فصل: تفسير الآية رقم (51)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف مبني على السؤال كما سبق كأنه قيل‏:‏ فما كان بعد ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ قال الملك إثر ما بلغه الرسول الخبر وأحضرهن‏:‏ ‏{‏مَا خَطْبُكُنَّ‏}‏ أي شأنكن، وأصله الأمر العظيم الذي يحق لعظمته أن يكثر فيه التخاطب ويخطب له ‏{‏إذْ راوَدتُّنَّ يُوسُفَ‏}‏ وخادعتنه ‏{‏عَن نَّفْسه‏}‏ ورغبتنه في طاعة مولاته هل وجدتن فيه ميلاً إليكن‏؟‏ ‏{‏قلْنَ حَاشَى لله‏}‏ تنزيهاً له وتعجيباً من نزاهته عليه السلام وعفته ‏{‏مَا عَلمْنَا عَلَيْه من سُوء‏}‏ بالغن في نفي جنس السوء عنه بالتنكير وزيادة ‏{‏من‏}‏‏.‏ وفي «الكشف» في توجيه كون السؤال المقدر في نظم الكلام عن وجدانهن فيه الميل، وذلك لأنه سؤال عن شأنهن معه عند المراودة، وأوله الميل ثم ما يترتب عليه، وحمله على السؤال يدعي النزاهة الكلية فيكون سؤال الملك منزلاً عليه إذ لا يمكن ما بعده إلا إذا سلم الميل، وجوابهن عليه ينطبق لتعدبهن عن نزاهته بسبب التعجب من قدرة الله تعالى على خلق عفيف مثله ليكون التعجب منها على سبيل الكناية فيكون أبلغ وأبلغ، ثم نفيهن العلم مطلقاً وطرفاً أي طرف دهم من سوء أن سوء فضلاً عن شهود الميل معهن اه، وهو من الحسن بمكان‏.‏ وما ذكره ابن عطية - من أن النسوة قد أجبن بجواب جيد يظهر منه براءة أنفسهن جملة وأعطين يوسف عليه السلام بعض براءة وذلك أن الملك لما قررهن أنهن راودنه قلن جواباً عن ذلك وتنزيهاً لأنفسهن‏:‏ ‏{‏حاش لله‏}‏ ويحتمل أن يكون في جهته عليه السلام، وقولهن‏:‏ ‏{‏ما علمنا‏}‏ الخ ليس بإبرام تام، وإنما هو شرح القصة على وجهها حتى يتقرر الخطأ في جهتهن - ناشئ عن الغفلة عما قرره المولى صاحب «الكشف»‏.‏ ‏{‏قَالَت امْرَأَتُ الْعَزيز‏}‏ وكانت حاضرة المجلس، قيل‏:‏ أقبلت النسوة عليها يقررنها، وقيل‏:‏ خافت أن يشهدن عليها بما قالت يوم قطعن أيديهن فاقرت قائلة‏:‏ ‏{‏الآن حَصْحَصَ الْحَقُّ‏}‏ أي ظهر وتبين بعد خفاء قاله الخليل، وهو مأخوذ من الحصة وهي القطعة من الجملة أي تبينت حصة الحق من حصة الباطل، والمراد تميز هذا عن هذا، وإلى ذلك ذهب الزجاج أيضاً، وقيل‏:‏ هو من حص شعره إذا استأصله بحيث ظهرت بشرة رأسه، وعلى ذلك قوله‏:‏

قد حصت البيضة راسي فما *** أطعم نوماً غير تهجاع

ويرجع هذا إلى الظهور أيضاً، وقيل‏:‏ هو من حصحص البعير إذا ألقى مباركه ليناخ، قال حميد بن ثور الهلالي يصف بعيراً‏:‏

فحصحص في صم الصفا ثفناته *** وناء بسلمى نوءة ثم صمما

والمعنى الآن ثبت الحق واستقر‏.‏ وذكر الراغب وغيره أن حص وحصحص ككف وكفكف وكب وكبكب‏.‏ وقرئ بالبناء للمفعول على معنى أقر الحق في مقره ووضع في موضعه‏.‏

و ‏{‏الآن‏}‏ من الظروف المبنية في المشهور وهو اسم للوقت الحاضر جميعه كوقت فعل الإنشاء حال النطق به والحاضر بعضه كما في هذه الآية وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الآن خفف الله عنكم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 66‏]‏ وقد يخرج عند ابن مالك عن الظرفية كخبر «فهو يوهي في النار الآن حين انتهى إلى مقرها» فإن الآن فيه في موضع رفع على الابتداء، و«حين» خبره وهو مبني لإضافته إلى جملة صدرها ماض وألفه منقلبة عن واو لقولهم في معناه‏:‏ الأوان، وقييل‏:‏ عن ياء لأنه من آن يئين إذا قرب، وقيل‏:‏ أصله أوان قلبت الواو ألفاً ثم حذفت لالتقاء الساكنين، ورد بأن الواو قبل الألف لا تقلب كالجواد والسواد، وقيل‏:‏ حذفت الألف وغيرت الواو إليها كما في راح وراح استعملوه مرة على فعل وأخرى على فعال كزمن وزمان‏.‏ واختلفوا في علة بنائه فقال الزجاج‏:‏ بني لتضمنه معنى الإشارة لأن معناه هذا الوقت، وردّ بأن المتضمن معنى الإشارة بمنزلة اسم الإشارة وهو لا تدخله أل، وقال أبو علي‏:‏ لتضمنه معنى لام التعريف لأنه استعمل معرفة وليس علماً وأل فيه زائدة، وضعف بأن تضمن اسم معنى حرف اختصاراً ينافي زيادة ما لا يعتد به هذا مع كون المزيد غير المضمن معناه فكيف إذا كان إياه، وقال المبرد وابن السراج‏:‏ لأنه خالف نظائره إذ هو نكرة في الأصل استعمل من أول وضعه باللام، وبابها أن تدخل على النكرة وإليه ذهب الزمخشري، ورده ابن مالك بلزوم بناء الجماء الغفير ونحوه مما وقع في أول وضعه باللام، وبأنه لو كانت مخالفة الاسم لسائر الأسماء موجبة لشبه الحرف واستحقاق البناء لوجب بناء كل اسم خالف الأسماء بوزن أو غيره وهو باطل بإجماع، واختار أنه بني لشبه الحرف في ملازمة لفظ واحد لأنه لا يثنى ولا يجمع ولا يصغر بخلاف حين ووقت وزمان ومدة، وردّه أبو حيان بما ردّ هو به على من تقدم، وقال الفراء‏:‏ إنما بني لأنه نقل من فعل ماض وهو آن بمعنى حان فبقي على بنائه استصحاباً على حد «أنهاكم عن قيل وقال» وردّ بأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه أل كما لا تدخل على ما ذكر، وجاز فيه الإعراب كما جاز فيه‏.‏ وذهب بعضهم غلى أنه معرب منصوب على الظرفية، واستدل بقوله‏:‏

كأنهما ملآن لم يتغيرا *** بكسر النون أي من الآن فحذفت النون والهمزة وجر فدل على أنه معرب وضعف باحتمال أن تكون الكسرة كسرة بناء ويكون في بناء الآن لغتان‏:‏ الفتح والكسر كما في شتان إلا أن الفتح أكثر وأشهر، وفي «شرح الألفية» لابن الصائغ أن الذي قال‏:‏ إن أصله أوان يقول بإعرابه كما أن وأنا معرب‏.‏

واختار الجلال السيوطي القول بإعرابه لأنه لم يثبت لبنائه علة معتبرة فهو عنده منصوب على الظرفية، وإن دخلت من جرّ وخروجه عن الظرفية غير ثابت، وفي الاستدلال بالحديث السابق مقال، وأياً مّا كان فهو هنا متعلق - بحصحص - أي حصحص الحق في هذا الوقت‏.‏

‏{‏أَنا راودَتُّهُ عَن نَّفْسه‏}‏ لا أنه راودني عن نفسي، وإنما قالت ذلك بعد اعترافها تأكيداً لنزاهته

عليه السلام، وكذا قولها‏:‏ ‏{‏وَإنَّهُ لَمنَ الصَّادقِينَ‏}‏ أي في قوله حين افتريت عليه ‏{‏هي راودتني عن نفسي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 26‏]‏‏.‏ قيل‏:‏ إن الذي دعاها لذلكك كله التوخي لمقابلة الاعتراف حيث لا يجدي الإنكار بالعفو، وقيل‏:‏ إنها لما تناهت في حبه لم تبال بانتهاك سترها وظهور سرها‏.‏ وفي «إرشاد العقل السليم» أنها لم ترد بقولها‏:‏ ‏{‏الآن‏}‏ الخ مجرد ظهور ما ظهر بشهادة النسوة من مطلق نزاهته عليه السلام فيما أحاط به علمهن من غير تعرض لنزاهته في سائر المواطن خصوصاً فيما وقع فيه التشاجر بمحضر العزيز ولا بحث عن حال نفسها وما صنعت في ذلك بل أرادت

ظهور ما هو متحقق في نفس الأمر وثبوته من نزاهته عليه السلام في محل النزاع وخيانتها، ولهذا قالت‏:‏ ‏{‏أنا راودته‏}‏ الخ، وأرادت - بالآن - زمان تكلمها بهذا الكلام لا زمان شهادتهن اه فافهم وتأمل هل ترى فوق هذه المرتبة نزاهة حيث لم يتمالك الخصماء من الشهادة بها على أتم وجه‏.‏ والفضل ما شهدت به الخصماء‏.‏ وليت من نسب إليه السوء - وحاشاه - كان عنده عشر معشار ما كان عند أولئك النسوة الشاهدات من الإنصاف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏ذَلكَ ليَعْلَمَ‏}‏ الذي ذهب إليه غير واحد أن ‏(‏ذلك‏)‏ إشارة إلى التثبت مع ما تلاه من القصة أجمع فهو من كلام يوسف عليه السلام جعله فذلكة منه لما نهض له أولاً من التشمر لطهارة ذيله وبراءة ساحته، وقد حكى الله تعالى ما وقع من ذلك طبق الوجود مع رعاية ما عليه دأب القرآن من الإيجاز كحذف فرجع إلى ربه فأنهاه مقالة يوسف فأحضرهن سائلاً قال‏:‏ ما خطبكن الخ؛ وكذلك كما قيل في ‏{‏قالت امرأة العزيز‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 51‏]‏ الخ، وكذلك هذا أيضاً لأن المعنى فرجع إليه الرسول قائلاً فتش الملك عن كنه الأمر وبان له جلية الحق من عصمتك وأنك لم ترجع في ذلك المقام الدحض بمس ملام فعند ذلك قال عليه السلام‏:‏ ذلك ليعلم العزيز ‏{‏أنِّي لَمْ أَخُنْهُ‏}‏ في حرمته ‏{‏بالْغيْب‏}‏ أي بظهر الغيب، وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏يعلم‏}‏ للملك، وضمير ‏{‏أخنه‏}‏ للعزيز، وقيل‏:‏ للملك أيضاً لأن خيانة وزيره خيانة له، والباء إما للملابسة أو للظرفية، وعلى الأول هو حال من فاعل ‏{‏أخنه‏}‏ أي تركت خيانته وأنا غائب عنه، أو من مفعوله أي وهو غائب عني وهما متلازمان، وجوز أن يكون حالاً منهما وليس بشيء، وعلى الثاني فهو ظرف لغو لما عنده أي لم أخنه بمكان الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة، ويحتمل الحالية أيضاً‏.‏

‏{‏وَأَنَّ اللهَ‏}‏ اي وليعلم أن الله تعالى ‏{‏لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائنينَ‏}‏ أي لا ينفذه ولا يسدّده بل يبطله ويزهقه فهداية الكيد مجاز عن تنفيذه، ويجوز أن يكون المراد لا يهدي الخائنين بسبب كيدهم فأوقع الهداية المنفية على لاكيد وهي واقعة عليهم تجوزاً للمبالغة لأنه إذا لم يهد السبب علم منه عدم هداية مسببه بالطريق الأولى‏.‏ وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانته وبه في خيانته أمانة الله تعالى حين ساعدها على حبسه بعدما رأوا الآيات الدالة على نزاهته عليه السلام، ويجوز أن يكون مع ذلك تأكيداً لأمانته عليه السلام على معنى لو كنت خائناً لما هدى الله تعالى كيدي ولا سدّده، وتوهم عبارة بعضهم عدم اجتماع التأكيد والتعريض، والحق أنه لا مانع من ذلك؛ وأراد بكيده تشمره وثباته ذلك، وتسميته كيداً على فرض الخيانة على بابها حقيقة كما لا يخفى، فما في «الكشف» من أنه سماه كيداً استعارة أو مشاكلة ليس بشيء‏.‏ وقيل‏:‏ إن ضمير ‏{‏يعلم‏}‏ و‏{‏لم أخنه‏}‏ لله تعالى أي ذلك ليعلم الله تعالى أني لم أعصه أي ليظهر أني غ ير عاص ويكرمني به ويصير سبب رفع منزلتي وليظهر أن كيد الخائن لا ينفذ وأن العاقبة للمطيع لا للعاصي فهو نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ وله نظائر أخر في القرآن كثيرة إلا أن الله تعالى أخبر عن نفسه بذلك وأما غيره فلم يرد في الكتاب العزيز، وفيه نوع إيهام التحاشي عنه أحسن على أن المقام لما تقدم أدعى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى‏}‏ أي لا أنزهها عن السوء قال ذلك عليه السلام‏:‏ هضما لنفسه البرية عن كل سوء وتواضعاً لله تعالى وتحاشياً عن التزكية والإعجاب بحالها على أسلوب قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» أو تحديثاً بنعمة الله تعالى وإبرازاً لسره المكنون في شأن أفعال العباد أي لا أنزهها من حيث هي هي ولا أسند هذه الفضيلة إليها بمقتضى طبعها من غير توفيق من الله سبحانه بل إنما ذلك بتوفيقه جل شأنه ورحمته، وقيل‏:‏ إنه أشار بذلك إلى أن عدم التعرض لم يكن لعدم الميل الطبيعي بل لخوف الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّ النفس‏}‏ البشرية التي من جملتها نفسي في حد ذاتها ‏{‏لامَّارَةٌ‏}‏ لكثيرة الأمر ‏{‏بالسوء‏}‏ أي بجنسه، والمراد أنها كثيرة الميل إلى الشهوات مستعملة في تحصيلها القوى والآلات‏.‏ وفي كثير من التفاسير أنه عليه السلام حين قال‏:‏ ‏{‏لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 52‏]‏ قال له جبريل عليه السلام‏:‏ ولا حين هممت‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى‏}‏ الخ، وقد أخرجه الحاكم في تاريخه‏.‏ وابن مردويه بلفظ قريب من هذا عن أنس مرفوعاً، وروي ذلك عن ابن عباس‏.‏ وحكيم بن جابر‏.‏ والحسن‏.‏ وغيرهم، وهو إن صح يحمل الهم فيه على الميل الصادر عن طريق الشهوة البشرية لا عن طريق العزم والقصد، وقيل‏:‏ لا مانع من أن يحمل على الثاني ويقال‏:‏ إنه صغيرة وهي تجوز على الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة، ويلتزم أنه عليه السلام لم يكن إذا ذاك نبياً‏.‏

والزمخشري جعل ذلك وما أشبهه من تلفيق المبطلة وبهتهم على الله تعالى ورسوله، وارتضاه وهو الحرى بذلك ابن المنير وعرض بالمعتزلة بقوله‏:‏ وذلك شأن المبطلة من كل طائفة ‏{‏إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى‏}‏ قال ابن عطية‏:‏ الجمهور على أن الاستثناء منقطع و‏{‏مَا‏}‏ مصدرية أي لكن رحمة ربي هي التي تصرف عنها السوء على حد ما جوز في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مّنَّا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 43، 44‏]‏ وجوز أن يكون استثناء من أعم الأوقات و‏{‏مَا‏}‏ مصدرية ظرفية زمانية أي هي أمارة بالسوء في كل وقت إلا في وقت رحمة ربي وعصمته، والنصب على الظرفية لا على الاستثناء كما توهم، لكن فيه التفريغ في الإثبات والجمهور على أنه لا يجوز إلا بعد النفي أو شبهه‏.‏ نعم أجازه بعضهم في الإثبات إن استقام المعنى كقرأت إلا يوم الجمعة‏.‏ وأورد على هذا بأنه يلزم عليه كون نفس يوسف وغيره من الأنبياء عليهم السلام مائلة إلى الشهوات في أكثر الأوقات إلا أن يحمل ذلك على ما قبل النبوة بناءاً على جواز ما ذكر قبلها أو يراد جنس النفس لا كل واحدة‏.‏

وتعقب بأن الأخير غير ظاهر لأن الاستثناء معيار العموم ولا يرد ما ذكر رأساً لأن المراد هضم النوع البشري اعترافاً بالعجز لولا العصمة على أن وقت الرحمة قد يعم العمر كله لبعضهم اه، ولعل الأولى الاقتصار على ما في حيز العلاوة فتأمل، وأن يكون استثناءً من النفس أو من الضمير المستتر في أمارة الراجع إليها أي كل نفس أمارة بالسوء إلا التي رحمها الله تعالى وعصمها عن ذلك كنفسي أو من مفعول أمارة المحذوف أي أمارة صاحبها إلا ما رحمه الله تعالى، وفيه وقوع ‏{‏مَا‏}‏ على من يعقل وهو خلاف الظاهر، ولينظر الفرق في ذلك بينه وبين انقطاع الاستثناء ‏{‏إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ عظيم المغفرة فيغفر ما يعتري النفس بمقتضى طباعها ومبالغ في الرحمة فيعصمها من الجريان على موجب ذلك، والإظهار في مقام الإضمار مع التعرض لعنوان الربوبية لتربية مبادىء المغفرة والرحمة، ولعل تقديم ما يفيد الأولى على ما يفيد الثانية لأن التخلية مقدمة على التحلية، وذهب الجبائي واستظهره أبو حيان إلى أن ‏{‏ذلك لِيَعْلَمَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 52‏]‏ إلى هنا من كلام امرأة العزيز، والمعنى ذلك الإقرار والاعتراف بالحق ليعلم يوسف إني لم أخنه ولم أكذب عليه في حال غيبته وما أبرىء نفسي مع ذلك من الخيانة حيث قلت ما قلت وفعلت به ما فعلت إن كل نفس أمارة بالسوء إلا نفساً رحمها الله تعالى بالعصمة كنفس يوسف عليه السلام إن ربي غفور لمن استغفر لذنبه واعترف به رحيم له‏.‏ وتعقب ذلك صاحب الكشف بأنه ليس موجبه إلا ما توهم من الاتصال الصوري وليس بذاك، ومن أين لها أن تقول‏:‏ ‏{‏وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى‏}‏ بعد ما وضح ولا كشية الأبلق أنها أمها يرجع إليها طمها ورمها‏.‏

ومن الناس من انتصر له بأن أمر التعليل ظاهر عليه، وهو على تقدير جعله من كلامه عليه السلام غير ظاهر لأن علم العزيز بأنه لم يكن منه ما قرف به إنما يستدعي التفتيش مطلقاً لا خصوص تقديمه على الخروج حين طلبه الملك والظاهر على ذلك التقدير جعله له‏.‏ وأجيب بأن المراد ليظهر علمه على أتم وجه وهو يستدعي الخصوص، ويساعد على إرادة ظهور العلم أن أصل العلم كان حاصلاً للعزيز قبل حين شهد شاهد من أهلها وفيه نظر، ويمكن أن يقال‏:‏ إن في التثبت وتقديم التفتيش على الخروج من مراعاة حقوق العزيز ما فيه حيث لم يخرج من جنسه قبل ظهور بطلان ما جعله سبباً له مع أن الملك دعاه إليه، ويترتب على ذلك علمه بأنه لم يخنه في شيء من الأشياء أصلاً فضلاً عن خيانته في أهله لظهور أنه عليه السلام إذا لم يقدم على ما عسى أن يتوهم أنه نقض لما أبرمه مع قوة الداعي وتوفر الدواعي فهو بعدم الإقدام على غيره أجدر وأحرى، فالعلة للتثبت مع ما تلاه من القصة هي قصد حصول العلم بأنه عليه السلام لم يكن منه ما يخون به كائناً ما كان مع ما عطف عليه، وذلك العلم إنما يترتب على ما ذكر لا على التفتيش ولو بعد الخروج كما لا يخفى، أو يقال‏:‏ إن المراد ليجري على موجب العلم بما ذكر بناءً على التزام أنه كان قبل ذلك عالماً به لكنه لم يجر على موجب علمه وإلا لما حبسه عليه السلام فيتلافى تقصيره بالإعراض عن تقبيح أمره أو بالثناء عليه ليحظى عند الملك ويعظمه الناس فتينع من دعوته أشجارها وتجري في أودية القلوب أنهارها، ولا شك أن هذا مما يترتب على تقديم التفتيش كما فعل، وليس ذلك مما لا يليق بشأنه عليه السلام بل الأنبياء عليهم السلام كثيراً ما يفعلون مثل ذلك في مبادىء أمرهم؛ وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يعطي الكافر إذا كان سيد قومه ما يعطيه ترويجاً لأمره، وإذا حمل قوله عليه السلام لصاحبه الناجي

‏{‏اذكرنى عِندَ رَبّكَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 42‏]‏ على مثل هذا كما فعل أبو حيان تناسب طرفا الكلام أشد تناسب، وكذا لو حمل ذاك على ما اقتضاه ظاهر الكلام وتظافرت عليه الأخبار‏.‏

وقيل‏:‏ هنا‏:‏ إن ذلك لئلا يقبح العزيز أمره عند الملك تمحلاً لإمضاء ما قضاه، ويكون ذلك من قبيل السعي في تحقيق المقتضى لخلاصه وهذا من قبيل التشمير لرفع المانع لكنه مما لا يليق بجلالة شأنه عليه السلام‏.‏

ولعل الدعاء بالمغفرة في الخبر السالف على هذا إشارة إلى ما ذكر، ويقال‏:‏ إنه عليه السلام إنما لم يعاتب عليه كما عوتب على الأول لكونه دونه مع أنه قد بلغ السيل الزبى، ولا يخفى أن عوده عليه السلام لما يستدعي أدنى عتاب بالنسبة إلى منصبه بعد أن جرى ما جرى في غاية البعد، ومن هنا قيل‏:‏ الأولى أن يجعل ما تقدم كما تقدم ويحمل هذا على أنه عليه السلام أراد به تمهيد أمر الدعوة إلى الله تعالى جبراً لما فعل قبل واتباعاً لخلاف الأولى بالنظر إلى مقامه بالأولى، وقيل‏:‏ في وجه التعليل غير ذلك، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج أن هذا من تقديم القرآن وتأخيره وذهب إلى أنه متصل بقوله‏:‏ ‏{‏فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة الاتى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 50‏]‏ الخ ويرد على ظاهره ما لا يخفى فتأمل جميع ما ذكرناه لتكون على بصيرة من أمرك‏.‏ وفي رواية البزي عن ابن كثير‏.‏ وقالون عن نافع أنهما قرآ ‏{‏بالسو‏}‏ على قلب الهمزة واواً والإدغام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏رَّحِيمٌ وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ‏}‏ أجعله خالصاً ‏{‏لِنَفْسِى‏}‏ وخاصاً بي ‏{‏فَلَمَّا كَلَّمَهُ‏}‏ في الكلام إيجاز أي فأتوا به فلما الخ، وحذف ذلك للإيذان بسرعة الإتيان فكأنه لم يكن بينه وبين الأمر بإحضاره عليه السلام والخطاب معه زمان أصلاً، ولم يكن حاضراً مع النسوة في المجلس كما زعمه بعض وجعل المراد من هذا الأمر قربوه إلى، والضمير المستكن في ‏{‏كَلَّمَهُ‏}‏ ليوسف عليه السلام والبارز للملك أي فلما كلم يوسف عليه السلام الملك أثر ما أتاه فاستنطقه ورأى حسن منطقه بما صدق الخبر الخبر، واستظهر في البحر كون الضمير الأول للملك والثاني ليوسف أي فلما كلمه الملك ورأى حسن جوابه ومحاورته ‏{‏قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ‏}‏ ذو مكانة ومنزلة رفيعة ‏{‏أَمِينٌ‏}‏ مؤتمن على كل شيء، وقيل‏:‏ آمن من كل مكروه، والوصف بالأمانة هو الأبلغ في الإكرام، و‏{‏اليوم‏}‏ ليس بمعيار للمكانة والأمانة بل هو آن التكلم، والمراد تحديد مبدئهما احترازاً عن كونهما بعد حين، وفي اختيار لدى على عند ما لا يخفى من الاعتناء بشأنه عليه السلام، وكذا في اسمية الجملة وتأكيدها‏.‏ روى أن الرسول جاءه فقال له‏:‏ أجب الملك الآن بلا معاودة وألق عنك ثياب السجن واغتسل والبس ثياباً جدداً ففعل فلما قام ليخرج دعا لأهل السجن اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الإخبار فهم أعلم الناس بالإخبار في كل بلد ثم خرج فكتب على الباب هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء، فلما وصف إلى باب الملك قال‏:‏ حسبي ربي من دنياي وحسبي ربي من خلقه عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك، فلما دخل على الملك قال‏:‏ اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بك من شره وشر غيره ثم سلم عليه بالعربية فقال له الملك‏:‏ ما هذا اللسان‏؟‏ فقال‏:‏ لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية فقال له‏:‏ وما هذا اللسان أيضاً‏؟‏ فقال‏:‏ هذا لسان آبائي، وكان الملك يعرف سبعين لساناً فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه وقال‏:‏ أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك فحكاها عليه السلام له طبق ما رأى لم يخرم منها حرفاً، فقال الملك‏:‏ أعجب من تأويلك إياها معرفتك لها فأجلسه معه على السرير وفوض إليه أمره؛ وقيل‏:‏ إنه أجلسه قبل أن يقص الرؤيا‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق قال‏:‏ ذكروا أن قطفير هلك في تلك الليالي وأن الملك زوج يوسف امرأته راعيل فقال لها حين أدخلت عليه‏:‏ أليس هذا خيراً مما كنت تريدين‏؟‏ فقالت‏:‏ أيها الصديق لا تلمني فإني كنت امرأة كما ترى حسناء جملاء ناعمة في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء وكنت كما جعلك الله تعالى في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي على ما رأيت فيزعمون أنه وجدها عذراء فأصابها فولدت له رجلين أفراثيم وميشا‏.‏

أخرج الحكيم الترمذي عن وهب قال‏:‏ أصابت امرأة العزيز حاجة فقيل لها‏:‏ لو أتيت يوسف بن يعقوب فسألتيه فاستشارت الناس في ذلك فقالوا‏:‏ لا تفعلي فإنا نخافه عليك قالت‏:‏ كلا إني لا أخاف ممن يخاف الله تعالى فأدخلت عليه فرأته في ملكه فقالت‏:‏ الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته ثم نظرت إلى نفسها فقالت‏:‏ الحمد لله الذي جعل الملوك عبيداً بمعصيته فقضى لها جميع حوائجها ثم تزوجها فوجدها بكراً الخبر‏.‏

وفي رواية أنها تعرضت له في الطريق فقالت ما قالت فعرفها فتزوجها فوجدها بكراً وكان زوجها عنيناً، وشاع عند القصاص أنها عادت شابة بكراً إكراماً له عليه السلام بعدما كانت ثيباً غير شابة، وهذا مما لا أصل له، وخبر تزوجها أيضاً مما لا يعول عليه عند المحدثين؛ وعلى فرض ثبوت التزوج فظاهر خبر الحكيم أنه إنما كان بعد تعيينه عليه السلام لما عين له من أمر الخزائن، قيل‏:‏ ويعرب عنه قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ اجعلنى على خَزَائِنِ الارض‏}‏ أي أرض مصر، وفي معناه قول بعضهم أي أرضك التي تحت تصرفك، وقيل‏:‏ أراد بالأرض الجنس وبخزائنها الطعام الذي يخرج منها، و‏{‏على‏}‏ متعلقة على ما قيل بمستول مقدر، والمعنى ولني على أمرها من الإيراد والصرف ‏{‏إِنّى حَفِيظٌ‏}‏ لها ممن لا يستحقها ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بوجوه التصرف فيها، وقيل‏:‏ بوقت الجوع، وقيل‏:‏ حفيظ للحساب عليم بالألسن، وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه بالحق إذا جهل أمره، وجواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإجراء أحكام الشريعة وإن كان من يد الجائر أو الكافر، وربما يجب عليه الطلب إذا توقف على ولايته إقامة واجب مثلاً وكان متعيناً لذلك، وما في «الصحيحين» من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عبد الرحمن لا تسأل الأمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها ‏"‏ وارد في غير ما ذكر‏.‏ وعن مجاهد أنه أسلم الملك على يده عليه السلام، ولعل إيثاره عليه السلام لتلك الولاية خاصة إنما كان للقيام بما هو أهم أمور السلطنة إذ ذاك من تدبير أمر السنين لكونه من فروع تلك الولاية لا لمجرد عموم الفائدة كما قيل‏.‏

وجاء في رواية أن الملك لما كلمه عليه السلام وقص رؤياه وعبرها له قال‏:‏ ما ترى أيها الصديق‏؟‏ قال‏:‏ تزرع في سنى الخصب زرعاً كثيراً فإنك لو زرعت فيها على حجر نبت وتبنى الخزائن وتجمع فيها الطعام بقصبه وسنبله فإنه أبقى له ويكون القصب علفاً للدواب فإذا جاءت السنون بعت ذلك فيحصل لك مال عظيم، فقال الملك‏:‏ ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه لي ويكفيني العمل فيه‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏اجعلنى على خَزَائِنِ الارض‏}‏ الخ، والظاهر أنه أجابه لذلك حين سأله، وإنما لم يذكر إجابته له عليه السلام إيذاناً بأن ذلك أمر لا رمد له غني عن التصريح به لا سيما بعد تقديم ما تندرج تحته أحكام السلطنة جميعها‏.‏ وأخرج الثعلبي عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحم الله تعالى أخي يوسف لو لم يقل‏:‏ ‏{‏اجعلنى على خَزَائِنِ الارض‏}‏ لاستعمله من ساعته ولكنه أخر ذلك سنة ‏"‏ ثم أنه كما روي عن ابن عباس‏.‏ وغيره توجه وختمه بخاتمه ورداه بسيفه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت طوله ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرة أذرع ووضع عليه الفرش وضرب عليه حلة من استبرق فقال عليه السلام‏:‏ أما السرير فأشد به ملكك وأما الخاتم فأدبر به أمرك وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي فقال‏:‏ قد وضعته إجلالاً لك وإقراراً بفضلك، فجلس على السرير ودانت له الملوك وفوض إليه الملك أمره وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام في السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق منها شيء، وفي الثانية بالحلي والجواهر، وفي الثالثة بالدواب والمواشي، وفي الرابعة بالعبيد والجواري، وفي الخامسة بالضياع والعقار، وفي السادسة بالأولاد، وفي السابعة بالرقاب حتى استرقهم جميعاً وكان ذلك مما يصح في شرعهم‏.‏

فقالوا‏:‏ ما رأينا كاليوم ملكاً أجل وأعظم منه‏.‏ فقال للملك‏:‏ كيف رأيت صنع الله تعالى فيما خولني فما ترى في هؤلاء‏؟‏ فقال الملك‏:‏ الرأي رأيك ونحن لك تبع فقال‏:‏ إني أشهد الله تعالى وأشهدك إني قد أعتقتهم ورددت إليهم أملاكهم‏.‏

ولعل الحكمة في ذلك إظهار قدرته وكرمه وانقيادهم بعد ذلك لأمره حتى يخلص إيمانهم ويتبعوه فيما يأمرهم به فلا يقال‏:‏ ما الفائدة في تحصيل ذلك المال العظيم ثم إضاعته‏؟‏ وكان عليه السلام في تلك المدة فيما يروى لا يشبع من الطعام فقيل له‏:‏ أتجوع وخزائن الأرض بيدك‏؟‏ فقال‏:‏ أخاف إن شبعت أنسي الجائع وأمر عليه السلام طباخي الملك أن يجعلوا غذاءه نصف النهار وأراد بذلك أن يذوق طعم الجوع فلا ينسى الجياع، قيل‏:‏ ومن ثم جعل الملوك غذاءهم نصف النهار، وقد أشار سبحانه إلى ما آتاه من الملك العظيم بقوله جل وعلا‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏وكذلك‏}‏ أي مثل التمكين البديع ‏{‏مَكَّنَّا لِيُوسُفَ‏}‏ أي جعلنا له مكاناً ‏{‏فِى الارض‏}‏ أي أرض مصر، روى أنها كانت أربعين فرسخاً في أربعين، وفي التعبير عن الجعل المذكور بالتمكين في الأرض مسنداً إلى ضميره تعالى من تشريفه عليه السلام والمبالغة في كمال ولايته والإشارة إلى حصول ذلك من أول الأمر لا أنه حصل بعد السؤال ما لا يخفى، واللام في ‏{‏لِيُوسُفَ‏}‏ على ما زعم أبو البقاء يجوز أن تكون زائدة أي مكنا يوسف وأن لا تكون كذلك والمفعول محذوف أي مكنا له الأمور، وقد مر لك ما يتضح منه الحق ‏{‏تَّرَكْنَا مِنْهَا‏}‏ ينزل من قطعها وبلادها ‏{‏حَيْثُ يَشَاء‏}‏ ظرف ليتبوأ، وجوز أن يكون مفعولاً به كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏ و‏{‏مِنْهَا‏}‏ متعلق بما عنده، وقيل‏:‏ بمحذوف وقع حالاً من حيث‏.‏ وتعقب بأن ‏{‏حَيْثُ‏}‏ لا يتم إلا بالمضاف إليه وتقديم الحال على المضاف إليه لا يجوز، والجملة في موضع الحال من يوسف وضمير ‏{‏يَشَاء‏}‏ له، وجوز أن يكون لله تعالى ففيه التفات، ويؤيده أنه قرأ ابن كثير‏.‏ والحسن‏.‏ وبخلاف عنهم أبو جعفر‏.‏ وشيبة‏.‏ ونافع ‏{‏نَشَاء‏}‏ بالنون فإن الضمير على ذلك لله تعالى قطعاً ‏{‏نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا‏}‏ بنعمتنا وعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم، وقيل‏:‏ المراد بالرحمة النبوة وليس بذاك ‏{‏مَّن نَّشَاء‏}‏ بمقتضى الحكمة الداعية للمشيئة ‏{‏وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين‏}‏ بل نوفي لهم أجورهم في الدنيا لإحسانهم، والمراد به على ما قيل‏:‏ الإيمان والثبات على التقوى فإن قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَجْرُ الاخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ قد وضع فيه الموصول موضع ضمير ‏{‏المحسنين‏}‏ ‏[‏يؤسف‏:‏ 56‏]‏ وجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل تنبيهاً على ذلك، والمعنى ولأجرهم في الآخرة خير، والإضافة فيه للملابسة، وجعل في تعقيب الجملة المثبتة بالجملة المنفية إشعار بأن مدار المشيئة المذكورة إحسان من تصيبه الرحمة المذكورة، وفي ذكر الجملة الثالثة المؤكدة بعد دفع توهم انحصار ثمرات الإحسان فيما ذكر من الأجر العاجل، ويفهم من ذلك أن المراد ممن نشاء من نشاء أن نصيبه بالرحمة من عبادنا الذين آمنوا واستمروا على التقوى‏.‏ وتعقب بأنه خلاف الظاهر، ولعل الظاهر حمل ‏{‏مِنْ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 56‏]‏ على ما هو أعم مما ذكر وحينئذٍ لا يبعد أن يراد بالرحمة النعمة التي لا تكون في مقابلة شيء من الأعمال وبالأجر ما كان في مقابلة شيء من ذلك، ويبقى أمر وضع الموصول موضع الضمير على حاله كأنه قيل‏:‏ نتفضل على من نشاء من عبادنا كيف كانوا وننعم عليهم بالملك والغنى وغيرهما لا في مقابلة شيء من الأعمال وبالأجر ما كان في مقابلة شيء من ذلك، ويبقى أمر وضع الموصول موضع الضمير على حاله كأنه قيل‏:‏ نتفضل على من نشاء من عبادنا كيف كانوا وننعم عليهم بالملك والغنى وغيرهما لا في مقابلة شيء ونوفي أجور المؤمنين المستمرين على التقي منهم ونعطيهم في الدنيا ما نعطيهم في مقابلة إيمانهم واستمرارهم على التقوى وما نعطيهم في مقابلة ذلك في الآخرة من النعيم العظيم المقيم خير لهم مما نعطيهم في الدنيا لعظمه ودوامه‏.‏

واعترض بأن فيه إطلاق الرحمة على ما يصيب الكافر من نحو الملك والغنى مع أنه ليس برحمة كما يشعر به كثير من الآيات ويقتضيه قولهم‏:‏ ليس لله تعالى نعمة على كافر‏.‏ وأجيب بأن قولهم‏:‏ في ‏{‏الرحمن‏}‏ أنه الذي يرحم المؤمن والكافر في الدنيا ظاهر في صحة ءطلاق الرحمة على ما يصيب الكافر من ذلك، وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏ ظاهر في صحة القول بكون الكافر مرحوماً في الجملة وأمر الإشعار سهل، وقولهم‏:‏ ليس لله تعالى نعمة على كافر إنما قاله البعض بناءاً على أخذ يحمد عاقبتها في تعريفها‏.‏ وإن أبيت ولا أظن فلم لا يجوز أن يقال‏:‏ إنه عبر عما ذكر بالرحمة رعاية لجانب من اندرج في عموم ‏{‏مِنْ‏}‏ من المؤمنين‏.‏

نعم يرد على تفسير الرحمة هنا بالنعمة التي لا تكون في مقابلة شيء من الأعمال والأجر بما كان ما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال‏:‏ المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة والفاجر يعجل له الخير في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق وتلا الآية فإنه ظاهر في أن ما يصيب الكافر مما تقدم في مقابلة عمل له وأن في الآية ما يدل على ذلك وليس هو إلا

‏{‏نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 56‏]‏ وقد يجاب بأنه لعله حمل ‏{‏المحسنين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 56‏]‏ على ما يشمل الكفار الفاعلين لما يحسن كصلة الرحم ونصرة المظلوم وإطعام الفقير ونحو ذلك، فحصر الدلالة فيما ذكر ممنوع نعم إن هذا الأثر يعكر على التفسير السابق عكراً بيناً إذ الآية عليه لا تعرض فيها للكافر أصلاً فلا معنى لتلاوتها إثر ذلك الكلام‏.‏

وعمم بعضهم الأوقات في ‏{‏نَّصِيبٍ وَلاَ نُضِيعُ‏}‏ فقال نصيب في الدنيا والآخرة ولا نضيع أجر المحسنين بل نوفي أجورهم عاجلاً وآجلاً، وأيد بأنه لا موجب للتخصيص وأن خبر سفيان يدل على العموم وتعقب بأن من خص ذلك بالدنيا فإنما خصه ليكون ما بده تأسيساً وبأنه لا دلالة للخبر على ذلك لأنه مأخوذ من مجموع الآية وفيه ما فيه‏.‏ وعن ابن عباس تفسير ‏{‏المحسنين‏}‏ بالصابرين، ولعله رضي الله تعالى عنه على تقدير صحة الرواية رأى ذلك أوفق بالمقام‏.‏ وأياً ما كان في الآية إشارة إلى أن ما أعد الله تعالى ليوسف عليه السلام من الأجر والثواب في الآخرة أفضل مما أعطاه في الدنيا من الملك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ‏}‏ ممتارين لما أصاب أرض كنعان وبلاد الشام ما أصاب مصر، وقد كان حل بآل يعقوب عليه السلام ما حل بأهلها فدعا أبناءه ما عدا بنيامين فقال لهم‏:‏ يا بني بلغني أن بمصر ملكاً صالحاً يبيع الطعام فتجهزوا إليه واقصدوه تشتروا منه ما تحتاجون إليه فخرجوا حتى قدموا مصر ‏{‏فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ‏}‏ عليه السلام وهو في مجلس ولايته ‏{‏فَعَرَفَهُمْ‏}‏ لقوة فهمه وعدم مباينة أحوالهم السابقة أحوالهم يوم المفارقة لمفارقته إياهم وهم رجال وتشابه هيآتهم وزيهم في الحالين، ولكون همته معقودة بهم وبمعرفة أحوالهم لا سيما في زمن القحط، ولعله عليه السلام كان مترقباً مجيئهم إليه لما يعلم من تأويل رؤياه‏.‏ وروى أنهم انتسبوا في الاستئذان عليه فعرفهم وأمر بإنزالهم، ولذلك قال الحسن‏:‏ ما عرفهم حتى تعرفوا إليه‏.‏ وتعقب ذلك في الانتصاف بأن توسيط الفاء بين دخولهم عليه ومعرفته لهم يأبى كلام الحسن ويدل على أن مجرد دخولهم عليه استعقبه المعرفة بلا مهلة وفيه تأمل‏.‏

‏{‏وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ‏}‏ أي والحال أنهم منكرون له لنسيانهم له بطول العهد وتباين ما بين حاليه في نفسه ومنزلته وزيه ولاعتقادهم أنه هلك، وقيل‏:‏ إنما لم يعرفوه لأنه عليه السلام أوقفهم موقف ذوي الحاجات بعيداً منه وكلمهم بالواسطة؛ وقيل‏:‏ إن ذلك لمحض أنه سبحانه لم يخلق العرفان في قلوبهم تحقيقاً لما أخبر أنه سينبئهم بأمرهم وهم لا يشعرون فكان ذلك معجزة له عليه السلام، وقابل المعرفة بالإنكار على ما هو الاستعمال الشائع، فعن الراغب المعرفة والعرفان معرفة الشيء بتفكر في أثره فهو أخص من العلم، وأصله من عرفت أي أصبت عرفه أي رائحته ويضاد المعرفة الإنكار والعلم والجهل، وحيث كان إنكارهم له عليه السلام أمراً مستمراً في حالتي المحضر والمغيب أخبر عنه بالجملة الاسمية بخلاف عرفانه عليه السلام إياهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ‏}‏ أصلحهم بعدتهم وأوقر ركائبهم بما جاؤوا لأجله، ولعله عليه السلام إنما باع كل واحد منهم حمل بعير لما روى أنه عليه السلام كان لا يبيع أحداً من الممتارين أكثر من ذلك تقسيطاً بين الناس وفيما يأتي إن شاء الله تعالى من قولهم‏:‏ ‏{‏وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 65‏]‏ ما يؤيده، وأصل الجهاز ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع، وجهاز العروس ما تزف به إلى زوجها، والميت ما يحتاج إليه في دفنه‏.‏ وقرىء بكسر الجيم ‏{‏قَالَ ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ‏}‏ ولم يقل بأخيكم مبالغة في إظهار عدم معرفته لهم كأنه لا يدري من هو ولو أضافه اقتضى معرفته لإشعار الإضافة به، ومن هنا قالوا في أرسل غلاماً لك‏:‏ الغلام غير معروف وفي أرسل غلامك معروف بينك وبين مخاطبك عهد فيه، ولعله عليه السلام إنما قال ذلك لما قيل‏:‏ من أنهم سألوه حملاً زائداً على المعتاد لبنيامين فأعطاهم ذلك وشرط عليهم أن يأتوه به مظهراً لهم أنه يريد أن يعلم صدقهم، وقيل‏:‏ إنهم لما رأوه فكلموه بالعبرية قال لهم‏:‏ من أنتم فإني أنكركم‏؟‏ فقالوا‏:‏ نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار فقال‏:‏ لعلكم جئتم عيوناً تنظرون عورة بلادي قالوا‏:‏ معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب قال‏:‏ كم أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ كنا اثني عشر فهلك منا واحد، فقال‏:‏ كم أنتم ههنا‏؟‏ قالوا‏:‏ عشرة‏.‏ قال‏:‏ فأين الحادي عشر‏؟‏، قالوا‏:‏ هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك‏.‏ قال‏:‏ فمن يشهد لكم أنكم لستم عيوناً وإن ما تقولون حق‏؟‏ قالوا‏:‏ نحن ببلاد لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا قال‏:‏ فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم فاقترعوا فأصاب القرعة شمعون، وقيل‏:‏ إنه عليه السلام هو الذي اختاره لأنه كان أحسنهم رأياً فيه، والمشهور أن الأحسن يهوذا فخلفوه عنده، ومن هذا يعلم سبب هذا القول‏.‏ وتعقب بأنه لا يساعده ورود الأمر بالإتيان به عند التجهيز ولا الحث عليه بإيفاء الكيل ولا الإحسان في الإنزال ولا الاقتصار على منع الكيل من غير ذكر الرسالة على أن استبقاء شمعون لو وقع لكان ذلك طامة ينسى عندها كل قيل، وقال بعضهم‏:‏ إنه يضعف الخبر اشتماله على بهت إخوته بجعلهم جواسيس إلا أن يقال‏:‏ إن ذلك كان عن وحي‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ إن ذلك غير صحيح لأنه إذا ظنهم جواسيس كيف يطلب منهم واحداً من إخوتهم وما في النظم الكريم يخالفه وأطال في ذلك‏.‏ وتعقب بأنه ليس بشيء لأنهم لما قالوا له‏:‏ إنهم أولاد يعقوب عليه السلام طلب أخاهم وبه يتضح الحال‏.‏