فصل: تفسير الآية رقم (77)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي الإخوة ‏{‏إِن يَسْرِقْ‏}‏ يعنون بنيامين ‏{‏فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ‏}‏ يريدون به يوسف عليه السلام وما جرى عليه من جهة عمته، فقد أخرج ابن إسحق‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن مجاهد قال‏:‏ كان أول ما دخل على يوسف عليه السلام من البلاء فيما بلغني أن عمته كانت تحضنه وكانت أكبر ولد إسحق عليه السلام وكانت إليها منطقة أبيها وكانوا يتوارثونها بالكبر فكانت لا تحب أحداً كحبها إياه حتى إذا ترعرع وقعت نفس يعقوب إليه فأتاها فقال‏:‏ يا أختاه سلمي إلى يوسف فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة فقالت، والله ما أنا بتاركته فدعه عندي أياماً أنظر إليه لعل ذلك يسليني، فلما خرج يعقوب عليه السلام من عندها عمدت إلى تلك المنطقة فحزمتها على يوسف عليه السلام من تحت ثيابه ثم قالت‏:‏ فقدت منطقة أبي إسحق فانظروا من أخذها فالتمست ثم قالت‏:‏ اكشفوا أهل البيت فكشفوهم فوجودها مع يوسف عليه السلام فقالت‏:‏ والله إنه لسلم لي أصنع فيه ما شئت فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر فقال لها‏:‏ أنت وذاك إن كان فعل فأمسكته فما قدر عليه حتى ماتت‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الآية‏:‏ «سرق يوسف عليه السلام صنماً لجده أبي أمه من ذهب وفضة فكسره وألقاه على الطريق فعيره إخوته بذلك، وأخرج غير واحد عن زيد بن أسلم قال‏:‏ كان يوسف عليه السلام غلاماً صغيراً مع أمه عند خال له وهو يلعب مع الغلمان فدخل كنيسة لهم فوجد تمثالاً صغيراً من ذهب فأخذه وذلك الذي عنوه بسرقته‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إن سائلاً جاءه يوماً فأخذ بيضة فناولها إياه‏:‏ وقال سفيان بن عيينة‏:‏ أخذ دجاجة فأعطاها السائل‏.‏ وقال وهب‏:‏ كان عليه السلام يخبىء الطعام من المائدة للفقراء وقيل وقيل‏.‏ وعن ابن المنير أن ذلك تصلف لا يسوغ نسبة مثله إلى بيت النبوة بل ولا إلى أحد من الأشراف فالواجب تركه وإليه ذهب مكي‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ المعنى إن يسرق فقد سرق مثله من بني آدم وذكر له نظائر في الحديث، قيل‏:‏ وهو كلام حقيق بالقبول‏.‏

وأنت تعلم أن في عد كل ما قيل في بيان المراد من سرقة الأخ تصلفاً تصلف فإن فيه ما لا بأس في نسبته إلى بيت النبوة، وإن ادعى أن دعوى نسبتهم السرقة إلى يوسف عليه السلام مما لا يليق نسبة مثله إليهم لأن ذلك كذب إذ لا سرقة في الحقيقة وهم أهل بيت النبوة الذين لا يكذبون جاء حديث أكله الذئب وهم غير معصومين أولاً وآخراً وما قاله البعض‏.‏

وقيل‏:‏ إنه كلام حقيق بالقبول مما يأباه ما بعد كما لا يخفى على من له ذوق، على أن ذلك في نفسه بعيد ذوقاً وأتوا بكلمة ‏{‏ءانٍ‏}‏ لعدم جزمهم بسرقته بمجرد خروج السقاية من رحله، فقد وجدوا من قبل بضاعتهم في رحالهم ولم يكونوا سارقين‏.‏ وفي بعض الروايات أنهم لما رأوا إخراج السقاية من رحله خجلوا فقالوا‏:‏ يا ابن راحيل كيف سرقت هذه السقاية‏؟‏ فرفع يده إلى السماء فقال‏:‏ والله ما فعلت فقالوا‏:‏ فمن وضعها في رحلك‏؟‏ قال‏:‏ الذي وضع البضاعة في رحالكم، فإن كان قولهم‏:‏ ‏{‏إِن يَسْرِقْ‏}‏ الخ بعد هذه المقاولة فالظاهر أنها هي التي دعتهم ‏{‏لاِنْ‏}‏ وأما قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّ ابنك سَرَقَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 81‏]‏ فبناءً على الظاهر ومدعي القوم وكذا علمهم مبني على ذلك؛ وقيل‏:‏ إنهم جزموا بذلك ‏{‏وَأَنْ‏}‏ لمجرد الشرط ولعله الأولى لظاهر ما يأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه ‏{‏ويسرق‏}‏ لحكاية الحال الماضية، والمعنى إن كان سرق فليس يبدع لسبق مثله من أخيه وكأنهم أرادوا بذلك دفع المعرة عنهم واختصاصها بالشقيقين، وتنكير ‏{‏وَلَهُ أَخٌ‏}‏ لأن الحاضرين لا علم لهم به‏.‏ وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي‏.‏ وابن أبي سريج عن الكسائي‏.‏ والوليد بن حسان‏.‏ وغيرهم ‏{‏فَقَدْ سَرَقَ‏}‏ بالتشديد مبنياً للمفعول أي نسب إلى السرقة ‏{‏فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ‏}‏ الضمير لما يفهم من الكلام والمقام أي أضمر الحزازة التي حصلت له عليه السلام مما قالوا، وقيل‏:‏ أضمر مقالتهم أو نسبة السرقة إليه فلم يجبهم عنها ‏{‏فِى نَفْسِهِ‏}‏ لا أنه أسرها لبعض أصحابه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 9‏]‏ ‏{‏وَلَمْ يُبْدِهَا‏}‏ أي يظهرها ‏{‏لَهُمْ‏}‏ لا قولاً ولا فعلاً صفحاً لهم وحلماً وهو تأكيد لما سبق ‏{‏قَالَ‏}‏ أي في نفسه، وهو استئناف مبني على سؤال نشأ من الأخبار بالأسرار المذكور كأنه قيل‏:‏ فماذا قال في نفسه في تضاعيف ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ قال‏:‏ ‏{‏أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً‏}‏ أي منزلة في السرق، وحاصله أنكم أثبت في الاتصاف بهذا الوصف وأقوى فيه حيث سرقتم أخاكم من أبيكم ثم طفقتم تفترون على البرىء، وقال الزجاج‏:‏ إن الإضمار هنا على شريطة التفسير لأن‏:‏ ‏{‏قَالَ أَنْتُمْ‏}‏ الخ بدل من الضمير، والمعنى فأسر يوسف في نفسه قوله‏:‏ ‏{‏أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً‏}‏ والتأنيث باعتبار أنه جملة أو كلمة‏.‏ وتعقب ذلك أبو علي بأن الإضمار على شريطة التفسير على ضربين‏.‏ أحدهما‏:‏ أن يفسر بمفرد نحو نعم رجلاً زيد وربه رجلاً‏.‏ وثانيهما‏:‏ أن يفسر بجملة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الصمد‏:‏ 1‏]‏ وأصل هذا أن يقع في الإبتداء ثم يدخل عليه النواسخ نحو‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 74‏]‏ ‏{‏فَإِنَّهَا لاَ لاِوْلِى الابصار‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏ وليس منها شفاء النفس مبذول وغير ذلك، وتفسير المضمر في كلا الموضعين متصل بالجملة التي قبلها المتضمنة لذلك المضمر ومتعلق بها ولا يكون منقطعاً عنها والذي ذكره الزجاج منقطع فلا يكون من الإضمار على شريطة التفسير‏.‏

وفي «أنوار التنزيل» أن المفسر بالجملة لا يكون إلا ضمير الشأن، واعترض عليه بالمنع‏.‏ وفي «الكشف» أن هذا ليس من التفسير بالجمل في شيء حتى يعترض بأنه من خواص ضمير الشأن الواجب التصدير وإنما هو نظير ‏{‏ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يابنى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 132‏]‏ الخ‏.‏

وتعقب بأن في تلك الآية تفسير جملة وهذه فيها تفسير ضمير بجملة‏.‏ وفي «الكشاف» جعل ‏{‏أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً‏}‏ هو المفسر وفيه خفاء لأن ذلك مقول القول‏.‏ واستدل بعضهم بالآية على إثبات الكلام النفسي بجعل ‏{‏قَالَ‏}‏ بدلاً من أسر ولعل الأمر لا يتوقف على ذلك لما أشرنا إليه من أن المراد قال في نفسه، نعم قال أبو حيان‏:‏ إن الظاهر أنه عليه السلام خاطبهم وواجههم به بعد أن أسر كراهية مقالتهم في نفسه وغرضه توبيخهم وتكذيبهم، ويقويه أنهم تركوا أن يشفعوا بأنفسهم وعدلوا إلى الشفاعة له بأبيه وفيه نظر‏.‏ وقرأ عبد الله‏.‏ وابن أبي عبلة ‏{‏فأسره‏}‏ بتذكير الضمير ‏{‏مَّكَاناً والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ‏}‏ أي عالم علماً بالغاً إلى أقصى المراتب بإن الأمر ليس كما تصفون من صدور السرقة منا، فصيغة أفعل لمجرد المبالغة لا لتفضيل علمه تعالى على علمهم كيف لا وليس لهم بذلك من علم قاله غير واحد‏.‏ وقال أبو حيان‏:‏ إن المعنى أعلم بما تصفون به منكم لأنه سبحانه عالم بحقائق الأمور وكيف كانت سرقة أخيه الذي أحلتم سرقته عليه فأفعل حينئذ على ظاهره‏.‏ واعترض بأنه لم يكن فيهم علم والتفضيل يقتضي الشركة، وأجيب بأنه تكفي الشركة بحسب زعمهم فإنهم كانوا يدعون العلم لأنفسهم، ألا ترى قولهم‏:‏ ‏{‏فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ‏}‏ جزماً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ عندما شاهدوا مخايل أخذ بنيامين مستعطفين ‏{‏تَصِفُونَ قَالُواْ يأَيُّهَا العزيز إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا‏}‏ طاعناً في السن لا يكاد يستطيع فراقه وهو علالة به يتعلل عن شقيقه الهالك، وقيل‏:‏ أراد مسناً كبيراً في القدر، والوصف على القولين محط الفائدة وإلا فالإخبار بأن له أبا معلوم مما سبق ‏{‏فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ‏}‏ بدله فلسنا عنده بمنزلته من المحبة والشفقة ‏{‏إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين‏}‏ إلينا فأتم إحسانك فما الإنعام إلا بالإتمام أو من عادتك الإحسان مطلقاً فاجر على عادتك ولا تغيرها معنا فنحن أحق الناس بذلك، فالإحسان على الأول خاص وعلى الثاني عام، والجملة على الوجهين اعتراض تذييلي على ما ذهب إليه بعض المدققين، وذهب بعض آخر إلى أنه إذا أريد بالإحسان الإحسان إليهم تكون مستأنفة لبيان ما قبل إذ أخذ البدل إحسان إليهم وإذا أريد أن عموم ذلك من دأبك وعادتك تكون مؤكدة لما قبل وذكر أمر عام على سبيل التذييل أنسب بذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ مَعَاذَ الله‏}‏ أي نعوذ بالله تعالى معاذاً من ‏{‏أَن نَّأْخُذَ‏}‏ فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه مضافاً إلى المفعول به وحذف حرف الجر كما في أمثاله ‏{‏إِلاَّ مَن وَجَدْنَا متاعنا عِندَهُ‏}‏ لأن أخذنا له إنما هو بقضية فتواكم فليس لنا الإخلال بموجبها ‏{‏إِنَّا إِذَا‏}‏ أي إذا أخذنا غير من وجندا متاعنا عنده ولو برضاه ‏{‏لظالمون‏}‏ في مذهبكم وشرعكم وما لنا ذلك، وإيثار صيغة المتكلم مع الغير مع كون الخطاب من جهة اخوته على التوحيد من باب السلوك إلى سنن الملوك وللإشعار بأن الأخذ والإعطاء ليس مما يستبد به بل هو منوط بآراء أهل الحل والعقد، وإيثار ‏{‏مَن وَجَدْنَا متاعنا عِندَهُ‏}‏ على من سرق متاعنا الأخضر لأنه أوفق بما وقع في الاستفتاء والفتوى أو لتحقيق الحق والاحتراز عن الكذب في الكلام مع تمام المرام فإنهم لا يحملون وجدان الصواع عنده على محمل غير السرقة، والمتاع اسم لما ينتفع به وأريد به الصواع، وما ألطف استعماله مع الأخذ المراد به الاسترقاق والاستخدام وكأنه لهذا أوثر على الصواع، والظاهر أن الأخذ في كلامهم محمول على هذا المعنى أيضاً حقيقة‏.‏

وجوز ابن عطية أن يكون ذلك مجازاً لأنهم يعلمون أنه لا يجوز استرقاق حر غير سارق بدل من قد أحكمت السنة رقه فقولهم ذلك كما تقول لمن تكره فعله‏:‏ اقتلني ولا تفعل كذا وأنت لا تريد أن يقتلك ولكنك تبالغ في استنزاله، ثم قال‏:‏ وعلى هذا يتجه قول يوسف عليه السلام‏:‏ ‏{‏مَعَاذَ الله‏}‏ لأنه تعوذ من غير جائز، ويحتمل أن لا يريدوا هذا المعنى، وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يريدوا استرقاق حر فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك الحمالة أي خذ أحدنا وأبقه عندك حتى ينصرف إليك صاحبك ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه فيعرفه جلية الحال اه وهو كلام لا يعول عليه أصلاً كما لا يخفى؛ ولجواب يوسف عليه السلام معنى باطن هو أن الله عز وجل إنما أمرني بالوحي أن آخذ بنيامين لمصالح علمها سبحانه في ذلك فلو أخذت غيره كنت ظالماً لنفسي وعاملاً بخلاف الوحي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا الكتاب مِنْهُ‏}‏ أي يئسوا من يوسف عليه السلام وإجابته لهم إلى مرادهم، فاستفعل بمعنى فعل نحو سخر واستسخر وعجب واستعجب على ما في «البحر»، وقال غير واحد‏:‏ إن السين والتاء زائدتان للمبالغة أي يئسوا يأساً كاملاً لأن المطلوب المرغوب مبالغ في تحصيله، ولعل حصول هذه المرتبة من اليأس لهم لما شاهدوه من عوذه بالله تعالى مما طلبوه الدال على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة وأنه مما يجب أن يحترز عنه ويعاذ بالله تعالى منه، ومن تسميته ذلك ظلماً بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا إِذًا لظالمون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 79‏]‏‏.‏

وفي بعض الآثار أنهم لما رأوا خروج الصواع من رحله وكانوا قد أفتوا بما أفتوا تذكروا عهدهم مع أبيهم استشاط من بينهم روبيل غضباً وكان لا يقوم لغضبه شيء ووقف شعره حتى خرج من ثيابه فقال‏:‏ أيها الملك لتتركن أخانا أو لأصيحن صيحة لا يبقين بها في مصر حامل إلا وضعت فقال يوسف عليه السلام لولد له صغير‏:‏ قم إلى هذا فمسه أو خذ بيده، وكان إذا مسه أحد من ولد يعقوب عليه السلام يسكن غضبه، فلما فعل الولد سكن غضبه فقال لإخوته‏:‏ من مسني منكم‏؟‏ فقالوا‏:‏ ما مسك أحد منا فقال‏:‏ لقد مسني ولد من آل يعقوب عليه السلام، ثم قال لإخوته كم عدد الأسواق بمصر‏؟‏ قالوا‏:‏ عشرة قال‏:‏ اكفوني أنتم الأسواق وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق فلما أحس يوسف عليه السلام بذلك قام إليه وأخذ بتلابيبه وصرعه وقال‏:‏ أنتم يا معشر العبرانيين تزعمون أن لا أحد أشد منكم قوة فعند ذلك خضعوا وقالوا‏:‏ ‏{‏يا أيها العزيز‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 78‏]‏ الخ، ويمكن على هذا أن يكون حصول اليأس الكامل لهم من مجموع الأمرين‏.‏

وجوز بعضهم كون ضمير ‏{‏مِنْهُ‏}‏ لبنيامين، وتعقب بأنهم لم ييأسوا منه بدليل تخلف كبيرهم لأجله وروى أبو ربيعة عن البزي عن ابن كثير أنه قرأ ‏{‏استأيسوا‏}‏ من أيس مقلوب يئس، ودليل القلب على ما في «البحر» عدم انقلاب ياء أيس ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وحاصل المعنى لما انقطع طمعهم بالكلية ‏{‏مِنْهُ خَلَصُواْ‏}‏ انفردوا عن غيرهم واعتزلوا الناس‏.‏

وقول الزجاج‏:‏ انفرد بعضهم عن بعض فيه نظر ‏{‏نَجِيّاً‏}‏ أي متناجين متشاورين فيما يقولون لأبيهم عليه الصلاة والسلام، وإنما وحده وكان الظاهر جمعه لأنه حال من ضمير الجمع لأنه مصدر بحسب الأصل كالتناجي أطلق على المتناجين مبالغة أو لتأويله بالمشتق والمصدر ولو بحسب الأصل يشمل القليل والكثير أو لكونه على زنة المصدر لأن فعيلاً من أبنية المصادر هو فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس وكشعير بمعنى معاشر، أي مناج بعضهم بعضاً فيكونون متناجين وجمعه أنجية قال لبيد‏:‏

وشهدت أنجية الخلافة عاليا *** كعبي وارادف الملوك شهود

وأنشد الجوهري‏:‏

إني إذاً ما القول كانوا أنجيه *** واضطربوا مثل اضطراب الأرشيههناك أوصيني ولا توصي بيه

وهو على خلاف القياس إذ قياسه في الوصف افعلاء كغني وأغنياء ‏{‏قَالَ كَبِيرُهُمْ‏}‏ أي رئيسهم وهو شمعون قاله مجاهد، أو كبيرهم في السن وهو روبيل قاله قتادة، أو كبيرهم في العقل وهو يهوذا قاله وهب‏.‏ والكلبي، وعن محمد بن إسحق أنه لاوى ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمُواْ‏}‏ كأنهم أجمعوا عند التناجي على الانقلاب جملة ولم يرض به فقال منكراً عليهم‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمُواْ‏}‏‏.‏

‏{‏أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ الله‏}‏ عهداً يوثق به وهو حلفهم بالله تعالى وكونه منه تعالى لأنه بإذنه فكأنه صدر منه تعالى أو هو من جهته سبحانه فمن ابتدائية ‏{‏وَمِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبل هذا، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ‏}‏ أي قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه وقد قلتم ما قلتم‏.‏ و‏{‏مَا‏}‏ مزيدة والجملة حالية، وهذا على ما قيل أحسن الوجوه في الآية وأسلمها، وجوز أن تكون ‏{‏مَا‏}‏ مصدرية ومحل المصدر النصب عطفاً على مفعول ‏{‏تَعْلَمُواْ‏}‏ أي ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقاً عليكم وتفريطكم السابق في شأن يوسف عليه السلام، وأورد عليه أمران‏.‏ الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف، وتقديم معمول صلة الموصول الحرفي عليه وفي جوازهما خلاف للنحاة والصحيح الجواز خصوصاً بالظرف المتوسع فيه، وقيل‏:‏ بجواز العطف على اسم ‏{‏ءانٍ‏}‏ ويحتاج حينئذ إلى خبر لأن الخبر الأول لا يصح أن يكون خبر إله فهو ‏{‏فِى يُوسُفَ‏}‏ أو ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ على معنى ألم تعلموا أن تفريطكم السابق وقع في شأن يوسف عليه السلام أو أن تفريطكم الكائن أو كائناً في شأن يوسف عليه السلام وقع من قبل‏.‏

واعترض بأن مقتضى المقام إنما هو الأخبار بوقوع ذلك التفريط لا يكون تفريطهم السابق واقعاً في شأن يوسف عليه السلام كما هو مفاد الأول، ولا يكون تفريطهم الكائن في شأنه واقعاً من قبل كما هو مفاد الثاني‏.‏

وفيه أيضاً ما ذكره أبو البقاء وتبعه أبو حيان من أن الغايات لا تقع خبراً ولا صلة ولا صفة ولا حالاً وقد صرح بذلك سيبويه سواء جرت أم لم تجر فتقول‏:‏ يوم السبت يوم مبارك والسفر بعده ولا تقول والسفر بعد، وأجاب عند في «الدر المصون» بأنه إنما امتنع ذلك لعدم الفائدة لعدم العلم بالمضاف إليه المحذوف فينبغي الجواز إذا كان المضاف إليه معلوماً مدلولاً عليه كما في الآية الكريمة، ورد بأن جواز حذف المضاف إليه في الغايات مشروط بقيام القرينة على تعيين ذلك المحذوف على ما صرح به الرضى فدل على أن الامتناع ليس معللاً بما ذكر‏.‏

وقال الشهاب‏:‏ أن ما ذكروه ليس متفقاً عليه فقد قام الإمام المرزوقي في شرح الحماسة‏:‏ إنها تقع صفات وأخباراً وصلات وأحوالاً ونقل هذا الاعراب المذكور هنا عن الرماني وغيره واستشهد له بما يثبته من كلام العرب، ثم إن في تعرفها بالإضافة باعتبار تقدير المضاف إليه معرفة يعينه الكلام السابق عليها اختلافاً والمشهور أنها معارف، وقال بعضهم‏:‏ نكرات وإن التقدير من قبل شيء كما في «شرح التسهيل»‏.‏ والفاضل صاحب الدر سلك مسلكاً حسناً وهو أن المضاف إليه إذا كان معلوماً مدلولاً عليه بأن يكون مخصوصاً معيناً صح الاخبار لحصول الفائدة فإن لم يتعين بأن قامت قرينة العموم دون الخصوص وقدر من قبل شيء لم يصح الأخبار ونحوه إذ ما شيى إلا وهو قبل شيء ما فلا فائدة في الأخبار فحينئذ يكون معرفة ونكرة، ولا مخالفة بني كلامه وكلام الرضى مع أن كلام الرضى غير متفق عليه انتهى، وهو كما قال تحقيق نفيس، وقيل‏:‏ محل المصدر الرفع على الإبتداء والخبر ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ وفيه البحث السابق، وقيل‏:‏ ‏{‏مَا‏}‏ موصولة ومحلها من الإعراب ما تقدم من الرفع أو النصب وجملة ‏{‏فَرَّطتُمْ‏}‏ صلتها والعائد محذوف، والتفريط بمعنى التقديم من الفرط لا بمعنى التقصير أي ما قدمتموه من الجناية‏.‏

وأورد عليه أنه يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ تكراراً فإن جعل خبراً يكون الكلام غير مفيد وإن جعل متعلقاً بالصلة يلزم مع التكرار تقديم متعلق الصلة على الموصول وهو غير جائز، وقيل‏:‏ ‏{‏مَا‏}‏ نكرة موصوفة ومحلها ما تقدم وفيه ما فيه ‏{‏فَلَنْ أَبْرَحَ الارض‏}‏ مفرع على ما ذكره وذكر به، و‏{‏برح‏}‏ تامة وتستعمل إذا كان كذلك بمعنى ذهب وبمعنى ظهر كما في قولهم‏:‏ برح الخفاء، وقد ضمنت هنا معنى فارق فنصبت ‏{‏وَفِى الارض‏}‏ على المفعولية ولا يجوز أن تكون ناقصة لأن الأرض لا يصح أن تكون خبراً عن المتكلم هنا وليست منصوبة على الظرفية ولا بنزع الخافض؛ وعنى بها أرض مصر أي فلن أفارق أرض مصر جرياً على قضية الميثاق ‏{‏حتى يَأْذَنَ لِى أبى‏}‏ في البراح بالانصراف إليه ‏{‏أَوْ يَحْكُمَ الله لِى‏}‏ بالخروج منها على وجه لا يؤدي إلى نقض الميثاق أو بخلاص أخي بسبب من الأسباب، قال في «البحر» إنه غيا ذلك بغايتين خاصة وهي إذن أبيه وعامة وهي حكم الله تعالى له وكأنه بعد أن غيا بالأولى رجع وفوض الأمر إلى من له الحكم حقيقة جل شأنه، وأراد حكمه سبحانه بما يكون عذراً له ولو الموت، والظاهر أن أحب الغايتين إليه الأولى فلذا قدم ‏{‏لِى‏}‏ فيها وأخره في الثانية فليفهم ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين‏}‏ إذ لا يحكم سبحانه إلا بالحق والعدل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ‏}‏ له ‏{‏فَقُولُواْ يأَبَانَا إِنَّ ابنك سَرَقَ‏}‏ الظاهر أن هذا القول من تتمة كلام كبيرهم وقيل‏:‏ هو من كلام يوسف عليه السلام وفيه بعد كما أن الظاهر أنهم أرادوا أنه سرق في نفس الأمر‏.‏

‏{‏وَمَا شَهِدْنَا‏}‏ عليه ‏{‏إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا‏}‏ من سرقته وتبقيناه حيث استخرج صواع الملك من رحله‏.‏

‏{‏وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافظين‏}‏ وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الميثاق أو ما علمنا أنك ستصاب به كما أصبت بيوسف‏.‏ وقرأ الضحاك ‏{‏سارق‏}‏ باسم الفاعل‏.‏

وقرأ ابن عباس‏.‏ وأبو رزين‏.‏ والكسائي في رواية ‏{‏فَقَدْ سَرَقَ‏}‏ بتشديد الراء مبنياً للمفعول أي نسب إلى السرقة فمعنى ‏{‏وَمَا شَهِدْنَا‏}‏ الخ وما شهدنا إلا بقدر ما علمنا من التسريق وما كنا للأمر الخفي بحافظين أسرق بالصحة أم دس الصواع في رحله ولم يشعر‏.‏ واستحسنت هذه القراءة لما فيها من التنزيه كذا قالوا، والظاهر أن القول باستفادة اليقين من استخراج الصواع من رحله مما لا يصح فكيف يوجب اليقين، واحتمال أنه دس فيه من غير شعور قائم جعل مجرد وجود الشيء في يد المدعى عليه بعد إنكاره موجباً للسرق في شرعهم أولاً، قيل‏:‏ فالوجه أن الظن البين قائم مقام العلم، ألا ترى أن الشهادة تجوز بناء على الاستصحاب ويسمى علماً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏ وإنما جزموا بذلك لبعد الاحتمالات المعارضة عندهم، وإذا جعل الحكم بالسرقة وكذا علمهم أيضاً مبنياً على ما شاهدوا من ظاهر الأمر اتحدت القراءتان ويفسر ‏{‏وَمَا كُنَّا‏}‏ الخ بما فسر به على القراءة الأخيرة، وقيل‏:‏ معنى ‏{‏مَا شَهِدْنَا‏}‏ الخ ما كانت شهادتنا في عمرنا على شيء إلا بما علمنا وليست هذه شهادة منا إنما هي خبر عن صنيع ابنك بزعمهم ‏{‏وَمَا كُنَّا‏}‏ الخ كما هو وهو ذهاب أيضاً إلى أنهم غير جازمين‏.‏ وفي «الكشف» الذي يشهد له الذوق أنهم كانوا جازمين وقولهم‏:‏ ‏{‏إن يسرق فقد سرق‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 77‏]‏ تمهيد بين، وادعاء العلم لا يلزم العلم فإن كان لبعد الاحتمالات المعارضة فلا يكون كذباً محرماً وإلا فغايته الكذب في دعوى العلم وليس بأول كذباتهم، وكان قبل أن تنبؤا ولهذا خونهم الأب في هذه أيضاً، على أن قولهم‏:‏ ‏{‏جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 75‏]‏ مؤكداً ذلك التأكيد يدل على أنهم جعلوا الوجدان في الرحل قاطعاً وإلا كان عليهم أن يقولوا‏:‏ جزاؤه من وجد في رحله متعدياً أو سارقاً ونحوه، فإن يحتمل عنهم الحزم هنالك فلم لا يحتمل ههنا اه وفيه مخالفة لبعض ما نحن عليه، وكذا لما ذكرناه في تفسير ‏{‏جَزَاؤُهُ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 75‏]‏ الخ، ولعل الأمر في هذا هين‏.‏ ومن غريب التفسير أن معنى قولهم‏:‏ ‏{‏لّلْغَيْبِ‏}‏ لليل وهو بهذا المعنى في لغة حمير وكأنهم قالوا‏:‏ ‏(‏وما شهدنا إلا بما علمنا من ظاهر حاله وما كنا لليل حافظين‏)‏‏}‏ أي لا ندري ما يقع فيه فلعله سرق فيه أو دلس عليه، وأنا لا أدري ما الداعي إلى هذا التفسير مع تبلج صبح المعنى المشهور؛ وأياً ما كان فلام ‏{‏لّلْغَيْبِ‏}‏ للتقوية والمراد حافظين الغيب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏واسئل القرية التى كُنَّا فِيهَا‏}‏ يعنون كما روى عن ابن عباس‏.‏ وقتادة‏.‏ والحسن مصر، وقيل‏:‏ قرية بقربها لحقهم المنادى بها، والأول‏:‏ ظاهر على القول بأن المفتش لهم يوسف عليه السلام والثاني‏:‏ الظاهر على القول بأنه المؤذن، وسؤال القرية عبارة عن سؤال أهلها إما مجازاً في القرية لإطلاقها عليها بعلاقة الحالية والمحلية أو في النسبة أو يقدر فيه مضاف وهو مجاز أيضاً عند سيبويه وجماعة‏.‏ وفي المحصول وغيره أن الإضمار والمجاز متباينان ليس أحدهما قسماً من الآخر والأكثرون على المقابلة، وأياً ما كان فالمسؤول عنه محذوف للعلم به، وحاصل المعنى أرسل من تثق به إلى أهل القرية واسؤلهم عن القصة ‏{‏والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا‏}‏ أي أصحابها الذين توجهنا فيهم وكنا معهم فإن القصة معروفة فيما بينهم وكانوا قوماً من كنعان من جيران يعقوب عليه السلام، وقيل‏:‏ من أهل صنعاء، والكلام هنا في التجوز والإضمار كالكلام سابقاً‏.‏

وقيل‏:‏ لا تجوز ولا إضمار في الموضعين والمقصود إحالة تحقيق الحال والإطلاع على كنه القصة على السؤال من الجمادات والبهائم أنفسها بناء على أنه عليه السلام نبي فلا يبعد أن تنطق وتخبره بذلك على خرق العادة‏.‏ وتعقب بأنه مما لا ينبغي أن يكون مراداً ولا يقتضيه المقام لأنه ليس بصدد إظهار المعجزة، وقال بعض الأجلة‏:‏ الأول إبقاء ‏{‏القرية والعير‏}‏ على ظاهرهما وعدم إضمار مضاف إليهما ويكون الكلام مبنياً على دعوى ظهور الأمر بحيث أن الجمادات والبهائم قد علمت به وقد شاع مثل ذلك في الكلام قديماً وحديثاً ومنه قول ابن الدمينة‏:‏

سل القاعة الوعسا من الأجرع الذي *** به البان هل حييت إطلال دارك

وقوله‏:‏

سلوا مضجعي عني وعنها فإننا *** رضينا بما يخبرن عنا المضاجع

وقوله‏:‏

واسأل نجوم الليل هل زار الكرى *** جفني وكيف يزور من لم يعرف

ولا يخفى أن مثل هذا لا يخلو عن ارتكاب مجاز‏.‏ نعم هو معنى لطيف بيد أن الجمهور على خلافه وأكثرهم على اعتبار مجاز الحذف ‏{‏وِإِنَّا لصادقون‏}‏ فيما أخبرناك به، وليس المراد إثبات صدقهم بما ذكره حتى يكون مصادرة بل تأكيد صدقهم بما يفيد ذلك من الاسمية وإن واللام وهو مراد من قال‏:‏ إنه تأكيد في محل القسم، ويحتمل على ما قيل أن يريد أن هنا قسماً مقدراً، وقيل‏:‏ المراد الإثبات ولا مصادرة على معنى أنا قوم عادتنا الصدق فلا يكون ما أخبرناك به كذباً ولا نظنك في مرية من عدم قبوله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أي أبوهم عليه السلام وهو استئناف مبنى على سؤال نشأ مما سبق فكأنه قيل‏:‏ فماذا كان عند قول ذلك القائل للإخوة ما قال‏؟‏ فقيل‏:‏ قال أبوهم عندما رجعوا إليه فقالوا له ما قالوا‏:‏ ‏{‏بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا‏}‏ وإنما حذف للإيذان بأن مسارعتهم إلى قبول كلام ذلك القائل ورجوعهم به إلى أبيهم أمر مسلم غني عن البيان وإنما المحتاج إليه جوابه‏.‏ يروى أنهم لما عزموا على الرجوع إلى أبيهم قال لهم يوسف عليه السلام‏:‏ إذا أتيتم أباكم فاقرؤا عليه السلام وقولوا له‏:‏ إن ملك مصر يدعو لك أن لا تموت حتى ترى ولدك يوسف ليعلم أن في أرض مصر صديقين مثله، فساروا حتى وصلوا إليه فأخبروه بجميع ما كان فبكى وقال ما قال، ‏{‏وبل‏}‏ للإضراب وهو على ما قيل إضراب لا عن صريح كلامهم فإنهم صادقون فيه بل عما يتضمنه من ادعاء البراءة عن التسبب فيما نزل به وأنه لم يصدر عنهم ما أدى إلى ذلك من قول أو فعل كأنه لم يكن الأمر كذلك بل زينت وسهلت لكم أنفسكم أمراً من الأمور فأتيتموه يريد بذلك فتياهم بأخذ السارق بسرقته وليس ذلك من دين الملك‏.‏

وقال أبو حيان إن هنا كلاماً محذوفاً وقع الإضراب عنه والتقدير ليس حقيقة كما أخبرتم بل سولت الخ وهو عند ابن عطية وادعى أنه الظاهر على حد ما قال في قصة يوسف عليه السلام ظن سوء بهم خلا أنه عليه السلام صدق ظنه هناك ولم يتحقق هنا‏.‏ وذكر ابن المنير في توجيه هذا القول ههنا مع أنهم لم يتعمدوا في حق بنيامين سوءا ولا أخبروا اباهم إلا بالواقع على جليته وما تركوه بمصر إلا مغلوبين عن استصحابه أنهم كانوا عند أبيهم عليه السلام حينئذ متهمين وهم قمن باتهامه لما أسلفوه في حق يوسف عليه السلام وقامت عنده قرينة تؤكد التهمة وتقويها وهو أخذ الملك له في السرقة ولم يكن ذلك إلا من دينه لا من دينه ولا من دين غيره من الناس فظن أنهم الذين أفتوه بذلك بعد ظهور السرقة التي ذكروها تعمداً ليتخلف دونهم، واتهمام من هو بحيث يتطرق إليه التهمة لا جرح فيه لا سيما فيما يرجع إلى الوالد مع الولد، ثم قال‏:‏ ويحتمل أن يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله سرقة من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونه سارقاً بوجه معلوم، وهذا في شرعنا لا يثبت السرقة على من ادعيت عليه فإن كان في شرعهم أيضاً كذلك ففي عدم تحرير الفتوى إشعار بأنهم كانوا حراصاً على أخذه وهو من التسويل وإن اقتضى ذلك في شرعهم فالعمدة على الجواب الأول هذا، والتنوين في ‏{‏لَكَ أمْراً‏}‏ للتعظيم أي أمراً عظيماً ‏{‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ‏}‏ أي فأمري ذلك أو فصبر جميل أجمل وقد تقدم تمام الكلام فيه فتذكر‏.‏

‏{‏عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا‏}‏ بيوسف وأخيه بنيامين والمتوقف بمصر ‏{‏إِنَّهُ هُوَ العليم‏}‏ بحالي وحالهم ‏{‏الحكيم‏}‏ الذي يبتلى ويرفع البلاء حسب الحكمة البالغة، قيل‏:‏ إنما ترجى عليه السلام للرؤية التي رآها يوسف عليه السلام فكان ينتظرها ويحسن ظنه بالله تعالى لا سيما بعد أن بلغ الشظاظ الوركين وجاوز الحزام الطبيين فإنه قد جرت سنته تعالى أن الشدة إذا تناهت يجعل وراءها فرجاً عظيماً، وانضم إلى ذلك ماأخبر به عن ملك مصر أنه يدعو له أن لا يموت حتى يرى ولده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَوَلَّى‏}‏ أي أعرض ‏{‏عَنْهُمْ‏}‏ كراهة لما جاؤا به ‏{‏وَقَالَ يَا أسَفى عَلَى يُوسُفَ‏}‏ الأسف أشد الحزن على ما فات، والظاهر أنه عليه السلام أضافه إلى نفسه، والألف بدل من ياء المتكلم للتخفيف، والمعنى يا أسفى تعال فهذا أوانك، وقيل‏:‏ الألف ألف الندبة والهاء محذوفة والمعول عليه الأول، وإنما تأسف على يوسف مع أن الحادث مصيبة أخوية لأن رزأه كان قاعدة الإرزاء عنده وإن تقادم عهده أخذاً بمجامع قلبه لا ينساه ولا يزول عن فكره أبداً‏:‏

ولم تنسني أو في المصيبات بعده *** ولكن نكاء القرح بالقرح أوجع

ولا يرد أن هذا مناف لمنصب النبوة إذ يقتضي ذلك معرفة الله تعالى ومن عرفه سبحانه أحبه ومن أحبه لم يتفرغ قلبه لحب ما سواه لما قيل‏:‏ إن هذه محبة طبيعية ولا تأبى الاجتماع مع حبه تعالى، وقال الإمام‏:‏ إن مثل هذه المحبة الشديدة تزيل عن القلب الخواطر ويكون صاحبها كثير الرجوع إليه تعالى كثير الدعاء والتضرع فيصير ذلك سبباً لكمال الاستغراق، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما للصوفية قدس الله تعالى أسرارهم في هذا المقام في باب الإشارة، وقيل‏:‏ لأنه عليه السلام كان واثقاً بحياتها عالماً بمكانهما طامعاً بإيابهما وأما يوسف فلم يكن في شأنه ما يحرك سلسلة رجائه سوى رحمة الله تعالى وفضله وفيه بحث‏.‏ وأخرج الطبراني وابن مردوية والبيهقي في «شعب الإيمان» عن سعيد بن جبير ‏[‏لم تعط أمة من الأمم ‏{‏إنا لله وإنا إليه راجعون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 156‏]‏ إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏]‏ أي لم يعلموه ولم يوفقوا له عند نزول المصيبة بهم، ألا يرى إلى يعقوب عليه السلام حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وقال ما قال، وفي ‏{‏أسفا‏}‏ و‏{‏يوسف‏}‏ تجنيس نفيس من غير تكلف وخو مما يزيد الكلام الجليل بهجة‏.‏

‏{‏وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْن‏}‏ أي بسببه وهو في الحقيقة سبب للبكاء والبكاء سبب لابيضاض عينه فإن العبرة إذا كثرت محقت سواد العين وقلبته إلى بياض كدر فأقيم سبب السبب مقامه لظهوره، والابيضاض قيل إنه كناية عن العمى فيكون قد ذهب بصره عليه السلام بالكلية واستظهره أبو حيان لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فارتد بصيراً‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 96‏]‏ وهو يقابل بالأعمى، وقيل‏:‏ ليس كناية عن ذلك والمراد من الآية أنه عليه السلام صارت في عينيه غشاوة بيضتهما وكان عليه السلام يدرك إدراكاً ضعبفاً، وقد تقدم الكلام في حكم العمى بالنسبة إلى الأنبياء عليهم السلام، وكان الحسن ممن يرى جوازه‏.‏ فقد اخرج عبالله بن أحمد في «زوائده» وابن جرير وأبو الشيخ عنه قال‏:‏ كان منذ خرج يوسف من عند يعقوب عليهما السلام إلى يوم رجع ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه ودموعه تجري على خديه ولم يزل يبكي حتى ذهب بصره وما على الأرض يومئذ والله أكرم على الله تعالى منه، والظاهر أنه عليه السلام لم يحدث له هذا الأمر عند الحادث الأخير، ويدل عليه ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ليث بن أبي سليم أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام في السجن فعرفه فقال له أيها الملك الكريم على ربه هل لك علم بيعقوب‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ما فعل‏؟‏ قال‏:‏ ابيضت عيناه من الحزن عليك قال‏:‏ فما بلغ من الحزن‏؟‏ قال‏:‏ حزن سبعين مشكلة قال‏:‏ هل له على ذلك من أجر‏؟‏ قال‏:‏ نعم أجر مائة شهيد وقرأ ابن عباس ومجاهد ‏{‏من الحزن‏}‏ بفتح الحاء والزاي وقرأ قتادة بضمهما‏.‏

واستدل بالآية على جواز التأسف والكاء عند النوائب، ولعل الكف عن أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد‏.‏

وقد روى الشيخان من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم بكى على ولده إبراهيم وقال‏:‏ «إن العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون» وإنما المنهي عنه ما يفعله الجهلة من النياحة ولطم الخدود والصدور وشق الجيوب وتمزيق الثياب‏.‏ ورويا أيضاً من حديث أسامة أنه صلى الله عليه وسلم رفع إليه صبي لبعض بناته يجود بنفسه فأقعده في حجره ونفسه تتقعقع كأنها في شن ففاضت عيناه عليه الصلاة والسلام فقال سعد‏:‏ يا رسول الله ما هذا‏؟‏ فقال‏:‏ هذه رحمة جعلها الله تعالى فيمن شاء من عباده وإنما يرحم الله تعالى من عباده الرحماء‏.‏ وفي «الكشاف» أنه قيل له عليه الصلاة والسلام‏:‏ تبكي وقد نهيتنا عن البكاء‏؟‏ قال‏.‏ ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين صوت عند الفرح وصوت عند الترح‏.‏ وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره فقيل له في ذلك فقال‏:‏ ما رأيت الله تعالى جعل الحزن عاراً على يعقوب عليه السلام‏.‏

‏{‏فَهُوَ كَظيمٌ‏}‏ أي مملوء من الغيظ على أولاده ممسك له في قلبه لا يظهره، وقيل‏:‏ مملوء من الحزن ممسك له لا يبديه، وهو من كظم السقاء إذا شده بعده ملئه، ففعيل بمعنى مفعول أي مكظوم فهو كما جاء في يونس عليه السلام ‏{‏إذ نادى وهو مكظوم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 48‏]‏ ويجوز أن يكون بمعنى فاعل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والكاظمين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 134‏]‏ من كظم الغيظ إذا تجرعه أي شديد التجرع للغيظ أو الحزن لأنه لم يشكه إلى أحد قط، وأصله من كظم البعير جرته إذا ردها في جوفه فكأنه عليه السلام يرد ذلك في جوفه مرة بعد أخرى من غير أن يطلع أحداً عليه‏.‏ وفي الكلام من الاستعارة على الوجهين ما لا يخفى، ورجح الأخير منهما بأن فعيلاً بمعنى فاعل مطرد ولا كذلك فعيلاً بمعنى مفعول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي الاخوة وقيل غيرهم من أتباعه عليهم السلام ‏{‏تالله‏}‏ أي لا تفتأ ولا تزال ‏{‏تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ‏}‏ تفجعاً عليه فحذف حرف النفي كما في قوله‏:‏

فقلت يمين الله أبرح قاعدا *** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

لأن القسم إذا لم يكن معه علامة الإثبات كان على النفي وعلامة الإثبات هي اللام ونون التأكيد وهما يلزمان جواب القسم المثبت فإذا لم يذكرا دل على أنه منفي لأن المنفى لا يقارنهما ولو كان المقصود ههنا الإثبات لقيل لتفتأن، ولزوم اللام والنون مذهب البصريين، وقال الكوفيون‏.‏ والفارسي‏:‏ يجوز الاقتصار على أحدهما وجاء الحذف فيما إذا كان الفعل حالا كقراءة ابن كثير ‏{‏لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 1‏]‏ وقوله‏:‏

لأبغض كل أمرىء *** يزخرف قولاً ولا يفعل

ويتفرع على هذا مسألة فقهية وهي أنه إذا قال‏:‏ والله أقوم يحنث إذا قام وإن لم يقم لا، ولا فرق بين كون القائل عالماً بالعربية أولا على ما أفتي به خير الدين الرملي، وذكر أن الحلف بالطلاق كذلك فلو قال‏:‏ علي الطلاق بالثلاث تقومين الآن تطلق إن قامت ولا تطلق إن لم تقم، وهذه المسألة مهمة لا بأس بتحقيق الحق فيها وإن أدّى إلى الخروج عما نحن بصدده فنقول‏:‏ قال غير واحد‏:‏ إن العوام لو أسقطوا اللام والنون في جواب القسم المثبت المستقبل فقال أحدهم‏:‏ والله أقوم مثلاً لا يحنث بعدم القيام فلا كفارة عليه، وتعقبه المقدسي بأنه ينبغي أن تلزمهم الكفارة لتعارفهم الحلف كذلك، ويؤيده ما في الظهيرية أنه لو سكن الهاء أو نصب في بالله يكون يميناً مع أن العرب ما نطقت بغير الجر، وقال أيضاً‏:‏ أنه ينبغي أن يكون ذلك يميناً وإن خلا من اللام والنون، ويدل عليه قوله في الولوالجية‏:‏ سبحان الله أفعل لا إله إلا الله أفعل كذا ليس بيمين إلا أن ينويه، واعترضه الخير الرملي بأن ما نقله لا يدل لمدعاه، أما الأول فلأنه تغيير إعراب لا يمنع المعنى الموضوع فلا يضر التسكين والرفع والنصب لما تقرر من أن اللحن لا يمنع الانعقاد، وأما الثاني فلأنه ليس من المتنازع فيه إذ هو الإثبات والنفي لا أنه يمين، وقد نقل ما ذكرناه عن المذهب والنقل يجب اتباعه، ونظر فيه‏.‏

أما أولا فبأن اللحن كما في المصباح وغيره الخطأ في العربية، وأما ثانياً فبأن ما في الولوالجية من المتنازع فيه فإنه أتى بالفعل المضارع مجرداً من اللام والنون وجعله يميناً مع النية ولو كان على النفي لوجب أن يقال‏:‏ إنه مع النية يمين على عدم الفعل كما لا يخفى، وإنما اشترط في ذلك النية لكونه غير متعارف‏.‏

وقال الفاضل الحلبي‏:‏ إن بحث المقدسي وجيه، والقول بأنه يصادم المنقول يجاب عنه بأن المنقول في المذهب كان على عرف صدر الإسلام قبل أن تتغير اللغة، وأما الآن فلا يأتون باللام والنون في مثبت القسم أصلاً ويفرقون بين الإثبات والنفي بوجود لا ولا وجودها، وما اصطلاحهم على هذا إلا كاصطلاح الفرس ونحوهم في أيمانهم وغيرها اه، ويؤيد هذا ما ذكره العلامة قاسم وغيره من أنه يحمل كلام كل عاقد وحالف وواقف على عرفه وعادته سواء وافق كلام العرب أم لا، ومثله في الفتح، وقد فرق النحاة بين بلى ونعم في الجواب أن بلى لا يجاب ما بعد النفي ونعم للتصديق فإذا قيل‏:‏ ما قام زيد فإن قلت‏:‏ بلى كان المعنى قد قام وإن نعم كان ما قام، ونقل في شرح المنار عن التحقيق أن المعتبر في أحكام الشرع العرف حتى يقام كل واحد منهما مقام الآخر، ومثله في التلويح، وقول الحيط والحلف بالعربية أن يقول في الإثبات والله لأفعلن إلى آخر ما قال بيان للحكم على قواعد العربية، وعرف العرب وعادتهم الخالية عن اللحن وكلام الناس اليوم إلا ما ندر خارج عن هاتيك القواعد فهو لغة اصطلاحية لهم كسائر اللغات الأعجمية التي تصرف فيها أهلها بما تصرفوا فلا يعاملون بغير لغاتهم وقصدهم إلا من التزم منهم الإعراب أو قصد المعنى فينبغي أن يدين، ومن هنا قال السائحاني‏:‏ إن أيماننا الآن لا تتوقف على تأكيد فق، د وضعناها نحن وضعاً جديداً واصطلحنا عليها اصطلاحاً حادثاً وتعارفناها تعارفاً مشهوراً فيجب معاملتنا على قدر عقولنا ونياتنا كما أوقع المتأخرون الطلاق بعلى الطلاق ومن لم يدر بعرف أهل زمانه فهو جاهل اه، ونظير هذا ما قالوه‏:‏ من أنه لو أسقطت الفاء الرابطة لجواب الشرط فهو تنجيز لا تعليق حتى لو قال‏:‏ إن دخلت الدار أنت طالق تطلق في الحال وهو مبني على قواعد العربية أيضاً وهو خلاف المتعارف الآن فينبغي بناؤه على العرف فيكون تعليقاً وهو المروى عن أبي يوسف‏:‏

وفي البحر أن الخلاف مبني على جواز حذفها اختياراً وعدمه فأجازه أهل الكوفة وعليه فرع أبو يوسف ومنعه أهل البصرة وعليه تفرع المذهب‏.‏ وفي سرح نظم الكنز للمقدسي أنه ينبغي ترجيح قول أبي يوسف لكثرة حذف الفاء في الفصيح ولقولهم‏:‏ العوام لا يعتبر منهم اللحن في قولهم‏:‏ أنت واحدة بالنصب الذي لم يقل به أحد اه هذا ثم ان ما ذكر انما هو في القسم بخلاف التعليق وهو وان سمى عند الفقهاء حلفاً ويميناً لكنه لا يسمى قسماً فإن القسم خاص باليمين بالله تعالى كما صرح به القهستاني فلا يجري فيه اشتراط اللام والنون في المثبت منه لا عند الفقهاء ولا عند اللغويين، ومنه الحرام يلزمني وعلى الطلاق لا أفعل كذا فإنه يراد به في العرف ان فعلت كذا فهي طالق فيجب امضائه عليهم كما صرح به في الفتح وغيره قال الحلبي‏:‏ وبهذا يندفع ما توهمه بعض الأفاضل من أن في قول القائل‏:‏ على الطلاق أجيء اليوم ان جاء في اليوم وقع الطلاق وإلا فلا لعدم اللام والنون‏.‏

وأنت خبير بأن النحاة إنما اشترطوا ذلك في جواب القسم المثبت لا في جواب الشرط؛ وكيف يسوغ لعاقل فاضل أن يقول ان إن قام زيد أقم على أن أجيء ليس جواب الشرط بل هو فعل الشرط لأن المعنى ان لم أجىء اليوم فانت طالق، وقد وقع هذا الوهم لكثير من المفتين كالخير الرملي وغيره، وقال السيد أحمد الحموي في تذكرته الكبرى‏:‏ رفع إلى سؤال صورته رجل اغتلظ من ولد زوجته فقال‏:‏ على الطلاق بالثلاث إني أصبح أشتكيك من النقيب فلما أصبح تركه ولم يشتكه ومكث مدة فهل والحالة هذه يقع عليه الطلاق أم لا‏؟‏ الجواب إذا ترك شكايتة ومضت مدة بعد حلفه لا يقع عليه الطلاق لأن الفعل المذكور وقع في جواب اليمين وهو مثبت فيقدر النفي حيت لم يؤكد ثم قال‏:‏ فأحببت أنا بعد الحمد لله تعالى ما أفتي به هذا المجيب من عدم وقوع الطلاق معللا بما ذكر فمنبىء عن فرط جهله وحمقه وكثرة مجازفته في الدين وخرقه إذ ذاك في الفعل إذا وقع جواباً للقسم بالله تعالى نحو تفتأ لا في جواب اليمين بمعنى التعليق بما يشق من طلاق وعتاق ونحوهما وحينئذ إذا أصبح الحالف ولم يشتكه وقع عليه الطلاق الثلاث وبانت زوجته منه بينونة كبرى اه‏.‏ ولنعم ما قال‏.‏ ولله تعالى در القائل

من الدين كشف الستر عن كل كاذب *** وعن كل بدعى أتى بالعجائب

فلولا رجال مؤمنون لهدمت *** صوامع دين الله من كل جانب

‏{‏وفتىء‏}‏ هذه من أخوات كان الناقصة كما أشرنا إليه ويقال فيها‏:‏ فتأ كضرب وأفتأ كأكرم، وزعم ابن مالك أنه تكون بمعنى سكن وفتر فتكون تامة وعلى ذلك جاء تفسير مجاهد للا تفتأ بلا تفتر عن حبه، وأوله الزمخشري بأنه عليه الرحمة جعل الفتوء والفتور أخوين أي متلازمين لا أنه بمعناه فإن الذي بمعنى فتر وسكن هو فثأ بالمثلثة كما في الصحاح من فثأت القدر إذا سكن غليانها والرجل إذا سكن غضبه، ومن هنا خطأ أبو حيان ابن مالك فيما زعمه وادعى أنه من التصحيف‏.‏ وتعقب بأن الأمر ليس كما قاله فإن ابن مالك نقله عن الفراء وقد صرح به السر قسطى ولا يمتنع اتفاق مادتين في معنى وهو كثير، وقد جمع ذلك ابن مالك في كتابل سماه ما اخلتف اعجامه واتفق افهامه ونقله عنه صاحب القاموس‏.‏

واستدل بالآية على جواز الحلف بغلبة الظن، وقيل‏:‏ إنهم علموا ذلك منه ولكنهم نزلوه منزلة المنكر فلذا أكدوه بالقسم أي نقسم بالله تعالى لا تزال ذاكر يوسف متفجعاً عليه ‏{‏يُوسُفَ حتى تَكُونَ حَرَضاً‏}‏ مريضاً مسفياً على الهلاك، وقيل‏:‏ الحرض من اذابه هم أو مرض وجعله مهزولاً نحيفاً، وهو في الأصل مصدر حرض فهو حرض بكسر الراء، وجاء أحرضني كما في قوله‏:‏

إني أمرؤ لج بي حب فأحرضني *** حتى بليت وحتى شفني السقم

ولكونه كذلك في الأصل لا يؤنث ولا يثني ولا يجمع لأن المصدر يطلق على القليل والكثير، وقال ابن إسحق‏:‏ الحرض الفاسد الذي لا عقل له‏.‏ وقرىء ‏{‏حَرَضاً‏}‏ بفتح الحاء وكسر الراء‏.‏

وقرأ الحسن البصري ‏{‏حَرَضاً‏}‏ بضمتين ونحوه من الصفات رجل جنب وغرب ‏{‏أَوْ تَكُونَ مِنَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ‏}‏ قيل‏:‏ يحتمل أن تكون بمعنى بل أو بمعنى إلى، فلا يرد عليه أن حق هذا التقديم على ‏{‏حتى تَكُونَ حَرَضاً‏}‏ فإن كانت للترديد فهي لمنع الخلو والتقديم على ترتيب الوجود كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ أو لأنه أكثر وقوعاً

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى‏}‏ البث في الأصل إثارة الشيء وتفريقه كبث الريح التراب واستعمل في الغم الذي لا يطيق صاحبه الصبر عليه كأنه ثقل عليه فلا يطيق حمله وحده فيفرقه على من يعينه، فهو رمصد بمعنى المفعول وفيه استعارة تصريحية‏.‏ وجوز أن يكون بمعنى الفاعل أي الغم الذي بث الفكر وفرقه، وأياماً كان فالظاهر أن القوم قالوا ما قالوا بطريق التسلية والاشكاء فقال في جوابهم‏:‏ إني لا أشكو ما بي إليكم أو إلى غيركم حتى تتصدوا لتسليتي وإنما أشكو غمي ‏{‏وَحُزْنِى إِلَى الله‏}‏ تعالى متلجئاً إلى جنابه متضرعاً في دفعه لدى بابه فإنه القادر على ذلك‏.‏ وفي الخبر عن ابن عمر قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كنوز البر اخفاء الصدقة وكتمان المصائب والأمراض ومن بث لم يصبر» وقرأ الحسن‏.‏ وعيسى ‏{‏حزني‏}‏ بفتحتين وقرأ قتادة بضمتين‏.‏

‏{‏لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ الله‏}‏ من لطفه ورحمته ‏{‏مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ فأرجو أن يرحمني ويلطف بي ولا يخيب رجائي، فالكلام على حذف مضاف و‏{‏مِنْ‏}‏ بيانية قدمت على المبين وقد جوزه النحاة‏.‏ وجوز أن تكون ابتدائية أي أعلم ويحا أو الهاماً أو بسبب من أسباب العلم من جهته تعالى ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه السلام‏.‏

قيل‏:‏ إنه عليه السلام علم ذلك من الرؤيا حسبما تقدم، وقيل إنه رأى ملك الموت في المنام فأخبره أن يوسف حي ذكره غيره واحد ولم يذكروا له سنداً والمروى عن ابن أبي حاتم عن النضر أنه قال‏:‏ بلغني أن يعقوب عليه السلام مكث أربعة وعشرين عاماً لا يدري أيوسف عليه السلام حي أم ميت حتى تمثل له ملك الموت عليه السلام فقال له‏:‏ من أنت‏؟‏ قال‏:‏ أنا ملك الموت فقال‏:‏ أنشدك باله يعقوب هل قبضت روح يوسف‏؟‏ قال‏:‏ لا فعند ذلك قال عليه السلام‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏يبَنِىَّ اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ‏}‏ أي فتعرفوا، وهو تفعل من الحس وهو في الأصل الإدراك بالحاسة، وكذا أصل التحسس طلب الإحساس، واستعماله في التعرف استعمال له في لازم معناه وقريب منه التجسس بالجيم، وقيل‏:‏ إنه به في الشر وبالحاء في الخير ورد بأنه، قرىء هنا ‏{‏فتجسسوا‏}‏ بالجيم أيضاً، وقال الراغب‏:‏ أصل الجس مس العرق وتعرف نبضه للحكم به على الصحة والمرض وهو أخص من الحس فإنه تعرف ما يدركه الحس والجس تعرف حال ما من ذلك ‏{‏فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ‏}‏ أي من خبرهما، ولم يذكر الثالث لأن غيبته اختيارية لا يعسر إزالتها، وعلى فرض ذلك الداعية فيهم للتحسس منه لكونه أخاهم قوية فلا حاجة لأمرهم بذلك، والجار متعلق بما عنده وهو بمعنى عن بناء على ما نقل عن ابن الأنباري أنه لا يقال‏:‏ تحسست من فلان، وإنما يقال‏:‏ تحسست عنه، وجوز أن تكون للتبعيض على معنى تحسوا خبراً من أخبار من أخبار يوسف وأخيه‏.‏

‏{‏وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ الله‏}‏ أي لا تقنطوا من فرجه سبحانه وتنفيسه، وأصل معنى الروح بالفتح كما قال الراغب التنفس يقال‏:‏ أراح الإنسان إذا تنفس ثم استعير للفرج كما قيل‏:‏ له تنفيس من النفس‏.‏

وقرأ عمر بن عبد العزيز‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة ‏{‏رُوحُ‏}‏ بالضم، وفسر بالرحمة على أنه استعارة من معناها المعروف لأن الرحمن سبب الحياة كالروح وإضافتها إلى الله تعالى لأنها منه سبحانه، وقال ابن عطية كأن معنى هذه القراءة لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه فإن كل من بقيت روحه يرجى، ومن هذا قوله‏:‏

وفي غير من قدورات الأرض فاطمع *** وقول عبيد بن الأبرص‏:‏

وكل ذي غيبة يؤب *** وغائب الموت لا يؤب

وقرأ أبي ‏{‏مِن رَّحْمَةِ الله‏}‏ وعبد الله ‏{‏مِن فَضْلِ الله‏}‏ وكلاهما عند أبي حيان تفسير لا قراءة‏.‏ وقرىء ‏{‏تأيسوا‏}‏‏.‏

وقرأ الأعرج ‏{‏تيئسوا‏}‏ بكسر التاء والأمر والنهي على ما قيل إرشاد لهم إلى بعض ما أبهم في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 86‏]‏ ثم إنه عليه السلام حذرهم عن ترك العمل بموجب نهيه بقوله‏:‏ ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ أي الشأن ‏{‏لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون‏}‏ لعدم علمه بالله تعالى وصفاته فإن العارف لا يقنط في حال من الأحوال أو تأكيداً لما يعلمونه من ذلك، قال ابن عباس‏:‏ إن المؤمن من الله تعالى على خير يرجوه في البلاء ويحمده في الرخاء‏.‏

وذكر الإمام أن اليأس لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال أو غير عالم بجميع المعلومات أو ليس بكريم، واعتقاد كل من هذه الثلاث يوجب الكفر فإذاكان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحدها وكل منها كفر ثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافراً، واستدل بعض أصحابنا بالآية على أن اليأس من رحمة الله تعالى كفر، وادعى أنها ظاهرة في ذلك‏.‏

وقال الشهاب‏:‏ ليس فيها دليل على ذلك بل هو ثابت بدليل آخر، وجمهور الفقهاء على أن اليأس كبيرة ومفادة الآية أنه من صفات الكفار لا أن من ارتكبه كان كافراً بارتكابه، وكونه لا يحصل إلا عند حصول أحد المكفرات التي ذكرها الإمام مع كونه في حيز المنع لجواز أن ييأس من رحمه الله تعالى إياه مع إيمانه بعموم قدرته تعالى وشمول علمه وعظم كرمه جل وعلا لمجرد استعظام ذنبه مثلاً واعتقاده عدم أهليته لرحمة الله تعالى من غير أن يخطر له أدنى ذرة من تلك الاعتقادات السيئة الموجبة للكفر لا يستدعي أكث من اقتضائه سابقية الكفر دون كون ارتكابه نفسه كفراً كذا قيل، وقيل‏:‏ الأولى التزام القول بأن اليأس قد يجامع الايمان وأن القول بأنه لا يحصل إلا بأحد الاعتقادات المذكورة غير بين ولا مبين‏.‏

نعم كونه كبيرة مما لا شك فيه بل جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه تعالى عنه أنه أكبر الكبائر، وكذا القنوط وسوء الظن، وفرقوا بينها بأن اليأس عدم أمل وقوع شيء من أنواع الرحمة له، والقنوط هو ذاك مع انضمام حالة هي أشد منه في التصميم على عدم الوقوع، وسوء الظن هو ذاك مع انضمام أنه مع عدم رحمته له يشدد له العذاب كالكفار‏.‏ وذكر ابن نجيم في بعض رسائله ما به يرجع الخلاف بين من قال‏:‏ إن اليأس كر ومن قال‏:‏ إنه كبيرة لفظياً فقال‏:‏ قد ذكر الفقهاء من الكبائر الأمن من مكر الله تعالى واليأس من رحمته وفي العقائد واليأس من رحمة الله تعالى كفر فيحتاج إلى التوفيق‏.‏ والجواب أن المراد باليأس إنكار سعة الرحمة للذنوب، ومن الأمن الاعتقاد أن لا مكر، ومراد الفقهاء من اليأس اليأس لاستعظام ذنوبه واستبعاد العفو عنها، ومن الأمن الأمن لغلبة الرجاء عليه بحيث دخل في حد الأمن ثم قال‏.‏ والأوفق بالسنة طريق الفقهاء لحديث الدارقطني عن ابن عباس مرفوعاً حيث عدها من الكبائر وعطفها على الإشراك بالله تعالى اه وهو تحقيق نفيس فليفهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ‏}‏ أي على يوسف عليه السلام بعد ما رجعوا إلى مصر بموجب أمر أبيهم، وإنما لم يذكر إيذاناً بمسارعتهم إلى ما أمروا به وإشعاراً بأن ذلك أمر محقق لا يفتقر إلى الذكر والبيان‏.‏ وأنكر اليهود رجوعهم بعد أخذ بنيامين إلى أبيهم ثم عودهم إلى مصر وزعموا أنهم لما جاؤا أولاً للميرة اتهمهم بأنهم جواسيس فاعتذروا وذكروا أنهم أولاد نبي الله تعالى يعقوب وأنهم كانوا اثني عشر ولداً هلك واحد منهم وتخلف أخوه عند أبيهم يتسلى به عن الهالك حيث أنه كان يحبه كثيراً فقال‏:‏ ائتوني به لأتحقق صدقكم وحبس شمعون عنده حتى يجيؤا فلما أتوا به ووقع من أمر السرقة أظهر والخضوع والانكسار فلم يملك عليه السلام نفسه حتى تعرف إليهم ثم أمرهم بالعود إلى أبيهم ليخبروه الخبر ويأتوا به وهو الذي تضمنته نوراتهم اليوم وما بعد الحق إلا الضلال ‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا أَيُّهَا العزيز‏}‏ خاطبوه بذلك تعظيماً له على حد خطابهم السابق به على ما هو الظاهر، وهل كانوا يعرفون اسمه أم لا، لم أر من تعرض لذلك فإن كانوا يعرفون ازداد أمر جهالتهم غرابة، والمراد على ما قال الإمام وغيره يا أيها الملك القادر المنيع ‏{‏مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر‏}‏ الهزال من شدة الجوع، والمراد بالأهل ما يشمل الزوجة وغيرها ‏{‏وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ‏}‏ مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقاراً، من أزجيته إذا دفعته وطردته والريح تزجي السحاب، وأنشدوا لحاتم‏:‏

ليبك على ملحان ضيف مدفع *** وأرملة تزجى مع الليل أرملاً

وكنى بها عن القليل أو الردىء لأنه لعدم الاعتناء يرمى ويطرح، وقيل‏:‏ كانت بضاعتهم من متاع الأعراب صوفاً وسمناً، وقيل‏:‏ الصنوبر وحبة الخضراء وروى ذلك عن أبي صالح‏.‏ وزيد بن أسلم، وقيل‏:‏ سويق المقل والأقط، وقيل‏:‏ قديد وحش، وقيل‏:‏ حبالاً وإعدالاً وأحقاباً، وقيل‏:‏ كانت دراهم زيوفاً لا تؤخذ إلا بوضيعة، وروى ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والمروى عن الحسن تفسيرها بقليلة لا غير، وعلى كل فمزجاة صفة حقيقية للبضاعة، وقال الزجاج‏:‏ هي من قولهم‏:‏ فلان يزجى العيش أي يدفع الزمان بالقليل، والمعنى إنا جئنا ببضاعة يدفع بها الزمان وليس مما ينتفع بها، والتقدير على هذا ببضاعة مزجاة بها الأيام أي تدفع بها ويصير عليها حتى تنقضي كما قيل‏:‏

درج الأيام تندرج *** وبيوت الهم لا تلج

وما ذكر أولاً هو الأولى، وعن الكلبي أن ‏{‏بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ‏}‏ من لغة العجم، وقيل‏:‏ من لغط القبط‏.‏ وتعقب ذلك ابن الانباري بأنه لا ينبغي أن يجعل لفظ معروف الاشتقاق والتصريف منسوباً إلى غير لغة العرب فالنسبة إلى ذلك مزجاة‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏مزجية‏}‏ بالإمالة لأن أصلها الياء، والظاهر أنهم إنما قدموا هذا الكلام ليكون ذريعة إلى إسعاف مرامهم ببعث الشفقة وهز العطف والرأفة وتحريك سلسلة الرحمة ثم قالوا‏:‏ ‏{‏مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الكيل‏}‏ أي أتمه لنا ولا تنقصه لقلة بضاعتنا أو رداءتها، واستدل بهذا على أن الكيل على البائع ولا دليل فيه ‏{‏وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا‏}‏ ظاهره بالإيفاء أو بالمسامحة وقبول المزجاة أو بالزيادة على ما يساويها‏.‏

وقال الضحاك‏.‏ وابن جريج‏.‏ إنهم أرادوا تصدق علينا برد أخينا بنيامين على أبيه، قيل‏:‏ وهو الأنسب بحالهم بالنسبة إلى أمر أبيهم وكأنهم أرادوا تفضل علينا بذلك لأن رد الأخ ليس بصدقة حقيقة، وقد جاءت الصدقة بمعنى التفضل كما قيل، ومنه تصدق الله تعالى على فلان بكذا، وأما قول الحسن لمن سمعه يقول‏:‏ اللهم تصدق على إن الله تعالى لا يتصدق إنما يتصدق من يبغي الثواب قل‏:‏ اللهم أعطني أو تفضل على أو ارحمني فقد رد بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته» وأجيب عنه مجازاً ومشاكلة، وإنما رد الحسن على القائل لأنه لم يكن بليغاً كما في قصة المتوفي، وادعى بعضهم تعين الحمل على المجاز أيضاً إذا كان المراد طلب الزيادة على ما يعطي بالثمن بناء على أن حرمة أخذ الصدقة ليست خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم كما ذهب إليه سفيان بن عيينة بل هي عامة له عليه الصلاة والسلام ولمن قبله من الأنبياء عليهم السلام وآلهم كما ذهب إليه البعض، والسائلون من إحدى الطائفتين لا محالة، وتعقب بأنا لو سلمنا العموم لا نسلم أن المحرم أخذ الصدقة مطلقاً بل المحرم إنما هو أخذ الصدقة المفروضة وما هنا ليس منها، والظاهر كما قال الزمخشري‏:‏ أنهم تمسكنوا له عليه السلام بقولهم‏:‏ ‏{‏مَسَّنَا‏}‏ الخ وطلبوا إليه يتصدق عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا‏}‏ فلو لم يحمل على الظاهر لما طابقه ذلك التمهيد ولا هذا التوطيد أعني ‏{‏إِنَّ الله يَجْزِى المتصدقين‏}‏ بذكر الله تعالى وجزائه الحاملين على ذلك وإن فاعله منه تعالى بمكان‏.‏

قال النقاش‏:‏ وفي العدول عن إن الله تعالى يجزيك بصدقتك إلى ما في النظم الكريم مندوحة عن الكذب فهو من المعاريض، فإنهم كانوا يعتقدونه ملكاً كافراً وروى مثله عن الضحاك، ووجه عدم بدءهم بما أمروا به على القول بخلاف الظاهر في متعلق التصدق بأن فيما سلكوه استجلاباً للشفقة والرحمة فكأنهم أرادوا أن يملأوا حياض قلبه من نميرها ليسقوا به أشجار تحسسهم لتثمر لهمغرض أبيهم، ووجهه بعضهم بمثل هذا ثم قال‏:‏ على أن قولهم ‏{‏وَتَصَدَّقْ‏}‏ الخ كلام ذو وجهين فإنه يحتمل الحمل على المحملين فلعله عليه السلام حمله على طلب الرد ولذلك‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ مجيباً عما عرضوا به وضمنوه كلامهم من ذلك‏:‏ ‏{‏هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ‏}‏ وكان الظاهر على هذا الاقتصار على التعرض بما فعل مع الأخ إلا أنه عليه السلام تعرض لما فعل به أيضاً لاشتراكهما في وقوع الفعل عليهما، فإن المراد بذلك إفرادهم له عنه وإذلاله بذلك حتى كان لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز وطلة، والاستفهام ليس عن العلم بنفس ما فعلوه لأن الفعل الإرادي مسبوق بالشعور لا محالة بل هو عما فيه من القبح بدليل قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ أَنتُمْ جاهلون‏}‏ أي هل علمتم قبح ما فعلتموه زمان جهلكم قبحه وزال ذلك الجهل أم لا‏؟‏ وفيه من إبداء عذرهم وتلقينهم إياه ما فيه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم‏}‏ ‏[‏الإنفطار‏:‏ 6‏]‏ والظاهر لهذا أن ذلك لم يكن تشفياً بل حث على الإقلاع ونصح لهم لما رأى من عجزهم وتمسكنهم ما رأى مع خفي معاتبة على وجود الجهل وأنه حقيق الانتفاء في مثلهم، فلله تعالى هذا الخلق الكريم كيف ترك حظه من التشفي إلى حق الله تعالى على وجه يتضمن حق الأخوتين أيضاً والتلطف في اسماعه مع التنبيه على أن هذا الضر أولى بالكشف، قيل‏:‏ ويجوز أن يكون هذاالكلام منه عليه السلام منقطعاً عن كلامهم وتنبيهاً لهم عما هو حقهم ووظيفتهم من الإعراض عن جميع المطالب والتمحض لطلب بنيامين، بل يجوز أن يقف عليه السلام بطريق الوحي أو الإلهام على وصية أبيه عليه السلام وإرساله إياهم للتحسس منه ومن أخيه فلما رآهم قد اشتغلوا عن ذلك قال ما قال، والظاهر أنه عليه السلام لما رأى ما رأى منهم وهو من أرق خلق الله تعالى قلباً وكان قد بلغ الكتاب أجله شرع في كشف أمره فقال ما قال‏.‏

روى عن ابن إسحق أنهم لما استعطفوه رق لهم ورحمهم حتى أنه ارفض دمعه باكياً ولم يملك نفسه فشرع في التعرف لهم، وأراد بما فعلوه به جميع ما جرى وبما فعلوه بأخيه أداهم له وجفاءهم إياه وسوء معاملتهم له وإفرادهم له كما سمعت، ولم يذكر لهم ما آذوا به أباهم على ما قيل تعظيماً لقدره وتفخيماً لشأنه أن يذكره مع نفسه وأخيه مع أن ذلك من فروع ما ذكر، وقيل‏:‏ إنهم أدوا إليه كتاباً من أبيهم وصورته كما في «الكشاف» من يعقوب إسرائيل الله بن إسحق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء، أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمى به في النار ليحرق فنجاه الله تعالى وجعلت النار عليه برداً وسلاماً، وأما أبي فوضع على قفاه السكين ليقتل ففداه الله تعالى، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب الأولاد إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا‏:‏ قد أكله الذئب فذهبت عيناي من بكائي عليه ثم كان لي ابن كان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا‏:‏ إنه سرق وإنك حبسته لذلك وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي روق نحوه، فلما قرأ يوسف عليه السلام الكتاب لم يتمالك وعيل صبره فقال لهم ذلك‏.‏ وروى أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا هذا، وما أشرنا إليه من كون المراد إثبات الجهل لهم حقيقة هو الظاهر، وقيل‏:‏ لم يرد نفي العلم عنهم لأنهم كانوا علماء ولكنهم لما لم يفعلوا ما يقتضيه العلم وترك مقتضى العلم من صنيع الجهال سماهم جاهلين، وقيل‏:‏ المراد جاهلون بما يؤل إليه الأمر، وعن ابن عباس والحسن ‏{‏جاهلون‏}‏ صبيان قبل أن تبلغوا أوان الحلم والرزانة، وتعقب بأنه ليس بالوجه لأنه لا يطابق الوجود وينافي ‏{‏وَنَحْنُ عُصْبَةٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 8‏]‏ فالظاهر عدم صحة الإسناد، وزعم في التحرير أن قول الجمهور‏:‏ إن الاستفهام للتقرير والتوبيخ ومراده عليه السلام تعظيم الواقعة أي ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف وأخيه كما يقال‏:‏ هل تدري من عصيت، وقيل‏:‏ هل بمعنى قد كما في ‏{‏هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مّنَ الدهر‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 1‏]‏ والمقصود هو التوبيخ أيضاً وكلا القولين لا يعول عليه والصحيح ما تقدم‏.‏ ومن الغريب الذي لا يصح البتة ما حكاه الثعلبي أنه عليه السلام حين قالوا له ما قالوا غضب عليهم فأمر بقتلهم فبكوا وجزعوا فرق لهم وقال‏:‏ ‏{‏هَلْ عَلِمْتُمْ‏}‏ الخ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ‏}‏ استفهام تقرير ولذلك أكد بإن واللام لأن التأكيد يقتضي التحقق المنافي للاستفهام الحقيق، ولعلهم قالوه اسغراباً وتعجباً، وقرأ ابن كثير‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن محيصن ‏{‏إِنَّكَ‏}‏ بغير همزة استفهام، قال في «البحر»‏:‏ والظاهر أنها مرادة ويبعد حمله على الخبر المحض، وقد قاله بعضهم لتعارض الاستفهام والخبر أن اتحد القائلون وهو الظاهر، فإن قدر أن بعضاً استفهم وبعضاً أخبر ونسب كل إلى المجموع أمكن وهو مع ذلك بعيد، و‏{‏أَنتَ‏}‏ في القراءتين مبتدأ و‏{‏يُوسُفَ‏}‏ خبره والجملة في موضع الرفع خبر إن، ولا يجوز أن يكون أنت تأكيداً للضمير الذي هو اسم إن لحيلولة اللام، وقرأ أبي ‏{‏فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ‏}‏ وخرج ذلك ابن جني في كتاب المحتسب على حذف خبر إن وقدره أئنك لغير يوسف أو أنت يوسف، وكذا الزمخشري إلا أنه قدره أئنك يوسف أو أنت يوسف ثم قال‏:‏ وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع فهو يكرر الاستيثاق، قال في «الكشف» وما قدره أولى لقلة الإضمار وقوة الدلالة على المحذوف وإن كان الأول أجرى على اقنون الاستفهام، ولعل الأنسب أن يقدر أئنك أنت أو أنت يوسف تجهيلاً لنفسه أن يكون مخاطبه يوسف أي أئنك المعروف عزيز مصر أو أنت يوسف، استبعدوا أن يكون العزيز يوسف أو يوسف عزيزاً، وفيه قلة الإضمار أيضاً مع تغاير المعطوف والمعطوف عليه وقوة الدلالة على المحذوف والجري على قانون الاستفهام مع زيادة الفائدة من إيهام البعد بين الحالتين‏.‏

فإن قيل‏:‏ ذاك أوفق للمشهور لقوة الدلالة على أنه هو، يجاب بأنه يكفي في الدلالة على الأوجه كلها أن الاستفهام غير جار على الحقيقة، على أن عدم التنافي بين كونه مخاطبهم المعروف وكونه يوسف شديد الدلالة أيضاً مع زيادة إفادة ذكر موجب استبعادهم وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق، واختلفوا في تعيين سبب معرفتهم إياه عليه السلام فقيل‏:‏ عرفوه بروائه وشمائله وكان قد أدناهم إليه ولم يدنهم من قبل، وقيل‏:‏ كان يكلمهم من وراء حجاب فلما أراد التعرف إليهم رفعه فعرفوه، وقيل‏:‏ تبسم فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم وكان يضىء ما حواليه من نور تبسمه، وقيل‏:‏ إنه عليه السلام رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه كان ليعقوب‏.‏ وإسحاق‏.‏ وسارة مثلها تشبه الشامة البيضاء فعرفوه بذلك، وينضم إلى كل ذلك علمهم أن ما خاطبهم به لا يصدر مثله إلا عن حنيف مسلم من سنخ إبراهيم لا عن بعض أعزاء مصر، وزعم بعضهم أنهم إنما قالوا ذلك على التوهم ولم يعرفوه حتى أخبر عن نفسه ‏{‏قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ‏}‏ والمعول عليه ما تقدم وهذا جواب عن مساءلتهم وزاد عليه قوله‏:‏ ‏{‏وهذا أَخِى‏}‏ أي من أبوي مبالغة في تعريف نفسه، قال بعض المدققين‏:‏ إنهم سألوه متعجبين عن كونه يوسف محققين لذلك مخيلين لشدة التعجب أنه ليس إياه فأجابهم بما يحقق ذلك مؤكداً، ولهذا لم يقل عليه السلام‏:‏ بلى أو أنا هو فأعاد صريح الاسم ‏{‏وهذا أَخِى‏}‏ بمنزلة أنا يوسف لا شبهة فيه على أن فيه ما يبنيه عليه من قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا‏}‏ وجوز الطيبي أن يكون ذلك جارياً على الأسلوب الحكيم كأنهم لما سألوه متعجبين أنت يوسف‏؟‏ أجاب لا تسألوا عن ذلك فإنه ظاهر ولكن اسألوا ما فعل الله تعالى بك من الامتنان والإعزاز وكذلك بأخي وليس من ذاك في شيء كما لا يخفى‏.‏

وفي إرشاد العقل السليم أن في زيادة الجواب مبالغة وتفخيماً لشأن الأخ وتكملة لما أفاده قوله‏:‏ ‏{‏هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 89‏]‏ حسبما يفيده ‏{‏قَدْ مَنَّ‏}‏ الخ فكأنه قال‏:‏ هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلال فأنا يوسف وهذا أخي قد من الله تعالى علينا بالخلاص عما ابتلينا به والاجتماع بعد الفرقة والعزة بعد الذلة والأنس بعد الوحشة‏.‏ ولا يبعد أن يكون فيه إشارة إلى الجواب عن طلبهم لرد بنيامين بأنه أخي لا أخوكم فلا وجه لطلبكم انتهى وفيه ما فيه‏.‏ وجملة ‏{‏قَدْ مَنَّ‏}‏ الخ عند أبي البقاء مستأنفة، وقيل‏:‏ حال من ‏{‏يُوسُفَ‏}‏ و‏{‏أَخِى‏}‏ وتعقب بأن فيه بعداً لعدم العامل في الحال حينئذٍ، ولا يصح أن يكون ‏{‏هذا‏}‏ لأنه إشارة إلى واحد وعلينا راجع إليهما جميعاً ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ أي الشأن ‏{‏مَن يَتَّقِ‏}‏ أي يفعل التقوى في جميع أحواله أو يق نفسه عما يوجب سخط الله تعالى وعذابه ‏{‏وَيِصْبِرْ‏}‏ على البلايا والمحن أو على مشقة الطاعات أو عن المعاصي التي تستلذها النفس ‏{‏فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين‏}‏ أي أجرهم، وإنما وضع المظهر موضع المضمر تنبيهاً على أن المنعوتين بالتقوى والصبر موصوفون بالإحسان، والجملة في موضع العلة للمن‏.‏ واختار أبو حيان عدم التخصيص في التقوى والصبر، وقال مجاهد‏.‏ المراد من يتق في ترك المعصية ويصبر في السجن، والنخعي من يتق الزنا ويصبر على العزوبة، وقيل‏:‏ من يتق المعاصي ويصبر على أذى الناس، وقال الزمخشري‏:‏ المراد من يخف الله تعالى ويصبر عن المعاصي وعلى الطاعات‏.‏ وتعقبه صاحب الفرائد بأن فيه حمل من يتق على المجاز ولا مانع من الحمل على الحقيقة والعدول عن ذلك إلى المجاز من غير ضرورة غير جائز فالوجه أن يقال‏:‏ من يتق من يحترز عن ترك ما أمر به وارتكاب ما نهى عنه ويصبر في المكاره وذلك باختياره وهذا بغير اختياره فهو محسن، وذكر الصبر بعد التقوى من ذكر الخاص بعد العام، ويجوز أن يكون ذلك لإرادة الثبات على التقوى كأنه قيل‏:‏ من يتق ويثبت على التقوى انتهى‏.‏

والوجه الأول‏:‏ ميل لما ذكره أبو حيان‏.‏ وتعقب ذلك الطيبي بأن هذه الجملة تعليل لما تقدم وتعريض باخوته بأنهم لم يخافوا عقابه تعالى ولم يصبروا على طاعته عز وجل وطاعة أبيهم وعن المعصية إذ فعلوا ما فعلوا فيكون المراد بالاتقاء الخوف وبالصبر الصبر على الطاعة وعن المعصية ورد بأن التعريض حاصل في التفسير الآخر فكأنه فسره به لئلا يتكرر مع الصبر وفيه نظر‏.‏ وقرأ قنبل ‏{‏مِنْ يَتَّقِى‏}‏ بإثبات الياء، فقيل‏:‏ هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة وهذه ياء إشباع؛ وقيل‏:‏ جزمه بحذف الحركة المقدرة وقد حكوا ذلك لغة، وقيل‏:‏ هو مرفوع و‏{‏مِنْ‏}‏ موصول وعطف المجزوم عليه على التوهم كأنه توهم أن ‏{‏مِنْ‏}‏ شرطية و‏{‏يَتَّقِى‏}‏ مجزوم، وقيل‏:‏ أن ‏{‏يصبر‏}‏ مرفوع كيتقي إلا أنه سكنت الراء لتوالي الحركات وإن كان ذلك في كلمتين كما سكنت في ‏{‏يَأْمُرُكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 67‏]‏ و‏{‏يُشْعِرُكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109‏]‏ ونحوهما أو للوقف وأجرى الوصل مجرى الوقف، والأحسن من هذه الأقوال كما في «البحر» أن يكون يتقي مجزوماً على لغة وإن كانت قليلة، وقول أبي علي‏:‏ إنه لا يحمل على ذلك لأنه إنما يجىء في الشعر لا يلتفت إليه لأن غيره من رؤساء النحويين حكوه لغة نظماً ونثراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ تالله لَقَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا‏}‏ أي اختارك وفضلك علينا بالتقوى والصبر، وقيل‏:‏ بالملك، وقيل‏:‏ بالصبر والعلم ورويا عن ابن عباس، وقيل‏:‏ بالحلم والصفح ذكره سليمان الدمشقي، وقال صاحب الغنيان‏:‏ بحسن الخلق والخلق والعلم والحلم والإحسان والملك والسلطان والصبر على أذانا والأول أولى‏.‏

‏{‏وَأَنْ‏}‏ أي والحال أن الشأن ‏{‏كُنَّا لخاطئين‏}‏ أي لمتعمدين للذنب إذ فعلنا ما فعلنا ولذلك أعزك وأذلنا، فالواو حالية و‏{‏ءانٍ‏}‏ مخففة اسمها ضمير الشأن واللام التي في خبر كان هي المزحلقة ‏{‏وخاطئين‏}‏ من خطىء إذا تعمد وأما أخطأ فقصد الصواب ولم يوفق له، وفي قولهم‏:‏ هذا من الاستنزال لإحسانه عليه السلام والاعتراف بما صدر منهم في حقه مع الإشعار بالتوبة ما لا يخفى ولذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏لخاطئين قَالَ لاَ تَثْرَيبَ‏}‏ أي لا تأنيب ولا لوم ‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏ وأصله من الثرب وهو الشحم الرقيق في الجوف وعلى الكرش، وصيغة التفعيل للسلب أي إزالة الثرب كالتجليد والتقريع بمعنى إزالة الجلد والقرع، واستعير للوم الذي يمزق الاعراض ويذهب بهاء الوجه لأنه بإزالة الشحم يبدو الهزال وما لا يرضى كما أنه باللوم تظهر العيوب فالجامع بينهما طريان النقص بعد الكمال وإزالة ما به الكمال والجمال وهو اسم ‏{‏لا‏}‏ و‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏ متعلق بمقدر وقع خبراً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم‏}‏ متعلق بذلك الخبر المقدر أو بالظرف أي لا تثريب مستقر عليكم اليوم، وليس التقييد به لإفادة وقوع التثريب في غيره فإنه عليه السلام إذا لم يثرب أول لقائه واشتعال ناره فبعده بطريق الأولى‏.‏ وقال المرتضى‏:‏ إن ‏{‏اليوم‏}‏ موضوع موضع الزمان كله كقوله‏:‏

اليوم يرحمنا من كان يغبطنا *** واليوم نتبع من كانوا لنا تبعاً

كأنه أريد بعد اليوم، وجوز الزمخشري تعلقه بتثريب وتعقبه أبو حيان قائلاً‏:‏ لا يجوز ذلك لأن التثريب مصدر وقد فصل بينه وبين معموله بعليكم وهو إما خبر أو صفة ولا يجوز الفصل بينهما بنحو ذلك لأن معمول المصدر من تمامه، وأيضاً لو كان متعلقاً به لم يجز بناؤه لأنه حينئذٍ من قبيل المشبه بالمضاف وهو الذي يسمى المطول والممطول فيجب أن يكون معرباً منوناً، ولو قيل‏:‏ الخبر محذوف و‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏ متعلق بمحذوف يدل عليه تثريب وذلك المحذوف هو العامل في ‏{‏اليوم‏}‏ والتقدير لا تثريب يثرب عليكم اليوم كما قدروا في ‏{‏لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 43‏]‏ أي لا عاصم يعصم اليوم لكان وجهاً قوياً لأن خبر ‏{‏لا‏}‏ إذا علم كثر حذفه عند أهل الحجاز ولم يلفظ به بنو تميم، وكذا منع ذلك أبو البقاء وعلله بلزوم الإعراب والتنوين أيضاً، واعترض بأن المصرح به في متون النحو بأن شبيه المضاف سمع فيه عدم التنوين نحو لا طالع جبلاً ووقع في الحديث ‏"‏ لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ‏"‏ باتفاق الرواة فيه وإنما الخلاف فيه هل هو مبني أو معرب ترك تنوينه، وفي التصريح نقلاً عن المغني أن نصب الشبيه بالمضاف وتنوينه هو مذهب البصريين، وأجاز البغداديون لا طالع جبلاً بلا تنوين أجروه في ذلك مجرى المضاف كما أجروه مجراه في الإعراب وعليه يتخرج الحديث «لا مانع» الخ‏.‏

فيمكن أن يكون مبني ما قاله أبو حيان وغيره مذهب البصريين، والحديث المذكور لا يتعين كما قال الدنوشرى أخذاً من كلام المغني في الجهة الثانية من الباب الخامس حمله على ما ذكر لجواز كون اسم ‏{‏لا‏}‏ فيه مفرداً واللام متعلقة بالخبر والتقدير لا مانع مانع لما أعطيت وكذا فيما بعده‏.‏

وذكر الرضي أن الظرف بعد النفي لا يتعلق بالمنفي بل بمحذوف وهو خبر وأن ‏{‏اليوم‏}‏ في الآية معمول ‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏ ويجوز العكس، واعترض أيضاً حديث الفصل بين المصدر ومعموله بما فيه ما فيه، وقيل‏:‏ ‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏ بيان كلك في سقيا لك فيتعلق بمحذوف و‏{‏اليوم‏}‏ خبر‏.‏

وجوز أيضاً كون الخبر ذاك و‏{‏اليوم‏}‏ متعلقاً بقوله‏:‏ ‏{‏يَغْفِرَ الله لَكُمْ‏}‏ ونقل عن المرتضى أنه قال في «الدرر»‏:‏ قد ضعف هذا قوم من جهة أن الدعاء لا ينصب ما قبله ولم يشتهر ذلك، وقال ابن المنير‏:‏ لو كان متعلقاً به لقطعوا بالمغفرة بإخبار الصديق ولم يكن كذلك لقوله‏:‏ ‏{‏يأَبَانَا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 97‏]‏ وتعقب بأنه لا طائف تحته لأن المغفرة وهي ستر الذنوب يوم القيامة حتى لا يؤاخذوا به ولا يقرعوا إنما يكون ذلك الوقت وأما قبله فالحاصل هو الإعلام به والعلم بتحقق وقوعه بخبر الصادق لا يمنع الطلب لأن الممتنع طلب الحاصل لا طلب ما يعلم حصوله، على أنه يجوز أن يكون هضماً للنفس واعتبر باستغفار الأنبياء عليهم السلام، ولا فرق بين الدعاء والإخبار هنا انتهى‏.‏

وقد يقال أيضاً‏:‏ إن الذي طلبوه من أبيهم مغفرة ما يتعلق به ويرجع إلى حقه ولم يكن عندهم علم بتحقق ذلك، على أنه يجوز أن يقال‏:‏ إنهم لم يعتقدوا إذ ذاك نبوته وظنوه مثلهم غير نبي فإنه لم يمض وقت بعد معرفة أنه يوسف يسع معرفة أنه نبي أيضاً وما جرى من المفاوضة لا يدل على ذلك فافهم، وإلى حمل الكلام على الدعاء ذهب غير واحد وذهب جمع أيضاً إلى كونه خبراً‏.‏ والحكم بذلك مع أنه غيب قيل‏:‏ لأنه عليه السلام صفح عن جريمتهم حينئذٍ وهم قد اعترفوا بها أيضاً فلا محالة أنه سبحانه يغفر لهم ما يتعلق به تعالى وما يتعلق به عليه السلام بمقتضى وعده جل شأنه بقبول توبة العباد، وقيل‏:‏ لأنه عليه السلام قد أوحى إليه بذلك، وأنت تعلم أن أكثر القراء على الوقف على ‏{‏اليوم‏}‏ وهو ظاهر في عدم تعلقه بيغفر وهو اختيار الطبري‏.‏ وابن إسحاق‏.‏ وغيرهم واختاروا كون الجملة بعد دعائية وهو الذي يميل إليه الذوق والله تعالى أعلم ‏{‏وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين‏}‏ فإن كل من يرحم سواه جل وعلا فإنما يرحم برحمته سبحانه مع كون ذلك مبنياً على جلب نفع أو دفع ضر ولا أقل من دفع ما يجده في نفسه من التألم الروحاني مما يجده في المرحوم، وقيل‏:‏ لأنه تعالى يغفر الصغائر والكبائر التي لا يغفرها غيره سبحانه ويتفضل على التائب بالقبول، والجملة إما بيان للوثوق بإجابة الدعاء أو تحقيق لحصول المغفرة لأنه عفا عنهم فالله تعالى أولى بالعفو والرحمة لهم هذا‏.‏

ومن كرم يوسف عليه السلام ما روي أن إخوته أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشية ونحن نستحي منك بما فرط منا فيك فقال عليه السلام‏:‏ إن أهل مصر وإن ملكت فيهم كانوا ينظرون إليّ بالعين الأولى ويقولون‏:‏ سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ ولقد شرفت بكم الآن وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي وأني من حفدة إبراهيم عليه السلام، والظاهر أنه عليه السلام أنه حصل بذلك من العلم للناس ما لم يحصل قبل فإنه عليه السلام على ما دل عليه بعض الآيات السابقة والإخبار قد أخبرهم أنه ابن من وممن‏.‏

وكذا ما أخرجه سعيد بن منصور‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وأبو الشيخ عن ابن عباس قال‏:‏ قال الملك يوماً ليوسف عليه السلام أني أحب أن تخالطني في كل شيء إلا في أهلي وأنا آنف أن تأكل معي فغضب يوسف عليه السلام، فقال‏:‏ أنا أحق أن آنف أنا ابن إبراهيم خليل الله وأنا ابن إسحاق ذبيح الله وأنا ابن يعقوب نبي الله لكن لم يشتهر ذلك أو لم يفد الناس علماً‏.‏ وفي التوراة التي بأيدي اليهود اليوم أنه عليه السلام لما رأى من إخوته مزيد الحجل أدناهم إليه وقال‏:‏ لا يشق عليكم أن بعتموني وإلى هذا المكان أوصلتموني فإن الله تعالى قد علم ما يقع من القحط والجدب وما ينزل بكم من ذلك ففعل ما أوصلني به إلى هذا المكان والمكانة ليزيل عنكم بي ما ينزل بكم ويكون ذلك سبباً لبقائكم في الأرض وانتشار ذراريكم فيها وقد مضت من سني الجدب سنتان وبقي خمس سنين وأنا اليوم قد صيرني الله تعالى مرجعاً لفرعون وسيداً لأهله وسلطاناً على جميع أهل مصر فلا يضق عليكم أمركم‏.‏