبحانه بعد ما ضيق عليهم، وفيه أنه لو كان كذلك لأجمل في البشارة، وإن حصر الجدب يقتضي تغييره بخصب مّا لا على ما ذكره خصوصاً على ما تقتضيه بعض القراءات من إغاثة بعضهم بعضاً فإنها لا تعلم إلا بالوحي‏.‏ ثم إنه عليه السلام بعد أن أفتاهم وأرشدهم وبشرهم كان يتوقع وقوع ما أخبر به، فقد أخرج ابن أب يحاتم عن زيد بن أسلم أنه عليه السلام كان بعد ذلك يصنع لرجل طعام اثنين فيقربه إلى الرجل فيأكل نصفه ويدع نصفه حتى إذا كان يوم قربه له فأكله كله، فقال عليه السلام‏:‏ هذا أول يوم من الشداد‏.‏ واستدل البلخي بتأويله لذلك على بطلان قول من يقول‏:‏ إن الرؤيا على ما عبرت أولاً فإنهم كانوا قد قالوا‏:‏

‏{‏أضغاث أحلام‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 44‏]‏ فلو كان ما قالوه مؤثراً شيئاً لأعرض عليه السلام عن تأويلها وفيه بحث، فقد روى أبو داود وابن ماجه عن أبي رزين «الرؤيا على جناح طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت، ولا تقصها إلا على وادّ وذي رأي»، ولعله إذا صح هذا يلتزم القول بأن الحكم على الرؤيا بأنها أضغاث أحلام وأنها لا ذيل لها ليس من التعبير في شيء، وإلا فالجمع بين ما هنا وبين الخبر مشكل‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ إنه ينبغي أن يخص ذلك بما يحتمل من الرؤيا وجوهاً فيعبر بأحدها فيقع عليه‏.‏ واستدلوا بذلك أيضاً على صحة رؤيا الكافر وهو ظاهر‏.‏ وقد ذكروا للاستفتاء عن الرؤيا آداباً‏:‏ منها أن لا يكون ذلك عند طلوع الشمس أو عند غروبها أو في الليل، وقالوا‏:‏ إن تعبيرها مناماً هو تعبيرها في نفس الأمر فلا تحتاج إلى تعبير بعد، وأكثروا القول فيما يتعلق بها، وأكثر ما قيل مما لا يظهر لي سره ولا أرى بعض ذلك إلا كأضغاث أحلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلكُ‏}‏ بعد ما جاء السفير المعبر بالتعبير وسمع منه ما سمع من نقير وقطمير‏.‏ ‏{‏ائْتُوني به‏}‏ لما رأى من علمه وفضله وإخباره عما لا يعلمه إلا اللطيف الخبير ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُ‏}‏ أي يوسف عليه السلام ‏{‏الرَّسُولُ‏}‏ وهو صاحبه الذي استفتاه، وقال له‏:‏ إن الملك يريد أن تخرج إليه‏.‏ ‏{‏قَالَ ارْجعْ إلَى رَبِّكَ‏}‏ أي سيدك وهو الملك ‏{‏فَسْئَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَة اللاَّتِي قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ‏}‏ أي فتشه عن شأنهن وحالهن، وإنما لم يقل فاسأله أن يفتش عن ذلك حثاً للملك على الجد في التفتيش لتتبين براءته وتتضح نزاهته فإن السؤال عن شيء ما يهيج الإنسان ويحركه للبحث لأنه يأنف من الجهل، ولو قال‏:‏ سله أن يفتش لكان تهييجاً له عن الفحص عن ذلك، وفيه جراءة عليه فربما امتنع منه ولم يلتفت إليه‏.‏ وإنما لم يتعرض عليه السلام لامرأة العزيز مع أنها الأصل الأصيل لما لاقاه تأدباً وتكرماً، ولذا حملها ذلك على الاعتراف بنزاهته وبراءة ساحته، وقيل‏:‏ احترازاً عن مكرها حيث اعتقدها باقية في ضلالها القديم، وأما النسوة فقد كان يطمع في صدعهن بالحق وشهادتهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم، ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي ولم يصرح بمراودتهن له واكتفى بالإيماء إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنَّ رَبِّي بكَيْدهنَّ عَلِيمٌ‏}‏ مجاملة معهن واحترازاً عن سوء مقالتهن وانتصابهن عند رفعهن إلى الملك للخصومة عن أنفسهن متى سمعن بنسبته لهن إلى الفساد‏.‏ وفي «الكشاف» أنه عليه السلام أراد بهذا أنه كيد عظيم لا يعلمه إلا الله تعالى، أو استشهد بعلم الله تعالى على أنهن كدنه وأنه برئ مما قرف به، أو أراد الوعيد لهن أي عليم بكيدهن فمجازيهن عليه انتهى‏.‏ وكان الحصر على الأول من قربه من زيد يعلم وصلوحه لإفادته عنده أو من اقتضاء المقام لأنه إذا حمله على السؤال ثم أضاف علمه إلى الله تعالى دل به على عظمته، وأن الكنه غير مأمول الوصول لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، وهذا هو الوجه، وفيه زيادة تشويق وبعث إلى تعرف الأمر، فالجملة عليه تتميم لقوله‏:‏ ‏{‏فاسأله‏}‏ الخ والكيد اسم لما كدنه به، وعلى الوجه الثاني تكون تذييلاً كأنه قيل‏:‏ احمله على التعرف يتبين له براءة ساحتي فإن الله سبحانه يعلم أن ذلك كان كيداً منهن وإذا كان كيداً يكون لا محالة بريئاً، والكيد هو الحدث؛ وعلى الثالث تحتملهما؛ والمعنى بعث الملك على الغضب له والانتقام منهن، وإلا لم يتلاءم الكلام ولا يطابق كرم يوسف عليه السلام الذي عجب منه نبينا عليه الصلاة والسلام؛ فقد أخرج غير واحد عن ابن عباس وابن مسعود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

«لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله تعالى يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى اشترطت أن يخرجوني ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال‏:‏ ‏{‏ارجع إلى ربك‏}‏ ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر أن كان حليماً ذا أناة» ودعاؤه له صلى الله عليه وسلم قيل‏:‏ إشارة إلى ترك العزيمة بالرخصة وهي تقديم حق الله تعالى بتبليغ التوحيد والرسالة على براءة نفسه، وجعله العلامة الطيبي من قبيل قولك لمن تعظمه‏:‏ رضي الله تعالى عنك ما جوابك عن كلامي‏.‏ وقيل‏:‏ يمكن أن يقال‏:‏ إن في براءته النفس من حق الله تعالى ما فيها فإنها إذا تحققت عندهم وقع ما تلاها موقع القبول‏.‏ وقد ذكر أن الاجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها، فقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من كان يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم» وأخرج مسلم من رواية أنس «أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان مع إحدى نسائه فمرّ به رجل فدعاه، وقال‏:‏ هذه زوجتي، فقال‏:‏ يا رسول الله من كنت أظن به فلم أكن أظن بك‏؟‏‏!‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏» إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم «وكأنه لهذا كان الزمخشري وكان ساقط الرجل قد أثبت على القضاة أن رجله لم تقطع في جناية ولا فساد بل سقطت من ثلج أصابها في بعض الأسفار، وكان يظهر مكتوب القضاة في كل بلد دخله خوفاً من تهمة السوء، فلعله عليه السلام خشي أن يخرج ساكتاً عن أمر ذنبه غير متضحة براءة ساحته عما سجن فيه وقرف به من أن يتسلق بهالحاشدون إلى تقبيح أمره ويجعلوه سلماً إلى حط قدره ونظر الناس إليه بعين الاحتقار فلا يعلق كلامه في قلوبهم ولا يترتب على دعوته قبولهم، وفي ذلك من تعري التبليغ عن الثمرة ما فيه، وما ذكره صلى الله عليه وسلم» ولو كنت مكانه «الخ كان تواضعاً منه عليه الصلاة والسلام لا أنه لو كان مكانه بادر وعجل وإلا فحلمه صلى الله عليه وسلم وتحمله واهتمامه بما يترتب عليه قبول الخلق أوامر الحق سبحانه وتعالى أمر معلوم لدى الخواص والعموم‏.‏ وزعم ابن عطية أنه يحتمل أن يكون عليه السلام أراد بالرب العزيز كما قيل في قوله‏:‏ ‏{‏إنه ربي أحسن مثواي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 23‏]‏ ففي ذلك استشهاد به وتقريع له وليس بشيء، ومثله ما قيل‏:‏ إن ضمير ‏(‏كيدهن‏)‏ ليس عائداً على النسوة المذكورات بل عائد على الجنس فافهم‏.‏ وقرأ أبو حيوة وأبو بكر عن عاصم في رواية ‏{‏النسوة‏}‏ بضم النون، وقرأت فرقة اللائي - بالياء وهو كاللاء جمع التي‏.‏